اَلْقاصّ المُشْتَعِل.

البشير النحلي
lwarayni@live.fr

2012 / 3 / 15

اَلْقاصّ المُشْتَعِل.
(تحليلُ نصِّ "القاص" للمبدع سعدون جبار البيضاني)

"يتطلّع الكائن المحبّ إلى أنْ يكونَ نقياً ومتأجِّجاً، وحيداً وكونيّاً، مأساويّاً ومخلّصاً، لحظيّاً ودائماً"
ڮاستون باشلار.

[يُرجى قراءة النصّ الملحق بهذا التّحليل أولا]

[1] تقديم:
في ما يلي تحليلٌ لنصِّ "القاص" للمبدع سعدون جبار البيضاني؛ وهو نصٌّ منشورٌ بأحد أعداد صحيفة "الأدب العربي" الرقميّة، ومصنّف في إطار القصّة القصيرة جدّاً. والقصة القصيرة جدا تندرج في الأنواع التي تستمد قيمتها - إذا استرشدنا برأي العلامة أمبرطو إيكو- لا مِنَ اللّغة وحدها، بل من القصّة وما تستلزمه من تقنيّات البناء السّردي. (1) بيد أن القصّة القصيرة جدّاً تتميز-مع ذلك- عن الأنواع السردية الأخرى باستثمار التّكثيف الّذي يدفع بعض التجارب الّتي لا تقتصد فيه إلى تخوم الشّعر.
و"الكثافة" و"التّكاثف" الكثرة والالتفاف والتّراكب؛ والتّكثيفُ جَعْلُ الشّيء كثيفاً. التكّاثف في الاصطلاح الطّبيعي-الفيزيائي، وهذا مجرّد مثال، وصفٌ لظاهرة التحام جزيئات الماء وتحولها من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة بفعل برودة البخار؛ والتكثيف في التحليل النفسي إوالية نفسية لاشعورية تقوم بربط أشياء متعددة برمز واحد من خلال تقوية ملامحها المشتركة. تأمّل هذه الدّلالات اللّغوية والاصطلاحيّة في العلوم الدّقيقة والإنسانيّة خليقٌ بأن يساعد على تدقيق مصطلح التّكثيف في حقل اللغة والخطاب.(2) ففي المثال الفيزيائي الذي أشرنا إليه نلاحظ أنّ الجزيئات التي تنضغط وتتلاحم هي جزيئات متماثلة، وفي التّحليل النّفسي يوحِّد الرّمز أشياء متعدِّدة وبالغة التّباين أحيانا بالاعتماد على السّمات والملامح المشتركة. قريبٌ من هذا ما يحصل في مجال اللغة والخطاب عندما يتحدث القدماء عن الاستعارة مثلا. فالاستعارة بمعناها التراثي –في ما خلا أرسطو الذي لا ينطبق هذا التّحديد عنده إلا على ما يسمّيه بالاستعارة التّناسبية- تصرُّفٌ في اللّغة يتمّ بموجبه الجمع بين شيئين بالاستناد إلى جامع أو قاسم مشترك. بيد أنّ التّكثيف، إذا تجنبنا الاستعارة حتّى لا يتشعّب بنا الكلام، إوالية ذهنيّة وخِطابيّة تمسّ مستويات متباينة وتتشكّل في صوّر مختلفة. هذا ما سنحاول أن نتتبّعه في هذا التّحليل الّذي لا نعتزم فيه أنْ نبتعد عن الأقصوصة موضوع الدّرس إلا لأجل تنشيط الأطر الذّهنية والوحدات الثّقافيّة الّتي شُغّلت فيها على نحوٍ خُطاطي مُكثّف.
[2] العنوان:
يفتحُ عنوانُ النصّ أفقَ انتظارٍ يتعلق بملامح الشّخصية التي ستنتظم اقتصاد السرد بالنسبة للمتلقي الذي يختزن في ذاكرته بعض المعارف بأصناف الكُتّاب وبمجالات اشتغالهم. سيتصوّر هذا المتلقي، من بين أشياء أخرى، أنّ السّرد سيتمحور حول شخصية تُعْنى بالقراءة وبوجود النّاس في المجتمع وفي العالم وتنشغل أساساً، وهذا ما يميّزها، بكتابة نصوص محكومة بــ"نحو" النّوع الأدبي الذي يُعرف بـ"القصّة".. إلخ. إلا أنّ ملامح الشخصية التي يستثيرها العنوان لا تفارق مستوى العموميات وتتشكّل بهذا القدر أو ذاك من التميّز والتخصّص والدّقة إلا من خلال تفاعل الأطر الذّهنية للمتلقي بــ"نوع" و"حجم" المعلومات السيّاقية التي يقدّمها عنها السّارد. فلنتتعْ صفات شخصية القاص وأحوالها وأفعالها التي أهّلتها لتكون عنواناً للنّصّ ومفتاحَه الأوّل.
[3] التّركيب الخِطابي والنّصّي للشّخصية المحوريَّة:
تحضُر شخصيّة القاصّ في ملفوظات السّارد من خلال ضمير الغائب. فالقاصّ لا يُذكر إلا مرّتين، مرةً في العنوان ومرّةً بُعَيْدَ ما عرف تجربة الاحتراق في الكتابة وبالكتابة. أما ما عدا ذلك، فهو لا يحضر إلا كخلفيّة يحيل إليها الضّمير مستتراً و بارزا. وهذا ممّا يخلق انسجاماً نحويا قويّا يسهّل كثيرا مقروئية النص: فلا اسم علم لهذا القاص، لا لقب، لا كنية، لا تعريف، لا أوصاف، ولا بدائل من أي نوع. إنّ هذا الــ"هو" هو قاص وكفى. أو، لِنَقُلْ: إنّه كلّ قاصّ جدير بهذه الصّفة. التّبئير الذي يصطنعه السّارد يعزّز هذا المنحى الّذي لا بدّ أن يحبط أفقَ أيِّ قارئ تفتقر بنية التّلقّي لديه لأُطُر وخطاطات خاصّة بوظائف المتخيّل وأشكال اشتغاله: فعلى الرّغم من أنّ التّبئير في درجة الصّفر، فإنّ السّارد يقتصد، مع ذلك، في تقديم ملامح اجتماعية ونفسانية لهذه الشخصية ولا يقدم لها أي وصف يتعلق بمظهرها الفيزيولوجي. وهذا يُرجِّح أننا إزاء تقنية مخصوصة محدِّدة في ما يتعلق بالنوع الكتابي الذي يندرج ضمنه النّص، وهي التّقنية التي يصطلح عليها بالتّكثيف. لنحاول الآن استثمار ما يقدمه السّارد من "معلومات" حول شخصية القاص التي لم تذهب الاختيارات المشار إليها أعلاه إلى حدّ جعلها دالا فارغا وبياضاً تامّاً:
تقرّر هذه الشّخصية أن تفِرّ من عالم "ضيّق" أشبه ما يكون بزريبة تتناطح فيها وتتطاحن "كائنات" مختلفة. الضّيق الذي نتحدث عنه هنا لا يستند حصريا إلى كلمة "الزريبة" التي توحي به، لأن الزريبة نفسها فرضَ انتقاءَها جوٌّ نفسي ودلالي يشكّلُ الجزءَ الأساسي فيه النفورُ من حالة حرب الكلِّ ضد الكلّ -المستمرّة بشكلها البدائي (التناطح)- التي تعيشها "كائنات" بدون ملامح كان من المفترض أن تشكِّلها الثقافة وتهذِّبها فتتقاسم العالم تقاسما عقلانيا متبصِّراً. وليس ثمة شكٌّ في أنّ عالما بهذا القدر من العمى والعدوانية المعمّمة لا بد وأن يكون بالغ الضيق؛ كما أنْ ليس ثمة شك، أيضاً، في أن مآل الذوات "الطيبة" التي تجد نفسها مرغمة على العيش فيه لن يكون غير العزلة والخيبات المرّة المتكرِّرة. هذا بالضبط ما عاشته الشخصية التي يقدّمها السّارد بضمير الغائب، فقرّرت أنْ تعيش "في جفن الرّدى وهو غير نائم" إن استعرنا عبارة للمتنبي مع تحوير دال. كيف؟ لا يتجه تفكير الشخصية إلى الخروج من العالم الموصوف أعلاه باختيار موت تافهٍ لا فرق بينه وبين الموت بضربة ناطح حاقد؛ بل يتجه إلى التفكير في الموت من أجل الحياة على نحو غاية في الغرابة: أن تبتني كوخا بتصميم هندسي لم يُر مثله، وبمواد بنائية لم تستعمل قط ولن تستعمل، وبمجرد ما يكتمل بناء الكوخ وتتمدد في مساحته الصغيرة وتتغطى-سنرى بأي غطاء- تمتد يدها لتحرق كل ذلك وتحترق معه وفيه.
مساحة الكوخ صغيرة جدّاً لا تتجاوز مساحة أي مرحاض. ومع هذا فإن الظن بأن شخصيتنا تفرُّ من الضّيّق إلى الأضيق ليس ظنّا صائبا. ذلك أن الإحساس بالامتداد أو بالتّقلّص لا يرتبط ارتباطا حاسما بالمساحة الفعلية القابلة للقياس بالأشبار والأمتار على نحو ما ألمحنا إليه أعلاه؛ فشساعة العالم لم تمنع الشخصية موضوع حديثنا من الشّعور بالتّقلّص والضآلة لحدّ جعلها لا ترى في العالم وفي الحياة غير زريبة ضيقة لا مكان لها بين كائناتها العمياء المتناطحة. بمقابل هذا يمكن أن نسرد تجارب لسجناء عاشوا في زنازين مغلقة، لكنهم أدركوا قوة الحياة بدواخلهم فاشتملوا على العالم واحتضنوه وكانوا هم أنفسهم بسعة الحياة والحلم. هذا بالضبط ما تدركه هذه الشخصية-الضمير التي يقدمها السارد في النص القصصي القصير جدا الذي نضعه هنا موضع التحليل. فهي تتنازل عن الزريبة كلها ولا تقرر الاحتفاظ إلا بمساحة بالغة الصّغر. تقرر ذلك لا لأنها آنست في نفسها القدرة على الصراع من أجل الفناء! فارتأت أن تشهر قرونها على شاكلة الكائنات البدائية العمياء التي ابتليت بالعيش بين أحقادهم، بل لأنها اختارت بشكل حاسم أن تعيش على نحو مختلف، لا مع تلك الكائنات ولا ضدها: فهي لا تنخرط في التنافس والتناحر فتلحق بها، ولا تختار مواجهتها جميعا لأن في ذلك سذاجة مهلكة. لهذا سيكون بناء الكوخ إجراء ملائما بسبب مظهره البسيط غير المستفز، فهو تافه لا يشكل موضوع تحدّ أو حسد أو طمع. من هذه الزّاوية يمكن أن نقول إن الكوخ مكان جيد للانزواء والتخفي واتقاء الشرور والقوى العمياء. وهو بسبب ذلك يوفِّر الحماية والسكينة. ومع الإحساس بالأمان والطمأنينة تتحرّر الذّات وتتفتّح للحدّ الّذي لا يعود معه للضّيق المادي معنى. هذا إذا كان كوخ شخصيتنا كالأكواخ المعروفة عندنا. أَما وأنّ كوخها لا كالأكواخ هندسةً وموادَ بناء، فإن ما أوردناه هنا لا بد أن يختلف: فقد يتقوض كل ما بنيناه، وقد يتعزز بأبعاد تخييلية إضافية مدهشة.
[3 . 1] عشٌّ منْ كُتُب:
الكوخ الّذي ابتنته هذه الشّخصية بدون سقف. يخبرنا السّارد أنها لم تضع له سقفا حتى تحافظ على ما تبقى لها من حرية. لو أنها فرّطت في انفتاح المساحة الصّغيرة المسوّرة على السّماء لاختنقت. لكنّها تشبثت بذلك الانفتاح على السماء وعلى اللاتناهي. بإضافة هذا المعطى نجدنا أمام عشٍّ صغير لا أمام كوخ صغير. وما يدعم هذا بالإضافة لـ"هندسته" وشكله الخارجي أن مواد بنائه كتب. وهل يمكن ذكر الكتب وأوراق الكتب بدون استحضار الشّجر؟ وهل يمكن استحضار الشّجر بدون طيورٍ وأعشاش؟. والعشّ رمز للدِّفء والحبّ والسكينة؛ وساكن العشّ طائرٌ يركب الرّيح ويسبح في السّماء ويجوب الآفاق..
وهل يصحّ ألا نُلقي بالا للـجدران حتى لو دفعنا السّارد إلى التّفكير فيها من خلال إلحاحه على إفهامنا أنها من كتب؟ أشرنا سابقا إلى أن جعل الكتب "مادة للبناء" يدعم القول بأنّ الأمر يتعلق ببناء عشّ أكثر مما يتعلق ببناء كوخ. وهذا ما يمكِّن هذه الشخصية من أن تعيش، بالإضافة للسكينة، حرية غير متناهية. ونضيف الآن أن الكتب ليست، وهذا بديهي، لا آجرا ولا إسمنتاً. لذا فإنّ الشّخصية موضوع كلامنا لا يمكن أن تكون منقطعة معزولة إلا بمعنى محدد: أن تضع مسافة الكلمات بينها وبين أشياء وظواهر المجتمع والعالم. فهي كائن ثقافي ليس بإمكانه أن يعيش على نحو مباشر كما هو الشأن بالنسبة للكائنات غير الرمزية. ومن الدّال، في ما نقدر، أن حروف الكتب التي يقول السّارد بأنّ الشّخصية بنت بها كوخها أو عشها -لا فرق- قد تمّ "خلعها" من قِبَلِها. وهو ما يدلّ على أن وجود تلك الحروف لم يعد قائما خارج ذات الشخصية، هناك في الكتب؛ بل صار كونا داخليا صميما. هكذا تكون علاقة هذه الشّخصية بالعالم علاقة موسّطة على نحو مضاعف: بينها وبينه مسافة اللّغة أوّلا، ثم مسافة العوالم المتخيّلة التي استدخلتها بفضل إدمانها السّفر والتّجوال في فضاءات كتبٍ أدبيّة ألِّفت لأجل مناوأة العنف ودفع النّاس إلى التّفكير في كينوناتهم وصيرورات حيواتهم فرديا واجتماعيا.
يبقى أن نسجّل هنا معطى دالا: الأعمال الأدبيّة التي يخصّها السّارد بالذّكر هي ثلاثُ رواياتٍ وقسمٌ من عمل شعري. وهي كلّها طويلة؛ أو لنقل إنها كبيرة فسيحة وواسعة.
[3 . 2] الانتحار بالنّار :
كلّ ما سبق يجعلنا نتوقّع أنّ الشّخصية ستعيش باطمئنان وحرية. فكيف نفسّر فعل هذه الشّخصية التي جلست بعدما انتهت من البناء -والعهدة على السارد- في منتصف الكوخ، ودثّرت نفسها بما تملك من ملابس وأحذية وأقلام وكتب، وصبّت البنزين المحسّن على نفسها وعشّها وأشعلت النّار؟
هل أصابها مسّ هكذا بغتة وتفجّرت القوى العمياء الرابضة بدخيلتها فأوردتها حياض الموت على هذا النّحو المريع؟!
لا، من غير شكّ. فالشّخصية هنا تحقّق نجاحا انتحاريّاً باهراً بفضل محاولاتها القصدية المرّة والمتكررة إذا ما صدّقنا ساردا "آخر" قدّم لنا هوس هذه الشّخصية عينها بالموت من أجل الحياة في القصة الموسومة بـ"اختزال". فلنقرأ:
(انتهى من كتابة قصته الأخيرة، في اليوم التالي أعاد قراءتها، صحح الأخطاء اللغوية والنحوية للصفحة الأولى ثم أضاف وحذف، انتقل إلى الصفحة الثانية فالثالثة، قرأ قصته للمرة الأخيرة بعد الحذف والإضافة،
رفع رأسه إلى الأعلى وحدّق بسقف الغرفة، استرخى على مقعده، أشعل سيجارة وسحب نفسا ً قويا، نفث الدخان على المنضدة، تناول القصة ومزقها بعصبية ثم أخذ قصاصة منها وكتب على ظهرها ..
باختصار .. أهم ما يعجبني بنفسي أنني أكرر محاولات انتحاري بين فترة وأخرى.)
كتابة قصة غير مقنعة ينتهي بها الأمر إلى التّمزيق هي محاولةُ انتحارٍ فاشلة. هذا بالضبط ما تكتبه الشّخصية المحورية في "اختزال" التي تؤكد أن ما يعجبها في نفسها هو محاولاتها الانتحارية بين الفينة والأخرى. كتابةُ قصّةٍ ناجحةٍ، وفق منطق هذه الشّخصية، هو انتحارٌ ناجحٌ ناجعٌ مدهش!
نستطيع القول إنّ شكلَ الانتحار- الانتحار بـ"النار"- هو نفسه حاضرٌ في هذا النّصّ أيضا. إنّه حاضرٌ لا من خلال "جمرة" السيجارة وما يرتبط بها من عذاب التّخيّل والتأمّل فحسب، بل من خلال نار الغضب (العصبية)، ونار حبّ القصّة وحبّ الحياة اللذين يظهران في تعهّده الكتابة وما يستتبعه هذا التّعهّد من مكابدات التّهذيب والتّشذيب والتّفكير. هكذا يظهر أن الانتحار والنّار حاضران في قصّة "اختزال" أيضاً؛ بل ويدخلان في التّكوين النّفسي والعاطفي لشخصيتها المحورية. والشّخصية التي تلعب بالنّار -يقول باشلار مستثمراً معطيات التحليل النفسي- شخصية تتوق إلى أن تحرق وأن تحترق.(3)

[3 . 3] القاصّ- الطّائر:
لِنَسْتثمر الآن ما استخلصناه من النّص الّذي أوردناه هنا ولنربط بينه وبين ما أثرناه بصدد الكوخ -الذي انتهينا إلى أنّه أقرب إلى العشّ منه إلى أي شيء آخر- حتى نفهم اختيار شخصيتنا التي قرّرت أن تـحترق وهي التي هيّأت لنفسها كلّ أسباب العيش بأمان وحرية غير متناهية:
رأينا أن كتابة قصة هي -بما تقتضيه من استفراغ وسعٍ وجهد- فعل انتحار؛ ورأينا قبل هذا أن شخصية القاص أقرب للطائر لا لإبقائها سقف الكوخ مفتوحا فحسب، بل لأنّ الجدران بنيت من الكتب الّتي تذكِّر، على نحو بيِّن، بالشّجر. يكفي الآن أن نَذْكُر النّار حتى نرى القاص-الطائر الحزين المغرّد الغامض الجاثم في عشه يشتعل. وفي الوقت الّذي نظن فيه –وبعض الظّن وهم- أنه اختفى من الوجود نهائيا ينهض منبعثا متحديا أنصع ألوانا وأكثر عنفوانا وجمالا وجلالا. وهل نحتاج، هنا، إلى التّأكيد على أنّ الاوصاف الّتي تَرِدُ على لسان السّارد بُعَيْدَ احتراق سخصيتنا هي مجرّد تنويع على التّجدد الأسطوي للفينيق الخالد: "تناثرت الجدران وتطايرت منها الحروف على شكل بالونات ملونة، بينما انبعثت من ملابسه وأقلامه وأحذيته ألوان الطيف الشمسي، كانت لوحة جميلة للغاية".
[3 . 4] كوخٌ بسعة الحلم:
سبق أن سجّلنا في الفقرةٍ الأخيرة من العنوان [3 . 1] ملاحظة تتعلّق بنوع الأعمال الأدبية التي اختصها السارد بالذكر: قلنا حينها إنه ذَكَرَ ثلاث روايات وقسماً من عمل شعري. لاحظنا أيضا، قبل هذا وفي الفقرة ما قبل الأخيرة من نفس العنوان، أن وجود هذه الكتب لم يعد قائما في خارج مطلق بالنسبة لشخصية القاص؛ بل صار لها كوناً داخليّاً صميماً لا تنفكّ عنه. استدخال هذه الشّخصية لعوالم هذه الكتب المصنّفة في أنواع أدبيّة قلنا عنها إنها طويلة أو كبيرة، فسيحة، وواسعة حقيقٌ بأن يجعلنا نفكّر في العمر الافتراضي لشخصية طائرنا الأسطوري الضّخم: لا بدّ أنه قضى عمرا كاملا في القراءة والتأمل، وأنّه في آخر مرحلة من حياته الرّاهنة وعلى عتبة التّحوّل. والتّحوّل عبر الاحتراق في أتون حبّ الحياة وحبّ الكتابة سيولِّد، من الكاتب المتمثّل للرواية والشعر، الفينيق الجديد: كاتب القصة القصيرة. وستكون ريشات هذا الكاتب- الطائر القصصيه بألوان الطيف الشمسي وجمال اللّوحة التّشكيلية البديعة.
لسنا بصدد تأويل النّص، بل نحن بصدد تحليله. وما قلناه هنا يمكن أن يدعّم بغير هذا الّذي أوردناه الآن. لنلاحظ: جدران الكوخ-العش من "الرواية" و"الشعر"؛ ولتحترق الشخصية-الفينيق تجلس في المنتصف. والمنتصف تحديد دقيق لموقع القصة القصيرة التي تستثمر تقنيات الرواية والشعر معا. بل، يمكن الذهاب أبعد من هذا بالقول إن ذِكْر السّارد لثلاث روايات وقسم من الكوميديا الإلهية دليلٌ على أنّ مؤلِّف"القاص" ميّال للانتصار لقصّة قصيرة جدّاً تحتفظ بالمسافة الضّرورية مع الشّعر. وهو ما يبعده عن كتاب آخرين يستثمرون التّكثيف في حدوده القصوى ويلغون الشّخصية والمكان والزمن والسرد..على نحوٍ يصعب معه الحكم على ما يكتبون أشعر هو أم أقصوصة؟.
[3 . 5] قاصٌّ بِدُموع منْ نار:
هذا العنوان يتّكئ على نهاية "القاص" التراجيدية. يقول السارد: "عندما أصبح القاص تمثالا من الفحم وسقطت الجدران التي تحيطه ولم تعد له حدود واضحة الملامح عندئذ بكى بمرارة لأن مشروعه هذا قد تأخّر كثيراً......"
كيف يمكن لجسد تفحّم بفعل الاحتراق أن يبكي؟ هذا لا يُشْكِل إلا إذا ضاق العقل ولم يستثمر ما توفِّره الموسوعة الثّقافية من روابط متشابكة وضوابط محكمة. ونحن هنا لا نحتاج إلا إلى الإشارة، على نحو إجمالي، إلى أن هناك تراثا ممتدّا لا يعدّ ولا يحدّ يجعلُ ماءَ البكاءِ دواءً يخفِّف من آثار النّار التي تحرق أحشاء المحبين والعشّاق على اختلاف أصنافهم وأزمانهم!. وشخصية القاصّ -في سياقنا- ليست ممن يعتقد أنّ بإمكانه أنْ "يعيش بدون كتابة"؛(4) وإذا كان هناك ما كان يمنعها مما ليس مذكورا في النص، فإنها حقّقت أخيرا، بجهود انتحارية ومكابدات حارقة، إنجازا باهرا تمثّل في تحويل قراءاتها الكثيرة وتأملاتها المستمرة في الوجود وفي الحياة إلى نصوص مكثّفة جميلة مكّنتها من أن تخترق الجدران التي كانت تحيطها وتعزلها، وأن تشيع بعض الفرح والجمال وتضفي بعض الإنسانية على "الحياة في الزريبة" التي لا نشك في أنّها ستعرف بفضل ذلك بعض التغيّر!. لكن هذا الذي حقّقته جاء متأخّراً جدّاً. لذا فإن دموع شخصيّتنا هي دموعٌ من نار: إنّها مُرّة وحارقة. ومع ذلك، وحتى وإنْ لم تكن مجدية، فإنّ فيها بعض عزاء وبعض شفاء.
[3 . 6] مجتمع النص:
نبتدئ حديثنا المقتضب عن "مجتمع النص" بالإشارة إلى أن الأقصوصة لا تشكِّل فضاءً نصيّا قابلا لأن يستوعب تفاصيل متخيّل يتّصل بـما هو اجتماعي متشابك: فبنيتها مكثّفة "مضغوطة". ومع ذلك فالأقصوصة -موضوع الدراسة هنا- تقدم ملامح "مجتمع نصي" من أهم سماته أنه مجتمع فيه بداوةٌ يدلّ عليها لفظا "الزّريبة" و"التّناطح" الوردان في النّص على سبيل التّشبيه عن طريق القصر؛ وفيه سلعٌ بعضها فائضٌ لا قيمة له؛ وفيه تطاحنٌ وصراع، وإنْ لم نعرفْ طبيعته؛ وفيه فقر، ذلك أنّ ضيق المراحيض من ضيق البيوت؛ وفيه فئة من الناس منعزلة ومنصرفة إلى القراءة والتّأمل والكتابة، وضمن هذه الفئة فئة صغرى تكتب في النّوع الأدبي الّذي يُعرف بالقصّة القصيرة..
لا نريد أنْ نفصّل في تحليل مكّونات هذا المجتمع النّصي، ولكنّنا نجد من الأهميّة البالغة أنْ نتوقّف بوجازة شديدة عند علاقة شخصية القاص بمن يقاسمونه العيش المشترك في المجتمع وفي العالم.
يخبرنا السّارد أن الحياة -كل الحياة- أصبحت عند شخصيّتنا بدون معنى وبدون قيمة؛ وأنّ كلّ مَنْ فيها ككلِّ ما فيها صار بدون ملامح، مختلطاً ومتناطحا. لا يتحدّث السّارد حتّى عن النّاس أو البشر أو ما شابه، بل عن "كائنات" مجهولة الطّبيعة. يعضِّد التّنكير تلك المجهوليّة لحدٍّ يجعلها فظيعة مفزعة. وطبعاً فإنّ هذه الكائنات الفظيعة المفزعة عمياء أيضاً، ما دام أنّها تتناطح من دون سبب، ولو كان هناك سببٌ لأفصحت عنه. الصراع نفسه غير واضح، أهو صراع الحضارات، أم الطبقات، أم الملل والنحل، أم الأجيال، أم الجنسين أم غير ذلك، أم كلّ ذلك وغير ذلك. بمقابل هذه المسافة المهولة الفاصلة بين القاص والناس يخبرنا السّارد أنّ علاقة القاصّ بالكتب جدّ حميمة. فهي ليست مجرّد علاقة قرب، بل علاقة اتّحاد: إذ هي تسكنه وتعيش بداخله. هذا بالضبط ما يفسّر أنه يعرف هذه الكتب كتاباً كتاباً! أما نحن فنعتقد أنّ الشّيء لا يتمتع بصفة إيجابية أو سلبية في ذاته، لأنّ الصّفات ليست في النّهاية غير نمط في التّفكير وطريقة في النّظر، ونعتقد أنّ حشرَ النّاس جميعاً في زريبة عمياء يمكن أنْ يُردّ من طرف بعض هؤلاء الناس أنفسهم إلى نزعة مُثَقّفيّة تُقَلِّل منْ ألَقِ ريشات الطائر-القاص.
لا نختم فقرات هذا العنوان من غير أن نشير إلى أنّ كلّ الكتب التي يذكرها السارد تنتمي لمجال آخر غير المجال الثقافي الّذي أُنْتِج النّص في إطاره. فهل يكون هذا المجال الأخير منغلقاً خانقاً لا هواء فيه؟ نعم، يمكن أن تكون هناك كتبٌ تنتمي للمجال الثقافي الذي أنتج ضمنه النص عوّضها السّارد بنقاط الحذف، أو تكون مذكورة على وجه الإجمال في تلك الكتب المخلوطة بالأقلام والملابس والأحذية؛ لكنّ هذا لا يُغيّر من واقع كونها بقيت جميعا هي الأخرى "عمياء" وبدون ملامح، مثلها مثل "كائنات" الزّريبة تماماً.
[4] خاتمة:
حاولنا في هذا التّحليل ألا نفصل المستوى الخِطابي التّركيبي عن المستوى النّصّي الدّلالي؛ لأنّنا لم نستهدف لا التّقريب البيداغوجي لآليات انبناء أقصوصة"القاص"، ولا التّوصُّل إلى "مطلبٍ" متلهّف ومتعجّل يفترض "احتواءها" معنى واحداً "جوهرانيّاً" قابلاً للاستخراج والتّحديد النّهائي الدّقيق؛ بل استهدفنا، بعيداً عن ذلك، بيان تعالق الخِطابي والنّصّي، وقيامهما على نسيج دلائلي تحتي بالغ التّعقد والتّشابك. ويبقى أنّ بالإمكان دائما أن نتبنّى نوعاً من "المالثوسية"(5) الخِطابية الّتي يُفزعها التّعدد الدّلالي وتطالب بالحدّ من توالده، فنكتفي بالبحث عن "المعنى" المرتبط بقصد المؤلّف، أو بالمعنى المرتبط بـ"لاشعوره" أو "أسطورته الشخصية"، أو بالمعنى المرتبط بالبنيات الاجتـصادية(6) التي أُنْتِج النّصّ في إطارها،.. أو غير ذلك؛ لكنّنا لا نقوم في الواقع حين نفعلُ ذلك -مع ما يستتبعُه مِنْ حذفٍ لتعدّد الدّلالة وتكوثر المعنى- بغير تحويل أسوار كتبِ القاصّ إلى أسوارٍ منْ إسمنت وتسقيف العشّ وسدّ منافذ الهواء!
المراجع:
(1) أمبرطو إيكو: آليات الكتابة السردية، ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية-اللاذقية، ط. 1، 2009، ص. 142-143.
(2) ليس من السّداد الخلط ما بين الاختصار والتّكثيف خاصة من طرف المتخصّص في تحليل الخطاب. فالاختصارُ إجراءٌ يستهدفُ تلخيص الخطاب بتخليصه من زوائد المترادفات والاستطرادات. وتخليص النص من تلك الزوائد لا يستتبع آليا الحصول على ناتج تتوافر له خاصية الكثافة.
(3) غاستون باشلار: الماء والأحلام، دراسة عن الخيال والمادة،ترجمة د. علي نجيب إبراهيم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط. 1، 2007، ص. 125.
(4) إشارة إلى قول ماريه راينر رلكه (1875-1926):" بالنسبة لي، يكفي أن نشعر، بأنه بإمكاننا أن نعيش بدون كتابة، حتى تصبح هذه الأخيرة، وأقصد الكتابة، ممنوعة علينا" أنظر: رسالة إلى شاعر شاب، ترجمة فؤاد اليزيد السني، موقع صحيفة الأدب العربي الإلكترونية، الرابط:
(5) نسبة إلى الباحث الاقتصادي الانجليزي توماس روبرت مالتوس (1766 - 1834). وكلامنا هنا لا يضمر أي تنقيص من آرائه في مجالها وسياقها.
(6) كلمة مركبة من كلمتي الاجتماعية والاقتصادية، وهي من نحت المفكر العراقي هادي العلوي (1933 - 1998).
الملحق:
القاص
سعدون جبار البيضاني

أيقن أن الحياة أصبحت ْ فائضة عن الحاجة كأية سلعة بائرة وأنها ليست ْ إلا زريبة تتناطح فيها كائنات مختلفة دون أن تفصح عن السبب لذا حاول أن يؤسس كيانه على أنقاض عزلته وخيباته المتكررة فبنى له كوخا ً صغيرا ً لا تتجاوز مساحته مساحة أي مرحاض، بنى الجدران من كتبه بعدما خلع الحروف من الورق ولم يضع سقفا ً لكوخه للمحافظة على ما تبقى من حريته، ألقى نظرة الوداع على الجدران/الكتب، في هذا الضلع الساعة الخامسة والعشرون، في الضلع الثاني الجحيم، في الثالث الجريمة والعقاب، مائة عام من العزلة، طبل من صفيح ...الخ .
بعدما انتهى من البناء جلس في منتصف الكوخ، دثر نفسه بما يملك من ملابس وأحذية وأقلام وكتب، سكب زجاجة البنزين المحسن الذي كان يحتفظ به منذ أسبوع على مملكته الصغيرة وأضرم النار، تناثرت ْ الجدران وتطايرت منها الحروف على شكل بالونات ملونة، بينما انبعثت ْ من ملابسه وأقلامه وأحذيته ألوان الطيف الشمسي، كانت لوحة جميلة للغاية، عندما أصبح القاص تمثالا ً من الفحم وسقطت ْ الجدران التي تحيطه ولم تعد له حدود واضحة الملامح عندئذ ٍ بكى بمرارة لأن مشروعه هذا قد تأخر كثيرا ً......



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن