المسكوت عنه في جدل الإسلاميين والليبراليين

علاء النادي

2011 / 12 / 8



لم تنقطع سجالات وحوارات الإسلاميين والليبراليين منذ عقود، ورغم كل هذه الجولات من الجدل لم يتفق المعسكران على توافق حول مسائل مركزية، وفي مقدمتها مفهوم الديمقراطية والتعددية السياسية وتداول السلطة.
ورغم أن هناك إشكاليات أخرى عالقة بين الجانبين، إلا أن هذه المعضلة أخذت في التفاقم مع مستجدات الحراك السياسي الذي أعقب ثورات الربيع العربي، والذي دفع بالإسلاميين في أكثر من بلد عربي إلى صدارة المشهد السياسي.
يصر الإسلاميون على اختلاف أطيافهم على أنهم يؤمنون بالديمقراطية ويقرون بالتعددية، لا فرق في ذلك بين السلفيين والإخوان، ويذهبون إلى أنهم لا يعارضون في النزول عند مقتضيات التعددية وتداول السلطة.
يبدو - وفق هذا الجزء الظاهر والمكثف من الخطاب - أن لا إشكالية، فتلك المفردات تؤمِّن الحضور للأحزاب والتيارات الليبرالية واليسارية، وحقها في التنافس السياسي والتداول على السلطة.
ثمة طبقة أخرى في خطاب الإسلاميين تقول بأن تلك الديمقراطية لا يجب أن تتعارض مع الشريعة، وأنهم لا يخافون تداعياتها السياسية لهذا السبب، فهي مسقوفة وغير مفتوحة على كل الاحتمالات كنظيرتها الغربية.
يجادل الإسلاميون أيضًا بأن مظاهر خصوصية المنجز الديمقراطي في بلدان العالم العربي والإسلامي تتجلى في أن كل الأحزاب الليبرالية عندما يناقشها الإسلاميون في الموقف من الشريعة لا يبدى أحدها اعتراضًا. بمثل هذا تكلم المتحدث باسم حزب النور السلفي في مصر مؤخرًا في إحدى الفضائيات. وهنا تبرز التباينات وتتضح الفروق وتظهر المراوغة في الخطاب السياسي من كلا الجانبين.
فالإسلاميون لا يقدمون رؤية قاطعة حول موقف الأحزاب العلمانية بكل أطيافها وفي مقدمتها الأحزاب الليبرالية التي لا تتفق معهم في القبول بفهمهم لتحكيم الشريعة، ولأن التجريد والعموميات مطية كلا الفريقين وأداته في المراوغة والتخييل في الخطاب، فإن بعض الأمثلة التعيينية قد تساهم في إبراز الكوامن الخفية التي لا يرغبان في الحوار الصريح وبيان الموقف الحاسم بشأنها.
لا يجد المتابع للخلفيات المعرفية والبرامج السياسية والرؤى التي تنطلق معها الأحزاب الليبرالية والمدونة التنظيرية لقيادتها عناء يذكر في العثور على مئات الشواهد الدالة على أنهم يعارضون تطبيق الحدود بشكل مبدئي، ويراها البعض منهم معالجة تاريخية تجاوزها الزمن.
كما لا يؤمن الكثير من الليبراليين أيضًا بفعالية "الاقتصاد الإسلامي" وقدرته على مواكبة التطورات المعاصرة في إدارة الشأن الاقتصادي، ولا يجدون غضاضة في التصريح بأن البنوك التي تعمل وفق النظام الذي ينعته الإسلاميون بـ"الربوي" هي الأقدر على إدارة الشأن المصرفي بنجاعة.
تلك مجرد أمثلة يوجد غيرها الكثير مما يراه الإسلاميون من ثوابت وقطعيات الشريعة التي لا يجوز أن تتعداها حركية التدافع السياسي نحو تداول السلطة، فيما يراها الليبراليون وغيرهم من الأحزاب اليسارية والقومية مساحات قابلة للاختلاف السياسي وتباين البرامج حولها.
في مراحل التطور التاريخي - كتلك التي تقع فيها مصر وغيرها من البلاد العربية - لا يمكن الركون والاطمئنان إلى أنصاف الرؤية وأنصاف التوافقات، وترك مساحات شاغرة للمناورة السياسية قد تُدخل الوطن كله في أزمات بنيوية عندما يوضع الفرقاء على محكات التصارع السياسي.
الديمقراطية المشروطة التي يتحدث عنها الإسلاميون لن تجد الأحزاب الليبرالية لها مكانًا تحت مظلتها. وإذا كان الإسلاميون الآن يتحدثون عن أنهم يؤمنون بآلية التدرج ومدى القابلية المجتمعية وتوفر الظروف الموضوعية لتفعيل بعض أحكام وتعاليم الشريعة من خلال إصدار تشريعات قانونية، فإن الصورة ستكون مغايرة في حال تغير المعطيات.
فإذا ما عنَّ لبعض الإسلاميين بعد فترة من الزمن قد تقصر أو تطول أن يُنزلوا بعضًا من أحكام الشريعة في إطار قانوني، لإدراكهم أن السياق المجتمعي أضحى من النضج والاستيعاب لتلك التنزيلات، فهل سيكون من حق الأحزاب الليبرالية الاعتراض على تلك التشريعات؟.
وإذا ما قُدِّر لهذه التشريعات أن تمر من خلال المؤسسات التشريعية، فهل سيكون من حق الأحزاب الليبرالية واليسارية إدراج قوانين مقترحة مغايرة لتلك التشريعات في صلب برامجها الانتخابية وطروحاتها السياسية، والتوجه بها للجمهور في الاستحقاق الانتخابي التالي، أم أنها ستُمنَع من هذا؟.
وهبْ أن الإسلاميين كانوا في سُدة السلطة واختار الناخب عبر إرادته الحرة أن يصوت للبرامج التي طرحتها القوى الليبرالية واليسارية ومنحها الأغلبية، فهل ستتنازل الأحزاب الإسلامية عن السلطة طواعية أم أنها ستعتبر تلك البرامج انطوت على ما تعده مخالفة لثوابت الشريعة وافتئات على الدستور وقطعيات الشريعة، ومن ثم فقد طرحت من الأساس ما لا ينبغي طرحه مما يمنحها المشروعية في منعها والتصدي لها من وجهة نظرها؟.
رؤية الإسلاميين للديمقراطية المشروطة تنطوي في الحاصل النهائي على تدجين ونفي الليبراليين، وبالمقابل فإن الرؤية المعاكسة تتضمن تهميشًا ومصادرة للإسلاميين، حيث تصر الأحزاب الليبرالية على ضرورة تقيد الأحزاب الإسلامية بقيم المواطنة وعدم التمييز الديني والنزول عند مقتضيات الدولة المدنية واحترام الحريات العامة, وكل هذه المقولات العامة تعني بالأخير وضع حدود على قدرة الإسلاميين ومجال حركتهم نحو رؤيتهم لتطبيق الشريعة وعدم مجافاة أحكامها.
وفق هذا التباين الحاد، لا يمكن الاستكانة لوهم أن الشُّقة ليست بعيدة بين الإسلاميين والليبراليين، والركون لترف مقولة إن الديمقراطية والتعددية تسع الجميع. فلا مجال لجسر هذه الهوة دون حوار صريح وشفاف حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه الديمقراطية التعددية، وتجليه السياسي الأبرز ممثلاً في تداول السلطة، فإما أن يقوم الإسلاميون بتوسيع مجال تصورهم ويجدوا في قيمة الحرية ومبدأ سيادة الأمة ما يسعفهم في تقديم تخريجات لا يشعرون معها بالغضاضة في فتح النسق التعددي أمام الأحزاب الليبرالية دون مداراة أو مواربة، والقبول بها وبأفكارها التي يعرفها القاصي والداني، وهذا يتطلب أيضًا من الأحزاب الليبرالية والقائمين عليها أن يمتلكوا الشجاعة ويطرحوا رؤيتهم بعيدًا عن مغازلة الشارع والوقوع تحت وطأته خوفًا من الخَصم من الرصيد السياسي في الاستحقاقات الانتخابية، وإما أن يعلن الليبراليون أن موقفهم المبدئي والمستقر هو عدم مجافاة أحكام الشريعة ومن بينها بالطبع الكثير مما يعده الإسلاميون ثوابت وقطعيات، مثل الحدود وبعض تفاصيل إدارة الشأن الاقتصادي وغيرها، ومن ثم نكون أمام ديمقراطية وتداولية تتميز بالخصوصية.
دون ذلك التوضيح والإفصاح سيظل المشهد السياسي مفتوحًا على أزمات مستقبلية كبرى، مجالها المفاهيم والخطاب، وأدواتها الحيل والمراوغة السياسية، ومسرحها المجتمع، ووقودها قطاعات هائلة من الجماهير المدفوعة والمؤدلجة التي ستدخل هذه المعركة السياسية، ربما باعتبارها أم المعارك!.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن