معلمون في الأهوار 2 - 2

علي عبد الكريم حسون
karkfirst@yahoo.com

2012 / 6 / 17

معلمون في الأهوار 2 – 2
كتابات عن الناصرية
علي عبد الكريم حسون
إستفدنا من جو الحريات النسبية التي لازمت عهد عارف الثاني / عبد الرحمن . فعملنا على نشر الفكر الماركسي التقدمي الديمقراطي اليساري , باثين في تلامذتنا روح الثقافة العلمية والفكر المتنور , جاعلين إياهم , يحلقون معنا في ساحات الدرس , إلى آفاق عالمية , لتجارب نجحت في بناء نموذجها الأشتراكي , هابطين معهم لواقع محلي وإقليمي مهان , بعد نكسة حزيران 1967 . مستفيدين من المقهى الوحيد في مدينة الفهود , والذي جعلناه منافسا لبيوت القمار التي يلجأ اليها البعض سأما وإختناقا .
كنا بحق ذلك النموذج من المعلمين الذين أشار إليهم سلامة موسى بأنهم ( لايقتصرون على إيصال المعارف إلى أذهان التلاميذ .... بل يضعون الخطط للدراسة , بحيث يستغنون عنهم , ويعلموا أنفسهم مستقلين طوال حياتهم ) .
البعث , مرة أخرى في جمهوريته الثانية ....
---------------------------------------
لم يستمر الحال على ذاك المنوال , فجاءت عودة البعث الثانية في تموز 1968 . زلزالا علينا , توجسنا الخيفة منهم رغم برقعهم الزائف والمتودد المداهن . فكانت ضربتهم البوليسية القاسية لتنظيم القيادة المركزية , وحملة الأغتيالات والمداهمات لمنظمات الحزب الشيوعي , فرصة لنا نحن معلمي الأهوار لألتقاط أنفاسنا والحذر بما نبثه من أفكار . وبعد أن بدأ الشهداء يسقطون بأيدي جلاوزة ناظم كزار وصدام التكريتي في قصر النهاية ومعتقلات الأمن العامة ومكتب حنين , إغتيالا في الشوارع : أمين الخيون ونصير النهر وشاكر محمود وستار خضير وتعذيبا حتى الموت : متي الهندو وأحمد محمود الحلاق وكاظم الجاسم وعزيز حميد .
في يوم ما جاءني ساعي البريد ببرقية , حيث لم تكن التلفونات قد وصلت خطوطها لأهوارنا . فحواها هو ضرورة سفري للناصرية لمقابلة مدير التربية هناك بصفتي مديرا للمتوسطة ... لم يطمأن قلبي لهذا الطلب البوليسي . فالمدير هذا هو البعثي المتشبع حد النخاع بأساليب حزبهم الفاشية , هو عبد الآله ناصر الوائلي من كربلاء , فعلى عادة العهود السابقة , كان ممنوعا على إبن المدينة أن يتبوء منصب المتصرف ومدير التربية ومدير المصرف ومدير الشرطة .
دخلت مبنى المديرية , وإلى غرفة مسؤول الذاتية / البعثي المتحمس حد الهوس للعهد الجديد ( فؤاد محمد السهل ) الذي أخذني مباشرة إلى غرفة المدير الوائلي ... دخلت الغرفة فوجدته يتحدث مع إثنين من الغرباء , وقوفا جميعهم . قدمت نفسي إليه , تفاجأ بثقتي , وبدا على وجهه تعبير النرفزة والغضب , أشار للأثنين بالخروج , وإستدعى معاونه عبد الله نجم جلاب , بعثي الناصرية المعروف , وطلب منه غلق الباب .
بقينا نحن الثلاثة فقط , ودون أن أستأذنه , جلست مما أثار غضبه ثانية , حيث بقي ومعاونه واقفين . إنطلق بسيل من الأتهامات .... كيف تجرؤ على المطالبة بإنفصال الأكراد عن العراق ؟ من اين أتتك الجرأة لتشويه التأريخ الأسلامي والحديث عن ظلم بني أمية والعباسيين ؟ وأخيرا كيف تجرؤ على تغيير المراقب العام وهو البعثي وتعيين مراقب وهو طالب شيوعي ؟ بعدها أبلغني بأنني منقول ومبعد الى الشمال وأن درجتي الوظفية أنزلت من مدرس إلى معلم .
على غير عادتي وجدت الهدوء يغمرني , وبقيت متمالكا نفسي , فخير ماأدافع به عن نفسي هو برودة الأعصاب , وعدم الأنجرار لما يريده .. قمت بحركة مفاجئة , لم يكن يتوقعها , بعد أن لاحظت أنه يقرأ من ورقة أمامه , وقعت عيني على إسم من ذيلّ هذه المعلومات بإسمه . لم تنفعه يده بدس الورقة بدرج مكتبه , بعد أن قلت له : كيف له وهو البعثي الذي يفتخر بحزبه أن يأخذ بمعلومات كتبها من يطلق عليه ( بطل تشرين ) , كناية عن دوره في التعاون مع الأجهزة الأمنية ضدهم بعد 18 تشرين 1963 , عندما أطيح بجمهورية البعث الأولى . تفاجأ هو ووجدت تعاطفا من ( جلاب ) معي .. تبدل إسلوبه وقال لي : بأنه سينسى كل ذلك , وبإمكاني العودة إلى إدارة المتوسطة شريطة أن لاأرشح في القائمة المهنية لأنتخابات المعلمين وهي قائمة المعلمين الشيوعيين المنافسة لقائمتهم / التعليمية الموحدة . لم أجبه بالأيجاب ولا بالسلب , فمعلوماتي أن القائمة قد أعدتها محلية الحزب الشيوعي , والأسماء قد أتفق عليها , ولم يكن إسمي بينها . ويبدو أن الوائلي قد تفاجأ بعد ذلك ببعض الأسماء فيها والتي لم يكن يتوقع أنهم شيوعيين . وخاصة المرحوم المعلم جواد السنجري , حيث علّق بأن السنجري قد خدعهم بمظهره الأنيق ووسامته التي جعلته يخطف أبصار صبايا المدينة , فأخذوا نظرة عنه بأنه بعيد عن السياسة ...
الانتقال إلى مدارس المدينة
--------------------------
بعد أن أكملت المقرر من الخدمة الوظيفية ( ثلاث سنوات دراسية ) في مدارس الأهوار , نقلت إلى مركز مدينة الناصرية , حيث درّست في متوسطة الناصرية ومتوسطة سومر والأعدادية المركزية وإعدادية الناصرية . ولم يتح لي التدريس في مدرستي التي تتلمذت فيها ( الجمهورية ) . ولكن أتيح لي أن أزامل أساتذتي الذين درّسوني في المتوسطة والأعدادية , منهم المربي الفاضل الأستاذ عباس الفخري وعديله الأستاذ عبد المنعم عاجل وأستاذ الجغرافية أبو رسل قاسم العضاض وعبد الله الثامر , تعامل الجميع معي بحب وتقدير , ومن جانبي إستثمرت ذلك بإيصال أدبيات الحزب لبعضهم, فجميعهم كانوا مقطوعي الصلة التنظيمية بعد 1963 .
بالتأكيد هناك فروق إستطعت تمييزها في التدريس لطلبة المتوسطة عنها لطلبة الأعدادية , ليس من حيث فرق السن فحسب , وبالتالي فروق الأدراك . هذا من الناحية المهنية كنت واعيا له . ولكن هو كيف أزاوج بين إنهاء المقرر من منهج دراسي , وبين قدرتي على بث فكر علمي تقدمي منفتح , وبحذر شديد في عقول تلامذة مدينتي . الذي ساعدني أكثر هو الجو التقدمي الذي كان يشيعه عصبة خيرة , طيبة من معلمي ومدرسي المدينة , والذين هم في جلّهم الأعظم , يساريون ديمقراطيون ليبراليون . المنتمي منهم للتنظيم الشيوعي , أو الصديق لفكرهم , والمشايع لتأريخهم . يقابله وعلى الطرف الآخر والمسنود من السلطة الجديدة , التي عادت ثانية لموقع الحكم , شلة من قدماء حزبهم , أو من يتطلع عبر الدخول لتنظيمهم , بالحصول على مركز وظيفي أو التقدم لجاه زائف .
نجحت منظمة الحزب الشيوعي في الناصرية , بكسب قسم لابأس به من شريحة المعلمين والمدرسين . إنتظموا بالبداية في منظمة الشبيبة , ومن ثم دخلوا خلايا الحزب .وقد كانوا بحق مربين فاضلين ومناضلين شيوعيين أشداء , وليسوا موسميين , ولا راكبي موجة العمل شبه العلني . منهم : المربي الرائع وأستاذ العربية المتعدد المواهب أحمد محمد صالح والأخوين أولاد العم حنتوش خالد والمرحوم ماجد , كذلك خالد صبر سالم , والأستاذ ناصر فياض , منسق العمل في نقابة المعلمين , والمعلم الفنان داود أمين منشد أبو نهران ومدرس الفنية صالح البدري .
وأتسع النشاط التنظيمي بين صفوف الطلبة , فعاد الأتحاد العام للطلبة للعمل ثانية . كل ذلك لم يمر , دون أن يلاحظه البعث ومنظماته المقابلة لنا , فكانت نقابة المعلمين التي سيطروا عليها , وكرا لرصدنا وإحتساب خطواتنا والتضييق علينا . وإتحادهم الوطني لطلبة العراق , فتح له غرفة في كل مدرسة , كوكر لأستدعاء الطلبة الشيوعيين والتقدميين وتهديدهم ’, لابل الأعتداء عليهم . وبرز في هذا المجال طالب الثانوية طاهر البكاء , الذي أصبح وزيرا للتعليم العالي زمن صدام ومن ثم في حكومة أياد علاوي بعد التغيير في 2003 . وأيضا عبد الواحد الحصونة الذي أصبح عضو المكتب التنفيذي لأتحادهم الوطني , كل ذلك لم يشفع له فأطيح به من قبل النظام الصدامي , عندما زار إ بن عمه المقيم في القاهرة ( سيد حميد الحصونة ) صاحب الأجراءات الأنضباطية ضد الحزب الشيوعي , عندما كان آمرا للفرقة الأولى في الديوانية بعد ثورة 14 تموز . وصاحب الأستشارة غير الموفقة منه إلى محسن الحكيم يستفتيه بإعتباره زعيمه الروحي , بشأن تنفيذ أمر التحرك لحدود الكويت عام 1961 , والمحال إليه من الزعيم عبد الكريم قاسم بإعتباره زعيمه الوظيفي , والتي أجاب عنها السيد الحكيم بعبارة واضحة ( مافيه خير المؤمنين فإفعله ) . أي التوجه نحو عدم التنفيذ .
كما إستطعنا أن نقيم علاقة طيبة بالمدير الجديد للتربية بهجت جاسم الأمام إبن البصرة فكان منفتحا تجاهنا , ولكن دون أن يفقد بوصلته البعثية ولا حسه الأمني . ومن جانبنا كنا نطرح أنفسنا كمستقلين , ونركز على الجانب التربوي الصرف .
في الناصرية , كانت مقهى ( أبو أحمد ) الصغيرة الحجم والواقعة وسط السوق , ملتقانا صباحا أيام العطل , خاصة وهي تقابل مكتبتين هما الوحيدتان في المدينة آنذاك : مكتبتي جبر غفوري وطاهر . ومن المفارقات أن هاتين المكتبتين الوحيدتين , كان يقع بينهما محل أبو عبد الزهرة العجمي المتخصص ببيع الأحذية الرجالية , والمناكد لهما على الدوام بمزاحه اللطيف ومقولته عن الحظوظ والقسمة الضيزى , التي جعلته , وهو الألمعي يبيع ( القنادر ) وهما ( الثولان ) يبيعان الثقافة , وقد كانا يتقبلان ذلك برحابة صدر .نادرا ماكان أحد البعثيين يجلس في هذه المقهى , الا من كان مهتما بالشأن الأدبي والثقافي , وهم قلة . مساءا كنا نذهب إلى كازينو كامل حياوي المجاور لسينما الأندلس الصيفي .
الصورة الوردية أعلاه لم تمر بدون مضايقات , فجرى الأعتداء على عبد الله الرجب مساءا في الشارع و نقل على أثرها للمستشفى كذلك كان يجري التصدي لنا في نادي الموظفين , عبر إفتعال شيء شخصي بإتجاهنا , أو التعرض لنا في الشارع من قبل بعض البعثيين . كما شهدنا سقوط البعض القليل من الرفاق بأيديهم , وتحولهم علنا لجانبهم , وأشهرهم هو صالح زوير , والذي كافئوه بإحالة مقاولات لصالحه .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن