رهانات الصباح بين المفتاح و المطرقة

سلمى مأمون

2012 / 9 / 21

(1)
يتصيدني، يجرجرني لاقتحم بابك، الذي أجهل على أيّ الجهات يطل، يطالبني أن أسلخك عن الرقاد لنقطع سوية ذاك الجسر المغلق، وحدنا، متجاورين أمام الملأ يوما كاملا. و ليرسمنا من يشاء و ليكللنا الصهد المهلك أو الموت. ظاهرنا كيانين مبتورين أعيد وصلهما، و داخلنا مصارعين محترفين في حلبة حلزونية. و ذاك الكف عصب هذي الكف في حاضر مسلوخ الاضلع هجين الثياب و القرار. ربما لابد منها رحلة طارئة نمزق خبايا الارصفة بوصفات علاجها الرابضة في مخيلاتنا. ما دمنا قد التقينا بمفترق الطريق و تبادلنا المفاتيح الرئيسية فلن نرجع. ما دمنا ساهرين فلن ينام الآخرون. ما دمنا جائعين متخمين بآمال مهملة، فلن يشبعوا. ما اجملنا لو نُسقط قائمة الطعام السريع و نكتفي بماء الثلج و طعمنا البديل...لم لا؟ هل تقبل دعوتي؟
قلتُ، لأجلنا سأجعلني أفضل؛ و سأرفع الرهان الى الضعف. قلتَ: لم لا يغدو الشغف صنواً، مارقاً، يُعدي الآخرين! و لم لا ننتقل الى جوار ما يرممك منفذاً جديداً و خدوداً لامعة بالترف؟ لم لا اكون سواي الذي يمحو ثم ينقش على صخر جديد و يعيد ترتيب الخزائن و الدروب؟ لم لا اكف عن تذبذبي و اطبق الوصفة الحاسمة؟ ....مااذ ننتظر أنت و أنا؟ هانا ارفع كوبي الرقراق و اراك متصدعاً بالفواجع لكنك تبسم لي بضراعة و عنفوان الأوتار يمنّي الوقت باللقاء. أحمل وجهك بين كفيّ علناً فيمتصني برق يسحب ذراعي الى الارض و يرشقني بهراوات دخانية و يغلق المنافذ.....
لقد أقلعَ الصباح بدوننا....فلينقضي نهاري التعيس لأتلقى عقابي اللاارادي. اصارعه فيصرعني و يهجم، يضع اصفاده حول معصمي و يطفيء مخططات شغفي متراجعاً بمحاذاة ترتيل مياه الفيضان خلف الرصيف المنخور، بينما تلطم الخياشيم تلك الروائح البحرية التي اتوارى منها في ثنايا وشاحي حتى اجتاز (حي المورده). ثم اهبط قبل (مستشفى أم درمان) لاتلقى سياط الشمس على ظهري المكشوف واخترق ازقة لانهائية الوحشة. تكون مسيرة لتتهتك من حمولها رئة الشغف، و اغدو عجينة من اللهاث و نزيف العرق و التبرم. و يستشيط قلبي من التخفي وقد آن الاوان و فاضت الكؤوس. التقطُ بعض الخبز و ارجيء معضلة الاوان الى نهار آخر، بينما احاول خداع نفسي بأننا مازلنا بخير و بتمام الكمال كما يزعمون. و لكن ما ان تتلفعني الجدران حتى أتنكر للطمأنينة الزائفة و اتراجع. تتوعك دروع الاناقة التي نسجتُها من وعودك. اكتفي بالنقصان و أطمح فقط أن تفكر بي، قيد الحياة بين الناقمين، و كبدي موصول ببحيرة شاي أخضر بالليمون!

(2)
قبل شعشعة البياض، يلتقطني وحدي، التقاط جمرة من الموقد. أحسه يتقصدني، فأتوجس أن يسحرني و يفشي مكنوناتي! يعتلي الخشبة كقائد الاوركسترا و يرسل نغمته، يمعن في التطريب بمقاطع غير مكرورة...كيف يمكنني ان افوت هذا الحفل البهي!. استفيق و اقرفص بقلب سريري، مشدوهة باعادة ترتيبه مزاج المكان المستعار. يالها من سمفونية! فلتأت كل صباح ايها الطائر. فلتأت دون انقطاع. و لماذا غبت كل هذا الوقت؟ يعلو النغم اكثر و يلقي بي في صقيعك، فاتفقدك؛ اقلب المكان رأسا على عقب و اتأملني ذائبة بأبخرة الشاي و قد تحدرنا دموعاً على نافذتك الموصدة. امحوها و أحدق بلوعة الى الأبعد فأعثر عليك هناك نائماً كالقتيل، بلا غطاء و رأسك مغروس بالوسادة. أكاد اصرخ بك...كيف فوّتَ علينا هذه الرقصة الغير معلنة؟ ثم اتردد في ايقاظك....اكره ايقاظ النائم...أُطلُّ على خلفية المسرح فاجده قفراً و الوجوم ينشج و الغصون مضمومة. لماذا الآن! اصد غيمة كدر و استمرأ سريان العزف، فيدهورني الى ما لا أطيق وحوله. ولكن هل يملك ذلك مسرى منفصلا؟ فليفضح نفسه بنفسه كل ما ظل بلا علاج و لن امنعه. هذه حياتي! هكذا الحال، ما ان تنفتح العيون مجدداً، حتى ترشقها وحشية المكان و اطلال الكائنات التي كان اسمها انساً ثم ولغت أو أجفلَت خوف الوشاة الذين يطرزون جغرافيا الاحياء السكنية. قالوا تبق القليل و لكن سُفح الأكثر. و عاد الصمت. أحسهم منذ الارتجاج الأخير صاروا أشبه بكُرات فولاذ دقيقة ذاهبة لتفترش الاراضي النائية قبل الدانية و هاهي متدحرجة و عقلي يرافقها بالزي الأسود مثل (حُكام) المباريات و لا يملك ان يقول لها توقفي و لا يملك التخلي عنها. من يعيدها الى التئامها؟ اخبرني ايها النشيد الشجيّ المشجوج الخاصرة.
حلت لحظة صمت. انقطع النشيد وانجبت لي الدنيا من جديد يوماً مجهولاً. حدقتُ فيّ و قلت هيا، و لم لا، فالصباح رهان. بُشرى لمن تلقاه خصب اليدين بمطرقة. و لكن أين يديّ؟ هذا الطائر موفد، بريء، يأخذ روحي و يُجلسها بينك و بين الأمراض المستوطنة، و يمضي تاركاً لها مدماة، تسترجع النشيد و جاذبيته المؤجلة. يلقنني درساً ما! بينما يتنقّل النغم المكتوم بيننا، و يعلو و يهبط مع انفاسي المتهدجة. أين يديّ؟ ستبقى بكهوف جيوبي المسطحة. الى متى؟ أمد عنقي لألمحه، و اطلق صرخاتي لاستحثه ليتمادى، لكنه يبطيء و يتخفّى. كأنه لايسمعني ولا يصدقني. يلفه الدخان. اناجيه و أدلله بالاسم المحبب دون فائدة. يهملني. استدعيه، استحلفك اقترِب. دعني أراك، أسألك، بحق المسجى بجوف الوادي مكمم الفؤاد و الذاكرة. ايها الجوع، الكف بداخل الكف هو الرهان. فاهجم بشراسة أكبر و لك الصباح مفتاح و مطرقة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن