اقرأ .. وحاجة إلى إعادة فهمها القرآني.

مختار سعد شحاته
mukhtarshehata@hotmail.com

2012 / 12 / 22

اقرأ.. والحاجة إلى فهمها الآني.
*اقرأ .. حكمة الخلق والوجود.
*نحتاج لإدراك معناها الحقيقي، حتى نعرف كيف نمارسها:

- " اقرأ باسم ربك الذي خلق " . ( قرآن كريم ) .
- " فى البدء كانت الكلمة " ( العهد الجديد ).
مفردة واحدة يمكن بفهمها إدراك غاية الوجود الإنساني، تجدها أولى كلمات التنزيل القرآني، ومفتتح أناجيل عدة، تجعل القارئ فى عوز إلى إعادة اكتشاف المعني فى عصرنا من جديد، بفهم جديد، يجيء من خلفية كونه ابنًا شرعيًا لكل المعرفة الإنسانية التى كانت – ومازالت – نتيجة هذا الإدراك لهذه الكلمة التى كانت فى البدء، واختتمت بها السماء مع آخر عهدها ببني البشر، فكانت " اقرأ" .
والمفردتان " الكلمة"، و" اقرأ"، تُسلمان إلى مفردة راتبة هى القراءة، فكل كلمة لابد أن تُقرأ، وإلا فلم كُتبت؟ وكل "اقرأ" لابد لها من مقروء هو الكلمة، وإلا فما الحاجة للأمر ذاته؟
تُعرف القراءة فى اصطلاح التربويين باعتبارها : وسيلة للتواصل أو الفهم عن طريق استرجاع المعلومات المسجلة فى المخ من قبل، ومن هذا التعريف البسيط للغاية ننطلق ونتابع، فنحن حين نمارس الفعل إنما نحاول استرجاع ما سجلته عقولنا فى فترات زمنية سابقة، ومن يعلم ربما كانت تلك المسجلة فى عالم الذر كما اعترف ابن الخطاب ذات يوم فى حديث مشهور لرسول الله عن عالم الذر. وهو ما يحيلُنا إلى قوله " نفختُ فيه من روحي"، فأول المعلومات التى سجلها العقل الإنساني هي معلومات تلك النفخة التى فيها من روح الله كيفًا لا كمًا، وعليه فكل الناس كما يقول الحديث "سواسية"، حقًا هم كذلك أمام تلك النفخة، لكنهم يختلفون فى قراءة هذه النفخة، واسترجاعها المعلوماتي، وهو من جانب آخر إشارة إلى عدالة التوزيع الإلهي، فمنا من يحسن قراءة النفخة فى زاوية من زواياها، فيبرع ويجود، ومنا من يقرأها قراءة مغايرة فيخالف غيره فى سمته وسلوكه وحتى فهمه، لكنهم جمعاء فيهم من هذه النفخة بقدر متساوٍ، واختلاف قراءتهم لها؛ هو سر الاختلاف فى كل شيء من علم وجهل، وغنى وفقر، وأدب وسوء أدب... ألخ.
تعجب حين تقرأ فى كتابات الحكيم الفرعوني " أوني" حين ينصح أحد التلاميذ بكونه قد أفرط فى شرب الجعة وتسكع فى الطرقات، مهملا قراءة درسه، فهذا الحكيم ربط إهمال قراءة الدرس بسلوك مناف يترتب عليه غياب العقل حين أفرط فى الجعة، وسوء السلوك حيث التسكع بلا هدف فى الطرقات. وهنا نلمح خطورة إهمال هذا الفعل، فهو يعرف أن حضارتهم لن تستقيم إلا بتحقق هذا الأمر، وفهم ما كان فى البدء. يعلم الحكيم أن ممارسة هذا الفعل هي ما يضمن بقاء الفراعنة وحضارتهم، على أن تكون الممارسة بفهم واستشراف للنفخة الأولي وبسطها على طول تاريخ الإنسان منهم.

* من يعلم اقرأ، فهو فى منزلة النبوة وقد يعلو:
واللافت يأتي متأخرًا، ففى عهد الدولة العثمانية تبحث فى تاريخها، وتاريخ انكساراتها، تري أحدهم يُفتي ويشير على السلطان بمنع تعلم القراءة والكتابة، حتى ينغلق منفذ الفهم الحقيقي لمعنى " اقرأ"، فهي أوسع وأشمل حين تُمارس من مجرد ترجمة الحروف إلى كلمات وأصوات منطوقة. هو يعلم أن السر فيها أعظم من مجرد حدث القراءة والكتابة، وأن فهمها الواسع قد يرقى بالأميّ فيمارس الفعل بوعي يفوق ممارسة المتعلمين مهارة ترجمة الحروف إلى منطوق له معنى، وإلا فما حاجة الوحي تكرار الأمر على نبي أميّ؟ هو يعرف – الوحي – أن هذا النبي يملك من أسباب ممارسة هذا الفعل " اقرأ" ما كان به قدوة للإنسان الكامل، حتى وإن خلت لديه أسباب ترجمة الكلمة إلى لفظ منطوق، والأمر ذاته يتكرر فى سيرة عيسى وموسى – عليهما السلام – فانت تجد نبوة موسى تكتمل على يد عبد تعلم كيف يمارس " اقرأ"، فتعلمها وعرف قدرها، وعلمها موسى الذي طلب إليه ان يتبعه كيما " أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا"، فما طلب موسى سوى أن يتعلم ممارستها، وهذا العبد الصالح يعلم صعوبة تعلمها وممارستها فيجيبه " إنك لن تستطيع معي صبرا"، وهي إشارة ربانية تؤسس : من فقه معناها وممارستها؛ رقيًا إلى درجة النبوة وزيادة، كما فى حالة موسى عليه السلام.
العجيب حين تُغلق الأفهام عنها، أو توصد العقول عن فهمها، تهدد الحضارة الإنسانية بالزوال، وهو ما نبه إليه الحكيم "أوني" تلاميذه، وما كان سببًا مباشرا فى أيامنا هذه من فعل ما يعرف بالربيع العربي، حيث أغلقت عن فهم رجال الحكم، فلم يتعلموا " اقرأ" للشعوب وحاجاتها؛ فانتهت بهم المآلات إلى هكذا حال نراه..
هذا الفعل قد يفعل بنا الأعاجيب، متى مارسناه بفهم، بل تراه فى لحظة انغلاقه يعطي درسًا آخر، مؤكدًا أن منع ممارسته كما لها من الأضرار، قد تعلمك درسًا أخيرًا فى الفوائد، ومثال ذلك نادر، وفى التاريخ الإسلامي تجده فى لحظة انغلاقها على الإمام الحسن البصري، وموافقته عُزلة واصل، فلو أنه فهمها فى زاوية قبول الآخر، ومارسها، لما اعتزله ابن عطاء، ولما كانت هناك واحدة من أرقى مدارس الفكر الإنساني "جماعة المعتزلة". هي عجيبة فى فهمها وانغلاق فهمها، دومًا تعطيك الدروس.

* سجود الملائكة لآدم فى حقيقته سجود لذات الله وروحه:
وبالعودة إلى بداية الخلق، وتكرار فكرة النفخة الإلهية فى الأب الأول آدم، ندرك قيمتها، ونكتشف أن سجود الملائكة له، ما هو إلا سجود يبرره ما حمل من أسباب هذا الفعل، من خلال ما نُفخ فيه من روح الله، وورَّثها لبنيه، فمارسوها حتى قبل أن يعرف الإنسان الكتابة ونطقها، وهو ما لا يدعونا للعجب حين نعرف أن رسول الله أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنه يعرف – كما عرف العبد المعلم لموسى – أن ممارسة الفعل شاقة، يلزمها فهم وتأمل ووعي وحضور عقل ثاقب متفكر، ينكر فساد السلوك الإنساني إذا خالف أصل النفخة فيه؛ فكانت لياليه فى حراء قبل الوحي.
اليوم ما أحوجنا إلى فهم جديد للأمر القرآني الأول، هذا الفهم الذي يخرج بالفعل من حدوده اللغوية، ويعطي المساحات البراح للتأويل والتنظير الجديد حول الأشياء، فحتى كلام الله حمّال أوجه، يتيح اختلاف القراءة وممارسة الفعل وفهمه فى كل وقت، وهو ما أشار إليه (د.نصر أبوزيد ) بيد أنه قد كُفر وحوصر حين قصر فهمها البعضُ على حدودها الحرفية، والتى تعجز عن تفسير سبب السجود لآدم، فتحيله إلى مجرد الاتباع لأمر إلهي دون فهم حكمة هذا الأمر، المردود إلى السجود لله ذاته وبعض روحه فى هذا المخلوق المعني بممارسة فعل الأمر " اقرأ"، ليصل لما فيه من أثر هذه النفخة الإلهية. ورسول الله فى غار حراء حين فهمها حرفيًا فأجاب " ما أنا بقاريء"، استلزم الوحي تكرارها لينبه إلى معني " اقرأ" المنوط به الأمر، فنري القرطبي يشير إلى واحدة من تفاسيرها القرآنية تعني معني بالاستعانة بأسماء الله – صفاته التى هي روحه – للفهم والعمل لكل أفعال وسلوكيات الممارسة الحياتية.. أى أن رسول الله حين انتقل من الفهم الدلالى للحرف إلى الفهم الإلهي للأمر، بات معلمًا للبشرية وهو الأميّ الذى لا يقرأ ولا يكتب.

* هجرة النبي درس عملي لتعلم وتطبيق " اقرأ ":
دعونا نسوق مثالا أخيرًا يؤكد حاجتنا إلى فهم جديد للكلمة التى كانت فى البدء، وإلى الفهم الحقيقي للأمر الأول " اقرأ"، ورغم خطورة المثال واحتمالية انغلاق القهم لمعناها هنا وارد، فقد ينتج عنه الهجوم الشرس على شخصي، لكن لا ضير.
تأمل حادثة الهجرة النبوية الشريفة، وجدلا تخيل العكس، لو أن أحد الكفار الصناديد كان هو المطارد، طبيعيٌّ كان سيلجأ إلى خطة هروب من أدواتها استخدام الجمل أوالحصان، واعتماد استيراتيجية التمويه الصحراوية إما بالاختباء فى غار أو بمخالفة خطوط السير لدى العرب، أى أننا حين نتحدث عن استيراتيجية الهجرة سنراها طبيعية جدا فى وقتنا بالنسبة لتاريخهم – وهو لا ينتقص من قدر الحدث – بل يحيل إلى أمر آخر إذا ما عُدنا إلى فعل رسول الله وصاحبه، فأنت ابن المعرفة الحضارية والانفتاح العلمي والتكنولوجي فى هذه القرية المنفتحة التى تعرف بعالمنا الأرضي، لن يؤثر فيك معني تجمد وانتهي، لن تفهم قدر معاناة الرسول فى الهجرة لأنك لم تعرف حر الصحراء ولا ركوب الإبل والخيل فى المواصلات، فأنت ابن الحضارة والرفاهية، قد يحدث تأثر لحظي سرعان ما ينتهي، لأن من ذاق عرف، وأنت لم تذق فلن تعرف، فكيف بشُرّاح السيرة نراهم يتمطعون فى شرح ركوب الجمل، ودخول الغار والسير فى حرارة الصحراء، وهذا طبيعي جدًا لكل من عاين بيئة الصحراء وعاشها مثلهم فى وقتهم ذاك؟! هنا وجب إعادة الفهم والقراءة، فاقرأ قراءة جديدة للحدث، ابحث عن سلوكيات النفخة – وهى واحدة على مر التاريخ الإنساني – هنا تجد درسًا حقيقيًا يقنع النشء بالهجرة وعظمتها، فرسول الله وصاحبه طوال الرحلة لم يستوقفا الدليل – عبد الله بن أريقط – ليدعواه للإسلام والشهادتين، بل رسول الله يقرأ الهجرة، فيستعين بدليل من الكفار – من الأعداء - يعتمد استيراتيجية تخالف فهمهم المعتاد للطريق، وتابع ممارسة يومه الاعتيادي مع صاحبه، دون إشارة إلى دينهما الذي يفران به إلى يثرب، والعجيب أن الدليل ابن أريقط هو من يصادف لحظة الفهم للفعل " اقرأ" ، فنراه يعيد قراءة الأحداث، لتنتهى به الحال فى نهاية الرحلة إلى إسلامه، فقط "قرأ" كل ما حوله من فعل الرجلين، وفعل الأعداء، وكيف يكون الأمر، فانتهى إلى الإيمان. وهو ما فعله العرب فى أوج حضارتهم، ويفعله الغرب اليوم.

* لا حاجة للاعتذار عن هدم أكشاك الكتب بالنبي دانيال:
يا سادة، إن ما نعانيه في واقعنا المصري هذه الأيام من حالات الاستقطاب العصبي لطائفة او حزب او تيار بعينه، لا يقل في انغلاق فهمه عن معنى الأمر "اقرأ" عن من أصدر الأمر بإزالة أكشاك الكتب فى شارع النبي دانيال بالإسكندرية منذ شهور، لسنا فى حاجة إلى اعتذاركم عن الخطأ، وتحميل الوزر لشخص لم يفهم الأمر، أو يقرأ الواقع، نحن فى حاجة إلى هذا الفهم، وإعادة القراءة فى كل ما حولنا وفى تراثنا وفى نصوصنا المقدسة، والقناعة بأننا - كل الخلق -فينا من نفخة الله بكل جماله وتسامحه ورحمته، فلربما نوافق ساعة انفتاح للأمر، كما وافقها ابن أريقط، فنخلص إلى فهم معنى وجودنا الإنساني الذى استحققناه بفضل هذه النفخة الأولي من روح الله، فكُنا خليفة الله المستحق للخلافة على أرضه، ولعل أولى منافذ الفهم أن نتعلم القراءة حرفيًا بمدلولها الحرفي تمهيدًا لمفهومها الدلالي، فلربما ندرك بعض ما فات.
- فهلا تقرأ العالم من حولك بـ " اقرأ" من جديد.

مختار سعد شحاته.
روائي .
في الإسكندرية / ديسمبر 2012م.


.




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن