تشذّرٌ على هامِشِ النّسقِ

ياسين عاشور
yassine.achour.philosophe@hotmail.fr

2013 / 1 / 10

إنّ الشّذرات، تلك التي أمثّل فيها المعلّم الأوّل بين الألمان، هي أشكالٌ للأبديّة، ويتمثّل طموحي هنا في أن أقول في عشر جملٍ ما يقوله واحدٌ آخر في كتاب - ما لا يقوله واحدٌ آخر في كتاب .
(فريديريش نيتشة - غسق الأوثان - الفقرة 51(
الشذرة، جنس كتابة مخيّب للآمال بلا شكّ، مع أنّه الوحيد النّزيه . (إيميل سيوران التمزّق(

الكتابة الشذريّة ; تلك النّصوص المبعثرة، وجيزة ومكثّفة، تحمل في تضاعيفها خفّة المعنى، وثقل اللّامعنى. قد تستوقفك إحدى الشّذرات فتأخذ منك ما لا تأخذه المجلّدات والأسفار المترعة بالكلام : قد تخاتلك شذرة ما فيسقط الكلام عن الكلام وتتفتّت الصّورة لتحملك على إعادة تركيبها : هذه المرّة أمامك ما لا نهاية له من الاحتمالات.
تحمل الشذرة عادةً مادّة انفجارها في ذاتها، كلّ كلمة فيها قنبلة موقوتة، تنتظر من يفجّرها، وإذا تفجّر المعنى تداعت الأنساق وانهارت بعضها فوق بعض كأحجار الدومينو. ينجلي ذلك الزيف، زيف البناءات المنمّقة، لن تدوم تشقيقاتهم المنطقيّة، ستذهب كلّها جفاءً: لتحفظني السّماء من كتابة المطارحات ذات النّسيج الممطّط . يقول نيتشة. (المسافر وظلّه (
يمكننا وسم الشذرة بالشظيّة. هي ما تشظّى من النّسق وصار ركامًا على الهامش، فانعدم المركز. كلّ شظيّة لها من الدفق المعنويّ ما يجعلها واحدةً في مبناها ومتعدّدةً في معناها. كلّ شظيّة هي قطعة خشنة وملساء في آنٍ، تعكس أنوار الشّموس صوب لانهاية الآفاق.
الشذرة في كنهها يأس. يأس من النّسق ومن الحداثة. نيتشة اللذي برع في كتابتها، كان قادحًا لشرارة ما بعد الحداثة حتّى اندفعت من خلاله كالسيل الجارف، وصدقت نبوءاته بعد أن ذاقت الإنسانيّة ويلات الحداثة. نيتشة كان معارضًا يائسًا للنسق وللأنوار الحديثة. وقد أعلنها مرارًا ودون مواربة. جاء في متن ـ ما وراء الخير والشرّ - هذا الكتاب في جوهره، نقد للحداثة لا نستثني منه لا العلوم الحديثة ولا الفنون الحديثة ولا حتّى السّياسة الحديثة .
الشذرة في تجلّيها عودٌ على بدءٍ. إذْ كان الخطاب الفلسفي الماقبل-سقراطي خطابًا متشذّرًا على العموم، لم تجمّده بعدُ صرامة النّسق، فكانت شذرات بارميندس وهيراقليطس طيّعةً منسابةً كسيل من المعاني الناضحة بتفاؤل البداية. أمّا غاسقات نيتشة ولعنات سيوران وشعاب هايدغر فهي طافحة بتشاؤم الغاية. وهي في كلتا الحالتين تجلٍّ لصدق فيلسوفٍ نَثَرَ الكَلام على سجيّتِه.
انتظمت شذرات فلاسفة البداية في سيرورة آيلة إلى النسق ومصيَّرةٍ إليه، حتّى إذا أدركت غايتها انفرط عقدها فانتثرت كالفراش المبثوث. وشتّان ما بين فجر التّاريخ وغسقه. لقد راهن الفلاسفة الأوائل على الإنسان. أمّا فلاسفة الغسق والأفول فقد عبّر نيتشة عن موقفهم من الإنسان بهذه الزفرة: نحن فقدنا أيضا محبّة الإنسان، وتهيّبَ حرمته، والرجاءَ فيه، بل وإرادتَنا له. ألا إنّ بنا سأماً من منظر الإنسان - وما هي العدميّة اليوم، إن لم تكن هذا ؟... لقد سئمنا من الإنسان... (جينيالوجيا الأخلاق (
نختم بشذرة لسيوران. ربّما تفسح للنّاظر التمعّن في عبثيّة هذا الجنس القلق والمقلق، المرتبك والمربك. يقول: لماذا الشذرات؟ سألني ذلك الفيلسوف الشاب مؤاخذًا. بسبب الكسل، بسبب النّزق، بسبب القرف، لكنْ لأسباب أخرى أيضًا... - وبما أنّني لم أجد منها سببًا واحدًا، أطنبت في تفسيرات بدت له جادّة وانتهيت بإقناعه. (اعترافات ولعنات (



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن