الاهمية التاريخية للحروب البونيقية

جورج حداد
george.haddad.bg@hotmail.com

2012 / 10 / 11

الحروب البونيقية أسست للاستعمار الغربي للشرق:


ـ القسم الاول ـ
الاهمية التاريخية للحروب البونيقية

التسمية: الحروب "البونية" او "البونيقية" او "الفونية" او "الفونيقية" هي الحروب الثلاث التي نشبت بين روما وقرطاجة بين السنوات 264 ق.م. و146 ق.م. والتي انتهت بالتدمير الكامل لقرطاجة الفينيقية وازالتها تماما من الخارطة السياسية والجغرافية.
وسميت بهذا الاسم لانه ـ اذا كان الاغريق قد اطلقوا على "الكنعانيين الشماليين" (اي الذين استوطنوا السواحل "اللبنانية" و"السورية" (حاليا) وانطلقوا منها نحو شمالي افريقيا وغربي المتوسط)، ـ اطلقوا عليهم تسمية "فينيقيين"، فإن الرومان اطلقوا على "الفينيقيين" شمالي الافريقيين وخصوصا القرطاجيين الذين انطلقوا نحو غربي المتوسط، ـ اطلقوا عليهم باللغة اللاتينية القديمة تسمية "بوني" او "بونيين". ومن هنا جاءت تسمية الحروب التي نشبت بين قرطاجة وروما بالحروب "البونية" الخ، اي الحروب مع "البونيين". علما ان الفينيقيين شمال الافريقيين، ككل الفينيقيين، ظلوا حتى بعد مئات السنين من تدمير قرطاجة يعرّفون عن انفسهم بأنهم " كنعانيون" ويتمسكون بهذا التعريف. وهذا ما يؤكده القديس أوغستينوس (354 ـ 430م) وهو من اشهر آباء الكنيسة الكاثوليكية وكان اسقفا لمدينة عنابة في الجزائر، اذ يقول في القرن الخامس الميلادي بعد سبعة قرون من تدمير قرطاجة "اذا سألت سكان بلد في افريقيا من انتم؟ يجيبون باللغة البونية: اننا كنعانيون!".
منطلق التناقض التناحري: وفي ثقافتنا السياسية المسطحة، يعتقد الكثيرون ان التناقض بين الشرق العربي المسيحي / الاسلامي وبين الغرب الامبريالي والصهيوني تعود جذوره الى التاريخ القريب نسبيا، اي الى الفتح العربي الاسلامي لاسبانيا ومن ثم طرد العرب منها، او الى نشوء الظاهرة الاستعمارية الغربية في القرون الوسطى، اي منذ الحروب الصليبية وغزو الاراضي العربية بحجة تخليص قبر المسيح الذي سبق وقتله الرومان واليهود، ومن ثم نشوء الصهيونية في ظل التوسع الاستعماري في الشرق.
ولكن الحقيقة، في رأينا المتواضع، ان جذور التناقض بين الغرب الاستعماري والشرق العربي المسيحي / الاسلامي تعود الى ابعد من ذلك بكثير، وتعود تحديدا الى ما يسمى الحروب "البونية" بين الامبراطورية الرومانية الصاعدة وبين قرطاجة، وهي الحروب التي انتهت بالتدمير التام لقرطاجة.
وهذه الحروب ترتبط بنشوء الامبراطورية الرومانية بوصفها النموذج الام للظاهرة الاستعمارية في التاريخ البشري.
الحروب العدوانية: وقبل الحروب البونية كانت قد ولدت طبعا ظاهرة الحروب العدوانية، حيث كانت مختلف القبائل او المدن ـ الدول او الدول الكبيرة تتصارع فيما بينها وتشن الحروب على بعضها البعض، كما على الدول والمدن الاضعف منها، وتقتل وترتكب المجازر وتسلب وتنهب وتسبي. ولكنها لم تتحول الى دول استعمارية في اساس تكوينها، ولم تتحول الحرب الاستعمارية الى مكون اساسي وغائية اساسية لوجود اي من تلك الدول المحاربة او المتحاربة.
اما الظاهرة "الرومانية"، اي ظاهرة "الدولة الاستعمارية بحد ذاتها"، اي الدولة التي وجدت لاجل الاستعمار، فقد اختصت بها اول ما اختصت الدولة (الجمهورية ثم الامبراطورية) الرومانية بالذات، التي ارست الاسس الاولية لتلك الظاهرة. والحروب "البونية" او "الفونية" هي التي دشنت الظاهرة النتيجية التي نتجت عنها، اي ظاهرة "الحرب الاستعمارية" اي الحرب من اجل الاستعمار والتوسع الاستعماري.
اما الحروب السابقة على الحروب الفونية فكانت تعبر عن:
ـ التزاحم فيما بين مختلف الاطراف والدول المتحاربة؛
ـ النزاع لاجل مكاسب سياسية او ستراتيجية او اقتصادية او جغرافية محددة؛
ـ الطمع في الاستيلاء على ثروات الشعوب او الدول او المدن الضعيفة او القبائل، ونهب ثروة شعب الدولة او المدينة او القبيلة المهزومة والاغتناء النسبي على حساب شقائهم؛
ـ واخيرا لا آخر: النزاع لاجل فرض عقائد دينية ـ اجتماعية ـ فلسفية ـ سياسية معينة.
وربما كان من الضروري ان نتوقف هنا، كمثال بارز، عند ظاهرة الحروب التي خاضها الاسكندر المقدوني باعتبارها اكبر واخطر حروب جرت في المسار التاريخي، قبل الحروب البونية. علما ان الكثيرين يدخلون حروب الاسكندر في خانة الحروب الاستعمارية، تماما كما يفعل الكثير من المحللين التاريخيين، ولا سيما الموالون للامبريالية الغربية والصهيونية او على الاقل المتأثرون بـ"الثقافة" الامبريالية ـ الصهيونية، الذين يدخلون كل الحروب القديمة، المصرية والاشورية والبابلية والفارسية، وحروب الفتح العربي ـ الاسلامي، في خانة الحروب الاستعمارية ايضا.
ومثل هذا التحليل هو تشويه وتضليل فيما يتعلق بحروب الاسكندر وحروب الفتح العربي ـ الاسلامي، والاخطر من ذلك ان مثل هذا التحليل يقوم موضوعيا بوظيفة التستير عن الطبيعة الاستعمارية الحقيقية للحروب الرومانية ومن ثم الغربية عموما، الامبريالية والصهيونية.
ونحن نؤكد على استنتاجنا هذا في ان الدولة الاغريقية ـ المقدونية، لم تتطور تاريخيا كدولة استعمارية. والشيء ذاته يقال عن الدولة العربية ـ الاسلامية (وفي الاطار الاسلامي نحن نستثني الدولة العثمانية، التي كانت دولة "استعمارية غربية بالوكالة" اي دولة "اسلامية" بالاسم، و"استعمارية غربية" بالفعل. وهذا طبعا يحتاج الى وقفة خاصة. ولا تزال تركيا "الاسلامية" الكاذبة تلعب حتى اليوم دور "الوكيل" الامبريالي الغربي ـ الصهيوني بغطاء او حجاب "اسلامي").
فقبل بداية الحروب الفونية بحوالى 65 سنة كان الاسكندر الكبير (المقدوني) قد احتل المنطقة في الثلث الاخير من القرن الرابع قبل الميلاد. واشد ما تعرضت له المنطقة اثناء حملة الاسكندر هو الحرب على مدينة صور، التي رفضت ان تفتح ابوابها للاسكندر كي يقدم القرابين لآلهتها، وقد حاصر الاسكندر جزيرة (حينذاك) صور وقام بردم البحر فيما بين الجزيرة والشاطئ من اجل الوصول بجيوشه البرية الى جزيرة صور. وبعد حصار دام سبعة اشهر استولى على المدينة واحرقها وقتل الالاف من ابنائها وبالاخص اعدم ستة آلاف من المقاومين الاشداء المدافعين عنها وصلب الفين آخرين منهم ودخل الى المدينة مزهوا بين صفين من المصلوبين.
ولا شك ان الاسكندر استخدم ستراتيجية الحرب والغزو والفتح للسيطرة على البلدان التي احتلها. ومع ذلك يمكن القول ان حملته لم تكن حملة استعمارية، بمعنى استعمار المناطق التي انتصر عليها، والقضاء على حضارتها وهويتها القومية والدينية، وضمها الى دولته الاصلية واستغلالها لمصلحة تلك الدولة. بل جرى العكس. فالاسكندر لم يكن يدعو الى القضاء على الهوية القومية والحضارة الفكرية والثقافية والدينية للشعوب الاخرى، بل الى التفاعل معها ولو بالقوة. وفي الحساب الاخير، فإن قوات الاسكندر (القادة العسكريون والمثقفون والشبان المقدونيون والاغريق الذين جاؤوا وقاتلوا معه) قد نحت نحو التأقلم والتكيف مع شعوب البلدان التي احتلتها تلك القوات، ونحو اجراء نوع من التلاقح الثقافي والحضاري مع تلك الشعوب. وهو ما نتج عنه ما يسمى الحضارة الهيلينستية او الهيلينية، التي امتدت في كل الرقعة التي وصلت اليها قوات الاسكندر وما بعدها، والتي هي نتاج التلاقح بين، من جهة، الحضارات الاقليمية القديمة (الفينيقية، والقبطية، والاشورية والفارسية والافريقية...)، ومن جهة ثانية، الحضارة الاوروبية الشرقية اي الاغريقية (اليونانية) القديمة (والى جانبها او من ضمنها الحضارة البلغارية والسلافية). وكانت المسحة الغالبة للحضارة الاغريقية باعتبارها لعبت دور الوسيط وواسطة العقد وهمزة الوصل بين تلك الحضارات " الشرقية" جميعا.
ان الهدف الاساسي الذي كان يسعى اليه الاسكندر والذي انطلق بحملته لاجله هو تأسيس "الحكومة العالمية" التي تنضم اليها جميع الشعوب والبلدان التي يفتحها، وليس استعمار واستغلال وضم تلك البلدان لمصلحة مركز استعماري هو الدولة التي انطلق منها. وهذا ما جعل حملته مفتوحة الافاق، بدون اهداف جغرافية ـ سياسية "مقدونية" او "اغريقية" ضيقة ومحددة مسبقا. وهو كان يتبع افكاره الخاصة، المبنية على فلسفة معلمه الفيلسوف الاغريقي ارسطو، ولم يكن يشارك في الرأي اقرب قادته العسكريين الا في تفاصيل تنفيذ الاهداف التي يضعها هو بنفسه. وبعد وفاته المبكرة والمشبوهة، تنازع قادته فيما بينهم وتقاسموا الاراضي والبلدان المفتوحة وتبلـّدوا فيها (اي اصبحوا وكأنهم من ابناء البلد).
هذا هو رأينا، المفتوح للنقاش، في طبيعة فتوحات الاسكندر، التي لا نعتبرها فتوحات توسعية استعمارية بالمعنى المحدد لكلمات استعمار وغزو استعماري.
الاستعمار الروماني: والامر يختلف تماما بالنسبة للحروب "البونية" اي الحروب الرومانية ـ القرطاجية، منظورا اليها من زاوية الاهداف الرومانية.
فبعد تدمير قرطاجة، تقدمت الامبراطورية الرومانية وسيطرت على مملكة البطالمة في مصر، ومملكة السلوقيين وغيرها من الممالك الصغيرة بضمنها (كالبتراء) في الاردن الحالي و(تدمر وارواد) في سوريا الحالية.
فروما كانت تطمح الى السيطرة على البلدان والشعوب الاخرى، بعد الانتصار عليها عسكريا، وتدمير حضارتها، ومحو شخصيتها القومية والاتنية والدينية، واستعباد اهاليها وتحويلهم الى "دواب بشرية"، ونهب واستغلال ثروات تلك الشعوب، وتتبيع و"رومنة" اراضيها.
اي ان روما كانت تمتلك كل خصائص الاستعمار، الذي عرف على نطاق اوسع فيما بعد. ومن هذه الوجهة النظر يمكن القول ان روما هي التي شقت طريق الاستعمار، في المسار التاريخي وعلى النطاق العالمي، وهي التي ارست معالمه ووضعت خطوطه وقواعده الاولى. وهي بالتالي "المدرسة" الاولى للاستعمار العالمي.
وكل الدول الاستعمارية، حتى ايامنا هذه، التي جاءت بعد روما، "تتلمذت" على روما وسارت على نهجها. وكل ما يجري اليوم على الارض الفلسطينية والعربية والاسلامية، من غزو وعدوان وتدمير ونهب امبريالي ـ صهيوني، والتعامل مع الشعوب كقطعان غير بشرية او بشرية ـ دونية او دون ـ بشرية، هو استمرار تاريخي لما قامت به روما في الماضي.
وبمعزل عن اي تفسير او تأويل ديني او مذهبي، هناك ـ على هذا الصعيد ـ رمزية تاريخية لا يمكن تجاوزها ابدا، تتمثل في علاقة روما بالمسيح والمسيحية. فروما هي التي حكمت على السيد المسيح بالموت صلبا، وبموجب قوانينها المدنية ذاتها، وهي التي اضطهدت رسل المسيح والمسيحيين الاوائل، جنبا الى جنب اليهود خونة الشرق التاريخيين. ومع كل ما فعلته روما ضد المسيح والمسيحية، فهي التي عملت بالمقابل على "تبني" المسيحية وتحويلها الى "دين للدولة" ومصادرتها و"رومنتها"، واخيرا على النقل القسري للمركز المسيحي من فلسطين، حيث ولد وعاش وصلب وقام من بين الاموات السيد المسيح؛ ـ نقله الى روما ذاتها، التي حاكمت واهانت وعذبت وقتلت السيد المسيح والرسل والاباء الاوائل للكنيسة المسيحية. والشيء ذاته يفعله اليوم اليهود الذين صرخوا بالامس طالبين من بيلاطس البنطي صلب "المسيح المسيحي" لفتح الطريق امام مجيء "المسيح اليهودي"، وهم اليوم يعملون لاجل "تهويد" القدس المسيحية ـ الاسلامية، مقابل الصمت والتأييد الضمني والمكشوف من قبل قادة العالم الامبريالي الغربي "المسيحي المزيف".
الحروب الاستعمارية: ولذلك يمكن القول ان الحروب البونية (الفونية) بين روما وقرطاجة هي "الحروب الاستعمارية" الاولى في التاريخ، وهي التي فتحت ابواب الصراع التاريخي المستمر بين الغرب الاستعماري، والشرق العربي المسيحي ـ الاسلامي المستهدَف للاستعمار.
وهذا يعني ان كل البنى او التركيبات الاجتماعية ـ الدينية ـ السياسية للشرق العربي المسيحي / الاسلامي، وجذور الصراع الاستعماري / الصهيوني الغربي ضد الشرق العربي المسيحي / الاسلامي، انما تعود بأسسها الى مرحلة الحروب البونية (الفونية) واسبابها ومساراتها ونتائجها.
ولكن للاسف ان دولنا وجامعاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا الثقافية واحزابنا ومنظماتنا السياسية ومراكزنا الاعلامية لا تعير الحروب البونية الاهمية المطلوبة، ولا تضعها في مكانها التاريخي الصحيح، بوصفها "المدرسة الاولى للاستعمار" ومنطلق الصراع والغزو الاستعماري للشرق العربي المسيحي / الاسلامي، وفي الوقت ذاته منطلق المقاومة الشرقية المسيحية / الاسلامية ضد الغزو الاستعماري.
وبدلا من ذلك تسود النظرة اللامبالية، ونكاد نقول "النظرة التسجيلية الميتة" الى تلك الحروب والمرور عليها مرورا "سكولاستيكيا"، اي مدرسيا مبسطا، او "سينمائيا" تفرّجيا، حيث تذكر فقط كوقائع "ميتة" مثلما يذكر مثلا تعرض مدينة بيروت قديما لعدد من الزلازل المدمرة.
وان هذه النظرة اللامبالية تسهم اسهاما اساسيا في تكريس "الثقافة المسطحة والسلبية" السائدة، التي هي اهم مظهر لـ"الثقافة الاستعمارية" التي فرضتها روما بعد انتصارها في الحروب البونية، ولا تزال مفاعيلها ومضاعفاتها سارية الى اليوم.
ونحن نحاول في الاسطر الحالية ان نلقي الضوء، ضمن رؤيتنا المتواضعة والمحدودة، على هذا الموضوع الشائك والمصيري، وندعو جميع المؤرخين والمثقفين العرب الكبار والصغار، المتخصصين وغير المتخصصين، لاعطاء هذا الجانب من تاريخنا الدامي الاهمية التي يستحقها، ليس فقط لاجل فهم افضل للماضي، بل بالاخص لاجل فهم افضل للحاضر بكل مكوناته، ولاجل استشراف افضل للمستقبل.
ونتوقف مع القارئ عند المحطات التالية ذات الاهمية التاريخية، لبنانيا وعربيا وشرقيا وعالميا:

ـ1ـ ان كل ما نعرفه عن الحروب البونية او البونيقية (بما في ذلك اسمها) هو من الجانب الروماني، او اليوناني المرومن في الغالب، او الغربي، ولم تصلنا كتابات فينيقية بالذات عن تلك الحروب. كما ان المؤرخين، منذ قيام الدولة العربية ـ الاسلامية لم يعطوا الاهتمام الكافي للتاريخ القديم لشعوب المنطقة، من مختلف جوانبه.
وهذا يؤدي، من حيث نريد او لا نريد، الى الوقوع كليا او جزئيا تحت تأثير المفاهيم "الغربية"، "الامبريالية" و"الصهيونية"، للصراع العالمي الاستعماري ـ المعادي للاستعمار، اي الصراع التاريخي الغربي ـ الشرقي، انطلاقا من الفهم الخاطئ للحروب البونية ولنشأة الامبراطورية الرومانية كأول امبراطورية استعمارية في التاريخ.
وهذا يقتضي القيام ببحوث معمقة، ثقافية وتاريخية واركيولوجية وفكرية ـ سياسية وفلسفية ودينية، من قبل المؤسسات البحثية والاعلامية والجامعية والحزبية والدولوية العربية، انطلاقا لا من المفاهيم الاوروبية والغربية "المرومنة"، الاستعمارية والصهيونية، بل انطلاقا من المفاهيم "الشرقية" المعادية للاستعمار الغربي وللامبريالية والصهيونية عداء وجوديا جذريا.

ـ2ـ ربما يمكن القول ان الحروب البونية هي اهم حدث في تاريخ العالم القديم. وان النتائج التي ترتبت على تلك الحروب هي التي حددت بشكل مباشر التطور السياسي لاوروبا والعالم الشرقي القديم على مدى 1600 سنة ـ حتى سقوط القسطنطينية (عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية ـ بيزنطية) سنة 1453. وحددت بشكل غير مباشر مستقبل العالم كله فيما ما قبل وما بعد هذا التاريخ.
ويعتبر الكثير من المؤرخين الحرب البونيقية الثانية انها أول حرب عالمية في التاريخ، فقد دارت في العديد من البلدان الاوروبية والافريقية في منطقة البحر المتوسط في ذات الوقت، كما شارك فيها بالإضافة إلى الرومان والقرطاجيين، شعوب الإيبيريين والغاليين والليغوريين والسلتيين والنوميديين والاغريق والمقدونيين. كما فقد فيها الرومان وحدهم خلال 17 عاماً من الحرب نحو 300,000 قتيل، في الوقت الذي كان فيه عدد السكان حوالي 4 ملايين نسمة، أي بنسبة تتجاوز 7% من السكان.
وكانت النهاية الفاجعة للحروب البونية هي نقطة التحول التي أدت إلى المرور القسري للحضارة المتوسطية القديمة من شرقي المتوسط وشمال أفريقيا ومصر إلى أوروبا عبر روما. وما يسمى عصر النهضة وعصر الانوار والثورة الصناعية وكل مظاهر الحضارة، في اوروبا والغرب، ما هي الا الوجه الاخر والنتيجة العملية والواقعية لتدمير وسلب الحضارة الشرقية. تماما كما هي رمزية قتل المسيح في فلسطين واقامة صرح كنيسته في "قاتلة المسيح" روما، والعمل الحثيث لتسليم فلسطين وقدس المسيح الى قتلته اليهود.
وبعد هزيمة قرطاجة، فتحت الطريق امام قادة روما لاستعباد العالم القديم، فاستداروا اولا نحو الدولة المقدونية / الإغريقية وهزموها واستولوا عليها وعلى امتداداتها في الشرق العربي؛ كما استداروا نحو "حليفتهم" مملكة نوميديا الامازيغية (البربرية) فمزقوها وقسموها ثم استولوا عليها واستعمروها تماما بالقتال وبدون قتال، واطلقوا لقب "برابرة" و"بربرية" على جميع شعوب الشرق. وفتحت الطريق لاستيلاء روما على كل محيط حوض البحر الابيض المتوسط وشمال افريقيا والمشرق العربي واسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان واوروبا الشرقية وقسم كبير من اوروبا الغربية والوسطى. واذاقت روما الامرين للشعوب التي اخضعتها بالقوة.
وفي نهاية الحروب البونية والتدمير التام لقرطاجة تحولت روما الى السيد المطلق لحوض البحر الابيض المتوسط. وصار الغرب الاستعماري – للمرّة الأولى في التاريخ – هو القوّة المسيطرة على البحر المتوسط وأغلب العالم القديم.
والرومان كانوا يعتبرون اية ارض ارضا رومانية بمجرد ان جنودهم وطأوا باقدامهم هذه الارض. وكان المبدأ الستراتيجي لروما (ومن ثم للامبريالية عامة) هو: ما هو لنا فهو لنا... وما هو لكم، فهو لكم ولنا، واخيرا فهو لنا وحدنا! ونحن السادة وانتم عبيدنا! وبذلك كرست روما على ارض الواقع، سياسيا واجتماعيا واخلاقيا وقوميا واتنيا، المبدأ العنصري الذي سبق للديانة اليهودية ان طرحته، وهو مبدأ "شعب الله المختار" و"الغوييم" (الاغيار ـ الدون).
وهذا المبدأ العنصري (الديني ـ الايديولوجي ـ الاخلاقي ـ السياسي الخ) هو الاساس البنيوي الذي يقوم عليه التداخل العضوي والدمج الكينوني بين الاستعمار والامبريالية، من جهة، وبين الديانة والتركيبة اليهودية والصهيونية، من جهة ثانية، منذ اللحظة الاولى لوجود الظاهرات الاستعمارية والامبريالية واليهودية والصهيونية.
وفي هذا الصدد ينبغي التأكيد وبأعلى صوت، انه من اسخف السخف، بل ومن الخيانة المفضوحة لشعوبنا ولجميع شعوب العالم، ما يعتقد به البعض، وما يدعو اليه البعض الاخر، من امكانية الفصل بين الامبريالية والصهيونية، وامكانية التفاهم مع "الشعب اليهودي" و "الدولة اليهودية" بمعزل عن الامبريالية، او مع الامبريالية وعلى رأسها "الدولة الاميركية" بمعزل عن اسرائيل والصهيونية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن