المقاطعة والحركة الفلسطينية الأسيرة

عزمي بشارة

2002 / 9 / 10

 

كانت احدى اهم مهمات الإجتياح الاسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية في العام الثاني للانتفاضة وما زالت القاء القبض على اكبر عدد ممكن من كوادرالمقاومة الفلسطينية والقيادات السياسية الميدانية الجذرية الطابع والتي تعبىء باتجاه مقاومة الاحتلال. ولا يهدف الاحتلال من عملية التمشيط الواسعة التي قام بها بحثا عن مطلوبين او مشتبه بهم ضرب الحركة الوطنية وكوادرها فحسب، وانما ايضا خلق المناخ الملائم لتمرير مخططاته السياسية بعد كسر حماة القرار الوطني وعزلهم في السجن.

في المقابل تبرز اهمية استراتيجية للحفاظ على الكوادر الوطنية حتى وهي في السجن وذلك بزيادة الاهتمام السياسي والمجتمعي بقضيتهم وتكريس الجهد والوقت اللازمين لذلك، لكي لا يستفرد من الناحية المعنوية والنفسية بهم في السجن، ولئلا يخلق الانطباع ان المجتمع وحركته الوطنية لا يهتمان بمصيرهم. ونحن لا نتحدث عن عشرة معتقلين سياسيين ولا عن مائة او حتى بضع مئات، وانما نتحدث عما يربو عن سبعة آلاف معتقل او اسير في الانتفاضة الاخيرة اضيفوا الى آلاف السجناء الموجودين اصلا في السجون الاسرائيلية. ومن المعتقلين الجدد قيادات سياسية وكوادر مجربة تصلبت بالاعتقالات المتكررة، ومنهم صغار السن الذين اشتبه بهم او اعتقلوا على قارعة الطريق ويخشى ان يستفرد ببعضهم اذا لم يتوفر الاهتمام الكافي المعنوي والمادي بالمعتقل وبأهله وبظروفه. يجب ان يعرف المعتقل ان هنالك مجتمعا وراءه "يسأل عنه" ووراء اهله، وان هذا المجتمع لا يتخلى عن مناضليه، ولا حتى عمن يشك الاحتلال به باعتباره مناضلا محتملا. يجب ايلاء هذه القضية الجهد الكافي والفوري وتخصيص المقدرات الكافية لها من حملات التضامن وان تنظم وتنسق الجهود فورا، ويجب عدم الاستخفاف بها فالحديث هو عن آلاف من ابناء الشعب الفلسطيني الواعين والمسيسين والمناضلين الذين يشكلون عمودا فقريا للحركة الوطنية.

وهنالك مشكلة باستيعابهم حتى لدى السلطات الاسرائيلية، لأن السجون غير مجهزة لـ "استقبال " هذا العدد من السجناء والمناضلين. ولا يمكن تسمية معتقل "كتسيعوت" في النقب او "عوفر" في بيتونيا بالسجون بالمعنى الرائج للكلمة اذا تنقصهما حتى مقومات السجن بالمعنى الاسرائيلي. كما ان جهاز القضاء العسكري الاسرائيلي غير جاهز لمحاكمات بالجملة وهو أصلا قضاء يعتبر نفسه اداة بيد جهاز الأمن الاسرائيلي في المواجهة مع الفلسطينيين، اي انه ليس جهاز قضاء محايداً. وقد انضمت اليه المحاكم المدنية بما فيها المحكمة الاسرائيلية العليا التي تعتبر الحالة حالة حرب وبالتالي فإن لها دورها في هذه الحالة، اذ تصادق على كل خطوة تقوم بها سلطات الإحتلال بمعاقبة الابرياء بهدم بيوتهم مثلا ناهيك عن منع التجول والإغلاق وغيرها. والسجناء انفسهم غير جاهزين من حيث التمثيل الحقوقي في المحاكم اذ ان الجمعيات التي تمول دفاعهم تمول في الواقع عددا قليلا من المحامين الذين يتحولون بسرعة للاهتمام بالزيارة وغيرها ويكاد بعضهم لا يطلع على الملف قبل المثول امام القاضي. لا يمكن والحالة هذه التعامل بجدية مع القضاء كوسيلة من اجل الحصول على العدالة ولو النسبية. وربما فقط لغرض حماية المعتقل وتحسين ظروف سجنه وبحالات قليلة نادرة من النجاح المحدود يفيد التوجه الى المحكمة العليا ولكن بعد ان اصبح المعتقل سجينا محكوما.

وللمرة الاولى منذالعام 67 تبرز بين المعتقلين الفلسطينيين، خاصة المتهمين بقيادة المقاومة او بتنفيذ عمليات او المطلوبين المطاردين لفترات طويلة الرغبة الحقيقية بمقاطعة المحاكم الاسرائيلية وعدم الاعتراف بشرعيتها كمحاكم احتلال.

ويتضمن هذا التوجه النضالي روح المقاومة في فترة حرجة جدا. يعرف المطلوب المطارد او من قاد المقاومة في جنين انه سيحكم في النهاية حكما بالسجن المؤبد. وبقيت الخيارات المفتوحة امامه ان يصدر الحكم بعد منحه شرعية للمحكمة الاسرائيلية او دون منحها شرعية، وهي محكمة احتلالية كولونيالية وهو متهم بمقاومة نفس الاحتلال الذي تخدم المحكمة حفظ نظامه. المنطق السياسي وحتى الانساني السليم يشير باتجاه مقاطعة المحكمة. هذه خطوة سياسية ذات مغزى موجهة الى خارج السجن، وهي ايضا خطوة دعائية موجهة الى خارج الخارج اذ يرفض اسرى الانتفاضة ان يحاكموا كأنهم مجرمون خرقوا النظام العام، انهم بغالبيتهم الساحقة، اذا استثنينا من يخلطون بين الزعرنة العادية والنضال وهؤلاء قلة قليلة، ممثلو النظام العام والصالح العام الفلسطيني.

يجب ان يبدأ هذا المشروع مع محاكمة مروان البرغوثي ولكن ألا يقتصر عليه، ولو اقتصر عليه حتى بعد انكاره التهم فسوف يبدو صامتا عن ضعف لأن غيره لا يقاطع المحاكم الاسرائيلية. ورغم ان حالته حالة نائب منتخب الا ان هذه الخصوصية لا تزيد ولا تنقص في سبب مقاطعة المحكمة الا وهو: اولا عدم شرعيتها كونها محكمة احتلال، وثانيا عدم توقع اي نوع من العدالة والانصاف منها. ويبدو ان النزعة لتبني هذا المشروع آخذة بالتعاظم من قبل كافة المعتقلين المهددين بالأحكام العالية ومن يشاء ويرغب بالإنضمام اليهم هو ايضا مشروع تنظيمي كفيل بإعادة تنظيم المعتقلين بعد سنوات من التشرذم الناتج عن الاختلاف على اوسلو والعلاقة مع السلطة الفلسطينية وغيرها. كان هنالك شعور عام بين السجناء ان محاولة تقسيمهم اسرائيليا في أيام التفاوض بين من "على ايديه دم اسرائيلي" ومن لم "تتلطخ يداه بدماء اسرائيلية" من شأنها ان تشرذم السجناء كما تجزىء حتى أملهم بالتحرر من الاحتلال او من السجن على الاقل في المراحل التي تفاوض فيها قياداتهم،حتى التنظيمية في بعض الحالات، الدولة التي تسجنهم وتعقد معها اتفاقيات.

ولا يرغب المعتقلون الذين توجه اليهم تهم بأحكام عالية ان يحرموا من اعتقل صدفة او بطريق الخطأ ان يثبت براءته او ان يقلل فترة وجوده في السجن قدر الامكان بواسطة الدفاع القانوني.

لقد اعادت الانتفاضة الأمور الى سياقها الصحيح، ألا وهو القضية التي من أجلها اعتقلوا وسجنوا ويحاكمون، اي الى سياق النضال ضد الاحتلال. هذا وحده اي الحفاظ على هذا السياق في السجن والمحكمة من شأنه ان يعيد بناء الحركة الاسيرة بشكل موحد حول هدف يجمعها، ويشكل ايضا برأيي المتواضع رافعة وأساسا نضاليا حقيقيا لمواصلة الحوار الوطني الذي بدأ خارج السجن من وراء القضبان ايضا. هنالك وزن معنوي وسياسي هائل لحوار كهذا داخل السجن يغذي الحوار خارجه ويضطر القوى الى مواصلته حتى في مراحل الأزمات وهي مراحل لا تهز السجون وتكاد لا تصلها اذا جمعت السجناء قضية مشتركة.

*عضو البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن