تحليل -صديقين كنّا قديما- للشاعر محمد محمد السنباطي

البشير النحلي
lwarayni@live.fr

2011 / 12 / 20


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "تَهْدِمُ الْأَهْواءُ الْأَحْكامَ المُسْبَقَةَ أَكْثَر ممّا تَفْعَلُ الْفَلْسَفَة"DIDEROT


[يرجى قراءة القصيدة الملحقة بهذا التحليل أولا.]


مقدمة:
هذا تحليلٌ لقصيدة "صديقين كنّا قديما" الّتي سبق أن نُشرت في موقع "الأدب العربي". وهو تحليلٌ يقصد إلى تتبُّع منطق بناء المتكلم لعواطفه والاحتجاج لها بهدف جعل المتلقي يشاركه فيها ويتعاطف معه. وليس يخفى أنّ هدفاً مثل هذا يجعل التّحليل يندرج في سياق إعادة العواطف والأهواء إلى مجال الدّراسة البلاغيّة بعد أنْ أُهملت وتُرِكت لتخصّصات أخرى بعد أرسطو الّذي أفرد لها الكتاب الثّاني من "الخطابة"، وهو سياق عام فكري ونظري يُسهم في بنائه باحثون كُثْر بخلفيّات ثقافيّة متعدِّدة. ونودُّ، في هذه الأسطر التي نفتتح بها التّحليل، أنْ نشير إلى أن تتبّعنا لـ"منطق" اشتعال العواطف في هذا النص لا يعني أننا سَنَنْجَرُّ لاصطناع منظور أخلاقي أو نفساني أو طبّي أو غير ذلك مما يمكن أن يُصْطَنع لتناوُل العواطف والأهواء في أبعادها غير الخِطابية. ذلك أنّ منظورنا البلاغي يفرض علينا أن نَقْصِر وَكْدَنا على تتبُّع الكيفيَّة التي شغّل بها المتكلِّم وسائله الحجاجيّة لخدمة غرضه الإقناعي.
ونحن لا ننطلق من المسلّمة الضِّمنيّة لمجمل الفكر القديم والتّقليدي التي تعتبر الخطاب قناة قابلة لأن تنقل موضوعات العالم – أشياءه ووقائعه وأحداثه- المعطاة قبليّا بشكل تام ونهائي نقلا مطابقاً؛ بل إننا ننطلق، على النّقيض من ذلك، من كون الخطاب هو الّذي يبتني تلك الموضوعات باستعمال اللُّغة التي تُقَطِّع بها الثّقافة "متّصل" الوجود والعالم. وهذا بالضّبط ما يستتبع التّفريق -ونحن هنا نقتصر على ما يفيد هذا التّحليل- بين وجود تلك الموضوعات قبل التّخطيب وبعده. لهذا فإنّ ما نتحدثّ عنه في هذا التّحليل من "موضوعات" مقصورٌ على ما يصطلح عليه شارل سندرس بورس بـ "الموضوعات المباشرة"؛ أيْ أنّنا لا نتحدّث إلاّ عن صفات ومحمولات "الموضوعات الدّيناميّة" التي تنتقيها الذّات المتكلّمة من فضاءاتها الذّهنيّة –أطرها ومدوناتها- فَتُرتّبها وتبني بها خطابا خاصّا ضمن شروط مقاميّة محدّدة. ومن البيِّن أن محلِّل الخطاب لا يُعْنى، في النّهاية، بغير هذا الخطاب الخاصّ في تعالقه بتلك الفضاءات من ناحية أولى وبشروطه المقاميّة من النّاحيّة الأخرى. ولسوف نقصد، بخصوص عملنا هذا، إلى أن نتتبّع المنطق الدّاخلي لخطاب الشاعر بالتركيز على بعده الانفعالي - الحجاجي.
قراءة العنوان:
تتركَّبُ جملة العنوان من فعل ناسخ واسمه وخبره وظرف زمان منصوب. وعلى الرَّغم من أنّها جملة خبرية تامة، فإنّها، مع ذلك، تفتح أفقاً للتوقُّع وتحفِّز القارئ على التِّجوال الذّهني، ليس بسبب الظرف الّذي "يجاهر" بأن زمن الصّداقة زمن انتهى فحسب، بل بسبب تقديم الخبر على الفعل النّاسخ واسمه أيضا. فهذا التقديم يُبَئِّر علاقة الصّداقة التي جمعت في الماضي بين المتكلّم وشخص ما. لذا فجملة "صديقين كنّا قديما" تُضْمِر مفهوميّاً أن زمن الصّداقة الجميل مضى وانقضى. لماذا؟ أ لموت الصّديق؟ لا بالقطع. إذْ لو مات لما احتاج المتكلّمُ إلى أن يُقدّم الخبرَ على الفعل النّاسخ ولا أن يستعمل الظّرفَ الّذي يدلّ على انقضاء زمن الصَّداقة: فالوفاء للصّديق لا يفنى بفواته. لماذا يعلن العنوان انقضاء زمن الصّداقة إذن؟ لا يمكن أن نعرف من خلاله؛ فهو مفتوح. والاحتمالاتُ كثيرة.
والصَّدَاقة المُخالّة؛ وهي، كما نجد ذلك في المعاجم العربيّة، مشتقّة من الصِّدق في المودّة والنّصيحة. ومن أَجَلِّ ما توجبُه الثّقافة على مَن يصحُّ القولُ بصدقه في المودّة والنّصيحة ثلاث خِلال هي كتمان السِّرّ والمواساة عند الشّدّة وإقالة العثرة.1 وهذه صفاتٌ توجِّه إلى العناية بمن يُصادَقُ فرديّاً. لهذا نغضب من الأصدقاء أكثر مما نغضب من غيرهم، لأنّنا لا ننتظر أن يأتينا منهم غير الجميل من القول والفعل؛2 ولهذا، أيضاً، تكون المفاعيل النّفسيّة للأذيّة التي يُلحقها بنا الأصدقاء فادحة.
لا بدّ، إذن، أنْ يكون إعلان فكّ الارتباط إيذاناً ببدء الحرب. وبين الحبّ والحرْب حَرْفٌ دقيق ينقل علاقات الصراع بين الناس بالإثبات من الخفاء إلى الجلاء، وبالإسقاط من الجلاء إلى الخفاء وفق المقام. إعلان الحرب: هذا بالضّبط ما تجهر به فاتحة هذه القصيدة الّتي تعجّ بصيَّغ أسلوبيّة تدلّ على غضبٍ شديد من أقوال وأفعال المخاطَب، "ذاك الذي كان في القديم صديقاً".
لكن ما هذه الأقوال والأفعال المشينة المقترفة من"ذاك الذي كان صديقاً"؟
لا تفصيل لذلك في هذه الفاتحة. لذا لا نعرف من خلالها أسباب فكِّ الإرتباط بالصّديق القديم. شيءٌ واحدٌ نعرفه من أسطرها المعجونة بالانفعال الّذي تُظهره الدّلالات المستلزمة التي سنوضّحها في حينه: ذاتُ المتكلّم صارت، نتيجةَ حدثٍ ما له علاقة بالصّديق، عاصفةً من الغضب. وهذا بالضّبط ما يفسِّر إعلان انتهاء زمن الصّداقة في عنوان القصيدة نفسه.
ما اّلذي ولّد لدى الذّات المتكلِّمة هذه العاطفة العاصفة من الغضب؟
الزمن الواقعي:
لِنحاول المضيّ في القراءة والتقاط ما يقدمه الخطاب من تفاصيل "الزّمن الواقعي".
والزّمن "الواقعي" كالماء لا يصحّ لقابض؛ إذْ أنّه لا يظهر إلاّ من خلال تجليه الخَطابي. وهو متشابك معقّد لا سبيل إلى فرْز سابقه عن لاحقه. ففي الشّعر تختلط الأبعاد الزمنيّة على نحو ما تختلط في الحلم. وهذا يصدق حتّى في الشّعر الذي يخضع أكثر للتّخطيط الواعي كما هو الشّأن في هذه القصيدة. ومع ذلك فإنّ بالإمكان التّمييز بين زمنين كل منهما قابلٌ هو نفسه بأن يتضمّن لحظات متمايزة: زمن الحـــ(ر)ب، وزمن الحرب.
زمن الحـــ(ر)ب:
نَضَع حرْف الرّاء على هذا النّحو الذي يقع فيه بين قوسين متوسِّطاً كلمة "حب" للدّلالة على أن علاقات الحبّ الّتي تجمع بين النّاس وتتنوّع إلى صداقة وأخوة وأبوّة وغير ذلك لم تكن أبداً -ولا يمكن أن تكون- علاقات يطبعها التآلف الكامل والانسجام التّام. ذلك أنّ التّعارضات المختلفة الّتي لا بدّ أن تتأسّس عليها هذه العلاقات تنتج بالضّرورة مسارات صراعيّة هي ما يشكّل في العمق ملامحها الدّيناميّة. بعبارة أخصر: إنّ العلاقات البيذاتيّة هي علاقات قوى وسلط، على أن نفهم السّلطة هنا بمعناها الميكروفزيائي. ونحن هنا لا نحتاج إلى التّمثيل؛ فما ورد في تراثنا الثّقافي من المواقف التي تُنْكِر إمكان نشوء الصّداقة أصلا بالاستناد إلى ما يشوب تجارب الأصدقاء من عناصر صراعية هو مما نعدّ منه ولا نعدّده.
"زمن الحـــ(ر)ب" إذن، عنوانٌ وضعناه لمناقشة الصّداقة الّتي جمعت الذّات المتكلّمة بالذّات المخاطّبة في فترة ما قبل إعلان القطيعة. وفرضيّتنا هنا أن تلك الفترة كانت فترة لحرب خفيّة باردة، تنامت مع الزّمن إلى أن حصل التحوّل النّوعي مع إعلان القطيعة وإشهار الحرب. زمن الصّداقة هذا قابلٌ هو نفسه لأن ينقسم إلى مرحلتين تبعا لـ"حدّة" الصّراع بين الصّديقين: زمن الصفاء، وزمن التوتّر.
◘ زمن الصّفاء زمن وجيز مختصر في فترة الصّبا والطّفولة. تلك الفترة القديمة الّتي استحضرها "الصّديقان" اللّذوذان في جوٍّ متوتّر، والتقطتها الذّات المتكلّمة من خلال أربعة أسطر سرد-وصفيّة استرجاعية شديدة الوجازة، ولغة إيحائية مضمّخة ببخور الحنين والذكرى. ومن اللافت أنّ الصّداقة لا تُذكر في ما خلا العنوان إلا في هذه الأسطر، وبالضّبط في السّطر 33. وقد وردت في جملة لها نفس بنية جملة العنوان: فعل ناسخ واسمه وخبره وظرف زمان منصوب. إلاّ أنّ بينهما فارقاً أساسيّاً: فالجملة هنا جاءت بصيغة المخاطب؛ مما يوحي بأنّها جاءت في سياق تذكير هذا المخاطَب بتلك الفترة الجميلة. فهل يعني هذا أنّ الصّداقة مرتبطة بفترة الطّفولة؟ وأهمّ من هذا: أ يمكن اعتبار صداقة الصّبا والطّفولة صداقة صفاء لا تشوبه شائبة؟ ما تقوله الذّات المتكلّمة يدفع للشّك في الأمر. فجملة "كنت قديماً صديقي" الّتي وردت في السّطر 33 اعتراضيّة وبصيغة المخاطب تدلّ على أنّ الذّات المتكلّمة وحدها تعطي لتلك الفترة قيمة مميّزة في حين أنّ المخاطَب لم يشارك الذّات المتكلّمة إلا في ما هو عام: "لما ذكرنا الصّبا والطّفولة..". لذا فإن الذّات المتكلّمة بمجرّد ما تصف الجو النّفسي للحظة التّذكّر بالبراءة تسارع إلى التّفسير بأنّ الأمر يتعلّق بالأحرى بالسّذاجة. سذاجة من؟ سذاجة المتحاورين معاً؟ لا، بدون شكّ. إنّها سذاجة الذّات المتكلّمة صاحبة القلب الطيّب التي حسبت لحظات الألفة والأنس قمينة بأن تجعل الطّريق سالكة لتحقيق ما ترتجيه..وإلا فإنّ الذّات المخاطَبة لم تكن أبداً سائرة في الطّريق الذي يمكِّنها من أن تبتني علاقة صداقة مع غيرها، وهو ما يمكن أن نستدل عليه بقرائن منتشرة في النص على ما سنرى في الفقرة الموالية.
◘ زمن التّوتر وهو زمن ممتد؛ وفيه "للصديقين" مساران متعارضان وحسابات متضاربة.
لم تنقطع العلاقة بين الذّات المتكلّمة والذّات المخاطَبة في ما بعد مرحلة والطّفولة. نعم، هناك مرحلة طويلة لا نعرف عنها الكثير. لكنّنا نعرف، على الأقلّ، من خلال الخطاب المنقول في السطر 27 - الّذي تحكي فيه الذّات المخاطّبة بتقنيّة تلخيص الزّمن محاولاتها الكثيرة وغير المجديّة جعل الذّات المتكلّمة تأخذ بأسباب الثّراء- أنّ العلاقة بين صديقي الطّفولة استمرت ولم تتوقف؛ ونعرف أيضاً من خلال هذا الخطاب أنّ كلاّ من الصّديقين اختار مسارا حياتيّا مختلفا، بل معارضاً لمسار الآخر:
مسار الذّات المتكلّمة: سلكتْ هذه الذّات سبيل التوسّط والاعتدال، فهي لمْ تشأ أنْ تجعل وَكْدَها الجري وراء جمع المال، لا لفتورٍ وعجز، بل لاختيارها خُلُق القناعة و"الإحجام" عن سلوك طريق "الخير" بعبارة صديقها في الطّفولة. وقد كان لهذا الاختيّار المبدئيّ آثارٌ تمثّلت في اتّصاف هذه الذّات بالصّفات المقبولة اجتماعيّا. من هنا نفهم حرصها الشديد على الصّدق وسعيها المتكرّر لتقويم الصّديق بالنّصيحة والنّقد. ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ ما وتّر العلاقة الجامعة بين الذّاتين المتكلّمة والمخاطَبة يؤولُ إلى محاولات الأولى المتكرِّرة إقناع الثانية بضرورة ترك الكذب والمكر والحيلة والغشّ وغير ذلك مما ينعته الإمام الغزالي بـ"أخلاق الشياطين". وإذا كنا قد قلنا أعلاه بأنّ الثّقافة توجِّه إلى العناية بمن يُصادَقُ فرديّاً فتحثّ الصّديقَ على مواساة صديقه وإقالة عثراته، فإنّنا نُسجّل هنا أنّ الذّات المتكلّمة لم تقصد في المرات التي حصل فيها ذلك – ولا ندري عددها- الذات المخاطبة لغرض شخصيّ، بل قصدتها دائماً في مصلحة عامّة. وقد جاءت المرّة الأخيرة في إطار مساعيها الحميدة لتقديم العون لبعض الجيران، ليس لأجل أنْ يعاملوا معاملة خاصّة، بل لرفع ظلم شديد وقع عليهم. لهذا فغضب الذّات المتكلّمة لا بدّ أن يكون شديداً ومحموداً.
مسار الذّات المخاطَبة: اختارت هذه الذّات أن تتّبع الهوى بمعناه السلبيّ. فكان أنْ جعلت كَنْزَ المال شغلَها الشاغل، فعُجِّل لها نصيبُها في الدّنيا فعاشت في رُفَهْنِية ورَفاغِية: تشغل مناصب متعدّدة، وتوثر أقرباءها وترخي العنان لأبنائها العابثين. وقد كان من آثار هذه الحال أنْ أصابها ادعاءٌ وشحٌّ ورياءٌ وعُجْب، وهي صفات الواحدة منها مهلكة، فكيف بها وهي مجتمعة متآلفة؟
◄الادعاء: ويظهر في تمدُّحها بما ليس عندها ابتهاراً وكذبا وصلفا. فـ"ربيع الكلام" و"نهر الكلام" ليس إلا الوجه الظّاهر للهراء والقبح، بل للخراب الّذي تسبّبت فيه هذه الذّات نفسها. هذا بالضّبط ما تؤكده الصّورة التي تستحضرها الذّات المتكلّمة في السّطر 10 على سبيل التّشبيه: فربيع الكلام أو نهر الكلام أو الشّدو –لا فرق في هذا السّياق- ما هو في واقع الأمر سوى نغيق الغراب فوق تلّ الخراب. وهنا لا بد من التنبيه إلى أنّ هذا الأساس الدّلالي هو ما استدعى كلمة "شدو" وليس وزن المتقارب الّذي بُنِيَت عليه القصيدة كما قد يُظنّ.
◄الشُّحُّ وما يدلّ عليه في النّصّ يمكن إيجازه فيما يلي: رغم ما كنزته الّذات المخاطَبة من أموال وما حقّقته من سعة عيش، ورغم المرّات التي - قلنا إنّنا لا نعرف عددها- التقتها فيه الذّات المتكلّمة فإن هذه الأخيرة تقول إنّها لم تتمكّن من افتراع "بكارة كأس" الذّات المخاطَبة إلاّ في لحظة الزّيّارة الأخيرة والنّهائيّة. وهو ما يدلّ على بخل مع حِرْصٍ شديد، لا يسعنا معه إلاّ التّساؤل عمّا إذا لم تكن تلك الرّشفة الوحيدة واليتيمة هي سبب القطيعة!. على أنّ شحّ الذّات المخاطّبة ليس مقصورا على المال، بل إنّه يمتدّ ليصل إلى حدود منعها من التّدخّل لرفع الظّلم بحجة أنّها قامت بكل ما يمكن أن تقوم به في الماضي عندما كانت تلحّ على "صديق الطّفولة" لسلوك طريق الخير حتى يتولّى أمر مطالبه بنفسه!
◄الرّياء ويدلّ عليه قناع الذّات المخاطّبة السّميك المسبوك من "ربيع الكلام"، ويدل عليه، أيضا، حرصُ هذه الذّات على الظّهور بما تعتقد أنّه سيجلب لها الجاه والمثالة بين النّاس، كما هو الشأن عند تقديرها أنّ عليها أنْ تُخَلِّل أصابعها بحبّات المسبحة أثناء لقاء "صديق" الطّفولة، وهو ما يسجِّله السطر 28 الذي يبرز قيامها وعودتها وبين أصابعها تلك المسبحة ذات اللّون العندم.
◄العُجْب: تنظر الذّات المخاطَبة إلى نفسها بعين العزّة والاستعظام فـ" عينها واسعة" ونبرة الصوت "زاد فيها التّعالي"؛ وهي تخاطب صديق الطّفولة بما يدلّ ظاهره أنّها كانت تودّ أن يكون في وضع أفضل كما هو الشأن في السطرين 27و 32 اللذين تذَكِّره فيهما بأنها حثَّته على تحسين وضعه فيما هي تذكِّره مفهوميّا بوضعها هي وبأهميّتها وبحاجته إليها. هنا يظهر الوجه الثاني للعُجْب المتمثل في نظرها الى "صديق" الطّفولة بعين الازدراء حين تشعره ببؤس ثيابه؛ وحين تنذره وتأمره بـ"أن يبلع صوته"، بل وتطرده في الختام بكثير من الوقاحة.

◘ زمنُ الحرب: هو زمن يثبت راءً ناقمة بين حرفين ودودين: حب. ويبتدئ بطرد الذات المخاطَبة لـ"صديق" طفولتها، ولا ينتهي. فهو زمن مفتوح على كل الاحتمالات. فبتحرُّر هذه الذّات من هذا الخيط الرّقيق المتمثّل في "صديق الطّفولة" الّذي كان يربطها بالقيم الإنسانيّة النّبيلة ينفتح المجال أمامها وسيعا لِتُعَمِّمَ تسلُّطَها على الكلّ: فالبسطاء كلهم يرجمون ولا يرحمون، حتّى إنْ كانوا بصفات الذّات المتكلّمة "صديق الطفولة" الأقرب للشّخصيّة الصّوفيّة الزّاهدة. بهذا تكون هذه الذّات الّتي استولى عليها الجشع والطّمع فصارت عمياء لا ترى وصماء لا تسمع قد أشهرت الحرب على الشّعب جهارا نهارا؛ ولن ينفكّ هذا الشّعب إلاّ بعاطفة عاصفة. ونحن إذْ نقول هذا إنّما نقوله على خلفية ما ألمحنا إليه أعلاه من أنّ لجوءَ الذّات المتكلّمة إلى صديقها في الطّفولة لم يكن لحاجة خاصّة، بل لحاجات عامّة تخصّ أولئك الّذين اتّهمها ذلك الصّديق بأنّها "تحرضهم" . هكذا تجد الذّات المتكلّمة نفسها في عين الوضعيّة الّتي كان فيها الشّاعر القديم الّذي انفجر شاكياً باكياً:
وإخوانٍ حســــــبتهم دروعا فــــــــــــكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صـــــــائبات فـــــــــكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قـد صفت منّا قلوب لقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالو قد ســـــعينا كل سعي لقد صـــــدقوا ولكن في فساد3
وحين يكون سعي بعض النّاس في الفساد شاملا وجادّا، ويكون، فوق ذلك، مصاحباً باعتقادهم بقدراتهم غير المحدودة على تطويع الكلّ وفقاً لأهوائهم المرضيّة، ثم يبادرون بإشهار الحرب، فإن من المحمود، بل من الواجب أنْ يغضب النّاس جميعهم، وأن يكون غضبهم شديداً عاصفاً.
والغضبُ يقول الشَريف الجرجاني "تغيّر يحصل عند غليان دم القلب، ليحصل عنه التّشفي للصدر"،4 وهو عاطفة يزدوج فيها الألم بالرّغبة في الانتقام؛ 5 ذلك أنّ الغاضب يريد أن يُذيق المغضوب عليه من كأس المعاناة نفسها التي تجرّعها هو، ويريد أن يَعْرِف المغضوبُ عليه ذلك و أن يُحِسَّه إذا استمددنا من كتاب "الخطابة" مرة أخرى واقتصرنا على ما يهمّنا. 6 هذا بالضّبط ما تعيد دلائليّات الأهواء صوغه في ما تصطلح عليه بالبرنامج الحكائي لهوى الغضب:
الحرمان ◄ الاستياء ◄ العدوانيّة.
لكن، كيف يمكن الحديث عن عدوانيّة الذّات المتكلّمة ورغبتها في الانتقام من "صديق الطّفولة" المغضوب عليه؟! أين تتجلّى رغبة تلك الذّات في أنْ تذيق المغضوب عليه من كأس المعاناة نفسها التي تجرّعتها هي، بل كيف يمكن الزّعم أنّها تريد من ذاك الذي كان "صديقا" أن يَعْرِف أنها تسعى إلى أن يعاني و أن يُحِسَّ بما أحسّت به وهي الّتي يّقدّمها النّصّ مثالا لحفظ العهد ومثالا للسمو والنبل؟! تتطلّب الإجابة معرفة بقية الحكاية غير المكتوبة والانتقال من مستوى ما سمّيناه بـ"الزّمن الواقعي" الّذي حاولنا أنْ نلتقط بعض عناصره على نحو ما يقدّمها النّصّ إلى "زمن التّخطيب" الّذي يتمثّل في تلك اللّحظة الّتي قرّرت فيها الذّات المتكلّمة المستاءة السّاخطة جراء الطّرد الّذي تعرّضت له من قبل "الصّديق" أخذ القلم لنشر مثالب ذلك الصّديق وكشف حقارته ووقاحته. وها هنا لا بدّ أنْ ننتقل من الحديث عن الذّات المتكلّمة والذّات المخاطّبة إلى الحديث عن الشّاعر وخطاب الشّاعر.
التّخْطيب:
مَنْ يمتلك الكلام –يقول رولان بارط- يمتلك السّلطة، ومن يمتلك السّلطة يمتلك الكلام. وإذا كان صديق طفولة الشّاعر هو من امتلك، قبل القطيعة، أمر الكلام فاستعمله بثقةٍ لا تلعثم معها وبغزارةٍ لا حدود لها حتّى صار نهرا من الهراء ..، واستعمله لشلّ لسان الشّاعر حين فرض عليه أن يبلع صوته، واستعمله لطرده و"رجمه"، فإنّ الشّاعر هو الذي امتلك - بعدما تحرّر من عبء الوفاء لعهد الصّداقة- ناصيّة الكلام واستعمله لمحو ذاك الذي كان صديقا محواً رمزياً فادحاً من خلال:
◄ قرارُ الكتابة عنه وفضحه وإطلاع الناس على أنّ الخوف منه أولى من الأمل فيه، فالأذى يأتي من قبله ومن قبل أمثاله ممن هم على شاكلته. واستعمال ضمير المخاطَب ليس دليلا على استمرار الشّاعر في محاورته ومفاوضته؛ ذلك أنّ المخاطَب الفعليّ هو القارئ. أمّا مخاطبته هو فهي تقنيّة حجاجيّة الغرض منها إكساب خطاب الشّاعر مصداقيّة الخطاب الذي يُقِرُّ من يتمحور على سلوكه وأفعاله بـ"المنسوب إليه": فالشّاعر لا يخبر القارئ إلاّ بما لا يستطيع "صديق الطفولة" نفسه نفيه وإنكاره.
◄ رد الصّاع صاعين في ما يتعلّق بالإسكات. فإذا كان "صديق الطّفولة" قد أجاز لنفسه أنْ يأمر الشّاعر بـ"بلع صوته"، فإنّ الشّاعر يفرِّغ صوت "ذاك الذي كان صديقاً" من كلّ دلالة، فيصير شكليّا لا قيمة له إلا ما يرتبط بغرض الشّاعر الإقناعي شأنه شأن استعمال ضمير المخاطب. فإذا كان كلامه الّذي يستحضره الشّاعر يوحي بحضور واقعي صارخ لذات تجادل وتحاور فإنّ تأمّل ذلك الكلام يبيّن أنّه جمل مجتزأة محاصرة بمزدوجات الشّاعر، بل وموجّهة لدلالات تخدم مقاصده. لنتأمّل على سبيل التمثيل: في السّطر 18 يقول الشّاعر إن "صديق طفولته" يتّهمه بتحريض النّاس عليه. وقد وردت الجملة بين مزدوجتين بما يوحي أنها خطاب منقول، إلا أنّها وردت على هذا النّحو:"أحرِّضهم". وهو ما يبيّن أنّ ذات الشّاعر تسلّلت إلى ملفوظ "صديق الطّفولة" وتبنّته. لماذا يفعل الشّاعر ذلك؟ يفعله لأنّ المقصد أن يقنع القارئ بأنه فعلا يحرِّض النّاس. هذا بالضّبط ما يفسّر الجملة السّابقة عليها في نفس السّطر:" والذي لا سكوت عليه". هكذا يصير ما كان يبدو خطابا لـ"صديق الطّفولة" خطابا للشّاعر: أحرّضهم لأن ما تفعله لا يحتمل. وبالطّبع فإنّ قبائحه التي لا تحتمل كثيرة، أشينها أنْ لا يكفّ إساءاته حتى عن الصديق..وهذا ما سنتناوله في النّقطة المواليّة.
◄ التّشديد على بشاعة قبائحه بإبراز أنّها تمسّ حتّى الأصدقاء. فإذا كان هذا "الذي كان صديقا" للشّاعر لا يدع الادّعاء والشّح والرّيّاء والعُجْب والتّسلط حتّى في علاقته بصديق طفولته، فلنا أن نتصوّر كيف سيكون تعامله مع من يعرفهم من غير أقربائه، ومع من لا يعرفهم، ثم مع أعدائه. إنّ التّعامل مع الأصدقاء على هذا النّحو هو، لا شكّ، أسفل الدّركات الّتي يمكن أنْ تبلغها الوضاعة الأخلاقيّة وسوء التّربيّة. فليس هناك ما هو أبعد ولا ما هو أشدّ عتامة من القعر الّذي انحطّ إليه هذا الضّارب في الخسّة والدّناءة.
◄ استعمالُ معجمٍ "هجائي" لا يخلو من إقذاع: حقارة وجهك/ القناع الثّقيل/ الهراء/ عين فرن/ التّعالي/ قلب الحقائق دون خجل/ الغراب فوق تلٍّ مهدّم.
◄ التّوظيف المكثّف لصيغ التّعجب والتّوبيخ والإنكار؛ فـفاتحة القصيدة:
تبتدئ باستفهامٍ قوّتُه الإنجازيّة المستلزمة هي تقرير عدم قدرة "الصّديق" السّابق على الإتيان بما هو أفظع من الأفعال وأشنع، ليس لبقيّةٍ مِنْ حِسٍّ إنساني، بل لأنّه بلغ أقصى ما يمكن أن يبلغه شخصٌ تسري منه الوضاعة الأخلاقية مسرى الدم: فليس هناك ما هو أقبح مما يقول ويفعل؛
وتُثَنّي وتثلِّثُ وتُرَبِّع باستفهامات قوّتها الإنجازيّة المستلزمة هي التّعجب والتّوبيخ مِنْ وعلى تصديقه لنفسه في الاستفهام الأوّل، لأن ما يقوله ليس مما هو قابل للتّصديق البتّة؛ ومِن وعلى اعتقاده بانسجام ما يقول ويفعل في الاستفهام الثّاني، ذلك أن الانفصال بين قوله وفعله هو بوضوح الشمس الّذي لا يُنْكَرُ ولا يُكْفَر، ومِن وعلى قَلْبِهِ للحقائق مِن دون خجل أو وجل؛
وتُخَمِّس - في السّطر الرّابع والأخير من الفاتحة- بالإنكار والتّعجّب من هذا الشّخص الّذي يتكلّم عن أفعاله المخزية بوقاحة صادمة؛ والتعجُّب، يقول البلاغيون، انفعال حدث في نفس المتكلم لخروج المتعجَّبِ منه عن نظرائه في الأفعال والأقوال..

◄ الاستثمار الواسع للاستعارات الفضائيّة (الاتجاهيّة) والأنطولوجيّة الرائجة في اللّغة وفي الثّقافة على نحو متضافر. ففي "وهل تستطيعُ الذّهاب لما هو أعتم؟" يُقَدَّمُ الخُلُقُ السّيّءُ في صورة كيان أسود يتفاوت لونه ويتدرّج وفقا للنّقاط التي يبلغها الشّخص في مسافة السّوء الشّاسعة، ويوضع "الصّديق" من تلك المسافة على طرفها الأقصى الّذي لا يبلغه إلاّ هو وأمثاله ممّن هم ضالعون في السّواد والسّوء؛ وفي "كلامك نبرته زاد فيها التّعالي"يُقَدَّمُ "التّعالي" -الّذي هو نفسه استعارة اتّجاهيّة تبيّن الحالة النّفسيّة الّتي يكون فيها الغنيّ المتكبّر حين يجعل النّاس تحته- في صورة كيان فيزيائي فاعل وقادر على أنْ يزيد في نبرة الصّوت؛ وفي ""وزادت حقارة وجهك تحت القناع الّذي يتبسّمْ" يصير للحقارة وجود فيزيائي متنام يقع تحت قناع "التظاهر"؛ وقِسْ على هذا عبارات من قبيل: "تواجهني بالحقائق مقلوبة دونما خجل منك"، و"تلك بلهنيةٌ تتحدّى مثيلاتها"، و"وأبلع صوتي"، و"تجري المناصب خلفكَ"، و"أنك ألقيت عينًا"، و"حسبت الطريق أماناً".
◄ ابتكارُ استعارات "بنيوية" بالغة الفعاليّة في ما يرتبط بمقصد الشّاعر الإقناعيّ. وسنكتفي هنا بالتّمثيل بتحليل نموذج يقاس عليه غيره.
يقول الشّاعر واصفاً: "وعينك واسعةٌ.... عين فرنٍ". وعندما نبحث في جذمور الموسوعة الثّقافية المتشابك عن السمات النّوعيّة المشتركة التي قد تجمع بين العين والفرن، فإنّنا سنجد أنّ العين لا يمكن أن تختصر في الجارحة الّتي بها نُبْصِر ونَنْظُر. وإذا جاز لنا أنْ نقتصر على ما يساعد على التّحليل، فإنذ علينا ألاّ نغفل أنّ العين ترتبط بـ 1) الاتّساع؛ 2) والاحمرا ر؛ 3) والشّرّ.
1) الاتّساع: ومنه ما يقال عن الرجل بأنه أعْيَنُ بمعنى واسع العَيْنِ، ويقال للثّور الوحشي الأعْيَنُ. ومما ينتج عن الاتّساع القدرة على الإحاطة والشّمول، وهو ما يمكن أن نربط به المثل العربي ""عَينٌ بها كلُّ داء" للكثير العيوب..
2) الاحمرا ر: وصف الشّعراء عين الدّيك والبازي بالحمرة. فهذا ذو الرمة يشبّه سَقط النار بعين الدّيك، يقول:
" وسقط كعين الديك عاورت صحبتي إياها وهيأنا لموضعها وكرا"؛
وهذا أبو نواس يصف عين البازي الهائج بالعقيق الأحمر:
"كأن عينيه إذا ما أثأرا فصان قيضا من عقيق أحمرا"
يرشدنا الأطبّاء من جهتهم إلى أنّ العين تصاب في حالات كثيرة إصابات بكتيريّة أو فيروسيّة فتلتهب وتتهيّج فتصير بلون العقيق وسقط النّار..ونحن نضيف أنّها تكون كذلك حتّى عندما تكون البكتيريا أو الفيروس من نوع أخلاقي كأنْ يكون جشعاً وطمعاً وحقداً أصيلاً متمكّناً متناسلاً. هكذا نجد أنفسنا في "عين" الشّرّ.
3) الشّر: عين الشّرّ في السّحر حمراء. وفي المعاجم: تقول: عِنتُ الرجلَ، إذا أصبته بعينك، فهو معيونٌ. ورجل عَيونٌ ومِعْيانٌ: خبيث العين. وتَعَيَّنَ الرَّجُلُ: تَشَوَّهَ، وتأنَّى ليُصيبَ شيئاً بعَيْنِهِ. حتى في الأديان العين حقٌ، و"عقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه".7 نضيف: أضرار العين يمكن أن تكمن أيضا في نوع النّظرة التي نلقيها على النّاس وعلى الأشياء؛ فحواء نظرت للشّجرة بعين الشيطان فأوقعت آدم ومعه الجنس البشري كله في المحنة والأسر.. كما يمكن أن تكمن في العين نفسها حين تَخْتَصر مَنْ يُوكل إليه إحصاء أنفاس الناس..
إذا كانت العين توصف بـالاتّساع؛ والاحمرا ر؛ وتقرن بالشّر، فما علاقة ذلك بالفرن؟
أشرنا سابقا إلى أن الفُرْنَ شيء يُخْتَبَز فيه واتّساعه يتفاوت. لكنّ اتّساع أصغر الأفران بَيِّنٌ ليس مما يمكن أن يقاس بالخبز الغليظ الذي يخبز فيه اتساعُ أكبر العيون ولو كانت لثور وحشي ثائر أعين!! وقد يكبر الفرن ويتّسع ليصير جحيماً حقيقيّاً، كما هو الشّأن بالنّسبة للأفران التي جعلت بعض الأنظمة وقودها من النّاس. محتوى الأفران نيران تأكل الحطب أو الناس وتأكل بعضها بعضا. ومع ذلك فإنّ سقط النّار يمكن أن يشبّه ببعض العيون، كعيون الفُرنيّ الذي يشعله سُعار الجشع والطمع.
بهذا يمكننا أنْ نقول إنّ هناك فضاء ذهنيّا أوليّاً نوعيّاً تُسْنَد في إطاره صفات الاتّساع والاحمرار والقدرة على إلحاق الأذى إلى كلٍّ من العين والفرن .
من هذا الفضاء الأولي سيشتقُّ الشّاعر فضاءين اثنين: فضاء المشبّه، ويشمل سمات عين "صديق طفولته"، وفضاء المشبّه به ويشمل سمات الفرن:
فضاء المشبه (عين "صديق الطفولة"): عين "صديق الطفولة" واسعة لا ترفّ حتّى عندما يسيل لسانه بالهراء والكذب، وهي واسعة لرغبته الشيطانيّة في امتلاك كل شيء، مالا ومناصب، وهي واسعة لأنّها تختصره من جهتين: فهو عينٌ لأنّه يتجسّس وإلا كيف عرف أن الشّاعر كان يحرّض عليه النّاس كما قال له ذات لقاء عاصف؟ وهو ""عَينٌ بها كلُّ داء" لادعائه وشحه وريائه وعُجْبه ..
وعين "صديق الطفولة" حمراء شريرة لا لأنّها تشبه عين الدّيك أو البازي الّذي يريد الثأر، بل لأنّها عين غراب يجلب الشّؤم والخراب أينما حطّ، ولأنّها مصابة بداء الجشع الشيطانيّ الّذي يجعلها ترغب في الاستيلاء على كل ما تقع عليه، ولأنّها أخيرا صارت مثل عين ثور وحشيٍّ هائج حين صرخ حاملها في وجه الشّاعر: أخرج فمثلك يرجم.
فضاء المشبّه به (الفرن): سيحتفظ في خطاب الشّاعر بصفاته العامّة المستمدّة من الفضاء النّوعيّ، وذلك لأنّه هو المشبّه به، والمفروض في المشبّه به أنْ يكون النّموذجَ والشّاهد الأمثل.
اشتقاق الشّاعر لهذين الفضاءين من الفضاء النّوعيّ الأوّل هو نوع من التّحيين والوضع في سياق خاص. والجمع بين هذين الفضاءين سينتج فضاءاً ذهنيّاً جديداً معقداً وغنياً يتضمّن صفات هذا الكيان الهجين غير المعهود: عين فرن. وهو كيان بصفات ووظائف العين، وبصفات ووظائف الفرن. إنّه عينٌ- فرنٌ، أو فرنٌ- عينٌ قادر على الرّؤية وتحديد مواقع "الوقود" من الناس والحطب والحديد والحجارة..فهل هناك جحيم أشدّ وأفضع؟
◄ تمديدُ الأسطر الشّعرية لدرجة تجاوز السّطر37 مثلا لمساحة الصّفحة، وهو ما يمكن أنْ نفهم منه أنّ الشّاعر، الّذي كان قبل القطيعة ذاتا منفعلة يتأمل ويلاحظ ولا يتكلّم إلاّ حين "يتجرّأ"، صار أثناء كتابة القصيدة هو من يمتلك ناصيّة الكلام. وتوالي تفعيلة المتقارب على هذا النّحو المترادف هو بمعنى ما رجم لهذا الرجل ذي العين- الفرن الذي شاء الشاعر أن يكون آخر دواء يقدِّمه له هو المحو الرمزي بكلِّ ما للكلمة من دلالات.
على سبيل الختم:
مرَّ التّحليل بلحظتين أساسيتين: لحظة أولى حاولنا من خلالها التقاط بعض ما يقدمه النّصّ من ملامح ما اصطلحنا عليه بـ"الزّمن الواقعي"؛ ولحظة ثانيّة عملنا أثناءها على استجلاء بعض إجراءات التّخطيب التي أعملها الشاعر. على أنّنا لم نتوزّع بين هاتين اللّحظتين ولم نُفَرِّق بينهما تفريقاً حاسماً. وما ساعدنا على لحمهما هو الزّاوية الّتي نظرنا من خلالها لكلّ المسائل الّتي عالجناها في أثنائهما، وهي زاوية البلاغة التي اصطنعناها لتتبُّع منطق بناء المتكلم لعواطفه والاحتجاج لها بقصد حمل المتلقي على مشاركته موقفَه من "صديق طفولته". وإذا كنّا لم نفصِّل في الخلفيّات النّظريّة والمنهاجيّة الّتي تقوم وراء هذا التّحليل لأنّ ذلك محوجٌ إلى تطويلٍ قد لا يناسب المقام ولا الغرض، فإنّ المعوّل في ذلك على القارئ الّذي نرجو ألاّ ينسى حاجة كلّ خطاب وكلّ نصّ لتفاعله الذّهني المعرفي اليقظ.

المراجع:
1 - جلال الدين السيوطي: الشهاب الثاقب في ذم الخليل والصاحب، تحقيق عبد الله بدران، دار الجيل، بيروت، 1982، ص.87ـ 88.
2 - Aristote: Rhétorique, Tr. Michel Magnien, Librairie Générale Française, 1991, P. 189.
3 - نفسه، ص. 71.
4 - الشريف الجرجاني (علي بن محمد): كتاب التعريفات، تحقيق وزيادة محمد عبد الرحمان المرعشلي، دار النفائس، بيروت، ط. 2، 2007، ص. 240.
5 - Aristote: Rhétorique, op.cit., P. 184.
6 - Aristote: Rhétorique, op.cit, 1991, P. 2O1-2O2.
7- ابن القيم الجـوزية: الطب النبـوي، راجعه عبد الغني عبد الخالق، طبعة 1410ﻫ ، دار الكتب العلمية، ص. 173.


ملحق:

صديقين كنا قديماً
كتب بواسطة محمد محمد السنباطي
وهل تستطيعُ الذهاب لما هو أعتم؟
وكيف تصدقُ قولك؟ كيف ترى الأمرَ منسجماً لا غرابة فيه؟
وكيف تواجهني بالحقائق مقلوبة دونما خجل منك؟
هأنت ذا تتكلم لا تتلعثم!

وأرقب أبهةَ العيش، تلك بلهنيةٌ تتحدى مثيلاتها
وأبصُّ لوجهكَ، عينك واسعةٌ، وكلامك نبرته زاد فيها التعالي
إذنْ أنت صدقت قولكَ، ما عدت تنكرهُ
صار هذا الهراءُ ربيعَ الكلام، وعينك واسعةٌ.... عين فرنٍ،
ووجهك هذا؟ ملامحه هذه؟ فوق نهر الكلام تعابيرها....
[ وتخيلت شدو الغراب على تل بيت مهدم! ]

وساءلت نفسي أذلك من كان؟ كيف يكون فلانٌ فلانين؟
كيف يطيق القناع الثقيل، ويحجب عن بشرة الوجه لون السماء وعطر الوجود المنغم؟

أراك تؤنبني...
فأنا " أتخيل ما لا وجود لهُ"
هكذا قلتَ
بل و"أحذر من خطر لن يكون"
"وأخشى على الناس ممن يداوي جراحاتهم"
والذي لا سكوت عليهِ : "أحرضهم!"
ثم أنذرتني أن أكف وأبلع صوتي ولا أتكلم

وهأنت ذا صامتٌ يتكلم تاريخك المتعاجبُ
هأنذا أتأمل فيما وصلتَ إليهِ:
لقد زاد مالكَ، تجري المناصب خلفكَ، زادت مشاريع أبنائك العابثين،
وزادت حقارة وجهك تحت القناع الذي يتبسمْ!

ولما وصلتُ إليك لتفعل شيئا لبعض المعارف [ أعني لجاري الذي يتضور ظلماً، وأعني لجارتيَ التي اغتصبوها كما هددوها] ،
وبعد ارتشافي بكارة كأسكَ قلتَ:
"نصحتك دهرًا طويلا لتصبح شيئًا مهمًا فأحجمتَ....."
[قام وعاد وبين الأصابع مسبحة لون عندمْ

وأرقب مهبط لحظكَ
لا بد أنك ألقيت عينًا على البائسات ثيابي، وإن كنتُ والحمد لله يا سيدي غير معدمْ
وغمغم:
"دعوتك ( للخير) لكن خطوك لم يتقدم!!"

ولما ذكرنا الصبا والطفولة- كنت قديمًا صديقي- ورفرف طير البراءة-أعني السذاجة-
حول المكان، وأشعل في القلب عود بخور،
وطارت حمامات عهد أليفٍ إلى عشها المتخفي وراء الليالي-
حسبت الطريق أماناً وأن الذي أرتجيه سيحسم

سألتكَ-حقا تجرأتُ- نزعَ القناع عن الوجه حتى يرى النور- ما أبشع الصوتَ، صحتَ بيَ: " اخرج فمثلك يُرجم"!!

سأخرجُ لكنني أتساءلُ:
هل تستطيع الذهاب لما هو أعتم؟!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن