كيف “مهّد” الجيش الاسرائيلي للانتفاضة

ماريوس شاتنر

2002 / 10 / 7

 

ماريوس شاتنر *
Marius SCHATTNER

 

في الوقت الذي يتخذ من خرق العراق لقرارات الامم المتحدة ذريعة لشن الحرب عليه، رفضت السلطات الاسرائيلية مرة جديدة الانصياع لنداء مجلس الامن الدولي من اجل "الوقف الفوري" لحصار مقر السيد ياسر عرفات في رام الله. وتحت ستار الحرب على الارهاب تستمر حكومة السيدين آريل شارون وشيمون بيريس في تطبيق استراتجية انتهجها الجيش الاسرائيلي منذ أمد بعيد.

 

“مدّ وجزر” هي كلمة السر التي أعطيت للانتفاضة منذ انطلاقتها في ايلول/سبتمبر 2000 وهي تعبّر عن الفكرة التي يكوّنها الجيش الاسرائيلي عن المواجهة: ظاهرة طبيعية لا مفرّ منها ولا علاقة سببية لها بسياسة الحكومة. يضاف الى ذلك الاقتناع بأن موجة العنف ستنكسر في النهاية امام قدرة الجيش على مقاومتها. يكفي الصمود حتى الجزر، أي حتى اليوم الذي يفقد فيه الخصم “الامل في انتزاع تنازلات بالقوة”، بحسب إحدى العبارات المفضلة من المسؤولين الاسرائيليين.

 تدّعي القيادة العسكرية انها كانت تتوقع هذه الموجة العارمة. وقد أكد الجنرال موشى يعالون في كانون الاول/ديسمبر 2001 وكان آنذاك مساعداً لرئيس الاركان: "لقد سمحت لنا المعلومات المستقاة والاستعدادات التي قامت بها القيادة بأن لا نفاجأ بالنزاع المسلح الذي اطلقه الفلسطينيون"(١). اضافة الى ذلك فإن جهاز المخابرات العسكرية "امان" والذي كان يترأسه يعالون عام 1995 ابلغ رئيس الوزراء اسحق رابين ان السلطة الفلسطينية وفي خرق واضح لاتفاقية اوسلو لا تفعل شيئاً لمنع الاعتداءات في وقت تعرف "المنفذين ومخابىء الاسلحة وهي تقدر اهمية التهديد الارهابي". في كلام آخر، فإن جهاز المخابرات العسكرية توقع قبل خمس سنوات فشل عملية السلام(٢).

 لكن هذا النجاح يبقى نسبيا، ففي صيف 1995 لم تسجل المخابرات العسكرية “اي مؤشر يؤكد عدم التزام عرفات اتفاقات اوسلو وعملية السلام". الواقع ان “امان” ومن ضمن التقليد الاستخباراتي المتبع استشرفت الاحتمالات كافة واسمعت السلطة ما ترغب في سماعه(٣).

 لكن الحقيقة ان بعض الضباط الكبار قرعوا جرس الانذار قبل غيرهم ولا غرابة في ان يكونوا هم انفسهم الذين عارضوا بشدة اتفاقات اوسلو مع الفلسطينيين في العام 1993 وقد رأى هؤلاء في استمرار الاعتداءات بعد 1993 برهانا على ازدواجية عرفات الطامح كما يقولون الى تدمير اسرائيل على مراحل، وذلك بالرغم من ان المجموعات الاسلامية المعارضة هي التي كانت تقف وحدها وراء هذه الهجمات.

 وقد تحقق سيناريو الكارثة الذي حذروا منه في 29 ايلول/سبتمبر 2000 يوم اندلاع الانتفاضة غداة زيارة زعيم المعارضة اليمينية في ذلك التاريخ السيد آرييل شارون الى الحرم القدسي. وكان الجيش المستعد لهذا الاحتمال منذ زمن جاهزا للرد. الى حد ان السيد ياسر عرفات اتهم رئيس الاركان شاوول موفاز ورئيس الوزراء العمالي ايهود باراك بافتعال هذا الاستفزاز الصارخ بالتواطؤ مع السيد شارون من اجل القضاء على السلطة الفلسطينية التي لا يقبل اليمين بشرعيتها ابداً ويجاريه في ذلك قسم من الجيش.

 في الواقع وإن كان لا برهان على قيام القيادة العسكرية الاسرائيلية بدفع الفلسطينيين عمدا الى المواجهة، فالواضح انها لم تقم بشيء لتفاديها. وعندما اندلعت النار بدل ان تسعى الى حصرها سعت على العكس الى تأجيجها. ألم ترَ في المواجهة فرصة للقضاء على السلطة الفلسطينية ولو رغما عن الحكومة العمالية التي كانت  (حتى كانون الاول/ديسمبر 2001 ـ كانون الثاني/يناير 2002 ) لا تزال ملتزمة بذل جهد اخير للتوصل الى اتفاق سلام مع السيد عرفات؟

 هذا ما يلمح اليه مدير مكتب باراك السابق، المحامي جلعاد شير، احد ابرز المفاوضين مع الجانب الفلسطيني. وقد جاء في كتابه حول المفاوضات: "ان احد المفاهيم السائدة في اوساط الجيش كان التنبؤ بالشر الذي لا بد ان يحدث، فلا مفر من المجابهة طالما ان الفلسطينيين يخادعون او بكل بساطة يكذبون وانهم يحضّرون لهذه المواجهة وسلاحهم بيدهم". وفي رأيه ان تعليمات السلطة المدنية بخفض التوتر مع الفلسطينيين كانت تبقى حبرا على ورق: "الدبابات  (التي دخلت المناطق الفلسطينية) لا تعود الى مواقع انطلاقها(...)، ولا يسمح للعمال الفلسطينيين بالدخول الى اسرائيل الا بأعداد ضئيلة كما لا يصار الى رفع الحواجز عن الطرق" في الضفة وغزة. ويعرض شير لنزعة بعض القيادات العسكرية لاتخاذ مواقف سياسية علنية "يتوجهون فيها الى الرأي العام من فوق كتف الحكومة" المنتخبة، كما حصل في شكل خاص خلال الأشهر الاخيرة لحكومة باراك(٤).

 انها ظاهرة متواترة في بلد للجيش كلمته خصوصا بالنظر الى حجمه الكبير في المجتمع. فالجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تضطلع في الوقت نفسه بمهام التقويم  (من خلال “امان” اهم الاجهزة الاستخباراتية) والتخطيط والتنفيذ. مؤسسة تعكس التوجه العام في البلد وتضم عددا متزايدا من المستوطنين والقوميين الدينيين في صفوفها وإن كان تمثيلهم على المستوى القيادي لا يزال ضعيفا. وقد اتسعت الظاهرة في الاشهر الاخيرة في وقت يقود البلاد جنرالان سابقان هما شارون ووزير الدفاع بنيامين بن اليعازر والذي يمتاز بنشاط يضاهي نشاط قادة الجيوش.

 هكذا تدخل قائدان متتاليان لاركان الجيش الاسرائيلي هما موفاز ويعالون في صورة مجلجلة في الشأن السياسي داعيين الى حرب مضاعفة ضد السلطة الفلسطينية، في استرجاع للطرح المفضل في اوساط اليمين. ومنذ شباط/فبراير 2001 وقبل تسلّم شارون مهامه كرئيس للحكومة راح الجنرال موفاز ينعت السلطة الفلسطينية بأنها "كيان ارهابي"، وفي تشرين الاول/اكتوبر 2001 عارض اخلاء حيين في الخليل  (التي اعيد احتلالها بالكامل في ما بعد) بالرغم من صدور قرار صريح في هذا الشأن عن الحكومة. في ربيع 2002، اصر على المطالبة بطرد عرفات خلافا لرأي غالبية اعضاء الحكومة وعدد من الخبراء العسكريين.

 اما الجنرال يعالون فيشبه الإنتفاضة بـ"السرطان" الذي يهدد وجود اسرائيل نفسها كدولة يهودية وذلك في رد على العرب الذين يشبهون وجود اسرائيل في المنطقة بالسرطان. وهذا السرطان يجب اجتثاثه بشكل او بآخر ـ يعالون يفضل العلاج الكيميائي لكن يذكر ان غيره يدعو الى "البتر". من جهة اخرى يستنكر رئيس الاركان الجديد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان والذي قررته حكومة باراك في ايار/مايو 2000 وهو انسحاب جاء "يعزز المصالح العربية" كما يهاجم دعاة التسوية ومنتقدي سلوك الجيش بأنهم يدمرون معنويات الامة. وكلها تصريحات اثارت جدلا عنيفا.

 وفي الاتجاه نفسه يبرر قائد سلاح الجو الجنرال دان هالوتز في آب/اغسطس مقتل المدنيين خلال الغارات الجوية "ضد الارهابيين" ويقترح محاكمة دعاة السلام الاسرائيليين بتهمة الخيانة لانهم يجرؤون على اتهامه بارتكاب جرائم حرب.  

 المسألة المطروحة مرة اخرى هي العلاقة بين الجيش والسياسة. وترجع في الواقع الى زمن توقيع اتفاقات اوسلو في آب/اغسطس 1993 ، وفي كتاب مذكراته يصف الجنرال في الاحتياط اوري ساغي الارتباك الذي اصابه وهو احد مسؤولي المخابرات العسكرية حين اضطر للجؤ الى مصادر معلوماته الخاصة كي يعرف ان حكومته تتفاوض سرا مع منظمة التحرير الفلسطينية في اوسلو وان هذه المفاوضات ستصل الى نتيجة قريبة خلافا للمتوقع. يقول في مذكراته: "لم يبلغني رئيس الوزراء (رابين) ماذا يحصل مع وزير الخارجية (شيمون بيريس الذي يشرف على المفاوضات) لكني عرفت المزيد بفضل مصادري الخاصة وابلغت رئيس الاركان ايهود باراك"  (٥). 

ويأسف المسؤول السابق للمخابرات العسكرية والمصنف في صفوف المعتدلين في الجيش "لكونه تأخر في اخذ العلم بإعلان المبادىء (اتفاقات اوسلو) ولم يعد قادرا على التأثير في تفاصيله". من جهته الجنرال باراك مقتنع بأن آلية الانسحابات المتتالية التي ينص عليها الاتفاق ليست في مصلحة اسرائيل كونها "ستسلم اراضي من دون مقابل". ويصف الاتفاق بقطعة الجبنة المليئة بالثقوب. وعندما طلب رأي الخبراء العسكريين في وقت لاحق ضاعفوا من صمامات الامان للتأكد من عدم استخدام سلاح الشرطة الفلسطينية ضد اسرائيل وضمان الامن الضروري للمستوطنات مما يسمح لها بالتوسع بإيقاع مضطرد. 

يجب عدم الاستنتاج من ذلك بأن القيادة العليا كانت مناهضة في الاساس لاتفاقات اوسلو. هذا ما يؤكده الجنرال في الاحتياط داني روتشيلد. ويضيف هذا المسؤول السابق للادارة العسكرية في الاراضي المحتلة حتى العام 1995 : "كان بعض الضباط يشككون وآخرون يعارضون اما انا فكنت في قمة السعادة".

 كذلك فإن خليفة الجنرال باراك في قيادة الاركان بين 1995 و1998، الجنرال امنون شاحاك، كان من المؤيدين العلنيين لاتفاقات اوسلو. وعلى غرار غيره من المسؤولين العسكريين فإنه يعتبرها بمثابة تدعيم لأمن البلاد وهذا ما سيدخله في نزاع مع رئيس الوزراء اليميني بنيامين نتانياهو الذي اتهم ، يا لسخرية القدر، القيادة العسكرية العليا في ذلك الحين بالتدخل في السياسة(٦). كما ان مسؤول الامن الداخلي المدني (الشين بيت)، اميرال الاحتياط امي ايالون كان مؤيداً للتسوية مع الفلسطينيين، وبعد تقاعده في العام 2000 راح يدعو الى انسحاب غير مشروط من الاراضي المحتلة.

 في المقابل سرعان ما انضم الى معارضي اوسلو الجنرال موفاز قائد الاركان بين 1998 وتموز/يوليو 2002 والقائد الحالي للجيوش الجنرال يعالون الذي تبوأ منذ 1995 مناصب حساسة في مواجهة الفلسطينيين: رئيس المخابرات العسكرية، قائد المنطقة الوسطى التي تشمل الضفة الغربية ومعاون لرئيس الاركان بين 2000 و2002 .

 بيد ان الجيش لم يعرقل تطبيق اتفاقات اوسلو لاسباب ايديولوجية بل عرقلها من طريق قصر النظر وفق ما يقول داني روتشيلد. ذلك ان العسكريين يرجحون المتطلبات الامنية "على المدى القصير". وعندما اطلق الاسلاميون الموجة الاولى من العمليات الانتحارية عام 1994 بعد قيام المستوطن باروخ غولدشتاين باغتيال حوالى الثلاثين من المصلين المسلمين في الخليل، طلب الجيش اقفال المناطق الفلسطينية  (في حين أن الشين بيت اوضح أخطار هذا الاجراء). كان الهدف وقف الاعتداءات في اسرائيل من خلال منع دخول الفلسطينيين لكن الاقفال يرمي في البطالة اكثر من 100 الف عامل فلسطيني يعملون في اسرائيل ويسدد ضربة كبيرة لصدقية عملية السلام امام مواطنين توقعوا تحسنا في الوضع الاقتصادي من جراء وضعها موضع التنفيذ.

في موقفه المشكك والمتردد والمنقسم ازاء اتفاقات اوسلو، وجد الجيش نفسه في وضع متناقض. فمن جهة هو مكلف تطبيق هذا الاتفاق خصوصا في ظل الحكومات العمالية المراهنة على التزام العسكريين عملية التفاوض توصلا لاقناع الرأي العام. من جهة اخرى يستعد الجيش نفسه للمواجهة مع الفلسطينيين الذين يفترض ان يتحاور معهم وقد اندلعت المواجهات مع قيام اسرائيل بفتح نفق اثري في ليل 23 الى 24 ايلول/سبتمبر 1996 تحت مدينة القدس القديمة وعلى طول حرم المسجد الاقصى. وقد رأى المسلمون فيه تهديدا لثالث الاماكن المقدسة في الاسلام. وقد تم قمع التظاهرات بالعنف فتحولت الى تمرد ومن ثم الى معركة مسلحة مع تدخل الشرطة الفلسطينية. ولم يكن الجيش مستعدا لهذا الاحتمال وخصوصا ان حكومة نتانياهو لم تبلغه موافقتها على حفر النفق. فجاءت المحصلة رهيبة: 80 قتيلا بينهم 15 عسكريا اسرائيليا.

 وقد اعلن رئيس القسم التاريخي في الجيش ايغال اييال: “لقد مثلت هذه الاضطرابات منعطفا لم يعد بعده من شك في ذهن القيادة العسكرية بأن عرفات يستخدم انفجار الغضب كوسيلة ضغط لتحقيق مكاسب في المفاوضات”. اما الخلاصة فمفادها “ان المواجهات سوف تتكرر على صعيد اكبر وتتورط فيها قوى الامن الفلسطينية عندما تدخل المفاوضات مراحلها الحاسمة او في حال اعلان الفلسطينيون استقلالهم من طرف واحد”(٧).

كثف الجيش استعداداته في تموز/يوليو 2000 بعد فشل قمة كامب ديفيد ونظرا للاستعدادات في المعسكر المقابل خصوصا في صفوف حركة “فتح”. وقد عززت الحراسة حول المستوطنات وتم اختبار تكتيكات جديدة في حين قامت بعض الوحدات بتدريبات خاصة ووضعت خطط التدخل لا سيما عملية حقل الاشواك والتي تطاول الضفة الغربية بأكملها. 

 وقد وضعت هذه الخطط موضع التنفيذ مع انطلاق الانتفاضة. كان المطلوب الضرب بيد من حديد وخنق الثورة في المهد. وجاءت النتيجة عدداً مرتفعاً من الضحايا الفلسطينيين في الاسابيع الاولى للمواجهات ـ ثمانية اضعاف الضحايا من الجانب الاسرائيلي. بعد مرور عامين انخفضت النسبة الى واحد مقابل ثلاثة اذ تجاوز عدد القتلى الاسرائيليين الستمئة غالبيتهم من المدنيين “مقابل 1800” قتيل فلسطيني.

 لم يقتصر الاستعداد على الخطط التكتيكية فقط اذ بلورت القيادة العسكرية مفهوما لـ”المواجهة المحدودة” حتى قبل اندلاع الانتفاضة. ويوضح هذا المفهوم الجنرال في الاحتياط يري خان احد مسؤولي قسم الابحاث العملانية في الجيش والمكلف اعداد كبار الضباط ووضع التوجهات الاستراتيجية: “لقد ادركت القيادة العسكرية انه لا يكفي تطبيق توجيهات السلطة السياسية ـ وهي توجيهات متغيرة ويشوبها الغموض ـ بل ان عليه تفسير طموحات هذه السلطة كما يفعل المهندس مع زبائنه اي مقاربة الصراع بطريقة مختلفة وادخال مفاهيم جديدة والاخذ في الاعتبار المعطيات الدولية وضغط الرأي العام”.

 “ليس الهدف احتلال ارض او استعادة السيطرة على مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني  (وهذا ما سيتحول واقعا على الارض) وليس في مطلق الاحوال اعادة العمل بالادارة العسكرية مع ما تتطلبه من مهمات، بل تقديم البرهان للفلسطينيين عن عدم جدوى اللجؤ الى العنف لانه سيرتد عليهم”. عندذاك وعندذاك فقط تقدم اسرائيل خطة سلام لانه لا حل دائم "بدون حل سياسي".

 يؤكد ضابط كبير آخر من دائرة التخطيط الاستراتيجي في الجيش ان هذه اللحظة تقترب اذ يلاحظ “استياء متزايدا في اوساط الفلسطينيين” ازاء السلطة وعرفات. هو ايضا يتطلع الى حل سياسي لا يمكن اسرائيل ان تكشف تفاصيله اليوم. لكن الامر سيحصل بدون الزعيم الفلسطيني الذي يتهمه الضابط بالاطلاق المتعمد لـ”حرب حقيقية” وليس لانتفاضة شعبية كما ساد الانطباع. والجيش كان يتوقع ذلك لكنه لم يحسب “ان يطول النزاع الى هذا الحد ويوقع هذا العدد الكبير من الضحايا ويترافق مع تلك الموجة الدامية من العمليات الانتحارية”. هنا ايضا يحمّل عرفات وحده المسؤولية عن هذا التصرف اللاعقلاني.

 التبرير قابل للنقاش في طبيعة الحال لكنه يستخدم من اجل نزع المسؤولية بالكامل عن الجيش ليس فقط في ما يخص اندلاع الاحداث بل حول القمع الذي ادى الى مقتل مئات المدنيين الابرياء والحق الدمار الواسع بالمنازل في اطار سياسة تعتمد العقوبات الجماعية.

 "ماذا يحدث داخل جيش الدفاع الاسرائيلي؟" يتساءل الصحافي النجم نعوم برنيا الذي يعمل في صحيفة "يديعوت احرونوت" الواسعة الانتشار وذلك غداة الحادي والثلاثين من شهر آب/اغسطس الذي شهد مصرع طفلين ومراهقين خلال “عملية تصفية” اخطأت هدفها. وتلك كانت هفوة جديدة اعتذر عنها وزير الدفاع من جديد من دون الاقدام على اي معاقبة او توجيه ادنى نقد للمسؤولين عنها. ولا يكتفي الصحافي المنتقد لـ”عجرفة” القيادة العسكرية بالتساؤل فقط حول الشرعية الاخلاقية لهذا النوع من العمليات التي يخاطر فيها الجيش بقتل اقرباء الشخص المستهدف بل ايضا حول منطقها الداخلي وخصوصا انها تحصل بعد فترة هدؤ نسبي وان من شأنها التسبب بحلقة جديدة من الاعتداءات والعمليات الانتقامية(٨).

 لا تتعلق المسألة ببعض الهفوات فقط كما يقول المستشرق افراهام سيلا وهو ايضا ضابط كبير سابق في المخابرات العسكرية: "كانت هناك في بداية الانتفاضة ارادة جلية لايقاع عدد كبير من الضحايا ليس فقط بين مطلقي النار الفلسطينيين بل في صفوف المتظاهرين في شكل عام ولو انهم ليسوا مسلحين الا بالحجارة. نجح الجيش في كسر الانتفاضة الشعبية لكنها تحولت الى ارهاب ونزاع مسلح" لن ينتهي الا بعرض سياسي مقنع للفلسطينيين وهذا ما لا يظهر في الافق حتى الآن.

 تخفي “عجرفة” القيادة العسكرية هذه وبحسب قوله “الافتقار الى استراتيجيا حقيقية” اذ لا يمكن اعتبار كسر ارادة الخصم هدفا للحرب على المستوى السياسي. والاخطر في نظر هذا الباحث في الجامعة العبرية في القدس انه خلف الخطاب حول لاعقلانية عرفات ورغبته في التدمير، هناك "نظرة نمطية للفلسطينيين والعرب الذين لا نصدقهم الا عندما يقولون انهم يريدون تدمير اسرائيل من دون الالتفات الى رغبة هؤلاء الناس في ايجاد حل على المستوى العملي"، كما يؤكد ذلك العديد من استطلاعات الرأي.

 

--------------------------------------------------------------------------------

  *  صحافي، القدس، مؤلف

Histoire de la droite israélienne, Complexe, Bruxelles, 1991.
 

1  مقال لموشى يعالون في مجلة “ماعراحوت” (العبرية)، تل ابيب، كانون الاول/ديسمبر 2001، ص. 24 الى 30 تحت عنوان “تحضير القوات للنزاع المسلح”.

2 مقابلة يعالون مع المجلة العسكرية الاسرائيلية حول تاريخ الاستخبارات (موراشات هامودين)، تل ابيب، 28/1/2002 : “اقترحت على رئيس الوزراء اسحق رابين توجيه انذار (الى عرفات) للعمل ضد الارهاب والا يتوقف العمل بعملية السلام”.

3 انظر مقالة يوسي ملمان في “هاآرتس” 16/8/20ويستشهد فيها بإحدى الوثائق الداخلية للمخابرات العسكرية .

4

 Gilead Sheer, A portée de la main, (hébreu), éditions Tamar, Tel-Aviv, 2001, p 368.   

 5

 Ouri  Sagui Orot be Arafel (Lumières dans le brouillard), autobiographie (hébreu), éditions Yediot Aharonot, Tel-Aviv, 1998 , pp. 186-187. 

 يشدد على انه كان في حينه من انصار المفاوضات المباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية وتلك وجهة نظرة لم تكن لتلقى تجاوبا في صفوف الجيش. 

 6  خصوصا في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 15/6/1998 انظر

dépêche AFP, 15 juin 1998.  

 7  لن تمنع هذه الاحداث حكومة نتانياهو من سحب الجيش من اربعة اخماس الخليل في وقت لاحق. وما استخلصه المناضلون الفلسطينيون من الحادثة ان الاسرائيليين يتراجعون بسهولة اكثر في مواجهة العنف كما يقول الصحافي شارل اندرلين الذي يورد كلاما لمسؤول “فتح” مروان البرغوتي والذي اعتقلته اسرائيل وتقوم بـ”محاكمته”. راجع

Charles Enderlin, Le Rêve brisé, Fayard 2002, p. 74.

8  “يديعوت احرونوت”، اول ايلول/سبتمبر 2002 قامت لجنة تحقيق برفع المسؤولية عن العسكريين المسؤولين عن عملية القتل هذه وكذلك عن مقتل 8 فلسطينيين في حادثين متفرقين لكنها اوصت بتحديد اكثر دقة للاهداف.

 جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن