من الفصل الخامس من كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقراطيّة مقتطف من القسم الأول المعنون ب : حكومتا الغنوشي ومحاولات الالتفاف على الثورة. حكومتا الغنوشي ومحاولات الالتفاف على الثورة

بشير الحامدي
bechir44n@gmail.com

2012 / 1 / 27

من الفصل الخامس من كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقراطيّة مقتطف من القسم الأول المعنون بـ : حكومتا الغنوشي ومحاولات الالتفاف على الثورة.
حكومتا الغنوشي ومحاولات الالتفاف على الثورة

يوم 17 جانفي أعلن محمد الغنوشي عن تشكيلة حكومة الالتفاف الأولى[4] المدعوة حكومة الوحدة الوطنية، والتي ضمت إضافة إلى أغلبية تجمعية من رموز نظام بن علي وزراء وكتاب دولة والحزب الديمقراطي التقدمي ممثلا بنجيب الشابي و حركة التجديد في شخص أحمد إبراهيم، و التكتل من أجل العمل والحريات بممثله مصطفى بن جعفر، و الإتحاد العام التونسي للشغل عبر حسن الديماسي وعبد الجليل البدوي وأنور بن قدور. وقال الغنوشي حينها وهو يوضح أسباب اختيار هذه التشكيلة الحكومية ،أنه حاول جمع خليط من مختلف القوى داخل الدولة من أجل خلق الظروف الملائمة لبدء عملية إصلاح. و برّر وجود الوزراء التجمعيين بالحاجة إليهم في مرحلة الإعداد للانتخابات التي سيتم تنظيمها بالبلاد خلال الشهرين المواليين، مؤكدا أنهم وزراء يمكن الاعتماد عليهم.
ومنذ أن كلف فؤاد المبزع محمد الغنوشي بتشكيل أول حكومة بعد أن نُصّب لا شرعيا على قاعدة الفصل 57 من الدستور، كانت المظاهرات والاحتجاجات لا تتوقف و تتصاعد يوما بعد يوم في كامل أنحاء البلاد وخصوصا في كبريات المدن. فقد كانت الجماهير مقتنعة أن ما يقع الإعداد له من قبل هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم في أعلى هرم السلطة بطريقة لا شرعية، لا يمكن أن يكون إلا مؤامرة على الثورة والتفافا على مطالبها، ومحاولة لترميم نظام بن علي والإبقاء على أجهزة دولته قائمة بما في ذلك حزب الفساد "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي".
وكان الرد من السلطة أن واجهت قوات البوليس والجيش المحتجين في تونس وصفاقس وقابس والقصرين والرديف وسيدي بوزيد وفي بلدات الجنوب بقنابل الغاز المخنق وبالقمع، لكنّ ذلك لم يمنع الجماهير من مواصلة الاحتجاج والتظاهر،فكان مسارها واضحا وموقفها أكثر إصرارا وتمسكا بشعارات الثورة :" لا لحكومة مشكّلة من رموز النظام السابق ومن التجمع الدستوري".
لقد كانت الجماهير مصمّمة على مواصلة النضال من أجل فرض هذا المطلب، وكانت ترى أن ما يقع الإعداد له لا يمكن أن يخرج عن الحل الذي أعلنه الدكتاتور قبل فراره، و لم تقتنع به الجماهير ورفضته وواصلت ثورتها لتطيح به.
ففترة الإعداد لحكومة الالتفاف الأولى كانت من أدق الفترات التي تلت سقوط بن علي. لأن في الأثناء، بدأت أولى عمليات فرز القوى داخل المجتمع على قاعدة من سيكون مع الثورة ومن سيكون مع أعدائها.
عملية الفرز الأولى هذه ستظهر سياسيا قطبين:
قطب جبهة الشعب المتمسك بمواصلة الثورة حتى إسقاط النظام وقطب الثورة المضادة وقوى الالتفاف مع المكتفين بالمنجز واللاهثين وراء مشاركة بقايا الدكتاتورية من أجل ترميم نظام بن علي.
فقطب الالتفاف المكون من التجمع الدستوري الديمقراطي ورموز سلطة بن علي وبقايا نظام الدكتاتور ككل، بما في ذلك الأحزاب الكرتونية وبيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل والحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد، هؤلاء جميعا سيحاولون إيقاف الثورة وسيدعون الجماهير إلى الكف عن الاحتجاج والتظاهر والتسليم بالأمر الواقع للاشرعية. فالهدف بالنسبة إليهم هو ترميم بقايا النظام.
كشفت هذه الفترة من مسار الثورة عن انتهازية الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة اليمينية، على شاكلة الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد، ووصولية البيروقراطية النقابية ونفاقها. وكل هؤلاء دفعتهم مصالحهم جميعا ومصالح الفئات الاجتماعية التي يمثلونها أن يكونوا في صف بقايا النظام وفي صف البرجوازية. إن تموقعهم إلى جانب البرجوازية ومع بقايا سلطة بن علي كان نتيجة خشيتهم من أن يتقدم المسار الثوري ويعصف بمصالحهم ورهاناتهم وبنفوذ الشرائح الاجتماعية التي يمثلونها سياسيا.
أما قطب جبهة الشعب والتي تظم اليسار ماركسيين وقومين وبعض الجمعيات والمنظمات وكتلة كبيرة من النقابيين الجذريين في الإتحاد العام التونسي للشغل ونسبة كبيرة من منخرطيه في القطاع العام أو في القطاع الخاص والجان المواطنية التي ساهمت مساهمة كبيرة في النشاط الجماهيري وقادته في غالب الأحيان إضافة إلى الشباب الطلابي والتلمذي وخصوصا منه أولئك المندحرون من الطبقات والشرائح الإجتماعيىة المسحوقة، هذا القطب ولئن كانت مكوناته متمسكة في العموم بمواصلة الثورة فإنها لم تكن رافضة للقاعدة الدستورية التي على أساسها تكونت حكومة "فؤاد المبزع ـ الغنوشي" بحيث بدا موقفها غير مستند إلى بديل جذري، فهي من جهة ترفض أن يشرف على المرحلة الانتقالية بقايا الدكتاتورية وضد كل حكومة مكونة من التجمعيين ومن رموز نظام بن علي، ومن جهة أخرى لم تعلن أنها ضد اعتماد دستور 1959 كقاعدة لتنظيم السلطة بعد رحيل الدكتاتور.
لقد اكتفت القوى السياسية لهذا القطب بالمطالبة برحيل حكومة الغنوشي وبالدعوة إلى المجلس التأسيسي دون الاعتراض على القاعدة التي ستُشَكَّل عليها السلطة الانتقالية، التي ستشرف على الإعداد لانتخاب هذا المجلس، كما تغافلت على أن للثورة مطالب اقتصادية واجتماعية مباشرة لا بد أن ترتبط بالمطلب السياسي العام المتمثل في الحريات الديمقراطية.
إن مهمة إنجاز مجلس تأسيسي، يمثل فعلا سلطة شعبية ويعكس إرادة الأغلبية، كانت تفترض حكومة مؤقتة مستقلة عن قوى الثورة المضادة وعن بقايا النظام ولا تستند لدستور 1959. وهي حكومة تفرضها الشرعية الثورية أو شرعية مطالب الثورة، والتي على سلم أولوياتها الحق في السلطة.
لقد عجز هذا القطب عن طرح مسألة السلطة، والتي تعتبر أهم مسألة في الثورة وفي كل ثورة. وهذا العجز عن طرح مسألة السلطة أو فرض الشرعية الثورية ضد اللاشرعية المتمثلة في دستور 59، الذي كانت تستند عليه كل قوى الالتفاف، سيكون أبرز العوامل التي ستسمح للبرجوازية المدعومة إمبرياليا بالنجاح في الالتفاف على مطالب الثورة وإرباك مسارها، كما سيسهل ذلك عليها تضييق حالة الفراغ التي تحيط بها شيئا فشيئا وفرض أرضيتها الانتقالية.
يمكن اعتبار أن حكومة الغنوشي الأولى قد ولدت ميتة : فما إن أعلن عنها حتى انسحب منها ممثلو الإتحاد العام التونسي للشغل وحزب التكتل الديمقراطي. وذلك ليس نتيجة تجذر حصل في موقف المركزية البيروقراطية بل نتيجة لقرار الهيئة الإدارية ولضغط النقابيين ميدانيا على هذه المركزية التي لم يكن أمامها من خيار غير الإذعان ومسايرة الاتجاه العام للأحداث خوفا على موقعها داخل المنظمة.
أما انسحاب ممثل التكتل الديمقراطي فقد كان لحسابات بعيدة عن موقف واضح لهذا الحزب من قوى الالتفاف وقد أملته عليه اعتبارات انتهازية قدرت أن البقاء على الحياد هو الأسلم وقتها. ولم يكن ذلك غير موقف انتهازي من حزب لا بدائل جذرية له في الحقيقة غير البدائل التي تطرحها الجبهة اليمينية سياسيا واجتماعيا.
بعد سقوط الديكتاتور وحتى إعلان حكومة الالتفاف الأولى كان كل ما يُدبّر له يهدد بالرجوع إلى وضع ما قبل الإطاحة ببن علي. كانت البرجوازية تعمل وبكل الطرق على أن تخرج هي الكاسبة من الوضع ،فهي إلى حد ذلك التاريخ لم تخسر شيئا. فالعمال والمعطلون والمهمشون وكادحو المدن والمفقرون عموما هم وحدهم من كانوا مهددين بالرجوع إلى واقع ما قبل الانتفاضة. إن الشعب الذي خرج منتفضا يوم 17 ديسمبر 2010 يردّد "لا للفساد تسقط سلطة اللإستبداد" وقدم مئات الشهداء والجرحى واستمر في النضال في لحمة لا مثيل لها وإصرار وعزم لا يلين حتى فرض وضعا أسقط الديكتاتور زين العابدين بن علي هو المهدّد بسرقة ثورته وتسليم مصيره من جديد لقامعيه.
إن جبهة الشعب هي التي كانت مهددة ،لأن ما تحظر له البرجوازية والليبراليون والإصلاحيون وبيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل والذي عكسته تركيبة حكومة الغنوشي لا يستجيب حتى لأقل من الحد الأدنى من مطالب ثورة الحرية والكرامة.
إن محاولة البرجوازية ترميم نظام بن علي على قاعدة دستور 59 هو المناورة الكبرى التي تريد تثبيتها دوائر المال والسياسة وبقايا النظام البائد للالتفاف على مطالب الشعب.
هذه القاعدة الدستورية والتي تدفع في اتجاه تنظيم انتخابات رئاسية في ظرف شهرين وأتت بأحد رموز النظام البائد إلى سدة الرئاسة المؤقتة هي الإجراء الذي سيجهض كل مطالب الشعب.
الثورة كانت جذرية في موقفها من النظام المافيوزي ومن كل رموزه والشعب طالب بكنس كل النظام وأجهزته ورموزه السياسية.
هل كان البرلمان ديمقراطيا؟ وهل نوابه الذين اختاروا رئيسه الذي بوأه الدستور الرئاسة مؤقتا بعد فرار الدكتاتور جاؤوا إلى هناك عبر إنتحابات ديمقراطية وعبر إرادة الشعب حتى يكون هذا الرئيس أمينا على مطالب الشعب ؟
لا أبدا، فالبرلمانيون ما وصلوا قصر باردو بإرادة الشعب.
إن هؤلاء وصلوا هناك عبر مجلة وقوانين انتخابية قامعة لكل حرية ولكل ديمقراطية وعبر تزييف وتزوير الانتخابات.
إن من وصل ضدّ إرادة الشعب لا يمكن أن يكون أمينا على مطالب الشعب. مطالب ثورة الحرية والكرامة أفقها ليس القاعدة الدستورية لدستور شطبه بورقيبة وغيره كما شاء وسوّده وحوّره الدكتاتور بن على وجعله على قياسه فكيف يكون قاعدة لسلطة يريدها الشعب بديلة عن سلطة اللإستبداد والفساد سلطة شعبية وديمقراطية ممثلوها من أبناء الشعب وأجهزتها تعمل لصالح الشعب لا ضده.
مطالب الثورة تتطلب لتحقيقها حل هذا البرلمان نفسه وإلغاء الدستور الذي لم يعد دستورا إلا بالاسم، وحل الحزب الذي اعتلى السلطة لأكثر من 60 عاما ولم يقدم لهذا الشعب غير الخراب وطرد كل المسؤولين الإداريين المتنفذين في الإدارات وفي مصالح الدولة والتابعين لهذا الحزب من مراكز القرار لأنهم أصل الداء في ما وصلت إليه أوضاع الشعب .
مطالب ثورة الحرية و الكرامة هي :حكومة مؤقتة مكونة من هيئات مدنية وأحزاب تقدمية وديمقراطية ومن اللجان و المجالس الشعبية ومن شخصيات وطنية ونقابية وحقوقية مشهود بنضاليتها ضد سلطة بن علي مهمتها تنفيذ إرادة الشعب في كنس نظام الاستبداد والفساد وتلبية المطالب الإقتصادية والاجتماعية المباشرة للجماهير وإطلاق الحريات ( حرية التنظم وحرية الصحافة وحرية النشر والتعبير وإعلان العفو التشريعي العام وتحرير الإعلام وضمان استقلالية القضاء) للتحضير لانتخابات حرة وديمقراطية يختار فيها الشعب ممثليه بكل ديمقراطية وحرية وينبثق عنها مجلس تأسيسي يقرر شكل نظام الحكم والسياسات التي سيقع إرساؤها.
يوم 17 جانفي، وتزامنا مع الإعلان عن حكومة الالتفاف، أعلن محمد الغنوشي أن حكومته ستفرج عن جميع المساجين السياسيين وستفصل الدولة عن الأحزاب وستعلن عن قانون العفو التشريعي العام، وستقرّ مبدأ الاعتراف بالأحزاب. كما أُعلن عن إحداث لجنة عليا للإصلاح السياسي برئاسة عياض بن عاشور ولجنة للتحقيق في قضايا الفساد والرشوة برئاسة عبد الفتاح بن عمر ولجنة استقصاء التجاوزات برئاسة توفيق بودربالة.
لم يكن الإعلان عن هذه القرارات أن يوقف رفض الجماهير لهذه الحكومة التي رأت فيها مواصلة لسلطة بن علي ومحاولة إجهاض للثورة و مطالب الجماهير.
خروج ممثلي الإتحاد العام التونسي للشغل من هذه الحكومة وإعلان المركزية البيروقراطية عن استقالة النقابيين من مجلس النواب ومجلس المستشارين وتجميد عضوية الإتحاد في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وفي كل هيئات الدولة الأخرى التي يشارك فيها، ودعوته الصريحة لحل الحكومة وإبعاد رموز النظام السابق من أي تشكيلة حكومية قادمة، والذي جاء عبر الضغط النقابي القاعدي وعبر ضغط الجماهير في الشارع، هو الذي أربك السلطة اللاشرعية وساهم في توسيع دائرة الفراغ من حولها .
فمنذ الإعلان عنها، ودائرة الفراغ والرفض تتوسع من حول حكومة الالتفاف الأولى. لقد اعتبرت وبإجماع شعبي ، حكومة قوى الثورة المضادة. لذلك لم تجد من مساند إلا بعض الأحزاب على شاكلة الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد اللذان تحولا بممثليهما أحمد نجيب الشابي و أحمد إبراهيم إلى مدافعين أساسيين على الحكومة أكثر من كل الوجوه الفاسدة التي كانت تضمها.
لقد قطع هذان الحزبان، بمشاركتهما في حكومة الالتفاف الأولى كل صلة لهما بالثورة وبمطالب الجماهير واختارا الوقوف في صف الثورة المضادة. وبذلك سقطت شعارات كثيرة طالما ردّدها هذان الحزبان في عهد بن علي، كما سقطت أوهام كثيرة لدى الجماهير حول هذين الحزبين الانتهازيين، خاصة بعد الرفض الشعبي لحكومة الغنوشي والذي ازداد تصاعدا إثر تصريحات أحمد فريعة وزير الداخلية المعين من قبل الديكتاتور الفار يومين فقط قبل سقوطه. فتصريحات فريعة بدت استفزازية ومهينة للشهداء والثورة، فرفضتها الجماهير بشدة، و جسدت رفضها ميدانيا بالخروج وفي أغلب المدن التونسية في مظاهرات حاشدة تطالب برحيل الحكومة وتندّد بقوى الالتفاف، وهي تردد شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" ولم تكتف جماهير الشعب بذلك بل تمكنت وفي مدن عديدة من احتلال مقرات التجمع الدستوري وتحويلها إلى دور للجان الشعبية لحماية الثورة التي تشكلت عفويا منذ البداية.
واستمرت المظاهرات المنادية بإسقاط حكومة الغنوشي الأولى أياما بعد إعلانها، لكن قوى الثورة المضادة تجندت لقمع الإحتجاجات بإطلاق يد جهاز البوليس وزادت في تغذية الانفلات الأمني وظلت تناور لربح الوقت وامتصاص الغضب.
أما المنعرج الحاسم ،الذي سيراكم في اتجاه إسقاط حكومة الغنوشي الأولى سيتأتي من مبادرة الجماهير وشباب الثورة في المدن الداخلية، في كل من سيدي بوزيد و القصرين و تطاوين و صفاقس و قفصة ومن كثير من المدن الأخرى . فيوم السبت 22 جانفي وعلى إثر دعوات قام بها شباب بلدة منزل بوزيان على مواقع الإنترنيت، تجمع شباب و أهالي البلدة وقرروا بدء المسيرة التي نادوا بها تحت لافتة "قافلة الحرية" إلى تونس العاصمة، وناشدوا بقية شباب تونس وقواها الناشطة في كل المدن الانطلاق من جهاتهم والالتقاء في العاصمة، والمرابطة فيها إلى حد إسقاط حكومة الالتفاف.
في يوم 23 جانفي، وصلت "قافلة الحرية" التي كانت تضم أكثر من 2500 شخصا إلى تونس العاصمة بعد أن مرّ منظموها من منزل بوزيان إلى بلدة الرقاب مرورا بالمكناسي ومنها إلى مدينة القيروان. ولم يكتف منظموها بالتظاهر في العاصمة بل قرروا الاعتصام في ساحة الحكومة في القصبة والمرابطة هناك إلى حين تحقيق مطلبهم في رحيل الحكومة. وفي الأيام الموالية، توافدت على ساحة القصبة وفود الولايات الأخرى وبدأ إعتصام القصبة 1.
كان الاعتصام كشكل من أشكال النضال والصراع ضد بقايا الدكتاتورية الشكل المناسب لتلك المرحلة، لجأت إليه الجماهير بعد أن أصمّت الحكومة الأذان عن المظاهرات السلمية وتمادت في محاولتها فرض سياسة الأمر الواقع.
سيدفع إعتصام القصبة الأول، الذي أصبح جماهيريا في بضعة أيام ودعمته أغلب القوى السياسية والجمعيات والمنظمات الديمقراطية وساهم فيه النقابيون مساهمة فعالة في التمويل والتموين والتأطير السلطة اللاشرعية وداعميها الإمبرياليين إلى بدء التفكير في التراجع والخضوع لمطلب المعتصمين.
لم يكن الاعتصام معزولا، لقد غطته وسائل الإعلام المحلية والعالمية تغطية شاملة كما كان مسنودا أيضا بالمظاهرات وتعبئة الشارع في العاصمة والولايات. وقد كان للنقابيين وللشباب التلمذي والطلابي وللمعطلين كما لبعض النخب اليسارية المسيّسة دور بارز في عملية الإسناد وتعبئة الشارع وفكّ الضغط على المعتصمين ودعمهم ميدانيا.
منذ أن أصبح الاعتصام جماهيريا، ومنذ أن أيقنت قوى الثورة المضادة أن لا إمكانية لمواصلة سيطرتها على الأوضاع غير التراجع التكتيكي حتى بدأ الغنوشي في مفاوضات في الكواليس وتحديدا مع بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل حول مقترح لتركيبة جديدة للحكومة. أسلوب المناورة كان يقتضي أن يلتجئ المبزع الغنوشي ومن ورائهما أجهزة النظام إلى الاعتماد على شريك نظام بن على التاريخي بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل كوسيط لتحافظ بقايا النظام على السلطة.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل بما يمثله من ثقل جماهيري وبما له من قدرة على التعبئة هو الإطار الوحيد الأكثر جماهيرية والأكثر قدرة على قلب موازين القوى لصالح قوى الثورة.
كانت قوى الثورة المضادة تعرف ذلك جيدا وتحسب له ألف حساب وكانت أحرص على أن لا تدع الأمور تفلت من بين يد البيروقراطية النقابية لصالح قوى اليسار النقابي والمعارضة النقابية بكل أطرافها صلب هذه المنظمة، والتي كانت موحدة في تلك الفترة على شعاري إسقاط الحكومة ومن أجل مجلس تأسيسي.
كان هدف السلطة اللاشرعية هو كسب موقف البيروقراطية النقابية وفي نفس الوقت الحرص على عدم تعريضها إلى المواجهة مع منتسبي الإتحاد وبعض هياكله الوسطى خشية فقدان مواقعها داخل المنظمة.
في نفس الوقت لم يكن من متنفس للبيروقراطية النقابية، وهي المدانة داخل الإتحاد وجماهريا بتعاونها وشراكتها مع نظام بن علي، والتي ترتعد فرائصها من التجذر القاعدي الحاصل في الساحة النقابية غيرأن تساير الأوضاع، ولا تقطع في نفس الوقت مع السلطة اللاشرعية.
من هنا يمكن أن نفهم موقفها الذي مرّرته أثناء الهيئة الإدارية التي انعقدت بتاريخ 27 جانفي 2011 والذي ساند وقبل بالتشكيلة الحكومية الجديدة التي أعلنها الغنوشي وهي تشكيلة لم تقص ممثلي التجمع الدستوري كما تطالب بذلك الجماهير ومعتصمو القصبة 1 بل أبقت على العديد من الرموز التجمعية منها بالخصوص عفيف شلبي وزير الصناعة والتكنولوجيا ومحمد النوري الجويني وزير التنمية والتعاون الدولي، دون الحديث عن كتاب الدولة الذين كانوا كلهم تجمعيين ومن رموز نظام بنعلي، برغم معارضة أربعة عناصر من المكتب التنفيذي البيروقراطي للإتحاد وثلاث جهات وخمسة قطاعات.[5]
موقف البيروقراطية هذا سيكون بداية المنعرج الذي ستبدأ فيه البيروقراطية النقابية التآمر بالمكشوف على الثورة.
يقول حسين العباسي عضو المكتب المركزي البيروقراطي للإتحاد في حوار حول حكومة الغنوشي الثانية نشرته جريدة الشروق التونسية «...في التشكيلة الثانية رفض الاتحاد الانضمام إلى الحكومة المؤقتة وفرض أن تكون التركيبة خالية من التجمعيين واستجاب الغنوشي لهذا الطلب وأبقى على وزيرين اثنين وجميعهم تخلوا عن عضوية التجمع...فيما بعد قبلت الهيئة الإدارية للاتحاد بالاعتراف بهذه الحكومة للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة لكن الاتحاد بالمقابل لم يعط صكا على بياض للحكومة المؤقتة واتفق معها على الالتزام بتطبيق شرطين أساسيين...لقد اتفقنا مع الحكومة المؤقتة على أن تعترف وتوافق ببعث مجلس لحماية الثورة تحسبا منا على أنه قد تكون هناك عملية التفاف على الثورة وأهدافها أمّا الشرط الثاني فيتمثل في إعادة النظر في تركيبة اللجان الثلاث...نحن لسنا راضون على تركيبة اللجان الثلاث وخاصة لجنة التحقيق في قضايا الفساد ولدينا الكثير من التحفظات على بعض عناصرها لأن لديهم علاقة مباشرة في الماضي بالمفسدين. وطالبنا بإعادة تركيبة هذه اللجان بشكل توافقي...» [6]
تمكنت السلطة اللاشرعية، وحتى قبل الإعلان على التركيبة الجديدة للحكومة الثانية، والتي سميت بحكومة تصريف الأعمال حينا، وبحكومة التكنوقراط حينا آخر، والتي خُطّط لها من قبل فرنسا وأمريكا عبر وكيل الخارجية الأمريكية "فلتمان" من جرّ البيروقراطية إلى صفها. وهي خطوة سيكون لها تأثير كبير على إضعاف الدور الذي كان من المفترض أن يلعبه الإتحاد العام التونسي للشغل في الثورة.
مقابل هذا التراجع عن موقفها السابق الذي كان رافضا لحكومة يكون التجمع الدستوري طرفا فيها، لم تتمكن القطاعات والجهات التي عبرت عن موقف مختلف لموقف البيروقراطية في الهيئة الإدارية الوطنية التي انعقدت في 27 جانفي من تفعيل موقفها والظهور بشكل مستقل، ونقْل الصراع مع الحكومة اللاشرعية إلى الساحة النقابية، وتكريسه ضد الجناح البيروقراطي الذي أعلن تحالفه معها بالمكشوف، ووقف في صفّ قوى الالتفاف ومع الثورة المضادة .
يوم 27 جانفي 2011 أعلن محمد الغنوشي عن تركيبة حكومته الجديدة والتي ضمت 22 وزيرا[7] ولكنه اكتفي بالإعلان عن الوزراء فقط وصمت عن الإعلان عن كتاب الدولة تاركا أمر ذلك لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، التي ستعلن في الغد في نبإ مؤكد أن كتاب الدولة المعيّنون في الحكومة الأولى سيواصلون مهامهم في الحكومة الثانية.
هكذا بدت حكومة الغنوشي الثانية حكومة لا تختلف في الجوهر عن حكومته الأولى، وبدأت تفاصيل المناورة تتكشّف. لقد إنضاف إلى جبهة مساندي الحكومة إضافة لحركة التجديد وللحزب الديمقراطي التقدمي طرف آخر هو الإتحاد العام التونسي للشغل عبر قيادته البيروقراطية اعتمادا على قرار لأغلبية واهية استصدرته من الهيئة الإدارية الوطنية.
لم تكن مواقف الأحزاب والمنظمات من الحكومة الجديدة بالوضوح الكافي عدا مواقف بعض الأطراف اليسارية الجذرية التي لم تكن مؤثرة ولا قادرة على خلق قطب سياسي معارض لأرضية الحلول الالتفافية التي كانت تضغط بها جبهة قوى الثورة المضادة. وتعالت في نفس الفترة أصوات كثيرة تنادي بضرورة عدم إغراق البلاد في الفراغ السياسي، والكف عن التظاهر و الاعتصامات والعودة إلى العمل وإنقاذ البلاد من الانهيار ومن السير في اتجاه المجهول.
كان كل هذا يهيئ لتدخل بالقوة وبالقمع لحل إعتصام القصبة1 الذي ظل رافضا لحكومة الغنوشي المعلن عنها باعتبارها لا تختلف عن سابقتها وليست إلا حكومة للالتفاف على مطالب الثورة وتسليم الشعب من جديد لقبضة جلاديه القدامى.
بقمع إعتصام القصبة ستحاول الحكومة إثبات وجودها وسينكشف وجهها القمعي السافر وعزمها على محاصرة كل مبادرة تعبوية رافضة لمسار الالتفاف وإجهاض الثورة.
معتصمو القصبة كانوا واعون بهذا بعد التحول الذي طرأ على مواقف بعض المنضمات والقوى السياسية والجمعياتية المساندة للاعتصام بعد إعلان الغنوشي عن التحويرات الحكومية وعلى رأس هذه القوى بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل التي بدأت في ذلك الوقت تحركات من أجل تنفيذ الخطة التي وقع الاتفاق عليها بينها وبين الحكومة، والتي بموجبها غيرت موقفها منها وقبلت بها، وهي البدء في التحضير لإعلان مجلس لحماية الثورة ستجتهد البيروقراطية في أن تجر إليه أغلب الأحزاب والجمعيات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وتغرقه في نقاشات لا تنتهي دون الوصول إلى تحقيق مهمة تذكر.
كان هدف الحكومة واضحا من هكذا مبادرة. لقد كانت ترمي إلى ربح الوقت أولا بتجميع أغلب القوى السياسية والجمعياتية على قاعدة أرضيتها منعا لأي تجذر قد يحصل بارتباط بعض القوى بالحركة الشعبية وبقوى الثورة. وثانيا إضعاف أكثر ما يمكن كل مبادرة تعبوية قادمة وعزلها عن الحركة السياسية وإظهارها بمظهر المبادرة التي ليس لها أي أفق أو بديل سياسي، بما أنها ستكون موازية لعمل هذا المجلس. وثالثا شلّ الحركة النقابية عن القيام بالدور المفروض أن تقوم به واستبعاد ضغطها بالإضرابات على الحكومة، وإسقاط دورها المطلبي والسياسي، وعزلها عن الحركة الجماهيرية.
لن تصمت الحكومة طويلا على إعتصام القصبة 1 وستحرّك ذراعها القمعية لفكه وقمعه والتنكيل بالمعتصمين. وستتخفّى وراء ذريعة الانفلات الأمني لإنجاز هذه المهمة.
بدأ التدبير لحل إعتصام القصبة 1 بقوة القمع. فقد وقع حصار المعتصمين وضيقت الحكومة عليهم ومنعوا من الحصول على التموين وسربت داخلهم الوشاة والمخبرين ومليشيات التجمع لبث البلبلة والفوضى، وتدخل المحامون بالتنسيق مع الحكومة لإقناع المعتصمين بفك اعتصامهم، كما دعت بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل المعتصمين إلى تكوين لجنة وطنية تحت إشراف مكتبها التنفيذي المركزي تتألف من نواب عن الجهات الحاضرة في الاعتصام للتفاوض مع الحكومة حول مطالب المعتصمين وتعهدت بحماية المعتصمين إن وافقوا على حلّ الاعتصام وبدء التفاوض مع الحكومة، كما التزمت بتوفير وسائل نقل لهم للعودة إلى جهاتهم.
بالتوازي مع ذلك تحركت مؤسسة الجيش عن طريق الجنرال رشيد عمار الذي حظر إلى ساحة القصبة وخاطب المعتصمين قائلا:
« أخواتي إخواني أشكركم على شعوركم نحو الجيش الوطني وكل ما أطلبه منكم بكل لطف وأنا صادق في ذلك أن تتركوا الجيش الوطني حتى يواصل حماية العباد والبلاد وحماية الثورة حتى لا تركب عليها أطراف خارجية. مرة أخرى أقول لكم وأنا لست متعودا على هذه الخطابات أنا صادق والجيش الوطني صادق وقوات الأمن الداخلي صادقة بحول الله جميعا. الجيش الوطني حمى ويحمي العباد والبلاد وهو على العهد واتركوه على العهد ساهرا على تطلعاتكم حارسا لطلباتكم...»
أثناء إلقاء كلمته قاطعه المعتصمون مرارا مردّدين
"الشعب يريد إسقاط الحكومة"
"الشعب يريد حكومة مدنية"
"لا لرموز التجمع في الحكومة"
"نريد حلّ التجمع"
واصل رشيد عمار كلمته طالبا من المعتصمين أن لا يضيّعوا هذه الثورة، مذكرا بأنه لابد أن يكون الجميع ملازمين للحذر واليقظة لأن هناك قوى من مصلحتها الوصول بالبلاد إلى وضع الفراغ والفراغ يولّد الرعب والرعب يولّد الدكتاتورية حسب ما قال. وأنهى كلمته بطلب إخلاء ساحة القصبة لتستمرأعمال الحكومة.
كلمة رشيد عمارالتي قاطعها المعتصمون مرات مؤكدين على مطلب إسقاط حكومة الغنوشي وتكوين حكومة إنقاذ وطني لم تكن لتزعزع إرادة المعتصمين أو تدفعهم لفك اعتصامهم.
لقد كانت مؤسسة الجيش على دراية بما يدبر في دهاليز وزارة الإرهاب وزارة الداخلية لذلك بادرت بالظهور قبل تنفيذ خطة قمع المعتصمين للظهور بمظهر غير المسؤول على ما سيحدث من قمع.
كان هذا جزء من الخطة.
بيروقراطية الجيش نفسها كانت تبحث عن طريقة لحل الاعتصام وبأي طريقة. فتعبئة جماهيرية بمثل تعبئة إعتصام القصبة 1 كانت تطرح سؤالا كبيرا عن الدور الحقيقي الذي تلعبه مؤسسة الجيش في فترة ما بعد الدكتاتور، وفي صف من تقف هذه المؤسسة .هل مع الشعب وقوى الثورة أم مع بقايا الدكتاتورية و قوى الثورة المضادة وداعميها من الفرنسيين والأمريكان.
الإجابة على هذا السؤال كانت مباشرة فلحظة بدء تنفيذ الهجوم على الاعتصام انسحبت قوات الجيش التي كانت مرابطة بساحة القصبة لتخلي المكان للبوليس الذي سيطوق الساحة من كل الجوانب ويبدأ في عملية قمع وحشية بمعاضدة من المليشيات التجمعية التي حظرت للمكان دقائق قبل تدخّل البوليس وعناصر البوليس السياسي. وبدأت العملية التي خططت لها (حكومة المبزع ـ الغنوشي) في الظلام. فتهاطلت على المعتصمين ومن كل جهة قنابل الغاز الخانق، كما اقتحمت قوات القمع الساحة و انهالت بالهراوات على كل من كان في ساحة الحكومة وساعدتها في ذلك قوات بوليسية أخرى كانت بزي مدني و جاهزة لهذا التدخل.
خلّف قمع إعتصام القصبة 3 شهداء وعشرات الجرحى. وإنتشر المعتصمون في أحياء العاصمة وأزقتها. ودارت بينهم وبين قوات الشرطة مواجهات عنيفة في الشارع الرئيسي وفي الشوارع المحاذية له استمرت ساعات، وخلفت عديد الجرحى في صفوف المحتجين.
لئن راهنت حكومة الغنوشي المبزع الثانية وشريكيْها الشابي وأحمد إبراهيم وكل المشاركين فيها ومسانديها من الانتهازيين وعلى رأسهم بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل والتي هندسها مبعوث الخارجية الأمريكية "جيفري فلتمان " بموافقة فرنسية على الحصول على شرعية شعبية، فإن رهانها سقط بعد أقل حتى من يوم واحد على تشكلها، وبان بالملموس أنها حكومة إمتداد وتواصل لحكومة الغنوشي بن علي حين أذنت لقوات القمع بالتدخل بالقوة وفك إعتصام ساحة القصبة.
بقمع إعتصام القصبة 1 أبانت حكومة المبزع الغنوشي الثانية عن وجهها القمعي الإجرامي وأظهرت أنها ليست إلا حكومة بيد مراكز القوى الباقية من نظام بن على تسيرها بتنسيق مع الفرنسيين والأمريكان.
قمع إعتصام القصبة 1 سيدفع حكومة الغنوشي المبزع التجمعية صنيعة فرنسا وأمريكا إلى التقدم خطوة في اتجاه فرض سياسة الأمر الواقع، فإضافة إلى الإبقاء على كتاب الدولة المعيّنين في الحكومة الأولى والذين كلهم من حزب التجمع سيعين فؤاد المبزع يوم 4 فيفري 2011 ولاة كلهم تجمعيون.
أثار هذا الإجراء استياء عاما لدى الجماهير ولدى غالبية الأحزاب والمنظمات والجمعيات، وحتى لدى حلفاء الحكومة حركة التجديد والحزب الديمقراطي، اللذين رفضا تفرّد الحكومة بقرار بمثل هذا الوزن دون استشارتهما.
لم تقبل الجماهير بمحاولات الحكومة الالتفاف على مطالبها وبهذه التعيينات، كما بسكوتها عن محاسبة الفاسدين والذين أجرموا في حق الشعب طيلة حكم بن علي وعن حل جهاز البوليس السياسي وحل التجمع الدستوري الديمقراطي وحل البرلمان ومجلس المستشارين. وانطلقت في أغلب الولايات احتجاجات عارمة ومظاهرات قامت أثناءها الجماهير بطرد هؤلاء الولاة في سيدي بوزيد وفي قابس وفي القصرين وفي قفصة وفي ولايات أخرى عديدة.
لم تنخدع الجماهير بما تقوله الحكومة عن نفسها أو بما يردده عنها مساندوها من الليبراليين والإصلاحيين والانتهازيين والبيروقراطية النقابية الفاسدة والإعلام المتذيّل لبقايا النظام. فلم يكن طابع الحكومة المشكلة من بقايا التجمع الدستوريّ والمملاة من الأمريكان والفرنسيين، لِيَخْفَى على الجماهير التي بقيت متشبثة بمهمة حلّ التجمع وحلّ كل أجهزة النظام السابق.
إن رفض الجماهير لبقايا الديكتاتورية، وإيمانها بأن مهمتها لم تنته عند خلع الديكتاتور، خلق حالة من الفراغ حول حكومة المبزع الثانية، فراغ بدأت دائرته تتوسع منذ قمع إعتصام القصبة 1 وتكبر كل يوم برفض الجماهير لجلّ القرارات التي أصدرتها هذه الحكومة وكذلك للجان التي كونتها. وقد تجلى هذا الرفض في طرد الجماهير للولاة التجمعيين الذين وقع تعيينهم وفي الحملات المتواصلة المنظمة لطرد المسؤولين التجمعيين من الإدارات محليا وجهويا ومركزيا ومن الوزارات.
حملات طرد التجمعيين وإن لم تتعمّم لتشمل كل المصالح الإدارية والوزارات ولم ينشأ عنها خط عام منظّم وممركز يمارس مثل هذا الفعل ويقدم بدائل، كأن تنتخب الجماهير الولاة والمعتمدين مثلا أو تشكل مجالس للتسيير الذاتي في البلديات، فإنها كانت مؤشرا بالغ الدلالة على تصميم الجماهير على استكمال مهمة كنس نظام بن علي وأجهزته بما في ذلك حكومة الالتفاف.
حالة الفراغ التي كانت تتوسع تدريجيا حول الحكومة اللاشرعية كانت تدل على أن الوضع لا يزال وضعا ثورياً و أن الثورة مستمرة وأن وعي الجماهير لم يتراجع للقبول ببقايا الدكتاتورية كما أن إرادة الجماهير ما زالت صلبة وقوية. فمناورات الحكومة وتغذيتها لحالة الانفلات الأمني لم تزيد الجماهير إلا إصرارا على متابعة الاحتجاج. فتواصلت المظاهرات في قطاع الشباب (التلاميذ والطلبة والمعطلين) وكذلك الإعتصامات والوقفات الاحتجاجية المتعددة أمام الوزارات والإدارات الجهوية وتضاعفت الإضرابات المؤطرة من هياكل نقابية قاعدية ووسطى والمقترنة بالتنديد بالبيروقراطية النقابية وبالدعوة لتجاوزها.
لم تكتف الجماهير بالاحتجاج وطرد المسؤولين التجمعين، لقد بدأ التفكير في العودة على ساحة القصبة والاعتصام هناك والضغط إلى حين كنس وإسقاط حكومة الغنوشي .
عاد شعار الشعب يريد إسقاط الحكومة ليدوي في كل مكان ويلفّ حوله كل فئات الشعب. وكثّف إعتصام القصبة 2 موجة الرفض هذه، وتحول وفي أيام قليلة إلى تجمع جماهيري ومركز ضغط قوي أرعب قوى الثورة المضادة ،وهو ما سيدفعها وفي أيام إلى التراجع والتضحية برأس الغنوشي .
مثل إعتصام القصبة 2 والذي فاقت جماهيريته كل الحدود كما الإحتجاجات التي رافقته، والتي واجهتها الحكومة بالقمع والترهيب وترويج الإشاعات ونشر الميليشيات وأعوان البوليس السياسي لتخريبها والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، تحديا صارخا لقوى الثورة المضادة ولذراعها القمعية جهاز البوليس، وأيقنت الطبقة البرجوازية التونسية ومسانديها محليا كما القوى الإمبريالية أن المناورة التي بدأت بعد 14 جانفي والمتمثلة في إعادة الإمساك بالأوضاع عبر حكومتي الغنوشي قد وصلت إلى طريق مسدود ولابد من التحرك لتطويق الإحتجاجات والغضب الجماهيري قبل أن تتّخذ الأحداث منعرجا يمكن أن يقلب الأمور جميعا ويطيح بالنظام ككل.
تصاعدت الإحتجاجات المطالبة بسقوط الحكومة. ومثلت المظاهرة التي نظمت يوم الجمعة 26 فيفري 2011 والتي شارك فيها أكثر من 500 ألف من المواطنين والذين رددوا " يا غنوشي يا عميل ارحل ارحل وإستقيل" "تونس حرة حرة و الغنوشي على بره" "ثورتنا مستمرة و الغنوشي على برة" "الشعب يريد إسقاط الحكومة" "أوفياء أوفياء لدماء الشهداء" "وزارة الداخلية وزارة إرهابية."، وواجهتها الشرطة بالقمع وباستعمال الرصاص الحي المنعرج الحاسم الذي سيعجّل بسقوط حكومة الالتفاف الثانية .
التحركات لم تقتصر على تونس العاصمة بل كانت مدن كسيدي بوزيد والقصرين والكاف وصفاقس وسوسة هي أيضا مسرحا لتحركات واحتجاجات ضخمة وجماهيرية وقع مواجهتها كلها بالقمع السافر.
تواصلت الإحتجاجات بعد مظاهرة الجمعة، ولكن السلطة سربت عناصر من مليشيا مكونة من البوليس والتجمعين داخل هذه المظاهرات لإحداث أعمال شغب وعنف وتكسير ونهب لتشويهها وإظهارها بمظهر أعمال تخريب وفوضى. وسقط أثناء احتجاجات يومي الجمعة والسبت برصاص البوليس 5 شهداء وجرح العشرات.
كان واضحا أن مراكز القوى من بقايا النظام مصرّة على مواصلة نهج القمع وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار والخوف والرعب في نفوس المواطنين وأنها تدفع بحكومة الغنوشي إلى آخر النفق للترتيب لحل التفافي جديد يضمن لها مواصلة التحكم والسيطرة على الوضع.
يوم 27 فيفري 2011 أعلن محمد الغنوشي عن تقديم استقالته من رئاسة الحكومة خلال مؤتمر صحفي بثه التلفزيون التونسي وأشار فيه لأسباب تقديمه استقالته وانتقد من قال إنها مجموعة ركزت منذ فترة على مهاجمة حكومته واستعرض أبرز المصاعب التي واجهت هذه الحكومة الالتفافية وختم بالقول إنه يغادر وضميره مرتاحا ويرى أن استقالته هي في خدمة تونس وثورة تونس.
تصريحات الغنوشي كانت واضحة. فالتجمعي الفاسد أُجبر على الاستقالة لأنه لم يكن في الأخير غير ورقة بين أيدي قوى الثورة المضادة التي كان يهمها تواصل النظام وحماية مصالحها أكثر بكثير من الأشخاص. لم يعد الغنوشي الورقة الرابحة فلقي نفس المصير الذي انتهي إليه ولي نعمته الديكتاتور بن علي نفسه. كانت لعبة المصالح والتشبث بالسلطة تقتضي ذلك. النظام فوق الأشخاص. المصالح فوق الأشخاص بالنسبة للبرجوازية وأسيادها الإمبرياليين.
ساعات بعد تقديم الغنوشي لاستقالته من رئاسة الحكومة يعلن فؤاد المبزع الرئيس اللاشرعي عن تكليفه لوزير أول جديد هو الباجي قايد السبسي ويصرح لوسائل الإعلام أنه عرض على الباجي قائد السبسي منصب الوزير الأول فقبل به. وأضاف أنه حرصاً على استمرار العمل العام جاء تكليف الباجي قائد السبسي وأكد على أنه شخصية وطنية وطلب من الجميع التعامل بكل لطف وموضوعية مع الأحداث الجارية في البلاد.
مع هذا الوزير البورقيبي ذي السجلّ الحافل بمعاداة الحريات والديمقراطية وبقمع الطبقات الشعبية واحتقارها ستتقدّم قوى الثورة المضادة أشواطا في الإلتفتف على ثورة الحرية والكرامة.
ــــــــــــــــــــ
[4] تركيبة حكومة الغنوشي الأولى:
الوزراء: محمد الغنوشي الوزير الأول ـ كمال مرجان وزير الشوؤون الخارجية ـ الأزهر القروي الشابي وزير العدل ـ رضا قريرة وزير الدفاع الوطني ـ أحمد فريعة وزير الداخلية ـ العربي الميزوري وزير الشوؤون الدينية ـ أحمد نجيب الشابي وزير التنمية الجهوية والمحلية ـ أحمد ابراهيم وزير التعليم العالي والبحث العلمي ـ مصطفى بن جعفر وزير الصحة العمومية ـ محمد جغام وزير التجارة والسياحة ـ الطيب البكوش وزير التربية ـ منصر الرويسي وزير الشوءون الاجتماعية ـ الحبيب مبارك وزير الفلاحة والبيئة ـ محمد النوري الجويني وزير التخطيط والتعاون الدولي ـ محمد عفيف شلبي وزير الصناعة والتكنولوجيا ـ زهير المظفر وزير لدى الوزير الأول مكلف بالتنمية الادارية ـ رضا شلغوم وزير المالية ـ مفيدة التلاتلي وزيرة الثقافة ـ ليليا العبيدي وزيرة شوءون المرأة ـ صلاح الدين مالوش وزير النقل والتجهيز ـ حسين الديماسي وزير التكوين المهني والتشغيل ـ محمد علولو وزير الشباب والرياضة ـ عبد الجليل البدوي وزير لدى الوزير الأول ـ عبد الحكيم بوراي الكاتب العام للحكومة.
كتاب الدولة: أحمد ونيس كاتب دولة للشوؤون الخارجية ـ رضوان نويصر كاتب دولة لدى وزير الشوؤون الخارجية ـ نجيب الكرافي كاتب دولة لدى وزير التنمية الجهوية والمحلية ـ فوزية الشرفي كاتبة دولة لدى وزير التعليم العالي ـ رفعت الشعبوني كاتب دولة لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي مكلفا بالبحث العلمي ـ لامين مولاهي كاتب دولة لدى وزير الصحة العمومية ـ عبد الحميد التريكي كاتب دولة لدى وزير التخطيط والتعاون الدولي ـ عبد العزيز الرصاع كاتب دولة لدى وزير الصناعة والتكنولوجيا مكلفا بالطاقة ـ سامي الزاوي كاتب دولة لدى وزير الصناعة والتكنولوجيا مكلفا بتكنولوجيات الإتصال ـ منصف بودن كاتب دولة لدى وزير المالية مكلفا بالجباية ـ أحمد عضوم كاتب دولة لدى وزير المالية مكلفا بأملاك الدولة ـ سليم شاكر كاتب دولة لدى وزير التجارة والسياحة مكلفا بالسياحة ـ أنور بن قدور كاتب دولة لدى وزير النقل والتجهيز ـ سالم حمدي كاتب دولة لدى وزير الفلاحة ـ سليم عمامو كاتب دولة لدى وزير الشباب والرياضة. وعين السيد مصطفى كمال النابلي محافظا للبنك المركزي التونسي
[5] اعضاء المكتب المركزي البيروقراطي هم: المولدي الجندوبي ـ محمد سعد ـ منصف اليعقوبي ـ وحسين العباسي . الجهات هي: صفاقس ـ بنزرت ـ جندوبة. القطاعات هي: قطاع التعليم الثانوي ـ قطاع التعليم الإبتدائي ـ قطاع البريد والإتصالات ـ قطاع أطباء الصحة العمومية ـ قطاع الشباب والطفولة.
[6] جريدة الشروق التونسية العدد عدد 03 ـ 03 ـ 2011
[7] تركيبة الحكومة المسماة بحكومة الوحدة الوطنية التي أعلن عنها محمد الغنوشي يوم 27 جانفي 2011 .
الوزير الأول محمد الغنوشي ـ وزير الشؤون الخارجية احمد ونيس ـ وزير العدل الأزهر القروي الشابي ـ وزير الدفاع الوطني عبد الكريم الزبيدي ـ وزير الداخلية فرحات الراجحي ـ وزير الشؤون الدينية العروسي الميزوريـ وزير التنمية الجهوية والمحلية احمد نجيب الشابي ـ وزير التعليم العالي والبحث العلمي احمد ابراهيم ـ وزيرة الصحة العمومية حبيبة الزاهي ـ وزير التجارة والسياحة مهدي حواص ـ وزير التربية الطيب البكوش ـ وزير الشؤون الاجتماعية محمد الناصر ـ وزير الفلاحة والبيئة مختار الجلالي ـ وزير التخطيط والتعاون الدولي محمد النوري الجويني ـ وزير الصناعة والتكنولوجيا محمد عفيف الشلبي ـ وزير لدى الوزير الأول مكلف بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنسيق مع الوزارات المعنية إلياس الجويني ـ وزير المالية جلول عياد ـ وزير الثقافة عز الدين باش شاوش ـ وزيرة شؤون المرأة ليليا العبيديـ وزير النقل والتجهيز ياسين ابراهيم ـ وزير التكوين المهني والتشغيل سعيد العايدي ـ وزير الشباب والرياضة محمد علولو.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن