هذا ما يريده الشعب التونسي، فماذا تريد -النهضة-؟

محمد الحمّار

2012 / 12 / 5

ماذا يريد النهضويون ومَن والاَهُم من وراء اختيارهم نهج المواجهة مع الاتحاد العام التونسي للشغل؟ وما الذي أتى بالمليشيات التابعة لرابطة حماية الثورة إلى ساحة محمد علي بالعاصمة حتى يحصل ذلك التدافع الدامي والفظيع الذي ذكّرنا بالمعارك القبلية وبالصدامات الطائفية؟

لئن يتضح جليا من خلال أحداث 4 ديسمبر أنّ حزب حركة النهضة المسيطر على الحكم يرغب أيضا في إحكام السيطرة على المنظمة الشغيلة بغية تطويعها للقرارات السلطوية، فالأخطر في الحدث كله هو أنّ الفكر النهضوي، الإخواني بامتياز، والفكر العمالي النقابي لاتحاد الشغل يقعان على طرَفَي نقيض. وهذا ينذر بأنّ مزيدا من الاستبداد سيصدر عن النهضة وأنه سيقابَل بمزيد من الصد والتصدي من طرف الاتحاد.

ولتذويب الجليد بما في خيرٌ للعباد وللبلاد و وبما فيه صون للأرواح وللمتاع ينبغي أن يعي الطرفان أنّ ما حدث ومازال يحدث بينهما إنما هو معركة خاسرة مسبقا. وهذا يفسَّر بسببين اثنين، أولهما أنّ النهضة والاتحاد باختيارهِما على التوالي المواجهة والانزلاق في متاهاتها، فهُمَا يوجّهان الشعب بأسره نحو التطاحن عوضا عن توجيهه نحو التنافس الشريف من أجل الإبداع على جميع الأصعدة والخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.

أما السبب الثاني فيكمن في أنّ كلا القوتين في واقع الأمر تتستر وراء الدافع الإيديولوجي المميز لها، بينما تتظاهر بالنأي عنه، مما يحمل كلاهما على انتهاج الصدام الدموي، إن استفزازا أم دفاعا عن النفس، عوضا عن الاستجابة لواجب البناء الإيديولوجي الحق.

في ضوء هذا، نرى من جهة أنّ المشكلة التي تنخر العلاقة بين النهضة والاتحاد هي نفسها التي تؤبد التنافر والانقسام بين قطبي إيديولوجيا الإسلام السياسي (ومن يمثله بالإضافة إلى النهضة) والعلمانية (والأحزاب والتنظيمات التي تمثلها) ونرى من جهة ثانية أنّ لب المشكلة لا يتمثل في الإيديولوجيا المميزة لكل طرفٍ على حدة وإنما في رفض كل طرف الإسهام بإيديولوجيته إسهاما إيجابيا في إبرام عقد سياسي واجتماعي يجسد طموحات الشعب في صلب مشروع مجتمعي جامع وشامل.

ويعزى هذا الرفض في تقديرنا إلى عدم الاستطاعة أكثر منه إلى انعدام الرغبة. بل قُل إنّ الاستطاعة هي التي توَلد الرغبة ومنه الإرادة. وفي هاته الحالة يمكن تشخيص العلة المشتركة من خلال التوصيف التالي: إنّ النخب والفاعلين في المجالين الفكري والثقافي العام غير متحررين بما فيه الكفاية كي تتكوّن لديهم استطاعة التمييز بين العمى المذهبي، وهو المتداول والضارب في بطانة حياتنا اليومية اليوم، والتدبر المنهجي، الذي يبقى الفريضة الغائبة اليوم.

لكي يتمّ التحرر ضمن العالم النخبوي ومن ثمة تتفشّى العدوى الموجبة إلى باطن العقل المجتمعي فيحلّ دافع التنافس محلّ دافع الإقصاء والتناحر، نقترح جملة من المبادئ التي نراها ضرورية لتفعيل الحس التعاوني، ومن باب أولى الحس بالآخر لدى كل الأطراف الفاعلة في مسار تحرير تونس حتى تكف عن الصراعات المذهبية وتتفرغ لبناء المستقبل. وهي مبادىء تدخل في إطار ما نسميه دولة الخلافة الحرة:

أولا، تحويل مفهوم الخلافة من سياق السلطة ونظام الحُكم إلى سياق الثقافة والفكر الحر والسلوك الحضاري، أي الاستخلاف كمبدأ قرآني متجدد.

ثانيا، الارتقاء بالعامل اللغوي (الفطري والمكتسب) إلى مرتبة لاهوت التحرر إذ إنّ اللغة حرية وبالتالي لا يمكن أن يكون لاهوت اللغة مترادفا مع شيء آخر غير الحرية. كما أنّ اللغة علم وبالتالي ما من شك في أنّ لاهوت اللغة يتسم بالعلم أو لا يكون.

ثالثا، الإقرار بأنّ الشريعة الإنسانية في المجتمع المسلم إنما هي صورة سنكرونية للشريعة الإسلامية كما ينبغي أن تكون في العصر الحديث وذلك بناءً على الإيمان بمبادئها السامية كما وردت في النص القرآني وفي ما صح من حديث شريف. ويلعب لاهوت اللغة في هذا الإطار لدى الشعب المسلم دور الضمانة للتحرر الذاتي من أي استبداد باسم الشريعة الإسلامية.

رابعا، انتهاج رفع القداسة عن قيمة الديمقراطية حتى لا تتحوّل إلى صنم، بقدر التشديد على ممارستها. وليس النظام الديمقراطي المنشود والنمط المجتمعي الذي سينتج عنه كتابا يُقرأ أو درسا يلقَّن، وإنما يأتي ذلك كنتيجة لغايات كبرى، مشتركة بين كل الأطراف من نخب وفئات اجتماعية ومنظمات.

نتخلص إلى القول إنّ الديمقراطية ليست غاية بحدّ ذاتها وإنما تتمثل الغاية في ما الذي من شأنه أن يُنجز بواسطتها. كما ليست الشريعة الإسلامية غاية بحدّ ذاتها وإنما تتمثل الغاية في ما الذي سيدفع الإيمانُ بمبادئها وبمقاصدها على تجسيده من أفعال وأعمال، عوضا عن الإيمان بمظاهرها وبأحكامها المجردة من سياقها. وبالمِثل ليست الخلافة أو الاستخلاف غاية وإنما تتمثل الغاية في ما الذي يرغب مجتمع تونس وغيره من المجتمعات المسلمة في تجسيمه في الواقع المعيش في ضوء توظيفهما.

بالنهاية تبقى جملة من الأسئلة معلقة حتى إشعار آخر: هل حددت نخبنا ما كبُر من الأهداف وما سمَا من الغايات على غرار الإسهام في تأليف سياسة كونية عادلة وفي تصحيح النظرة إلى التعايش بين مختلف الأجناس والثقافات وفي تثوير المقاربات الاقتصادية حتى تكون هادفة إلى تقليص الفوارق بين البلدان وبين الطبقات الاجتماعية في داخل البلد الواحد؟ أم أنّ الأحزاب ورموزها ما زالوا راضين متراضين بالتنابز بالتفاهات وبالتباهي بالمظاهر وباللهث وراء النجاح الشخصي وبالتهافت على الكراسي والمناصب وبعبادة المال والجاه والوفرة؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن