الحضارة بمنظور مادي تاريخي..مُقاربة أولية

مجدى عبد الهادى
m.magdy54@gmail.com

2012 / 4 / 1

يُعتبر مفهوم الحضارة أحد أكثر المفاهيم إلتباساً على الإطلاق، شأنه في ذلك شأن كافة المفاهيم العامة الفضفاضة، التي تتحرك تحت ألويتها كافة الفرائق المُتحاربة، مُتناقضة الأهداف والمصالح !! ، تلك الفرائق التي التي تعمل بالضرورة على تملكها والإدعاء بتمثيلها والدفاع عنها ضمن صراعاتها الطبقية – المحلية قبل العالمية – في كافة أشكالها وتجلياتها السياسية / العسكرية / الإقتصادية / الإجتماعية / الثقافية ...إلخ، تلك الحرب الشاملة على جميع الأصعدة، المشروعة فيها – ككل حرب !! - كافة أشكال الدجل والتزييف واللعب بالكلمات قبل البارود والرصاصات !! ، تلك الحرب التي تُوظف فيها كافة المفاهيم الإنسانية والطبيعية والإجتماعية وما فوقها جميعاً، كالله، الطبيعة، الدين، الحرية، العدالة، الخير، التاريخ، المُجتمع، الحضارة، التقدم، الديموقراطية ...إلخ .

فبالمنظور المثالي من المُعتاد جداً أن تقابل للفظة واحدة مئة دلالة، ولكلمة واحدة ألف معنى، ولمفهوم واحد عشرة آلاف وجه !! ، فالتهاويم الذهنية - كالغباء البشري – لا حدود لها !!

لهذا لسنا معنيين إطلاقاً بتعريف الحضارة ولا بأي نوع من التعريفات، بالمعنى التقليدي لكلمة تعريف !! فديالكتيكياً المعنى قابع دائماً في السياق، ومادياً المعنى تحدده الوقائع جوهرياً والمصالح عرضياً !!

فإذا كانت الحضارة مفهوماً إجتماعياً / تاريخياً في نشأته؛ فالضرورة تقتضي تحديده ومن ثم دراسته على ذات المستوى، ومن مدخله المادي النوعي على وجه التحديد، ذلك المدخل المادي – في مستواه الإجتماعي / التاريخي - الذي نرى الحياة من خلاله حرباً دائمة، تجلياً لصراع يومي شامل، هو في جوهره صراع طبقي طاحن، يعبر عن نفسه يومياً، في كافة تفاصيل الحياة الصغيرة، تماماً كما يعبر عن نفسه كوكبياً في هويات مصنوعة، قبائل، طوائف، أديان، قوميات، دول، تكتلات إقليمية، إمبراطوريات...إلخ .

فتبدأ إشكالية مفهوم الحضارة من معرفة طبيعتها نفسها ، تلك الطبيعة التي دار حولها جدلاً متواصلاً لم يصل يوماً لنتيجة؛ كونه يتجاهل المصالح الرابضة خلف كل فهم وتصور، كذا تناقض الرؤى والمفاهيم المُختلفة حتى داخل إطار ذات المصالح؛ وفقاً للكيفيات المُتناقضة – والمُتفارقة أحياناً - التي يتم بها ومن خلالها توظيف التصور المُتبَنى للحضارة، ليس فقط كمفهوم ضمن جُملة مفاهيم، بل أساساً كخطاب شامل، ذي محتوى طبقي (مُحول) بالضرورة !!

فبين من يرون الحضارة بعامة مُنتجاً إنسانياً واحداً تتلاقف مشعله الأمم، ومن يرونها مُنتجاً هوياتياً / إقليمياً / إمبراطورياً تتوزعه أمم عديدة مُتنازعة، مُختلفة المشارب والثقافات، دار جدل أزلي لم ولن يُحسم يوماً؛ فما دامت البشرية تعيش صراعاتها الطبقية في شكلها الهوياتي، فستظل الحضارة، شأنها شأن أي مفهوم آخر، تُعرف ويُعاد تعريفها وفقاً لمصالح الطبقات / الأمم المُتسلطة، المُتغيرة وفقاً لتغيرات أوضاعها داخل حدود دولها وخارجها .

المضمون وحده ما يقرب لنا الصورة الواقعية للمفهوم، في سياق توظيفه نفسه، وهناك بصفة عامة منظورين للحضارة :

1) الحضارة كمُنتج هوياتي الطابع – تُفهم من خلاله قومياً وتُوظف رجعياً، ويُقدم فيها المكون الثقافي الهوياتي الخاص والصالح الوطني / القومي / الإمبراطوري ..إلخ على المُكون القيمي العام، ويتجلي مفهومها هنا بوجهين لهما مضمون واحد، وإن إختلفا موضعياً بحسب الموقع النسبي عالمياً من حيث القوة والضعف، وهما :

‌أ- مفهوم الحضارية المسيطرة : ترى وفقاً له الطبقة / الأمة المُسيطرة شكلها الحضاري بإعتباره قمة الحضارة في العالم، نهاية التاريخ !! ؛ فتسعى ضرورةً لفرضه كوكبياً، ضمن عملية فرض هيمنتها، فالحضارة هنا مفهوم إستعماري، وأداة هيمنة وإستلاب، تحملها الأمة القائدة المُتحضرة للعالم البربري من حولها، كرسالة تخولها سلطة حكم العالم، وتغييره وفقاً لرؤيتها ومصلحتها التي تراها مصلحة الحضارة نفسها، راهنةً مٌستقبل الحضارة بمستقبلها وديمومة هيمنتها، مُعتمدةً سياسة النهب وحتى السرقة الصريحة، بمبرر رعاية تقدم الحضارة، وتُحارب في سبيل إستمرار تلك الهيمنة بتعزيز سياسات النهب ورفع وتيرة العنف ودرجة التحكم، نافضةً عنها وبشكل مكشوف أكثر فأكثر إدعاءاتها الحضارية، مُتنكرةً لمبادئها المُدعاة، مبادئها التي أقامت عليها صرحها الحضاري نفسه، مُقدمةً بحكم تشبثها المتزايد بهيمنتها وإستبدادها، للقوة – كغاية في ذاتها- على الإنسان، مُحيلةً إياه أكثر فأكثر لمجرد وسيلة؛ بما يقود في النهاية لتمرد "البروليتاريا الداخلية" كما أسماها توينبي على تلك الأقلية المُستبدة التي فقدت إبداعها، وتحولت لعبء مُضر أكثر منها عامل تقدم .

‌ب- مفهوم الحضاريات الدفاعية : وهى القوى الحضارية الأضعف، والتي لا تحتل وقتها مُقدمة الركب الحضاري؛ ما يجبرها حتماً على إتخاذ موقف دفاعي، فتتبنى المفهوم المُضاد شكلاً للمفهوم السابق، والمُتفِق معه مضموناً، حيث تقديم المكون الثقافي الهوياتي الخاص، والصالح القومي، وقد يتضمن نوعاً من الإستعلاء والغطرسة القومية أيضاً، وإن كان لا يُتاح له التعبير عن نفسه واقعياً، بحكم الضعف الواقعي تجاه القوة المُسيطرة، ولا يحمل هذا المفهوم في ذاته أي أبعاد تقدمية، وإن حملها ضمن سياق الصراع مع الحضارية الآفلة تاريخياً، إذ لا يمثل هذا المفهوم سوى رد فعل ميكانيكي للمفهوم السابق (أ)، وبذات مضمونه، إذ هو – بحكم تركيبته القيمية المُشار إليها - محكوم حتماً بذات القيم الحاكمة للحضارية القائمة، والتي في سبيلها للزوال، كما لا يحمل بالضرورة ضمن تكوينه أي شكل جديد للبناء المادي، إذ تحكمه غالباً ذات التشكيلة الإقتصادية الإجتماعية المتدهورة .

2) الحضارة كمُنتج إنساني الطابع – وهو المفهوم التقدمي / الثوري / التحرري، المُناهض للتسلط والهيمنة الإستعمارية والتراتبية الهوياتية، والذي ينشأ كنقيض ديالكتيكي حي للمفهوم الأول، الحضارة عنده واحدة وعامة وإن تجسدت قومياً، تعترف بالتنافسية؛ إذ تتعزز من خلالها، دون أن تتبنى مفاهيماً إستعمارية؛ تحترم الخصوصيات الثقافية دون إنحباس بالقوميات، لا ترى للتاريخ نهاية؛ فهو صيرورة وتطور وتقدم مُستمر في خدمة الإنسان، الذي هو إنسان واحد لا مجال لإخضاعه لأي تراتبية غير عقلانية، هوياتية كانت أو طبقية، فالإنسان في مفهومها غاية، بينما لا تتجاوز القوة كونها مجرد وسيلة تُوظف في خدمته، إذ لا مُقـدس سواه، وهو مفهوم جديد كلياً في التاريخ البشري، لم يكن من الممكن وعيه وتملكه سابقاً، إذ هو مفهوم يتحقق فقط ضمن عملية الوعي ديالكتيكياً بالحركة التاريخية، وبالأساس في إطار الوعي بالصالح الإنساني العام، التي تمثله غالباً مصالح الطبقات المُنتجة المُستغلة، التي تتطابق مصالحها ( كوكبياً ) على المدى الطويل، بما يجعل أي تناقضات هوياتية مجرد تناقضات مرحلية غير جوهرية، يمكن علاجها وتجاوزها دون تكاليف فادحة .

وقد تمارس القوى المٌستكبرة الخداع، فتقدم شكلها الحضاري بإعتباره وحده التعبير الكامل عن الحضارة في معناها الإنساني الشامل، فتُلبس الحق بالباطل بإلباس المفاهيم ببعضها بعضاً، وهو الأمر الذي لا تُضطر له فعلياً إلا عندما يصبح الواقع على العكس تماماً من إدعاءاتها !! إذا يكون شكلها الحضاري قد تم تجاوزه فعلياً !!

فالحضارة في مكوناتها الأصيلة مركب مُعقد، تتمركز في قلبه تشكيلة إقتصادية إجتماعية، وتتمحور حول ذلك القلب، وبالتوافق معه، منظومة قيمية عامة / أممية / وليمية / لا طبقية، و بالطبع – في تجسدها الخاص وبحكم التراث التاريخي للحضارية المعنية - مُكون ثقافي هوياتي خاص، ويعبر هذا المُركب عن نفسه مادياً وقيمياً بشكل مُتنامي ومُتصاعد بوتائر عالية، تتمايز وتتفارق من خلالها التجسدات التاريخية / الإجتماعية / الهوياتية المُختلفة للحضارة؛ ناقلةً مشعلها للأكثر جدارة .

وبنظرة سريعة للتاريخ فسنجد أنه قد تطابقت تقريباً كل قوة حضارية كبيرة مع تشكيلة إقتصادية إجتماعية رئيسية، فالقوى الحضارية القديمة، المصرية والبابلية والهندية والصينية، كانت في مُجملها تعبيراً عن التشكيلة الإجتماعية التي سادتها الزراعة التي ترعاها الدولة بحكم تحكمها بالمياه وتنظيمها لها ، بينما الحضارية الرومانية تطابقت بشكل شبه كامل مع التشكيلة العبودية، ودارت حياة الحضارية الإسلامية بمُختلف وجوهها العربية والفارسية والتركية حول تشكيلة الإقطاع العسكري في تنوعاته المُختلفة، وصولاً للحضارية الغربية التي نهضت مع التشكيلة الرأسمالية البرجوازية بكافة أشكالها الزراعية فالتجارية فالصناعية..إلخ .

وهكذا تصبح أي حضارية كبيرة (1) مُرتهنة وجوداً وبقاءاً وصعوداً وانحطاطاً بالتشكيلة الإقتصادية الإجتماعية التي تطابقت معها، فنهاية الأخيرة غالباً ما تأتي معها بنهاية الأولى؛ لينتقل مشعل الحضارة لقوة جديدة أكثر كفاءة، تتطابق مع صورة أكثر تقدماً من ذات التشكيلة، أو مع تشكيلة جديدة كلياً أكثر تقدمية بالضرورة، كما أنها غالباً ما تحمل معها قيماً تقدمية أرقى من تلك التي حملتها القوة الحضارية السابقة إلى حين !!

لا يمكن بالطبع أن يكون الإستعراض الفلسفي الشامل لمسألة الحضارات في صعودها وإنحدارها هدفاً لمثل هذا التقديم المُوجز !! فقط سنكتفي بإشارة سريعة – مرةً أخرى – لثنائي الرؤى الذي يعتور النظرة لتدهور الحضارات، الذي يتوزع - كالعادة – ما بين رؤية رجعية ورؤية تقدمية .

فالرؤية الرجعية، تنظر للإختناق الإقتصادي الإنتاجي للتشكيلة الإقتصادية الإجتماعية المأزومة، كمسألة يجب علاجها على حساب الطبقات والأمم الدنيا البربرية ، التي يجب أن تظل وقوداً لتلك الحضارية، التي تقودها الطبقات / الأمم المُستنيرة المُتحضرة راعية التقدم، غير المُطالبة أبداً بالتنازل عن إمتيازاتها، التي غالباً ما تكون هى ذاتها سبب كبح التقدم !!

بينما تنظر الرؤية التقدمية للتشيكلة الإقتصادية الإجتماعية وإختناقها الإنتاجي كقضية هيكلية، يجب علاجها بشكل عملي على أرضية العلاقة الضرورية لعلاقات الإنتاج بقوى الإنتاج، ولصالح حقوق الأغلبية ضد الإمتيازات التي تصر عليها الطبقات المُستغِلة، فحل المشكلة ديالكتيكياً يكون بتجاوزها واقعياً، وتكون أولى الخطوات على هذا الطريق، هى سحب السلطة القومية - محلياً - من الطبقات الرجعية التي أصبحث عائقاً للتقدم الإجتماعي، وإسقاط الهيمنة العالمية للأمة السائدة الآفلة التي أصبحت عائقاً للتقدم الحضاري .

وتتجلى بوادر الإنهيار في تراجع قيمي كما هو تراجع مادي؛ إذ أن الإختناق الإقتصادي الإنتاجي للتشكيلة لا يؤدي فقط لضعف أو حتى تراجع في وتيرة النمو والتراكم المادي، بل هو بحكم ما يسببه من أزمة خانقة للطبقة / الأمة الحاكمة، يؤدي بها للتراجع عن القيم التقدمية التي كانت ضمن برنامجها التاريخي يوم كانت طبقة تقدمية مُبدعة لديها ما تقدمه للحضارة، وهكذا تتجلى بوادر الإنهيار الحضاري عندما تتنكر القوة الحضارية السائدة تاريخياً لقيمها ذاتها، مُترادفاً ذلك ومُتضافراً مع تحول سيادتها القومية لعبء على العالم، وسيادتها الإجتماعية لعبء على شعبها ذاته .

فإذا نظرنا اليوم للحضارية الغربية، الأمريكية على وجه الخصوص؛ فسيتبين لنا - رغم ما يبدو على السطح من عظمة وفخامة حضارية – تدهوراً مادياً واضحاً وأفقاً إقتصادياً إجتماعياً شبه مسدود، وأزماتً مُتعاظمةً بإستمرار، بشكل يكاد يفكك بنية المنظومة الرأسمالية العالمية بمُجملها، ويقود لتشطي التشكيلة حتى على المستويات القومية الدولتية ذاتها .

أما على الجانب الآخر المُتعلق بالقيم الحضارية التقدمية، فالأزمة أشد ما تكون وضوحاً في كثير من مراجعات الغرب الفكرية والسياسية التى تلقى رواجاً إعلامياً كبيراً، ومفهوماً !! ، تلك المراجعات - المزعوم علميتها - التي يقودها اليمين الغربي – لسان الطبقة المُهيمنة - على وجه الخصوص، بما تتضمنه من إدعاءات مليئة بالغطرسة العرقية والثقافية والطبقية، تعكس حجم الأزمة التي تعيشها الطبقة / الأمة المهيمنة، التي بدأت تستشعر لا مشروعية قيادتها، وربما لا مشروعية وجودها ذاته !! ، كذا ما تتضمنه تلك الإدعاءات من إنكار لما كان قد أصبح قيماً بديهية مفروغاً منها، كالحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة ..إلى آخر قيم التقدم المعروفة !! ... لكن هذه قصة آخرى !!


================================================

(1) والمقصود هنا مجموعة ثقافية أو إقليمية كاملة من الدول والأمم والقوميات، المُشتركة في مجموعة قيمية واحدة وذات تراث ثقافي مشترك ديني وغير ديني، مثل الحضارية الغربية التي تشمل معظم أوربا الغربية وأميركا الشمالية ، كما لا يتعارض مفهوم القوة الحضارية أو التجسد الحضاري أو "الحضارية" كما نختصره مع شمولية الحضارة وإنسانيتها، فهناك تجسدات هوياتية للحضارة، تحمل بالضرورة شيئاً من الخصوصية، التي يعبر عن نفسه من خلالها المكون الثقافي الهوياتي الخاص بالقوة الحضارية المعنية .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن