مَراكش؛ أشجارٌ، عرائشٌ، بشرُ

دلور ميقري

2012 / 12 / 25

1 ـ مدينة النخيل، صباحاً
لا مَراء بأنه محضُ اتفاقٍ أن يكون اسمه " مراكش "، ذلك الرياض الذي نزلت فيه خلال الزيارة المُستهلّ بها تعارفي ومدينة النخيل. مذاك الحين، الموافق لصيف عام 2008، قدّر لرحلاتي التسع إلى المغرب أن يكون حاصلها ما يزيد عن الأربعمائة يوم، استأثرت مراكش بمعظمها. صيف التعارف هذا، سبقه شعورٌ من الخيبة والاحباط، شماليّ الهويّة، سبَبُهُ انتقالي من شقةٍ أرضيّة كانت تضمّ حديقة ساحرة، دأبتُ على تنميتها والاعتناء بها لعدة أعوام. ثمّة وعلى الرغم من مناخ السويد المزاجيّ، المتقلّب ربيعاً وصيفاً، كنت قد نجحت في استزراع أنواع من الشجيرات والأزاهير والعرائش تنتمي للبيئة المتوسطية، الحارّة؛ مثل الزيتون والرمان والتين والعنب والياسمين والبوكسيا والبوغنفيليا. إنه ضربٌ من الحنين المجنون، ولا غرو، من كان يدفعني إلى الاصرار، وأنا في بلد الصقيع والعزلة والكآبة، على استحضار بيئتي الأولى، الحَميمة والمُفتقدة في آن، عبْرَ استنساخ أشجارها وتعريشاتها وأزهارها. هنا يجوز لي التساؤل: أهذا ما قصَدَهُ ميلان كونديرا، حينما أكّدَ بأن صراع البشر في هذه الحياة إنما هوَ صراعُ الذاكرة ضد النسيان..؟
صباحي الأول، المراكشيّ، أحالني إلى مَشهدٍ مُثير لطالما حننتُ إليه في غربةٍ كانت، آنذاك، قد ختمَت العقدين من الأعوام؛ مشهد تعريشة البوغنفيليا ( ندعوها " المَجنونة " في الشام )، المُطلّة على نافذة حجرتي برؤوسها العديدة، المشتعلة أرجواناً. مَبهوراً، ظللت في سريري وأنا أنقلُ بصري في سوانح الجمال ذاك، الجنونيّ. إثرَ الفطور، اقترحَ عليّ مديرُ النزل أن أصعد إلى الدور الأعلى، أين السطح المشرف على جانب من المدينة القديمة. ما أن ارتقيت إلى تلك الناحية، حتى انبسط أمام عينيّ مشهدٌ آخر، غاية في الروعة. إذ تسامقت من كلّ حدبٍ وصوَبٍ أشجارُ النخيل وكأنما هيَ في تحدّ لمباني المدينة، المكونة عادة ً من دورَيْن. قبل هذا الصيف بحوالي خمس سنين، وحينما كنت في القاهرة، فإنني لم أرَ ثمّة سوى نخلات قليلة، سقيمة بأغلبها، متناثرة في ميادينها وحدائقها. / في شوارع مراكش، الرئيسة والفرعية على حدّ سواء، سيلحظ زائرُ المدينة انتظامَ أشجار البرتقال والزيتون، المَنذورة للزينة والفيء. وإذا كان في مَقدور المرء حسابُ المسافة الواحدة نفسها بين كلّ شجرتين من ذينك النوعين، إلا أن شقيقهما النخل، في المقابل، سيبقى عصيّاً على النظام. لم يكُ عبثاً، إذن، أن توسَمَ مراكش بـ " مدينة النخيل "، طالما أنها كانت قديماً مجرّد خلاءٍ غير مؤهل سوى بهذه الأشجار العجيبة، الخالدة. تأكيدنا على صفة النخيل المراكشيّ، يعود إلى أن الكثير من أغراسِهِ قد عاصرَ أجيالاً وحقباً من زمن الممالك الزائلة. قلنا، أن الأشجارَ تهبُ المدينة الجمالَ والعافية والرطوبة. بيْدَ أن المدينة، من جانبها، لم تسطع ردّ الجميلَ: قلّة غلّة النخيل، ورداءته، يمكن إحالتهما بسهولة إلى تأثير تلوّث البيئة، الناجم بشكل أساسيّ عن دخان المركبات والموتورسيكلات. إن أجوَد أنواع التمور والبلح، المتوافرة في مراكش اليومَ، هيَ تلك المجلوبة إلى أسواقها من بوادي الجنوب والشرق؛ وخصوصاً من ورزازات.
ثمة مثلٌ كرديّ، طريفٌ ( قد يجده آخرون عنصرياً ): " لا التمر فاكهة ولا الجمل حيوان ولا العربيّ انسان.. ". إلا أنني، من ناحيتي، أجدُ النخيلَ أشبه بالبشر؛ ككائن اجتماعيّ. لأن الكثير من أشجاره، كما لحظتُ في مراكش، تعيش ضمن أسرةٍ واحدة من خمسة أعضاء غالباً. ثمّة، في خارج أسوار المدينة بشكل خاص، كثيراً ما يرى المرءُ مشهَدَ نخلتين، سامقتين، وقد التصقت بهما ثلاثة أخريات أصغر حجماً. غيرَ أنّ العددَ الاجماليّ لهكذا " أسرة " قد يتناقص، على التوالي، إلى أربعة فثلاثة فاثنين. ومن النادر، لحسن الفأل، أن تحظى هنا بمنظر مُحزنٍ لشجرة نخيل هَرِمَة، مُحتضرة، لم يبق منها سوى جذعها أو حتى جذرها. النخيلُ في مراكش، من جهةٍ أخرى، يُشبه في نوعيّته ما نعرفه في المشرق عن أشجاره. إلا أنه يُعثر في المدينة، وبكثرة، على أنواع غريبة من النخل ( اثنان أو ثلاثة على الأكثر )، يبدو من أشكالها النضرة أنها غير متجذرة بعدُ في التربة المغربية. " هذه نخلة واشنطن.. "، يقول عامل حديقة منارة " الكتبيّة " مُتبسّماً وهوَ يوميء إلى ناحية أحد الأحواض. ثم يُضيف " أما تلك، ذات السعف الشبيهة بأجنحة البازيّ، فلا أعرف لها اسماً ". ولكن، لماذا انتسبت النخلة الدخيلة إلى واشنطن، الباردة، وليسَ إلى ميامي، مثلاً؛ أين المناخ الكاريبيّ، الحار..؟

2 ـ مدينة المجنونة، ظهراً
ثلاثة أشهر، على أثر رحلتي الأولى، ثمّ أبصرتني هذه المرّة مقيماً في رياض آخر. كان النزلُ بيتاً قديماً ( اشتراه عديلي، الفرنسيّ الأصل )، قد تمّ تجديده وتجهيزه بالأثاث والاكسسوارات الكلاسيكيّة، المحليّة. ومثل الرياض ذاك، الأول، فإن هذا النزل يقع أيضاً في حيّ " باب دكالة "؛ في أقصى نقطة من مجاهل أحد الدروب. حجرتي، الواسعة نوعاً والكائنة في الدور الثاني، كانت تطلّ على صحن الدار. من هناك، يُمكن الاستمتاع بمنظر البحرة الصغيرة، المثلثة الشكل، الملبّسة بالسيراميك المغربيّ، الأزرق، كما وبالرواق المظلل بالعقود المشغولة بالخشب المزخرف، المدهون بالقار. شجيرتان، من النخيل الأفرنجيّ، يقوم كلّ منهما على طرف القوس الحجريّ، المُصَمَّت، المنبثق من وسطه تماماً مسيلُ الماء، المتدفق إلى أسفل؛ أين البحرة، الزرقاء. ثمّة، تتحلّق الموائدُ الصغيرة، مع كراسيها، والتي تدعو روّادَ الدار في آونة الفطور. أما وجبة الغداء، فإنّ مكانها في سطح النزل، المتخذ جانبٌ منه شكلَ الترّاس. هناك، في الجهة المقابلة، أعِدَّت أكبرُ الغرف كمضافةٍ على شكل خيمةٍ جبليّة، بربريّة. إلى هذه المضافة، المحوّطة جدرانها السفلية بالأرائك التقليديّة، كانت تجلب أطباق الغداء المتنوّعة، المطهوّة بيديّ شقيقة زوجتي، الماهرتين. ينبغي القول، بأنّ طبق السمك، المُعدّ على الطريقة المراكشيّة مع ندّه طبق القريدس من المطبخ الفرنسيّ، كانا هما الأكثر استساغة في مفاضلة ذائقتي.
لو قدّر لهذا الرياض، كما في سالف الوقت، حظوة اقتناء الوصيفات، لما كنّ أكثر بهاء من عرائش البوغنفيليا؛ أو المجنونة. إنهنّ هنا، على سطح الترّاس، يتوزعن في أصص الفخار، الكبيرة الحجم، التي يُشبه كلّ منها شكلَ امرأة عجزاء. تتطاول عرائش المجنونة إلى الأعلى بأوراقها المسحورة، المنقلبة على التوالي إلى ألوان الأبيض أو الأصفر أو التركوازيّ أو الزهريّ أو البنفسجيّ. بين بابي حجرة المكتب وحجرة مدبّر النزل، تتناهض تعريشة الغاردينيا ( الفلّ الافرنجيّ )، والتي أضحت اليومَ تماثل تقريباً حجمَ جاراتها، المجنونات. لكأنما الزمن لا يتحرّك في هذا البلد، خصوصاً عندما نلحظ حالة الازدهار، الدائمة، لدى أشجاره وصبّاره وعرائشه وأزهاره. إذ كنت في هذا الرياض زائراً، قبل حوالي ثلاثة أشهر، حينما كان بعدُ في طور التجهيز. لما عدّتُ في بداية نوفمبر، أتذكّر أنني لدى وصول الطائرة إلى مطار مراكش، فقد ارتديت معطفي الشتويّ متهيئاً للترجّل منها. فما أن خرجت إلى الهواء الطلق، حتى فجئني لفحُ نسيم دافيء، غامر، فأوحى إليّ كما لو أنني لم أكن قد غادرت المغرب سوى ليوم واحد، حَسْب.
يتناهى فيّ المقام بمراكش، في رحلتي الثانية، إلى منتصف يناير. البرد يتسلل هيّناً إلى أعماق المنازل، وتحديداً مع بدء الغروب. خارجاً، ما يفتأ الجوّ بمنأىً عن مربعانيّة الشتاء هذه، سواء أكان الوقت نهاراً أو ليلاً. أخرج إذن من الرياض، حالما تشير ساعة المطبخ إلى الثانية ظهراً، مُيمماً شطري إلى جهة " ساحة جامع الفنا ". بعد مسير عشر دقائق على الأقدام، ها أنا ذا أتوغلُ في العَرَصَة الفسيحة، المفصولة عن منارة " الكتبيّة " بالشارع الرئيس، العريض، المنعوت باسم مؤسّس المملكة المغربيّة الجديدة، والمنتهي في حيّ " غيليز "، المُعتبَر. هذه العرصة، تبدو وكأنما كانت منذورة منذ القِدَم كمحطة لعربات الحنطور المُسيّرة بالخيول ( أو " الكوتشي "، كما تعرف محلياً ). هنا، في ظلال الأشجار، يستريح الخلق جنباً لجنب مع الخيول، غير متأثرين على ما يبدو برائحة روثها، النفاذة، المنتشرة بقوّة في جوّ المكان. النخيل بدَوره، المتجذر في تربة الزمن، يتراصف في دِعَة مع أخوته الأصغر منه حجماً وعُمراً؛ كالتين والتوت والبرتقال. في الجهة الأخرى من العرصة، الخالية من الأشجار، تتكاثر أعداد السياح الأوروبيين، من المراوحين في انتظار حافلاتهم أو من المتنعمين وهم على المقاعد الحديدية بأشعة الشمس الدافئة. في خلفيّة المشهد، أين أسوار أحد المطاعم الكبرى، تهمي خمائل المجنونة إلى أسفل مُشتعلة ً بشتى الألوان. اعتباراً من هذه الأسوار، فإن تلك الخمائل ستترى كالسيل على طول جانبي شارع " محمد الخامس " وإلى منتهاه عند " ساحة 16 توفمبر ". لمراكش عدّة نعوت؛ كمدينة الحمراء ومدينة النخل. سأضيفُ إليها، جادّاً، نعتاً جديداً: مدينة المجنونة.
أتحوّلُ إلى الجهة الغربية من مسجد " الكتبيّة "، حيث تبدو منارته العظمى مهيمنة بظلالها على مبنى القنصلية الفرنسية. ولكن، قبل ذلك، على المرء اجتياز ممرّ المشاة، الباهت لونه الأبيض ( ربما لانتفاء المنفعة منه؟ )، وصولاً إلى تلك الجهة. وعلى الرغم من قوانين السير الجديدة، الصارمة، فإن الموتورسيكلات المزعجة كانت ما تني تشارك العابرين خِللَ هذا الممر. الدراجات الناريّة، كما سألحظ خلال اقامتي المديدة نوعاً في مراكش، هيَ المُسبّبة لأكثر حوادث السير. نصف مُستعملي الموتورسيكلات تقريباً هم من الإناث ( ودونما اعتبار لكون الكثير منهن محجبات )؛ وأعتقدُ أن هذا من حسن الحظ، نظراً لأنهن عموماً يتميزن بضبط النفس واحترام القوانين. وإذن، وصلتُ بقدرة القادر إلى برّ الأمان. وها هيَ خطوات الجوّال تحاذي سور القنصلية الفرنسية، لتسير في موازاة الأحواض المركونة بأسفلها والمستزرعة بشتى أنواع الشجيرات والخمائل. ما يُدهِشُ هنا، أن اغراسَ الرمان، المحتفظة بعدُ ببعض أزاهيرها الزاهية، تشكّل سياجاً واطئاً لتلك الأحواض. لأننا نعرف أن نبات الشمشير، الزكيّ الرائحة، هو من يتعهّد القيام بهذه المهمّة غالباً: إنها فرادة، ولا شك، تضافرُ ما سبق لنا عرضه عن كون أشجار الشوارع في مراكش مؤلّفة بصورة رئيسة من البرتقال والزيتون.
الحديقة العشوائية، المترامية في اهمال ولا مبالاة إلى الغرب من " الكتبيّة "، زادَ من رثاثتها أشجارُ التوت الكبيرة، المُتعرّية من أوراقها في هذا الوقت من العام. وكذلك الأمر في جاراتها، أشجار التين، التي كانت كسوتهن مُنكمشة كما القماش المتحوّل إلى خِرَق بفعل البلى. ما أن اجتزتُ سور الحديقة، الاسمنتيّ والواطيء، عائداً إلى " الكتبيّة " من جهتها الشمالية، حتى استوقفني منظرُ رجل مُسنّ، يقوم باقتطاع وريقات من الصبّار الافرنجي. " ماذا ستفعل بهذه الأوراق، يا عمّ؟ "، أسألُ الرّجلَ. فيلتفت إليّ بابتسامة كبيرة، أظهرَت أسنانه المشوّهة والسوداء، ليشرح من ثمّ ما يقوم به من عمل. إنه يقوم بقطف ألواح الصبّار، لكي يستزرعها في جرار فخارية خاصّة بهدف بيعها لاحقاً للأجانب من سياح ومقيمين حالما تصبح بحجم مناسب. أسأله عن اسم هذا النوع من الصّبار، الغريب، فيجيبني قائلاً: " ندعوه عندنا " كرموز هندي "، وهوَ عقيم لا ثمار له ". الصبّار الآخر، الشاميّ، المبثوثة بعض جدعاته في الجنائن المحيطة بمنارة " الكتبيّة "، كانت ثماره اللذيذة الطعم قد تمّ جنيها منذ حوالي الشهر. في المقابل، فإن أشجار الحمضيات، وأكثرها من البرتقال، تزدهر ثمارها في هذه الآونة من السنة، المتأخرة. بيْدَ أنها أشجارٌ، خالدة الخضرة، لا تكاد ثمارها تختفي في كافة الفصول. وبالتالي، ندركُ لم اختارَ أهلُ مراكش تزيين شوارعهم الرئيسة بأشجار البرتقال، التي تبدو ثمارها ليلاً كما لو أنها مصابيحُ الإنارة، الكهربائية.

3 ـ مدينة الحمراء، مساءً
عندما تغرب الشمسُ تماماً، تتجلّى منارة " الكتبيّة " ساطعة ً بالأضواء، فيما البشر أمواجٌ تتلاطمُ على شطآنها. قبيل الغروب بقليل، رأيتني أتمشى خِللَ الممرّ العريض، المُفترَش في محاذاة المسجد المنارة، والمُفضي إلى حديقته الشمالية، الكبرى. سورُ المسجد، المُحتفظ بلونه الأصليّ المائل للحمرة، تعتليه القباب الأنيقة ذات اللون الترابيّ. القباب هنا في بلاد المغرب، وفي الأندلس أيضاً، هيَ على شكل هَرَميّ وليسَ كروياً كما في مشرقنا. بما أنّ الحديقة تلك تغلق أبوابها إبان الغروب، فإنني استعجلتُ في طريقي نحوَ شقيقتها الصغرى، المُقترنة بهذا المكان المقدّس، والمُستلقية في جهته الشرقية. شارع ضيّق، نظيفٌ للغاية، يَصل بين الحديقتين، وقد رُكنت على جانبيه الحافلات السياحية. ممرّ المشاة، الفاصل بين أطلال المسجد القديم وحديقته الشرقية، قادني تلقائياً باتجاه الزاوية الشمالية لهذه الأخيرة. هنا، في حوض واسع ومستطيل الشكل، تمّ استنبات أنواع عدّة من الشوكيات، مثل " لسان الحماة " و" الشمعدان " و " الصخرة " فضلاً عن " الكرموز الهنديّ ". جدعة الصبّار الشاميّ، وهيَ نجمُ هذا الحوض، كانت قد استوقفتني مذ رحلتي الأولى، المراكشية؛ حيث طفقتُ آنذاك أقرأ أسماء العابرين، المحفورة على ألواحها الخضراء، القاتمة والمغبرّة: لا بدّ أن اسمي كان ما يفتأ موجوداً ثمّة، على ألواح الصبّار في كرم " رزيْ آنا "، الكائن في أسفل حارتنا الدمشقيّة.. كان الاسمُ موجوداً مع الكرم، إلى أن محتهما معاً أسنان البلدوزر الحديديّ، الماحق.
مُطوّقاً بشجيرة نخيل افرنجيّ وشقيقتها المنتسبة لعاصمة اليانكي، جلستُ هنيهة أخرى على الحافة الاسمنتيّة، الواطئة، المًشكّلة سياج الحوض، مُتهيئاً للانطلاق نحوَ حديقة " الكتبيّة "، الكبرى. خلفي مباشرة ً، تطامنت شجيرة " تاج النار " ذات الأزاهير الدقيقة، الحمراء والصفراء. إنها من أكثر مِنَح الطبيعة، السخيّة، قرباً إلى قلبي: ثمّة، في منزلنا بدمشق، كنتُ ألتخ سُكراً بعبير هذه الشجيرة، الحرّيف. وعلى الرغم من حقيقة، أنني من كان يَمحضها مَقته خلال طور الطفولة، بسبب تحوّل أزاهيرها إلى كرات برّاقة، سوداء كالياقوت، لم تكُ في المقابل صالحة للأكل.
الحديقة الكبرى، المتواشجة باسم مسجد " الكتبيّة "، تكاد أن تعادل مساحته. ها أنا ذا، أخيراً، أقتربُ من سورها الحديديّ، المصطبغ بالأخضر المبارك، والمحتفظ برونقه عموماً. الباب الرئيس، المواجه تماماً لمنارة المسجد، يُسلّم المرتادين إلى الممر العريض، الذي تحف به من جانبيه أحواض واسعة مُحتفيَة بأغراس الورد الجوريّ والبلديّ والخبازى. هذه الأخيرة، تكون خلال الصيف على شكل خمائل هائلة الحجم، تتفجّر بألوانها العديدة، الصارخة. خمائل أخرى، أكثرها من البوغنفيليا المجنونة، قد تمّ تشذيبها كي تبدو على شكل أهراماتٍ أو مربعات. ما أن ينتهي هذا الممر، الرئيس، بساحةٍ تعتليها نافورة، حتى ينفتح ممرّ آخر، مزدوجٌ، مُشكّل من طرفيّ قناة مائية. القناة، المقارب عمقها نصف المتر وعرضها الثلاثة أمتار، تمتدّ إلى مسافة مائة متر لتتصل مع نافورة أخرى، منبثقة من فسقيّة تتوسط بدَورها ساحة ً تقع في محاذاة السور الشماليّ للحديقة. إنه مشهدٌ، فنتاسيّ، يذكّرنا بحدائق " الحمراء "، في الأندلس. هذه المنشآت المائية، الناضبة شتاءً، مُرصّعة بأنواع الزليج المحلّي، المُميّز، فيما الممر المزدوج وبقية الممرات والمماشي، فإنها مرصوفة بالقرميد الملوّن بحمرة خفيفة والمُشكّل على هيئة مربعات دقيقة، هندسيّة. هذا التشكيلُ البديع، ذو اللون المَوْصوف، يَجدهُ الزائرُ في معظم أزقة ودروب المدينة القديمة، حيث يضافر في فرادة " الحمراء "، المغربية. العديدُ من السيّاح، يختارون التصوّرَ أمام الفسقية تلك، أين تمتدّ خلفهم القناة المائية حتى مدخل الحديقة تقريباً، فيما منارة " الكتبيّة " تتوسّط المشهدَ مثل ماردٍ يتربّع على مَقْدِسٍ مُنيفٍ، خرافيّ. لا غرابة، إذن، أن يكون هذا المشهدُ نفسه هوَ شارة الفضائية المغربيّة، الأولى.
ها هيَ خطى الجوّال، المتمهّلة، تؤوب ثانية ً إلى ساحة المَسجد المنارة. قليلة هنا الأشجار، ولا غرو، بما أن الساحة منذورة أساساً لتسِعَ حشود المؤمنين، الذين يضيق بهم المسجدُ خلال صلاة التراويح بشكل خاص. مبهوراً، وقفت ذات مساءٍ رمضانيّ في الجهة المقابلة لساحة " الكتبيّة "، أتطلّع إلى الجمع الغفير من المصلّين، يُشاركني في ذلك العديدُ من السيّاح الأجانب. إذاك، كان النداءُ الهادرُ بـ " الله أكبر "، المنبعث من حناجر أولئك المؤمنين، يكاد يرجّ الأرض من تحتنا. وإذن، أقف في هذا المساء الشتويّ، الدافيء، لكي أتأمل هذه المرّة شجرة التوت الكبيرة، المتوحّدة، والتي كانت في أسوأ حالاتها. إلا أن جاراتها، النخلات، كن في المقابل يشمخن بالعافية والتألق تحت أضواء المنارة العظمى، المشتعلة للتوّ. قبيل تحرّكي باتجاه " شارع محمد الخامس "، تريثتُ قليلاً على حافة أحد أحواض حديقة المسجد، الشرقية، مُستأنساً بجدعةٍ من الصبّار الشاميّ ما فتئت بعض ثمارها مونقة بعدُ، على الرغم من انقضاء موسم نضوجها وقطافها. وكمألوف حالاتها هنا، فإنّ الجدعة كانت محاطة ببعض شقيقاتها من الشوكيّات؛ مثل " لسان الحماة " و" الصخرة " و" الصبّار الأفرنجيّ ". إنّ شجرة عملاقة، قائمة على ثلاثة جذوع متينة، هيَ من جعل ثمارَ الصبّار الشاميّ تتأخر في النضوج؛ كونها تحول بينها وبين أشعة الشمس. إنها شجرة أنيقة، أوراقها صقيلة ولامعة، تشبه تلك المُسماة لدينا في الشام " كوتشوكة ".
في طريقي إلى حيّ " غيليز "، الراقي، أمرّ من أمام " عَرَصَة مولاي عبد السلام "؛ كبرى حدائق المدينة القديمة. ألحظ عمالَ الحديقة، من ذوي الزيّ الموحّد، وقد بدئوا في إطلاق صافراتهم، الداعيَة الروّادَ للمغادرة مع حلول المساء. مركز الاتصالات الانترنيتيّة، الحديث والكبير، كان أيضاً قد أطفأ أنواره. لكم أشعرُ بالانزعاج، في كلّ مرة أمرّ فيها من قدّام هذا المركز، طالما أنه " مغروسٌ " في واجهة حديقة المدينة، الأكبر، مشوّهاً مدخلها وأشجارها وأغراسها. إنه شعورٌ، لن يلبث أن يمّحى مع وصولي إلى مركز رسميّ، آخر؛ هوَ " مجمع الصناعة التقليديّة ". ها هنا الأشجارُ ( مثل العرعر، المشهورة بخشبها الثمين ذي الرائحة القويّة ) تنقلبُ إلى تحف فنيّة رائعة، سيحملها زوّارُ مراكش إلى بلدانهم، البعيدة. غيرَ أن أشجاراً أخرى، حيّة، ما تني مزدهرة ً في هذا المجمع كالبرتقال والنخيل والتين. شجرتا أكّيدنيا، بأوراقهما السميكة، الداكنة الخضرة، تتألقان بأزهارهما البيضاء على الرغم من الفصل الشتويّ. سيزول عجبُ المرء، فيما إذا عرف أن اسم " أكيدنيا "، في اللغة التركيّة، يعني: " ذات المَوْسمين ". لأنها شجرة تثمرُ مرّتين في العام؛ في ابريل وسبتمبر.
في مراكش، الأشجارُ والعرائشُ لا تنام. لأنها مُتجذرة في مدينةٍ لا تعرف الوَسَن، ليلاً على الأقل. كيف سيراودُ الكرى أجفان النخيل والزيتون والبرتقال ( وهيَ أشجار الزينة في الشوارع )، ما دامت موسيقى فرق " ساحة جامع الفنا " تبقى متأججة ً حتى موعد آذان الفجر. بل إن ضجيجَ العربات والدراجات النارية، لا يكاد ينقطع في مراكش حتى ساعة متأخرة من الليل. عندئذٍ، تشرئبُ تعريشة البوغنفيليا بأوراقها المَسحورة، المجنونة، لتلتقط أصواتِ الموسيقى والمنشدين، الصادحة، الآتية من تلك الأنحاء مع النسائم الرخيّة. حتى شجيرة البوكسيا، التي تخمد أزهارُها مع غروب الشمس، فإنها لا تعرف كيف تغفو في ليل " المدينة الحمراء " الطويل، الحافل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن