الدين الاستحماري (قراءة في كتاب النباهة والاستحمار للدكتور علي شريعتي(2))

محمود جلال خليل

2012 / 9 / 30

الدين الاستحماري

عرف شريعتي الاستحمار الديني على انه الدين الذي يتسق مع الاستعمار في جهة الاستغلال , فالاول داخلي والثاني خارجي فهما مكملان لبعضهما البعض وغالبا ما يتحدان لتزييف ذهن الانسان والمجتمع ونباهته وحرف مساره , وصنفه الى ( استحمار قديم ) و (استحمار حديث )
فالاستحمار الحديث هو الذي يرتبط بصورة مباشرة وغير مباشرة بـ ( الاستعمار الحديث ) وأنه قد بلغ درجة من القوة والشياع في زماننا هذا لم يسبق له نظير على مر التاريخ , وأنه يتحرك في مسارين ( الاستحمار الديني والتغريب ) والاول أخطر لعلة ان الدين يمثل هوية مجتمعاتنا وموجه مساراتها ان سلبا وان ايجابا , وهما يشكلان اداة استحمارية واحدة بيد ( الاستعمار الجديد ) , فيقول :
( اي شئ عمل بنا الغرب نحن المسلمون , نحن الشرقيون ؟ استحقروا ديننا ولغتنا وأدبنا وفكرنا وماضينا وتاريخنا واصلنا , وكل شئ لنا استصغروه , الى حد أخذنا نحن نتهزئ بانفسنا , بينما هم فقد فضلوا انفسهم وأعزوها ورفعوها الى حد انه استقر في انفسنا اننا يجب ان نحاكيهم في الازياء والاطوار والحركات والكلام والمناسبات حتى نقترب منهم ونرتقي اليهم في المستوى الذين نعتبره حضاري )

ثم ينظر شريعتي الى انسان اليوم والمجتمعات التي يعيش فيها والقوانين المعمول بها في الدواوين والمؤسسات والشركات والتي تحكم علاقة العامل بصاحب العمل , فيقول :
( هذا الموجود ذو القيم الالهية يسعى خلف رزقه اليومي , هذا الرزق القاتل للانسان الحي , هو الهوة التي تغور فيها أعز قيم الانسان الالهية كل يوم , في الحياة اليومية , تلك الحياة الدورية التي فرضت وجودها على كل الحيوانات من ذوات الخلية الواحدة والجراثيم , الى الحيوانات الكبيرة والنباتات , توقع الانسان في ذلك الدوران الاحمق , الدوران الذي يأكل فيه الانسان فينام فيستيقظ فيكدح ليأكل ويأكل ليكدح لينام ... ليستيقظ , كالحمار تماما يسير صباحا بجهد وتعب , فيرى نفسه أول الليل مكانه اول الصبح , يسري هذا على الانسان في الوقت الحاضر والماضي متحضرا كان ام غير متحضر شرقيا كان ام غربيا )

خلال هذا الدوران يلفت شريعتي النظر الا ان مجتمع اليوم الذي جعل الانسان يعمل في هذا الدوران الباطل قد أوجد فيه فاقات , عقد , ضغائن , أهواء , أحساد , صراعات , طبقات , وآلام خاصة , تسللت اليه بما زينته له من لذائذ وشهوات ومقتنيات ودرجات ان هو وصل اليها ونالها حاز الشهرة والمجد والسؤدد بين الناس , حسب اعراف وتقاليد ومفاهيم تلك المجتمعات , لتكون النتيجة التضحية بكل شئ واثمن شئ عند الانسان من أجل الحصول على ابخس الاشياء .......
( ثم نرى هذا الانسان الذي يختال فخرا ,ويعلو راسه الى عنان السماء ليصل الى الله .. نراه يتقبل الذل الى حد يأباه الكلب , من اجل رتبة او درجة دنيّة الى ابعد الحدود ضمن اطار القيم , قد ترون انسانا يكاد ان يصاب بنوبة تقضي علي حياته من شده فرحه , يجول في داره ويرقص لنفسه لماذا ؟لان لمح سيادة الرئيس في الدائرة صباحا , عندما كان يخطو على السلم , فراى في نظرته اليه شيئا من الرضى , نصف بسمة ظهرت على شفتي الرئيس , كما تظهر على شفتي صاحب الكلب حينما يقدم الى كلبه اللذائذ )

ثم يتساءل كيف وصلنا الى هذا المستوى المنحط ولماذا ؟
ويجيب شريعتي
( ان هذا قد يكون بسبب دار او سيارة استدان فرد ما ليشتريها وعليه ان يسدد ثمنها من راتبه ودخله وامكانياته والا كان المصير المظلم بانتظاره , فصار همه في الحياة وهدفه الاسمى هو سداد ثمن هذه السلعة التي فقد صفته الالهية بسببها , هذا الانسان لايدري اي شئ خسر وأي شئ نال بدل الذي خسره , المسألة أنه لا نباهة لنا , فنحن لا نستقيم الا ان علتنا يد قوية , أو سوط قاس , يظل فوقنا مدى حياتنا )

ثم يشير الى السلاح الجديد والمخطط الذي يسير عليه الغرب في ادارته لاهل هذه البلاد .....
( ان العدو اليوم ليس كالسابق , فهو لايأتينا بلامة حربه كالخوذة والسيف , فيقتل ويذبح ثم يعود من حيث جاء , فنعرفه بسرعة انه عدو , لا ليس كا تظنون , انه يظهر من أكمام ثيابنا , لا كما مضى يأتي حاملا سوطه , ويسوق الناس الى صناديق الاقتراع لأخذ الراي كما هو مع الغرب )
الغرب لم يعد يفرض على شعوب هذه المجتمعات حاكما او مندوبا عنها يتولى الامور في هذه البلاد كالمندوب السامي البريطاني والفرنسي والبلجيكي قديما , وانما يجعلها تختار بين افراد هو من انتقاها وصقلها ورفعها الى المقدمة وأكسبها الصيت والزعامة بوسائل اعلامه , فصورها لهم على انها قيادات وطنية تتمتع بمواصفات خاصة وعليهم فقط ان يختاروا من بينهم , فاستبدلوا السوط الذي كان يجبرهم على الانصياع للحاكم او مندوبهم في هذه البلاد بصندوق الانتخابات ....
( ان ذلك السوط اصبح اليوم في دماغ لعامل , يسوقه نحو صندوق الاقتراع ! وقد سواه على النحو الذي يمكنه ان يصوت بحرية ولاي شاء , لكن لم يتضح بعد كيف يحب هذا العامل أن يصوت اما لـ " كلدواتر " واما لـ " جونسون " نعم انه حر في تصويته لكنه لا يريد غير هذين الاثنين ! اذ حينها تكون النتيجة واحدة لايهما شاء ان يصوت !


ومن هنا يبدأ شريعتي بطرح بعض الحلول التي يراها تنقذ الانسان من دائرة الاستحمار التي وقع فيها فيطلب من المثقف الواعي الذي قد يكون اميا لا يقرأ ولا يكتب على حد وصفه , ولكنه اعلم وافهم لمتغيرات مجتمعه من حملة الدكتوراة والمؤهلات , ان يرفض كل شئ واي شئ يمكن ان يقيده او يهبط به درجه واحده أمام نفسه التي يراها في المرآة .......
( أجل لايوجد أحد يرى صورته الحقيقية نصب عينيه , حتى أولئك الذين يقفون امام المرآة كل يوم ثلاث أو اربع ساعات , ما أتفق أن رأوا أنفسهم .... لا شك ان من أدرك لذة التمرد والرفض والاخلاقية والنباهة لن يبدلها بأي شئ ولن يبيعها باي ثمن ) ثم يقول في موضع لآخر غير هذا الكتاب :
(ان لويس باستير ونيوتن وأديسون وغيرهم خدموا المجتمع الا انهم لم يصلحوه, اما محمد بن عبد الله وعيسى بن مريم عليهما السلام فقد اصلحا المجتمع وبالتالي خدماه )
ثم يذكر المثقف بقصة آدم عليه السلام يوم ان تنازل وأكل فأُخرج وهبط ....
ان أكبر قيم الانسان هي تلك التي يبدأ منها " بالرفض " و " عدم التسليم " الذين يتلخصان بكلمة ( لا ) ومنها بدأ آدم ابو البشر , امر ان لا يأكل من تلك الثمرة , لكنه أكل , فصار بعدئذ بشرا وهبط الى الارض , والا لكان ملكا لا مثيل له , ولصار غيره آدم ولفُرِضَ عليه ان يسجد امامه , لكنه اذعن فصار آدم بعد ان كان ملكا لا نظير له , ولكنه عصى فصار آدم , واول ما يبدأ آدم بهدمه في حياته اليومية ويضحي به هو ( التمرد ) الذي جعله مشابها لربه في هذا الكون)
لا يتحدث شريعتي عن اهمية الدين كعقيدة وعبادات ومناسك تدفع بصاحبها الى الجنة بعد الممات , وقد لا , وانما كمنهج وفكرة ترتبط بالواقع والحياة والطبيعة والكون اللذان يخضعان لقوانين وانظمة دقيقة على الانسان ان يتدبرها وينسجم معها لئلا يندرك ويقع في دائرة الاستحمار
( ان الذي اريد أن اقوله , هو ان الدين الذي هو فوق العلم يعتبر الانسان ذاتا أرقى وأشرف من جميع المظاهر الطبيعية , هذا هو اعتقاد الدين واعتقاد اصحاب النزعة الوجودية ايضا

ثم يضرب مثلا بالمجتمع الاسلامي الذي كان في الصدر الاول
( كان المسلمون في صدر الاسلام اذا احسوا بخطر يهدد مصيرهم او ظلماً اصابهم من الخليفة او قرابته عطلوا اشغالهم وتركوا الاسواق والمحلات , وهرعوا الى المساجدفصاحوا واستغاثوا ودعوا الخليفة الى المحاكمة والاستنصاف , كان هذا هو شعور المسلمين الاجتماعي في زمن النبي (ص) وفي زمن ابي بكر وعلى عهد عمر وعلى عهد علي ايضا , وحتى على عهد بني أمية , واضح انه لا يمكن التحكم والتسلط بسهولة والدعة على اناس كهؤلاء مع هذه الجرأة والجسارة , كانوا اهل دراية اجتماعية وانسانية كما ذكرت .. لماذا ؟ لانهم مسلمون ملتزمون اجتماعيا بشدة وحرص , اذا سمعوا صوت الآذان هرعوا الى الصلاة فحاسبوا انفسهم وفكروا في مصيرهم ودرايتهم , وحينما رأوا عمر بن الخطاب - الامبراطور الذي فتح لهم مصر وايران وبلاد الروم – يرتدي ثوباً من الغنائم الحربية اطول من ثيابهم بقليل ، علت اصواتهم ، يطلبون تقسيم الغنائم بالمساواة ، لافرق عندهم بين عمر أميرهم وبين جندي من الجنود , خاطبوه , لاي سبب ثوبك اطول من ثيابنا ؟ اجبروه على المحاكمة لاول مرة وأخذوه لاستئثار نفسه عليهم بذاك الثوب , طالبوه بالعدالة بدلا من الثناء عليه واجلاله على فتح ايران والروم , فياتي عمر الى المسجد ليجيب الناس بنفسه من غير ممثل ومعه ابنه عبد الله شاهدا معه ويخاطب الناس قائلا : ان سهمي من القماش لم يكفني ثوباً لطول قامتي وقد اعطاني ابني عبد الله سهمه فأضفته لسهمي ووضعت ثوبي هذا , هلموا فتشوا , ابعثوا وكلاء عنكم , حققوا كيفما شئتم , فعبد الله ليس عنده من هذه الغنيمة ... وبرأوا عمر بعد التحقيق

اذا واضح انه لايمكن التكم بهؤلاء الناس كيفما كان , وليس لهم علاج سوى الاستنزاف , اي ان تستنزف منهم تلك الدراية السياسية وتسلب منه تلك الدراية الاجتماعية النبوة النيرة , فاذا سلبت لا يبقى بعدها شئ ذو خطر , شاؤوا ان يكونوا علماء او فلاسفة ليس بذي اهمية , ومن ثم كان الاستحمار
عرف شريعتي الاستحمار الديني على انه الدين الذي يتسق مع الاستعمار في جهة الاستغلال , فالاول داخلي والثاني خارجي فهما مكملان لبعضهما البعض وغالبا ما يتحدان لتزييف ذهن الانسان والمجتمع ونباهته وحرف مساره عن النباهة الانسانية , فردا كان أم جماعة يصنف شريعتي الاستحمار الى نوعين :
الاستحمار القديم : يوجد في الزهد والاخلاق والتصوف والشعر , القومية , تعظيم وتجليل الماضي , الفلسفة , الشكر , الشفاعة , الوصول الفردي الى الجنة ودخولها .......
الاستحمار الحديث : يوجد في التخصص , التحقيق , العلم , القدرة , التقدم , الحرية الفردية , الحرية الجنسية ,حرية المرأة , التقليد والاتباع .......
اما الاستحمار القديم فقد بدأ بعد انقضاء فترة انبياء الله ورسله الكرام الذين بلغوا الدين واضحا وصادقا في ذروة الحقيقة , وقع مصير الدين في ايدي قوات استحمارية مضادة للانسانية تتسمى باسماء كالطبقة الروحانية والطبقة المعنوية وطبقة الرهبان والقساوسة والكهان , فاتخذوا من الدين وسيلة لاستحمار الناس – الاستحمار الفردي والجماعي – لان الدين يعتني ويهتم بكليهما وبالاخص الاسلام الحنيف
يقول شريعتي :
( وكلامي هنا يدور حول الدين الاستحماري , الدين المضلل , الدين الحاكم , شريك المال والقوة , الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين , لديهم اجازات للاكتساب وفيها علامات خاصة تنبأ عن احتفاظهم بالدين , وانهم من الدعاة , ولكنهم من شركاء الاثنين , المال والقوة , اشارة الى السلطة الاقتصادية والسياسية , او كما عبر عنهم شريعتي في الكثير من كتاباته بـ ( فرعون وقارون وبلعم بن باعورا ) او ( الملك والمالك والملاء ) وأخرى بـ ( السوط والذهب والمسبحة ) وغيرها , ويستكمل شريعتي :
( كلامي يدور عن هذا الدين لاي شئ يسخر الناس كالحمير , اي يستحمرهم ؟ وما الذي جعله أكبر واقوى مستحمر في المجتمعات ؟ ماذا يفعل هذا الدين بالانسان فيستحمره ؟؟؟)
ثم يضرب شريعتي بعض الامثلة للاستحمار باسم الدين وكيف استخدم هؤلاء المستحمِرين الفضائل الاسلامية لابعاد الناس عن حياتهم وحقوقهم ومصيرهم ومصير مجتمعهم , وذلك بنقل الانسان بالنسبة الى الظروف والمكان , كأن يقال لك في مقام الزهد :
( دع الدنيا فان عاقبتها الموت , ادخر كل هذه الحاجات والمشاعر والامنيات الى الآخرة , الى مابعد الموت , ليس الفاصل الزمني بكثير , ثلاثون او اربعون او خمسون سنة لاقيمة لها , بعدها كل شئ تحت طوعك , وتكون من اولئك الذين هم فيها خالدون , ان سنوات العمر القصير لا قيمة لها , دع الدنيا لاهلها , ويقصد " باهلها " نفسه وشريكيه الآخرين !!!!!!) فبينما علي ان أرفض الظلم من اجل الحاجة الى العدالة , أجد ان دين الاستحمار يدعوني الى التمكين للظلم والفقر والسكون والصبر )
وفي مقام التوبة والاستغفار والشفاعة يقول :
( حين ارى نفسي مقصرا , خائنا مسيئا الى المجتمع ومصيره , اقع تحت ضغط مسؤولية ضميري , فتجرني الدراية الاجتماعية الى ان ارجع للناس حقوق الناس اليهم واستسمحهم فيما فرطت في جنبهم , لكن الدين الاستحماري يموه عليك ويقول لك :
( صحيح انك خنت وبعت مصير الناس للآخرين الا انك لا تستطيع ان ترجع حقوقهم عليهم وليس هذا صوابا , هناك طريق اسهل , ما هو ؟ ان تقرأ هذه الكلمات ست مرات وانت متجه نحو القبلة ! فلن يبقى عليك شئ , وستغفر ذنوبك كلها , لانك حينها ستنال الشفاعة والعفو والرحمة , وان رب هذا الدين سيصفح عن جميع السيئات والقبائح والمنكرات بسهولة , وسيمحى ذنوبك ولو كانت عدد رمل الوديان , ونجوم السماوات بنفخة واحدة )
( ومن ثم نرى الدين المستحمِر يكل استيفاء حقي وأخذه ممن ظلمني الى مابعد الموت , هذا لو كنت مظلوما , اما عندما اكون ظالما , فانه يعلمني الا استرضي المظلوم على ما فرطت في جنبه , بل ينبغي علي ان اطلب رضا " ولاة الله والدين " فيُصدق لي اولئك الولاة بالنيابة عن جميع المظلومين , وحتى عن الله , على جواز دخولي الجنة , ومن هنا فان دين الاستحمار يدعو الطرفين الظالم والمظلوم الى الاستحمار , ويبدل كا المسائل الى مسائل ذهنية )

لذلك يؤكد شريعتي على ضرورة وانسانية ان يكون المثقف على علم ودراية ووعاية كاملة بدينه واصوله ومعاركه وتاريخه وهو ما عرفه بـ ( الوعي التاريخي ) كذلك ادراكه للحظة المزامنة للحدث والالمام بقضايا العصر الذي يتحرك فيه بما تستدعيه مسالة ( الثابت والمتغير ) في الفكر الاصلاحي , فاختلاف الواقع يحتّم اختلاف الحلول , وبالتالي لايمكن الوقوف على حلول جيدة حتى يحاط باشكاليات الواقع الجديد وهو ما عرفه بـ ( وعي الوجود ) ومن ثم كان عمله هباء منثورا لا قيمة له وكان وجوده كعدمه في الزمان والمكان , لانه مثلا عندما يشب حريق في بيت , ويدعوك احدهم للصلاة والتضرع الى الله , ينبغي عليك ان تعلم انها دعوة خائن , فكيف الى عمل آخر ؟
ثم يختم شريعتي بقوله ...
( من لايكون شاهداً على عصره ، شاهداً على صراع الحق والباطل في مجتمعه ، فلا يهم ان يكون في أي موقع ومكان ، واقفاً في محراب العبادة او جالساً على مائدة الخمر)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن