الإسلام السياسي وإشكاليات الديموقراطية السياسية المعاصرة : نحو تأصيل فارق منهجي بين الحزب الديني والحزب السياسي ذو التوجهات الدينية

جواد بشارة
jawadbashara@yahoo.fr

2002 / 8 / 20

..


ينطلق بعض الناطقين بلسان الخطاب العلماني المتطرف " العلمانوي " في مناوءته الإلغائية للمشروع السياسي الإسلامي المعتدل من فرضية لم تتم البرهنة التجريبية أو الإمبريقية عليها قط ،و الغالب أنها لن تتم أبدا .تقول تلك الفرضية بمساواة في النوع بين شقي هذا المشروع من حيث الممارسة ، أي بين الشق العنيف " الجهادي " والآخر السلمي التنويري ،ومن اختلافهما في الدرجة لا في النوع .ومعنى ذلك بلغة ذات ملموسية أكثر،حسب هذه الخطاب العلمانوي : أن عصابة فاشية تكفيرية من تلك العصابات ذات الممارسات الدموية المعروفة في عدد من الدول العربية لا تختلف من حيث النوع عن حزب إسلامي سلمي يتبنى الديموقراطية والنشاط الجماهيري طريقا الى السلطة وطريقة في إدارتها كحزب الرفاه التركي أو حركة نهضة العلماء في إندونيسيا ..الخ .
واضح خطل هذه الفرضية ولا علميتها على الرغم من انتشارها انتشارا واسعا لأسباب لا تتعلق بصوابها المضموني بل في مكان آخر مفعم بالأدلجة والتسيس ناهيك عن تناقضها الصميمي مع سيرورة وواقع الأحداث والصراع السياسي والاجتماعي في هذا البلد أو في سواه .
الأمر ذاته من حيث الجوهر نجده في ثنايا الخطاب الإسلامي المتطرف" الإسلاموي " الذي ينطلق من أرضية أدلوجية إلغائية هي الأخرى وذات نزوع فاشي تكفيري على صعيد الممارسة .فهذا الخطاب يضع نفسه قطبا واحدا موحدا منـزها بقداسة يستمدها من نظام الإشارات الواسع المبني على تأويلات فردية وجماعية للنص المقدس، وأيضا للتأويلات السابقة الماضوية وقد غدت مقدسة .إنه يريد أن يُعتبر قطبا في موجهة القطب الآخر " غير الإسلامي " والذي يشمل القوميين واللبراليين والاشتراكيين والشيوعيين وحتى المستقلين العلمانيين. والهدف من هذا المسعى أبعد من أن يتعلق بالكعكة السياسية وما يحيط بها من فاكهة الامتيازات والمصالح الطبقية والفئوية .. والطائفية ! لم لا؟وقد عبر أحد الشيوخ التكفيريين المعروفين عن هذه الفكرة الخطرة ذات مرة حين راح يعدد تفاصيل اللوحة السياسية في بلده فيقول ( وثمة في ساحتنا السياسية المسلمون والاشتراكيون والقوميون الناصريون والبعثيون واللبراليون والشيوعيون ..) إن الأمر لا يتعلق بزلة لسان أو خلط برئ بين المسلمين والإسلاميين ، فالشيخ التكفيري كرر عبارته تلك عدة مرات وكان يعني ما يقول . بمعنى أن "شيخنا" أخرج جميع المنتمين الى أحزاب سياسية خلا أعضاء حزبه الإسلامي من دائرة الإسلام !وليته اكتفى بذلك بل إنه أدخل جميع المسلمين حتى أولئك الذين قد لا تكون لهم علاقة بالسياسية أو قد يمقتونها..الخ الى حزبه أو تياره، فطارت همزة الأسلمة وتحولت مجموعة المتحزبين الإسلاميين الى " القوم المسلمين" أو " الفرقة الناجية الوحيدة " في سيرورة إلغاء للآخر " غير الإسلامي " وفرض الوصاية على جمهور الأمة من ملايين المسلمين .

لا يمكن لنا رصد وتحليل ظاهرة الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية من خلال مقولات وتحت أضواء أو ضباب أدلوجة أي من الخطابين السابقين (العلمانوي والإسلاموي) لعدة أسباب يتعلق بعضها بقصور المنظومات الأدلوجية المتطرفة أو شديدة التحزب عن إحداث القطيعة المعرفية اللازمة في عملية التحليل والبرهنة التجريبية على الفرضيات المطروحة حول هذه الظاهرة أو سواها. ويتعلق بعضها الآخر بطبيعة الظاهرة نفسها غير القابلة للمحايثة والتثبيت بسبب عدم استقرارها التاريخي مما يجعلها أقرب الى الحراك الموصول غير المنقطع والمتحول باستمرار منها الى ظاهرة مركبة من طبقات وأجزاء قابلة للتفكيك المنهجي والمساءلة النقدية الشاملة . لكل ما سبق سنذهب الى الظاهرة موضوعنا في واقعها التاريخي والسياسي المباشر في البداية محاولين تقديم مقاربة أولية تسمح لنا بتحديد أولياتنا النظرية وبرسم الإطار العام المباشر والأولي لها في لحظتها التاريخية الراهنة :

تجسد المأزق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي بلغته الأنظمة السياسية التي تتبنى الأدلوجة الإسلامية ومشروعها السياسي الديني بأكثر من مظهر عياني فثمة الانفلاش العام والعمودي للحكم في السودان واعتقال نصف الائتلاف الإسلامي الحاكم لنصفه الآخر وثمة الضمور الشامل والمذهل في الشعبية وانسداد الآفاق الاقتصادية والاجتماعية للحكم الإسلامي في إيران .وهناك أيضا مظهر آخر لهذه الظاهرة ولعله أقدمها ألا وهو الاسترهان الطوعي الكامل سياسيا وعسكريا واقتصاديا لمجموعة أخرى من الدول " الإسلامية " للهيمنة الغربية عموما وتحولها الى كيانات سكانية مستهلكة مسرفة تعاني من شتى الأمراض البدنية والنفسانية وفي مقدمتها ما كان يسميه الأطباء العرب قديما بالبيغ أي " ضغط الدم " وأمراض القلب والشرايين المختلفة والأمراض النفسية ومنها مرض الأنومي (ANOMIE ) أي الشعور باللاجدوى وضياع واختلاط القيم المعيارية أما مرض الأنيميا " فقر الدم " فهو مرض الأغلبية السكانية بامتياز. ويمكن التدليل على هذه الأعراض بقراءة الصحف اليومية الصادرة في بعض الدول " الإسلامية " ومراجعة صفحات الحوادث والجرائم المتكاثرة فيها تحت بند المخدرات والجنس والمال والوجاهة القبلية . دع عنك الحالة "السوريالية" التي انتهى إليها حكم الطالبان في أفغانستان أو حالة التعفن الدموي للصراع السياسي ذي الأبعاد الدينية في الجزائر التي تقشعر لهولها الأبدان .

كان لهذا المأزق التاريخي تعبيره الفكري والنظري الباحث عن أجوبة شافية لدى حملة المشروع السياسي الإسلامي أنفسهم وأيضا ، وبقدر أكثر عمقا وحيادية ،لدى الباحثين السوسيولوجيين والسياسيين المستقلين على اعتبار أن الباحث المتحزب سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي لا يمكنه إحداث قطيعة إبستمية تضمن له حياديا في التفسير والتحليل والحكم الفرضي (تحويل الفرض العلمي الى نظرية مبرهن عليها تجريبيا ) لظاهرة هو طرف فيها ومنها وحتى إذا حاول هذا الباحث صادقا وجادا ومسلحا بأكثر المنهجيات صرامة ودقة فإن تلك القطيعة الإبستمية تظل أمرا نسبيا الى هذه الدرجة أو تلك . ويعترف كاتب هذه السطور بأن ما قيل هنا ينطبق تماما على محاولته التفسيرية والتحليلية الراهنة وسيظل الحكم القطعي في نهاية الأمر ليس على ما يزعمه من حياد علمي بل على صوابية الأدوات العلمية والمنهجية التي يعتمدها وعلى النتائج التي سيتوصل إليها أو التشكيلات المنجزة التي يقيمها ، وهو بعد هذا وذاك لا يزعم حيادا ليس له أو فيه، وإنما يقدم محاولة تخصه وحدة ،ويتحمل بالتالي مسئوليتها من حيث النتائج والمقدمات . لقد كان لهذا المأزق التاريخي لمشروع سياسي ،كان حتى الأمس القريب مهيمنا جماهيريا هيمنة مطلقة ،آثار مختلفة الشدة والعمق والإيقاع من الناحية النوعية ومختلفا أيضا من ناحية الحكم القيمي سلبا وإيجابا . ولعل من أكثر تلك الآثار وضوحا هو خفوت الصيحات الانتصارية القياموية المبشرة بقيام الجنة على الأرض بمجرد قيام حكومة الولي الفقيه هنا ،أو بمجرد عقد البيعة لأمير المؤمنين هناك .

ترافق هذا الخفوت مع ارتفاع في نبرة ووتيرة التساؤلات والبحث المنهجي وغير المنهجي لدى أهل هذا المشروع السياسي الإسلامي كما هي الحال مع تيار الإصلاحية الخاتمية في إيران أو لدى غيرهم . ولئن كانت بعض الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية قد شرعت مبكرا وقبل أن يحل عصر التأزم والانسداد سالف الذكر بسنين طويلة، ودون أن تكون تلك الأحزاب قد تنسمت سدة السلطة ، فطرحت طائفة من الرؤى النظرية والأفكار البرنامجية المعتدلة والمنفتحة على العصر ويمكن إيراد مثالين جديرين بالنظر الجاد هنا هما حركة النهضة الإسلامية في تونس وحزب الرفاه في تركيا ،فإن أحزابا وحركات أخرى شرعت بعد تأخير طويل في تنكب طريق الاستبداد الثيوقراطي و ولوج النفق المؤدي الى التجديد والانغراس في تربة العصر الراهن ، فطرحت العديد من المحاولات وبدايات المحاولات الجديدة ،والمكررة والعميقة والسطحية دون أن تخلو اللهجة تماما من آثار الانشداد الى الماضي والفكر السلفي من النوع الاستبدادي ولعل خير ممثل لهذا الاتجاه حركة الأخوان المسلمين وفرعيها المصري والأردني بشكل خاص .

يمكن اعتبار تبني بعض رموز هذه الحركة لموضوعات ومطالب من قبيل: نحن حزب سياسي لا حزبا دينيا ، لا نريد بناء دولة دينية ثيوقراطية بل نريد تطبيق الشريعة الإسلامية ، يمكن اعتبار ذلك من قبيل الممارسات التكتيكية اليومية ولكن يمكن أيضا اعتبارها تجل حقيقي لمشكلة عدم التفريق بين الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية . فبصرف النظر عن أن المقولة التكتيكية الأخيرة لا تعني شيئا جديدا إن لم تكن قفزة بهلوانية في الهواء الطلق لسبب بسيط هو أن الدولة الدينية هي تلك التي تطبق الشريعة الدينية دون كثير حذلقة ،فإن من الممكن النظر الى هذه المقولات كنماذج ، أو في الأقل، إرهاصات بنماذج على طريق التجديد والمحاولات الجديدة في طرح فكرات سياسية والبحث عن آفاق جديدة ،كما يصح في الآن نفسه اعتبارها نواتات أولية تصلح لتساعدنا على تأصيل اجتماسي " سوسيوبوليتيكي " للفارق بين مفهوم الحزب الديني كما نودي به عندنا في العالم العربي وبعض الدول الإسلامية وبين مفهوم الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية أو الحزب السياسي المستوحي للمثل الأخلاقية الدينية كما هو بَيِّنٌ ومستقرٌ في عدد من دول أوروبا الغربية وكما هو في حال المخاض في بعض الدول العربية والإسلامية .

لنحاول في مبتدأ الأمر وضع أو اقتراح تفريق ملموس بين ما نعنيه بالحزب ذي التوجهات الدينية والحزب الديني . يمكننا تسهيلا لهذه المهمة التمثيل للنوع الأول بالأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا الغربية كالحزب الديموقراطي المسيحي الإيطالي أو الألماني ..الخ فهذه أحزاب سياسية تأخذ بالديموقراطية طريقا للوصول الى السلطة وأسلوبا في إدارتها من أجل تنفيذ برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بآفاق إصلاحية وأخلاقية تستلهم المنظومة الأخلاقية والروحية في عموميتها كما يفهمها الكاثوليك بالنسبة للحالة الإيطالية أو البروتستاند في حالات أخرى وبالتالي فهي لا تسعى الى إقامة دولة أو حكومة ثيوقراطية الطابع تريد تطبيق القوانين الدينية الواردة في كتابها المقدس، بل هي لا تجبر أحدا من مواطنيها حتى على تطبيق ما يعرف بالوصايا العشرة أو الذهاب الى الكنيسة لأداء الصلاة عنوة ! غير أن الناظر بتمعن الى تجارب هذا النوع من الأحزاب ذات التوجهات الدينية كما هي الحال في المثالين الألماني والإيطالي يمكنه الخلوص الى التالي :
-إن هذه الأحزاب الديموقراطية التي تستلهم القيم الدينية لم تولد أو تنشأ هكذا بل مرت بأطوار مختلفة العمق والشدة من التغييرات والتطورات حتى بلغت ما هي عليه اليوم من مبادئ وفكر وممارسات. بمعنى إنها لم تكن تختلف كثيرا في بداياتها عن أي حزب أصولي يصول في الميدان اليوم ويطالب بتطبيق الشريعة فورا وحرفيا .ولكن العملية التاريخية وتعمق السيرورة الديموقراطية في البلدان المعنية واكتمال صيرورة الاندماج المجتمعي في شكلها الحديث (الدولة /الأمة / المواطنة /الحرية ) ، ولكن هذه الأمور مجتمعة هي التي تقف خلف وتدفع الأحزاب السياسية المذكورة من دائرة " الحزب الديني " الى فضاء " الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية "
-إن الساحة الأوروبية لم تخلُ يوما ولا تخلو حتى في عصرنا من منظمات ومجموعات دينية سياسية متطرفة كمنظمة الصليبين الجدد ( لي نوفو كروازاد ) في عدد من الدول الأوروبية وعشرات الحركات والميليشيات المسلحة الدينية في الولايات المتحدة وغيرها ولكنها منظمات معزولة وهامشية نسبيا بفعل وتأثير مباشرين من الاندماج المجتمعي العميق والديموقراطية السياسية والمجتمعية الشاملة وتحول الدين من شأن طائفي الى شأن شخصي وفردي ومن علاقة استتباع مفروض بقوة الدولة أو المنظمة الدينية المسلحة الى تعلق وجداني وشعور ضميري طوعي وإشراقي بين الإنسان وربه ! هنا أيضا يمكن التأشير وبقوة على معلم مهم من معالم الحداثة الأوروبية وإرهاصاتها الأولى في عصر النهضة ألا وهو اعتبار الدين شأنا شخصيا وعلاقة ضميرية بين المؤمن الديني وموضوع إيمانه و نزع السمات القسرية والعمومية والسياسية عن المؤسسة الدينية وموظفيها .

- إن الأفق التاريخي الممكن لجميع الأنظمة السياسية المؤدلجة وسواء كانت دينية أو غير دينية التي تشرع في عملية دمقرطة فعلية هو الأفق الديموقراطي التعددي المؤنسن في تجلياته متعددة الأشكال (الشكل الهندي والبريطاني والفرنسي والياباني والأمريكي ..) وفي جوهره الواحد (التعددي السلمي القائم على المواطنة غير المنقوصة وحياد الدولة الأدلوجي والطائفي ). وهكذا ينكشف احتمال توليف تركيبة تاريخية من مؤسسة دينية أصولية وجهاز حكم وتشريع ديموقراطي على انه مجرد وهم . ومن المفيد التذكير بأن الديموقراطية حين انتصرت كآلية لإدارة الدولة جعلت جميع أشكال الحكم مراحل وسيطة في مسار إنساني مديد لم يتعد عمره القرن ونصف ..

- إن المشكلات التي تثيرها حالات احتدام الصراع الاجتماعي في دولة ما أو الصراع القومي بين الدول المختلفة لا تغير من طبيعة هذه العملية التاريخية أو تحرفها عن مسارها ولكنها تنجح أحيانا في عرقلتها أو ردها الى الخلف مؤقتا ..ولكن الاتجاه العام لها سيظل صاعدا وإيجابيا وخصوصا بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية رغم تقدميتها الاجتماعية وبعد إفلاس النسخة اللبرالية الغربية التي تكاد تتوحد خلالها برامج اليمين واليسار حتى في تفاصيل التفاصيل .

وهكذا فقد بات في الإمكان الآن تقديم مقاربة دقيقة نسبيا لتعريف أولي لطرفي الموضوع . الطرف الأول، أي الحزب الديني، ويمكن تعريفه كالتالي :إنه تنظيم أو حركة سرية أو علنية لمجموعة من المواطنين تقوم على أساس دعوة روحية دينية ويهدف عن طريق الوسائل التي يرى إنها مشروعة من وجهة نظره الدينية الى تجسيد إيماناته سياسيا ومجتمعيا من خلال استيلائه على مؤسسة الدولة وتحويلها الى نظام شمولي ثيوقراطي يبتلع الموجود من مؤسسات المجتمع المدني ويماهي المجتمع مع ذاته البرنامجية الغيبية الميتافيزقية فيعطل العملية الديموقراطية و يصادر الحريات الفردية والعامة .أما الطرف الثاني وهو الحزب السياسي ذو التوجهات الدينية أو الذي يستوحي منظومة القيم الدينية والأخلاقية في نشاطه فهو أكثر بساطة ووضوحا من سابقة ويكاد ينطق اسمه بفحواه فهو حزب سياسي ديموقراطي المنهج والأساليب والبنية الداخلية يستوحي منظومة القيم والمثل الأخلاقية للدين الذي يؤمن به منتسبوه وهو الإسلام في حالتنا في وضع برنامجه السياسي ويعترف ويصون حياد الدولة واستقلالها الأدلوجي والطائفي وآلياتها الديموقراطية المعلنة ويحاول الوصول الى السلطة السياسية عن طريق النشاط السلمي والعلني والقانوني .
هذان التعريفان الأوليان يقودان من حيث المبدأ الى تمييز الفارق النوعي بين حزبين ، مدرستين ، سياستين ، نوعين وليس درجتين داخل النوع الواحد .

وسيقال غالبا في دائرة التطبيق العملي أن جميع الأحزاب الإسلامية سواء كانت من النوع العنيف " الجهادي " أو السلمي " المعتدل " تهدف في برامجها الى تطبيق ما تدعوه " قوانين الشريعة الإسلامية " بمعنى إنها تهدف الى إقامة الدولة الثيوقراطية الدينية أو كمرحلة أولى الى إقامة دولة الأوليغارشية ذات النزوع الطائفي الديني .وتمتد لائحة الأمثلة من حزب الأخوان المسلمين في مصر والأردن الى حزب الإصلاح في اليمن الى الجماعة الإسلامية في الباكستان ..الخ . ويمكن الرد على هذا الرأي بالكثير من التفاصيل العملية والتاريخية المفنِّدة ومنها :
- إذا كانت تلك الخلاصة صحيحة في ما يخص نماذج الأحزاب التي وردت أسماؤها فهي ليست صحيحة أبدا بخصوص عدد من أكبر الأحزاب الإسلامية ومنها حزب الرفاه في تركيا و النهضة في تونس وجماعة نهضة العلماء في أندونيسيا وحركة مجتمع السلم " حمس " في الجزائر ( حاز مرشحه للانتخابات الرئاسية بمواجهة الرئيس زروال على أكثر من ربع الكتلة الناخبة ) .
- وإذا كانت تلك الخلاصة صحيحة اليوم بخصوص تلك النماذج فإن حركة الواقع التاريخي لن تبقيها هكذا في المستقبل ومن يرصد برامج حركة الأخوان المسلمين المصرية منذ الأربعينيات وحتى اليوم سيدهش لعمق التغييرات والتأثيرات الكثيرة والفعالة لواقع الحال التاريخي عليها وميلها التدريجي الى التعريف الثاني ( الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية ) ومفارقتها البطيئة إنما الأكيدة للتعريف الأول ( الحزب الديني ) و يمكن اعتبار الوثائق السياسية التي أصدرتها الحركة في السنة الماضية ذروة تلك المفارقة رغم استمرار المطالبة بتطبيق " قوانين الشريعة " ضمن برامج الحركة .
إن الأهمية الفائقة لتأسيس الفارق الاجتماسي بين هذين الحزبين لا تكمن فقط في الميدان النظري العلمي فقط بل أيضا في ميدان الممارسة التاريخية أو للدقة في ميدان السياسة كممارسة تاريخية ولتأكيد وفهم هذا المعنى يمكن التساؤل مثلا : هل كان ما حدث في الجزائر بعد الانقلاب العسكري وإيقاف المسار الانتخابي سيحدث وبهذا الشكل الدموي المرعب والفالت من كل شرط أخلاقي وإنساني واجتماعي بمعنى هل كان ذلك أمرا حتميا لا مندوحة منه لو كانت إدارة الشاذلي بن جديد التي بادرت الى إطلاق عملية " برسترويكا " جزائرية مرتجلة ومشوشة وفوضوية تدرك وتفهم وتقيم ممارساتها على أساس هذا الفارق الخطير بين الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية ؟ هل كان سيحدث ما حدث لو فهمت جميع الأطراف( الحكم والمعارضة والجيش والقوى الإقليمية والعالمية ..الخ ) أن فوز جبهة الإنقاذ لن يعني أكثر من إنها ستشكل حكومة وتقود البلاد لعهدة انتخابية محددة لا أن تحاول اجتثاث الدولة الديموقراطية وتقيم بدلا عنها دولة دينية ثيوقراطية ؟ لقد لعبت قيادة الجيش الشمولية وذات الميول الفرانكوفونية والأخطاء القاتلة التي ارتكبت قبل وبعد الجولة الأولى من الانتخابات من طرف جبهة الإنقاذ دورا سلبيا ولكنه ما كان سيؤدي الى ما أدى إليه لو ارتكزت العملية الديموقراطية على أسس واضحة ورصينة تفرق دون لبس بين الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية المسموح له بالنشاط والمشاركة السلمية والقانونية وبين الحزب الديني الهادف الى إقامة الحكم الثيوقراطي الشمولي . وضمن جدلية السبب والنتيجة فقد كان الانقلاب العسكري وإقالة الرئيس هو النتيجة المتوقعة لأسباب تخص إدارة الشاذلي بن جديد لأزمة النظام الشمولي البومديني من جهة ومحاولة القفز من حكم النظام الواحد الى أقصى صور اللبرالية ولجهل تلك الإدارة بأساسيات العمل الديوقراطي في ظروف المجتمع الجزائري من جهة أخرى . ولكن هذه النتيجة غدت – فيما بعد - سببا لاندلاع موجة عارمة وواسعة النطاق من العنف الدموي البربري . ومما يحمد ويسجل كصفحة مضيئة لجبهة الإنقاذ مبادرة ذراعها العسكري بقيادة الشيخ مدني مزراق اتخاذ القرار الشجاع بالخروج من مستنقعات الدم البشري وإنهاء المواجهة العسكرية عن طريق اتفاق مع قيادة الجيش فكفَّرت بذلك عن أخطاء الجناح السياسي وتهويلاته ومبالغاته وضمنت لجبهة الإنقاذ رصيدا مستقبليا لا يمكن لأي طرف كان تبديده أو الالتفاف عليه وسوف يزداد حجم هذا الدور ويتحول الى ركيزة طيبة للديموقراطية الجزائرية إذا ما بادرت القيادة السياسية لجبهة الإنقاذ أو الحزب الذي سيرثها الى تجديد دورها ومرتكزات سياساتها وخرجت من دائرة التعريف الأول الى الثاني فانحازت نهائيا الى نهج الاعتدال الديموقراطي الذي مثله الشهيد عبد القادر حشاني و نأت عن النهج الآخر الذي مثله الشيخ علي بلحاج . .

هذه الوقفة عند التجربة الجزائرية ليست استطرادا ترفيا بل تمليها الحاجة للتأسيس السياسي والتأصيل النظري ويمكن أيضا التوقف عند أمثلة أخرى مهمة المضامين تخطئ المنطق الإلغائي للعلمانوية المتطرفة أو للإسلاموية المتطرفة فقد وصلت أحزاب إسلامية الى السلطة في أكثر من بلد وتقيدت بأصول وقواعد " باللعبة الديموقراطية " ودفع بعضها ثمن نهجه الديموقراطي من شرعيته ووجوده وقادته كما هي الحال مع حزب الرفاه في تركيا الذي كان الحزب الأهم من حيث الوزن الانتخابي في البلاد وقد وافق على الدخول في ائتلاف سياسي حاكم مع حزب علماني هو حزب " الطريق القويم " بزعامة السيدة طونسون تشيلر و تنسم رئيسه منصب رئيس الوزراء لعدة أشهر ثم عوقب هذا الحزب من قبل المؤسسة العسكرية العلمانوية الفاشية بالحل والقمع الشامل . ويمكن الاستنتاج أن الأساس المتين لاعتدال وديموقراطية هذا الحزب هو الذي حماه ومنعه من الانزلاق الى مستنقعات الدماء والانتقام الوحشي الذي رأيناه في ساحة أخرى . لقد أتينا ببعض الأمثلة التوضيحية والتدليلية من بلدان ذات نسيج مجتمعي غير منقسم طائفيا أو أنه منقسم بشكل طفيف ، أما في بلدان أخرى تعاني من انقسام قومي وطائفي عميقين فإن الأخطار ستتضاعف وستكون أكثر تدميرا وقد تؤدي بالبلد المعنى الى الزوال ومجتمعه الى التحلل والانهيار . ويمكننا اعتبار العراق من أبرز الأمثلة على هذا النوع من المجتمعات المنقسمة طائفيا وقوميا ، إذ يشكل العرب أغلبية سكانية تقترب من الثمانين بالمائة الى جانب أقلية كردية تتجاوز 15 و وما تبقى فهو نسبة الأقليات القومية الأخرى أما طائفيا ودينيا فيشكل المسلمون الشيعة أغلبية تتجاوز النصف بقليل فيما يشكل السلمون السنة من العرب والأكراد أكثر من 40 وما تبقى يشكل نسبة الأقليات الدينية والطائفية الأخرى من مسيحيين و صابئة ويزيديين وشبك ويهود .
إن الانقسام القومي والطائفي لعميق جدا وإذا كان من الصحيح أن المجتمع العراقي لم يشهد طاهرة التطييف السياسي مثلما شهدتها دول أخرى كلبنان رغم وجود نزوع طائفي أكيد في بعض أركان الحكم فإن الانقسام القومي يعتبر مسألة راهنة وقابلة للتفجر في أي وقت .إن هذا القول لا يعني عدم وجود أخطار التفجر والنزاع الطائفي خصوصا إذا ما تدخلت القوى الإقليمية كإيران الشيعية النظام والدول العربية السنية المجاورة كل لصالح الرموز الطائفية المماثلة له طائفيا وإذا ما استمر ضعف وتهميش البديل الديموقراطي الوطني العلماني . إن "تعريق" النقاش حول موضوعتي الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية والنظر الى تجلياتهما من خلال منظار الحالة الاجتماسية العراقية سيجعلنا نلاحظ فورا وبوضوح شديد خصوصية وفرادة الواقع العراقي في التفاصيل كما في الخطوط العريضة وخصوصية الظاهرة موضوع البحث أي ظاهرة الأحزاب الدينية الطائفية . فالواقع السكاني المنشطر قوميا وطائفيا يقدم حلا يبدو سهلا للوهلة الأولى، مفاده استحالة قيام حكم طائفي شيعي مثلا بالأساليب الانتخابية بسبب استحالة تحويل الحجم السكاني الذي يزيد على النصف بقليل الى أغلبية انتخابية بصورة آلية أو حلا مماثلا وأكثر سهولة مفاده استحالة قيام حكم طائفي سني بسبب كون الحجم السكاني للسنة العرب والأكراد يظل أقلويا . إن هذين الحلين على وجاهتهما الظاهرية ينطويان على خطر كارثي يحاول البعض تناسيه أو غض الطرف عنه وهو خطر حقيقي وأكثر احتمالية من الحلين السابقين ألا وهو دخول المجتمع العراقي في حرب أهلية طائفية طاحنة بمجرد رفع الشعارات الدينية الطائفية المنادية بإقامة الدولة الإسلامية على الطريقة الإيرانية أو السودانية وسيزيد من اشتعال نيرانها تدخلات الجوار والقوى الإمبريالية الغربية والتي عينها على النفط العراقي وليس على المآذن والقبب الذهبية في النجف وكربلاء وبغداد.لقد سلفت الإشارة الى أن حالة طائفية سياسية تامة ومنجزة وراسخة في تقاليد وتركيبات وآليات اجتماعية وحكومية لا وجود لها في العراق مقارنة بالحالة في لبنان مثلا ولكن هذا الأمر لا يقدم صمام أمان مطلق فالفرق بين حالة العراق و حالة لبنان هو كالفرق بين الظاهرة الاجتماعية في ذاتها والظاهرة الاجتماعية لذاتها . بمعنى أن الطائفية العراقية أقرب الى مجموعة من التقاليد الشعبية والعادات الاجتماعية والمركبات النفسية الآخذة بالاضمحلال منها الى الاصطفاف والولاء السياسي العميق والذي قد يفوق الولاء " الانتماء " للوطن ذاته . غير أن هذه الحال ليست نهائية وجامدة فقد تتحول تحت ضغط الواقع الموضوعي وتعمق الصراع المذهبي والسياسي الى حال أخرى لا تختلف عما رأيناه في لبنان السبعينات المشتعل .

إن الخطر الأعظم الذي سوف يسهل كثيرا وقوع الاحتمال الأسوأ إنما يتمثل في ضعف وغياب وتشرذم القوى الديموقراطية الوطنية العراقية والممارسات الخاطئة التي قامت بها بعض أطرافها كالدخول في تحالفات و علاقات مشبوهة مع أعداء العراق الإمبرياليين والرجعيين المحليين واستمرار بعض القوى المحسوبة على هذا العنوان بالتعامل وإضفاء الشرعية السياسية على عدد من تلك الأحزاب الدينية الطائفية كما هي الحال في العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب المجلس الأعلى بقيادة الشيخ الحكيم الذي دعا قبل عدة أسابيع من مقره في طهران الى إقامة نظام حكم إسلامي في العراق أو قيام قوى أخرى محسوبة على ذات العنوان بشن حملة عدائية تتجاوز الأحزاب الدينية لتطال الدين والجماهير المؤمنة نفسها ونجد مثالا على هذه المواقف المتشنجة في بعض وثائق وبيانات وفعاليات الحزب الشيوعي العمالي العراقي .ولكن هذا الخطر على فداحته لن يرقى الى خطورة غياب التمييز والتفريق السياسي العملي والنظري العلمي بين نوعين من الأحزاب : الأول هو الحزب الديني الهادف لبناء الحكم الثيوقراطي الشمولي المطلق والمعادي للديموقراطية على طريقة طالبان مثلا والذي ينبغي أن يناضل الديموقراطيون بما فيهم ذوي التوجهات الإسلامية والقوى التقدمية ضده بالوسائل الديموقراطية والدستورية بهدف عزله جماهيريا وجعله في حجمه الحقيقي والثاني هو الحزب السياسي ذو التوجهات الدينية الذي يعتمد الوسائل السلمية والديموقراطية في التبشير ببرنامجه السياسي المعلن وغير الداعي لإقامة الحكم الديني والانقلاب على العملية الديموقراطية بواسطة استفتاء ديماغوجي . إن أسلوب إحلال الدولة الدينية عن طريق الاستفتاء الشعبي كما حدث في إيران بعد الثورة التي سيطر عليها التيار الديني الطائفي ليس إلا خدعة رهيبة فقد تم تصوير الصراع وكأنه بين مؤمنين وكفار وكان السؤال المخادع يقول في طبقته الأولى ( هل تريدون جمهورية إسلامية أم لا ؟) وفي طبقته الثانية يقول ( هل تريدون الإسلام أم الإلحاد ؟) وبما أن الناس تحب دينها وتوقر مقدساتها فسوف تصوت بنعم على سؤال آخر وهي تعتقد إنها تصوت لدينها ومقدساتها ، وكان السؤال " الآخر " يقول صراحة وكما أثبتت الأحداث التالية على امتداد سنوات عمر النظام : ( هل تريدون دكتاتورية ولاية الفقيه أم لا ؟)
إن الحزب السياسي ذا التوجهات الدينية جدير بالتضامن معه من أجل الترخيص له بالنشاط والعمل السياسي السلمي من قبل جميع الديموقراطيين الحقيقيين ولن يكون للديموقراطية السياسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أي معنى أو صدقية دون وجود أحزاب سياسية تستوحي المثل الأخلاقية من الدين الإسلامي في وضع برامجها السياسية و لكن ينبغي بالمقابل النضال سلميا وديموقراطيا ضد الأحزاب الدينية الطائفية المعادية صراحة للديموقراطية والدعية لإقامة الدولة الدينية بوصفها دولة ثيوقراطية تطبق القوانين الدينية .
اذا كانت حرب الخليج ساحة المعركة بين الاستعمار الامريكي الجديد الذي مثلته ادارة بوش الاب، وبين ما تبقى من التيار القومي الذي مثّله صدام حسين وحزب البعث، فان افغانستان هي ساحة الصدام بين نظام العولمة شبه الليبرالي والشركات المتعددة الجنسيات التي تقودها الولايات المتحدة وبين الاسلام الاصولي الذي يقوده اسامة بن لادن.
وقد حصر التيار القومي مفهوم الامة في العرب وحدهم، اما التيار الاسلامي الجديد فوسع هذا المفهوم ليضم المسلمين في كل انحاء العالم محوِّلاً العرب الى اقلية داخل الامة الاسلامية الاوسع. في هذا الترتيب الجديد انقسمت الامة العربية الى تيارين متنافسين على استقطاب الشارع: تيار قومي تقدمي قادته مصر وسورية والعراق، واعتمد على دعم الاتحاد السوفييتي وكان جزءا من كتلة دول عدم الانحياز. وفي المقابل التيار الاسلامي الرجعي الذي قادته السعودية ودعمته امريكا تحت راية "الجهاد" ضد النفوذ السوفييتي في الشرق الاوسط.
وجاء انتصار المجاهدين في افغانستان كمقدمة لانهيار الاتحاد السوفييتي، مما اضعف التيار القومي في الشرق الاوسط. السعودية التي كانت المحرك والممول الاساسي في الحرب بافغانستان، لعبت دورا رئيسيا في الحرب ضد صدام حسين في العراق الذي كان قد خرج لتوّه من حربه ضد ايران، وبدأ يطور طموحات عربية. هزيمة العراق الذي اعتبر قوة اقتصادية مهمة في العالم العربي، قضى نهائيا على الحلم بتشكيل سوق عربية مشتركة توظف الموارد العربية لخدمة العرب وليس لخدمة امريكا.
نتيجة اضافية للتفوق الامريكي والتيار الرجعي السعودي الذي انعكس في حرب الخليج عام 1990، كانت مبادرة مدريد-اوسلو وتبني الدول العربية والاسلامية للمشاريع الامريكية الاسرائيلية. ومما لا شك فيه ان الاستسلام الفلسطيني لاسرائيل في اوسلو كان التعبير الحاسم عن نهاية المرحلة القومية في تاريخ العرب. الفراغ السياسي الذي نجم عن هذه الهزيمة، امتلأ سريعا بالحركات الاسلامية.
ولكن طبيعة هذا التيار الاسلامي منذ نشأته هي الانتهازية، فهو يغير تحالفاته حسب تغير مصالحه، ويبقى الامر الثابت عنده ان الشيوعية كفكر وممارسة هي عدوه الاكبر. ان فكرة التحرر والتقدم الاجتماعي السياسي والاقتصادي امر لا يعنيه، وكل ما يهمه هو بسط الشريعة الاسلامية كنظام تديره شريحة اجتماعية عليا لها مصالحها الطبقية الخاصة.
المثير ان التيار الاسلامي ما كان لينجح في فرض نفسه على الساحة لولا تغلب الفكر الغربي الليبرالي على الفكر العمالي الشيوعي. فالفكر الليبرالي يميز المجتمعات التي تعتمد على اقتصاد قوي وطبقة وسطى مستقرة، ولا يلائم الوضع الاقتصادي المتدني والتركيبة الاجتماعية القبلية اللذين يميزان العالم الثالث. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك ان تخلت الامبريالية عن الاستثمار في هذه الدول المتخلفة، ونظرت اليها كمنبع للموارد الخام التي يجب استغلالها.
الفراغ الفكري المتسبب عن هذا الوضع، ملأه الفكر الاسلامي الذي كان اكثر ملاءمة للوضع الاقتصادي والاجتماعي المتخلف. ان تقدم الاسلام كتيار فكري سياسي كان اذن مربوطا رباطا وثيقا بتقدم الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة، وتابعا لها اقتصاديا. النموذج الامثل على ذلك هو السعودية التي تحولت في التسعينات الى القوة المسيطرة في الشرق الاوسط فيما تراجع دور مصر وسورية قياسا بدورهما في العقدين السابقين.

التناقض الصعب في الاسلام المتشدد

لكسب السيطرة والنفوذ السياسي احتاج الاسلام السياسي الى دعم الولايات المتحدة، هكذا سيطرت طالبان مثلا على افغانستان عام 1996. ولكن لكسب دعم الجماهير التي ترى في الاستعمار الامريكي مصدر معاناتها ومصائبها، كان على الاسلام السياسي ان يركب موجة الغضب الشعبي ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وضمنهم الانظمة العربية. فاستياء الشعوب العربية من الملك الاردني او السعودي لا يقل عن استيائها من امريكا واسرائيل، بل هي ترى، وبحق، ان اسرائيل والاردن والسعودية في خندق واحد ضدها. التناقض الكبير الذي دخلته الحركات الاسلامية المتشددة انها رغم ادعائها نصرة الشعوب الفقيرة، الا انها تحالفت مع دول رجعية مثل السعودية المدعومة من امريكا، وليس هذا فحسب بل ان مصدر التمويل الرئيسي لهذه الحركات يأتي من المؤسسات الخيرية الخليجية.
ولا تتلقى الحركات الاسلامية هذا الدعم مجانا، بل تلعب بالمقابل دورا مهما جدا، وخاصة في دول الخليج حيث تشكّل حلقة الوصل بين العائلات الحاكمة وبين الجماهير. وتعتبر المساجد والنوادي والمؤسسات الخيرية التي سيطرت عليها الحركات الاسلامية، نوعا من "المجتمع المدني" الذي يتيح التعايش بين الشعب والنظام، ويقلل فرص الاحتكاك الناجم عن اتساع الفجوة بين الطبقتين.
الاساس الذي يسمح بهذا التعايش هو التزام الحركات الاسلامية بعدم مسّ شرعية الانظمة، مقابل حصولها على حرية النشاط. وتزداد اهمية هذا الجهاز المدني المميز خاصة في الدول التي تنعدم فيها الاجهزة الديموقراطية والاحزاب، فمن خلاله تتمكن العائلات المالكة من احتواء الجماهير وشراء صمتها بالمال.
وقد وصل هذا النوع من التفاهم بين الحركات الاسلامية والنظام الى ذروته في باكستان. ففي حين يحرم النظام العسكري الباكستاني اي نشاط سياسي، يبرز دور الاحزاب الدينية الاسلامية التي تخدم الجيش من خلال السيطرة على الشارع عبر المساجد التي تحولت الى مركز اجتماعي وسياسي مهم.

طلاق اضطراري

ولكن التعايش بين التيار الاسلامي والنظام الرأسمالي العالمي وصل درجة الصدام. فقد كان على التيار الاسلامي ان يحسم خياره: فإما ان يواصل التبعية المطلقة لامريكا الامر الذي سيفقده الدعم الجماهيري، وإما مواجهة امريكا والانسياق وراء مشاعر الجماهير الناقمة على امريكا بسبب تردي اوضاعها الاقتصادية. ان "الانتصار الباهر على الشيطان الاحمر"، على حد تعبير "المجاهدين" في افغانستان قبل عقد من الزمان، لم يحسّن وضع الشعوب المزري بل زاد معاناتها، فتحتم اذن مواصلة "الجهاد" ضد من كان اصلا المسؤول الرئيسي عن هذه المعاناة، وهي الولايات المتحدة الامريكية ونظامها الرأسمالي العالمي.
ولكن التيار المجاهد بزعامة بن لادن لم ينجح في قراءة الخريطة. فبينما اعطى الجهاد السابق ضد الاتحاد السوفييتي خدمة جليلة للمخطط الرئيسي للنظام الرأسمالي العالمي، وعبر عن التقاء المصالح بين الاسلام السياسي والامبريالية، الا ان الجهاد المعلن اليوم على امريكا يختلف نوعيا، اذ لا تدعمه اية قوة عظمى.
وبدل محاولة التفكير في كيفية انتزاع الثروة العلمية من ايدي الاقلية وتوزيعها على الاغلبية بشكل متساو، سعى الجهاد الجديد لتدمير الغرب بكل ما يعنيه من تقدم علمي واجتماعي وتكنولوجي وسياسي بدعوى انه كفر. في هذه المعركة أظهر التيار الاسلامي الاصولي فقدانه الثقة والايمان بامكانية تغيير العالم، وهنا يكمن ضعفه. هذا الاجتهاد الديني الذي يقلل من اهمية الحياة الدنيا ويرى في الآخرة حلا للمعاناة، يلائم مجتمعا فقد ثقته بنفسه وبقدرته على التغيير. ولهذا الضعف سبب مادي هو ان الاسلام كنظام قبلي عاجز عن تغيير العالم نحو وضع ارقى، لانه لا يستطيع مجاراة الواقع المادي العالمي الذي اعتاد التعامل بمفاهيم الديمقراطية والليبرالية التي لا تجد لها اساسا في الشريعة الاسلامية. النتيجة لهذا الوضع كانت تدميرية، اذ انها غذّت اليأس والاحباط وقادت لنقمة عمياء على الغني وولّدت رغبة شمشونية بتقويض اعمدة المعبد على كل من فيه.
الامر الذي عجّل بانهيار الاسلام انه بعد ان "استغل" امريكا لهزم الاتحاد السوفييتي، اضطر لوضع نظريته الغيبية موضع الاختبار ولم يجد له نصيرا هذه المرة سوى القوة الالهية، على حد تعبير بن لادن وجماعته. وكان على هذه القوة ان تتغلب على القوة الامريكية المعتمدة على العلم والتكنولوجيا المتطورة. ان الاعتداءات على مركز التجارة العالمي كانت قمة هذا الاختبار. ولكن في هذه المواجهة كشف التيار الجهادي كل اوراقه، فانهيار نظام طالبان كنظام عبر عن التطبيق السياسي للاسلام الجهادي على دولة بكاملها، اثبت ان النظرية الاسلامية كانت فقاعة خطيرة بالنسبة لحقوق الاغلبية الساحقة من الشعوب في الغرب ولكن ايضا بالنسبة للشعوب المضطهدة والمستغلة والجائعة في العالم الثالث.
ولكن هزيمة الاسلام السياسي لن تحل مشكلة الارهاب كما انها لن توفر جوابا للازمة البنيوية التي يعيشها اليوم المجتمع البشري. فالارهاب كما اشرنا اصبح سلاح المساكين اليائسين من امكانية التغيير، وذلك بسبب فقدانهم الادوات والاساس المادي لطرح بديل واقعي لمحاربة الفقر والاستغلال. ولسنا، لذلك، ممن يتحالفون مع امريكا لهزم الاسلام المتطرف، على اساس "عدو عدوي صديقي"، بل اننا نرى في الاسلام السياسي افرازاً من افرازات الرأسمالية نفسها وحليفا لها في حربها ضد الطبقة العاملة العالمية.
ان فشل الاسلام السياسي في تحديد العدو الحقيقي للشعوب المضطهدة هو احد اسباب عجزه في الساحة الفلسطينية ايضا عن تشكيل بديل واقعي وعملي يلبي حاجات الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال الاسرائيلي من جهة، وضد سلطة عرفات الذي انضم للخندق الامريكي ولتحالفه ضد الاسلام الجهادي من جهة اخرى.

مسؤولية التغيير في المراكز الصناعية

ان الازمة التي اندلعت بين الرأسمالية وحليفها الاسلامي ليست ظاهرة عابرة، بل مؤشر الى ازمة اعمق بكثير. لهذه الازمة علاقة مباشرة بما خلّفته العولمة من ظلم وازمات اجتماعية على نطاق عالمي. لقد ركب بن لادن موجة النقمة الجارفة على امريكا والغرب، والتي زادت نتيجة الازمة الاقتصادية العالمية وخيبة الامل من الوعود التي قطعها البيت الابيض للشعوب الفقيرة.
ان اشد ما تحتاجه الانسانية في هذه المرحلة هو صياغة بديل فكري وتنظيمي جديد لا يعتمد على الربح كمحرك للاقتصاد من جهة، ولا على نظريات غيبية من جهة اخرى. انهيار الاتحاد السوفييتي ككتلة حققت توازنا ضروريا وكسند لشعوب العالم الثالث، طرح من جديد مسألة المركز الذي يمكن ان يشكل النواة الصلبة للتغيير السياسي والاجتماعي. ماركس ولينين فهما ان امكانية صمود الثورة الاشتراكية مرهونة بحدوثها في عدة مواقع صناعية متطورة في نفس الوقت.
اندلاع الثورة في روسيا التي اعتبرت بلدا رأسماليا متخلفا نسبيا للدول الرأسمالية الاخرى في اوروبا، كشف للانسانية الطاقات الكامنة في النظام الاشتراكي، ولكن بسبب العزلة التي فرضت على الثورة وعدم امتدادها لبلدان رأسمالية متطورة اخرى، اضطرت الثورة الاشتراكية الوحيدة للاعتماد على بلدان نامية في العالم الثالث، ولاستثمار موارد هائلة في الدفاع عن نفسها في المواجهة المستمرة مع النظام الرأسمالي الغربي الذي لم يكف عن محاربتها.
وحتى لو رأينا في هزيمة الاتحاد السوفييتي امرا مؤقتا، فمن الواجب والضروري مراجعة الدروس من انهيار التجربة الاشتراكية الاولى. ولعل اهم هذه الدروس ادراك ان المفتاح لمواجهة امراض النظام الرأسمالي لا يكمن في جبال افغانستان او شوارع الضفة الغربية، بل في الدول الصناعية الكبيرة، حيث يتمركز رأس المال بصناعاته ومراكزه الحكومية والاعلامية والعسكرية. ان البديل للنظام القائم يمكن ان يتبلور فقط في هذه المراكز الصناعية، ومنها يمكنه ان يمتد الى دول الاطراف الاقل تطورا.
بداية هذا التحول سجلت في عام 1999 بعد عامين من انهيار البورصات في دول شرق آسيا، وقبل عامين من احداث 11 ايلول. نهوض الحركة المناهضة للعولمة، في قلب الولايات المتحدة، كانت التعبير الاول عن الادراك بان هناك حاجة لتحديد اسباب معاناة العالم. رغم مواطن ضعفها الكثيرة، الا ان الحركة المناهضة للعولمة تطورت في المراكز الصناعية احتجاجا على النظام الرأسمالي.
اهمية المواجهات التي بدأت في سياتل كانت انها جاءت مرافقة لمظاهر تمرد في مواقع اخرى في العالم ضد النظام الامريكي: من هذا الرفض العراقي للاستسلام، والعصيان الفلسطيني لاتفاق اوسلو، والتحركات الجماهيرية ضد الانظمة الرأسمالية في كوريا واندونيسيا، والاضرابات العمالية في امريكا اللاتينية. هذه الاحداث مجتمعة ساهمت في زعزعة الهيمنة الامريكية، وخلقت وعيا سياسيا جديدا بالنسبة لضرورة ربط معاناة العالم الثالث بقوى اجتماعية في المراكز الرأسمالية نفسها، وخاصة النقابات والاحزاب اليسارية وطلاب الجامعات وغيرهم.
ان تطرف بن لادن واعوانه كان انعكاسا لتطرف نظام البيت الابيض والشركات المتعددة الجنسيات التي تحدد سياساته. من هذه الناحية، فتحت احداث 11 ايلول بلا شك عهدا جديدا في الحياة السياسية بالدول الصناعية نفسها التي يتمتع سكانها بمستوى معيشة مرتفع جعلها سلبية ولا مبالية تجاه ما يحدث من مآسٍ في العالم.
عندما تدخل الازمات الكبيرة الى قلب المدن الرئيسية فانها تزعزع استقرارها، ويدرك مواطنوها انهم ليسوا في منأى عما يحدث في العالم. النموذج المصغّر على ذلك يضربه سكان تل ابيب الذين اعتقدوا ان اتفاق اوسلو حل مشاكلهم، ولم يكترثوا بالمعاني الاقتصادية والسياسية لهذا الاتفاق بالنسبة للفلسطينيين، ثم فوجئوا بنار الانتفاضة على اعتاب منازلهم.
ولا تجب الاستهانة بالنظام الرأسمالي الامريكي فهو لم يستخدم بعد كل اوراقه للحفاظ على امتيازاته، ولا يجب باي حال الاعتقاد باننا على قاب قوسين من التغيير السياسي المنشود. وسيكون من الخطأ ايضا في هذا السياق تجاهل استسلام الطبقة العاملة الغربية واحزابها للحكومات الرأسمالية، واضاعتها سنوات طويلة من التجربة والتاريخ الثوري والقدرة التنظيمية بعد ان اقنعت نفسها بان الازمة لن تصل اليها ابدا. في 11 ايلول تحطم هذا الوهم عندما ادت الاحداث الى تعميق الركود الاقتصادي، وفُصل مئات آلاف العمال الامريكيين، حتى وصل عدد المفصولين منذ شهر آذار 2001 الى مليون عامل.
من المتوقع ان تواصل الطبقة العاملة الغربية دعم حكوماتها طالما ان الاخيرة تواصل توفير الامن ومستوى المعيشة المرتفع لها. ولن يكون من السهل تغيير خمسين عاما من التعايش مع النظام الرأسمالي. ان تبني الطبقة العاملة منذ الحرب العالمية الثانية لنمط حياة وايديولوجية الطبقة الوسطى، يشكل حاجزا كبيرا جدا لا يمكن القفز عنه، الا في حالات الطوارئ، حين تتفاقم الازمة الاقتصادية الى ازمة اجتماعية وسياسية في آن معاً.
ولكن لا يجب ان تثبط هذه الصعوبات من عزيمة الثوار في العالم. ولا يجب الاستهانة بالامكانيات المادية الثقافية الهائلة التي تتمتع بها الطبقة العاملة وشريحة المثقفين في الدول المتطورة. هذه الامكانيات تشكل اساسا علميا قويا ومهما في امكانية طرح برنامج بديل معتمد على تقسيم الموارد بشكل عادل ومتساوٍ. ان المجتمع الصناعي المتطور الذي يملك وسائل الاتصال والاعلام العصرية، قادر على التنظيم المدني والنقابي بشكل لا يقارَن بقدرة العالم الثالث. وحتى لو اندلعت في دولة نامية معركة هامة ضد النظام الرأسمالي فلن يكون بمقدورها وحدها حسم موازين القوى العالمية. فقد استهلكت هذه الدول النامية قواها في سنوات نضالها الطويل مع الاستعمار.
ان نهاية كل نظام مشروطة بانتهاء دوره التاريخي، أي بانتهاء قدرته على توفير الامن والحياة الكريمة للانسانية. ان بناء البديل السياسي الثوري هو ضرورة تاريخية مربوطة ارتباطا جدليا بانهيار النظام الرأسمالي القائم، وليس باجتهاد ذاتي لاصولي اسلامي في افغانستان او يساري متطرف في احدى الدول الغربية يستعجل حدوث الثورة والتغيير، دون ان يأخذ بالحسبان الظروف الموضوعية اللازمة لتمهيد الطريق امام التغيير الثوري.
لا يعني هذا بالطبع ان الطبقة العاملة في الدول المتطورة ستنجح في قيادة الانسانية نحو اسقاط النظام الرأسمالي وبناء النظام الاشتراكي الجديد والمتساوي، ولكنا نقصد القول ان غياب هذه الطبقة عن قيادة النضال سيؤدي الى تفاقم الازمة العالمية واستمرار حلقة الموت والارهاب الى درجة قد تتدهور الى حرب عالمية مدمرة.
يعود الكاتب والصحافي الفرنسي آلان غريش والاكاديمي الاسلامي السويسري (من اصل مصري) طارق رمضان لتناول المستجدات في العالم الاسلامي في ضوء زلزال 11 ايلول، في صياغة جديدة لكتابهما حوارهما ((الاسلام في اسئلة)).
نتناول هنا الفصل الرابع من الطبعة الجديدة للكتاب (نشرت ((السفير)) مراجعة للكتاب في ملحقها الثقافي في عدد 4 ايار 2001)، الذي يركز على مقولة الاسلام السياسي وفشلها وظاهرة اسامة بن لادن والعنف في الاسلام.
  
بداية، يتساءل رمضان عن مستوى ونوع التحليل والنقد الذاتي المطلوب من المسلمين في ظل المرحلة الجديدة وما هو الحل الواجب اعتماده لسحب الشرعية عن اناس يقومون بأعمال مشابهة لهجمات 11 ايلول. ويرفض في سعيه للإجابة عن هذين السؤالين موقفين شائعين في العالم الاسلامي وهما: الامتناع عن التعليق على ما جرى ما لم يقدم دليل الاثبات المطلق بعد، والقول انه ((لا يمكن لمن قام بعمل مشابه ان يكون مسلما)). فمن غير المقبول بعد 11 ايلول التزام الصمت ازاء نوع من القراءة للنصوص الدينية قام بها مسلمون لتبرير هذا النوع من الاعمال. اذاً، من الافضل ان يعي المسلمون اهمية العمل الذي يتوجب عليهم القيام به.
ويصر غريش على الابتعاد عن النظرة التبسيطية الى الاسلام مشيرا الى التنوع الكبير بين المجموعات الاسلامية سواء لناحية الاهداف او وسائل وأشكال النضال التي تتبعها. مثال على ذلك الموقف من اللجوء الى العنف الذي يقسم الجماعات الاسلامية. ويرى ان النظام العالمي يرفض الاعتراف بالاسلام كعنصر مكون للهوية في الدول المسلمة. وفي الحالة الافغانية ادى دعم الولايات المتحدة للعناصر الاكثر تطرفا اثناء القتال ضد الروس الى تغذية صراعات لم يكن في وسع الاطراف الافغانية تجاوزها بعد انتصارها. ومن غير المستبعد وجود استراتيجية اميركية ترغب في استمرار حراك بؤر توتر في العالم الاسلامي بما يوفر الحفاظ على المصالح الغربية وإبقاء الاسلام مرتبطا بالعنف الاعمى متعارضا مع الحضارة الليبرالية والتقدمية التي تدافع عن السلام والديموقراطية وحقوق الانسان. قد يبدو هذا التفسير تبسيطيا لكنه مؤثر.
ومن دون ان ينفي رمضان مسؤولية المسلمين عن اوضاعهم، يشير الى ان الاشخاص الاسهل وقوعا في شرك التحكم من قبل القوى الاجنبية هم الاكثر اقتناعا بقضيتهم والاكثر صدقا، على ما في ذلك من تناقض. فهؤلاء يكونون عادة منخرطين في مقاومة تطغى عليها العوامل ((العاطفية)) ويقل بالتالي تأثير العامل السياسي فيها. وكمثال على تسلل قوى اجنبية وتحكمها في تنظيمات تبدو مناقضة لها، يقدم رمضان نموذج الشيخ عمر عبد الرحمن الذي اصدر الفتوى باغتيال الرئيس انور السادات، وبعدما ادين وحكم عليه بالسجن في مصر ظهر في ما بعد بصورة غامضة في الولايات المتحدة. وتقول سفارة الولايات المتحدة في السودان انها منحته تأشيرة الدخول لأنها لم تتعرف إليه. جرى هذا بعد اشهر قليلة من اغتيال السادات. تثير هذه الاحداث الدهشة وتضع علامات استفهام حول الطريقة التي تتحكم بها القوى الغربية بجماعات المعارضة في الجنوب.
لكن المسألة المطروحة اليوم ابعد من ذلك. فالنظرة الشائعة في الغرب تقوم على تبسيط الاسلام وحصره في مفاهيم معينة كالجهاد وعلاقته بالعنف ومعاداته للديموقراطية وحقوق الانسان.
ويوضح غريش ان الاسلام مر عبر القرون بالعديد من حركات الاصلاح وان الاصلاح اليوم ضروري اكثر من اي وقت مضى لكن الاهم هو ان يكون من صنع المسلمين. ومن الغباء والخطر وضع المسلمين امام الخيار: إما ان تتخلوا عن الاسلام او نشن الحرب عليكم. وخطر الحرب بين الحضارات قائم وفعلي ليس لأن هناك من أراد وقوعها بل لأن المنطق السائد في العالم هو ان صورة ((الاخر)) تصبح شاملة: لقد وضع الغرب في مواجهة الاسلام كما لو انه يشكل ((كلا)) متجانسا. فبرز المأزق وعلى الجميع الاختيار: إما نحن او هم. هم الاشرار بطبيعة الحال ونحن الاخيار.
للخروج من هذا المأزق، تنبغي اعادة النظر في المقاربات وفي الاجابة عن اسئلة من نوع: هل التضامن ضروري فقط بين اولئك الذين ينتمون الى ثقافة واحدة ودين واحد وأمة واحدة او البشر الذين يحملون قيما مشتركة ومستقلة عن معتقداتهم. ومن المهم معرفة ما اذا كان هناك من امور مشتركة بين طارق رمضان وآلان غريش اكثر من تلك الموجودة بين رمضان وأسامة بن لادن.
يجيب رمضان انه يشعر بنفسه اقرب الى غريش منه الى بن لادن لناحية القيم، مشيرا الى ان الوعي النقدي المسلم مهم في هذا الجانب، ومؤكدا عدم صحة المقولات عن ان الفقر والجهل هما وحدهما سببا ظهور القراءات المتطرفة للدين.
ويذكر ان من بين الذين يرفعون الخطاب الثنائي ((نحن او هم)) اشخاص في غاية الثراء ويتمتعون بمستوى مرتفع من التعليم. ما يعني ان من المهم التسلح بثقافة واسعة لإقامة علاقة نقدية مع النصوص حتى يمكن القول ما هو غير مقبول من وجهة نظر الاسلام.
أما ظاهرة بن لادن فلا يمكن عزلها عن الظروف الموضوعية التي انشأتها. ولا يمكن فصل الغرب في هذا المجال عن مسؤوليته في دعم الانظمة الديكتاتورية في العالمين العربي والاسلامي. وفي هذا السياق تجمعت كل المكونات اللازمة لصدام حضارات: سوء فهم للذات، جهل بالآخر، صراع مصالح اقتصادية وجيو استراتيجية. وربما يكون وعي المسلمين في الغرب وشركائهم هو الكفيل بتجنب حرب الحضارات بتطوير وعي اكثر انفتاحا على هذا العالم. ولا يمكننا تجنب صدام الحضارات ما دام موقف الشمال عبارة عن سياسة خبيثة ازاء الجنوب، حيث يؤيد الشمال الديكتاتوريات وإرهاب الدولة اذا خدمت مصالحه.
ويوضح غريش ان ذلك ينطبق تماما على موقف الغرب من صدام حسين أثناء الحرب ضد إيران بما في ذلك تجاهله لمأساة حلبجة، وترحيب واشنطن باستيلاء طالبان على كابول في العام 1996 حيث رأت في الحركة محررا لأفغانستان من الفصائل الافغانية المتناحرة التي عادت اليوم الى التحالف معها. ويقول ان ابن لادن هو نتاج انتصارين غربيين الاول في افغانستان حيث هزم الاتحاد السوفياتي والثاني في حرب الخليج حيث هزم العراق، متسائلا عمن يكون ((ابن لادن الجديد)) الذي سيخلقه ((الانتصار)) الاميركي في افغانستان.
  
بالانتقال الى صورة الاسلام المرتبطة في الغرب بالعنف، يعدد رمضان ثلاثة عناصر تكوّن هذه الصورة. يرجع العنصر الاول الى مئات الاعوام عندما وسم الاسلام في اوروبا بطابع توسعي لا يتوانى عن اللجوء الى العنف لتحقيق غاياته وحيث كان الاسلام دين العرب ((حاملين الخناجر بين اسنانهم)). العنصر الثاني هو التفسير المرتبط مباشرة بالاستعمار. فبريطانيا وفرنسا كانتا تصفان كل من يحارب استعمارهما في الجزائر او مصر او في غيرهما ((بالارهابي)). وما يزال استغلال هذه العبارة ساريا حتى اليوم. فروسيا تقول للعالم انها تواجه ارهابيين في الشيشان. وبعد 11 ايلول وجدت كل الدول من روسيا فلاديمر بوتين الى الحكام الديكتاتوريين العرب وصولا الى اسرائيل، فائدة كبيرة في وصف خصومها بالارهابيين او ((بالاسلاميين)) ما يوفر لها حرية كاملة في قتلهم وتعذيبهم والتنكيل بهم من دون ان اي بادرة احتجاج.
العنصر الثالث هو القمع الرهيب الذي واجهت به الدول العربية الاسلاميين في مرحلة ما بعد الاستقلال، ما ادى الى زيادة تشدد عدد من القيادات الاسلامية التي مرت في سجون الانظمة. وبرغم احتلال الحركات الاسلامية العنيفة مقدمة المشهد الا انها تبقى اقلية ضئيلة. وقد ادركت الحكومات ان في وسعها استخدام هذه الحركات بصورة غير مباشرة، اذ انها تبرر بقاء الديكتاتوريات التي تقوم بتشبيه جميع خصومها بها. وبمرور الاعوام، اصبحت هذه الحركات هي الحليف الموضوعي والاكيد للديكتاتوريات، التي تقول انها تعمل للإطاحة بها بالقوة، على ما في ذلك من تناقض.
من ناحية ثانية، لم تنجح الحركات الاسلامية منذ عقود في اقامة ما يشبه الاممية التي انشأتها الاحزاب الشيوعية. اما تنظيم ((القاعدة)) فمع طابعه الدولي الا انه يفتقر بشدة الى المشروع السياسي، باستثناء قلب الانظمة العربية والاسلامية وضرب المصالح الغربية، ما يجعله في عزلة عن الحياة السياسية للبلدان التي يعمل فيها.
  
في رده على سؤال حول امكان عودة الدين ليشكل عاملا في تفجير الصراعات، يؤكد رمضان ان السبب العميق للصراعات مرتبط بالعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الى جانب التحدي الذي تشكله العولمة لثوابت الهوية. ويصبح الدين هنا عنصرا او بعدا في الصراعات.
وهناك ظاهرتان مختلفتان في هذا السياق. الاولى طغيان التفسير الديني لبعض الصراعات في ظل سوء فهم المعطيات السياسية والاقتصادية وهي حالة الصراعات في آسيا وأفريقيا وأوروبا. الظاهرة الثانية هي استغلال المعطيات الدينية. فالبعد الديني للصراع في الشيشان ثانوي، لكن الروس ركزوا عليه بسبب إدراكهم للفوائد التي يمكن أن يجنوها من تصويرهم للحرب هناك على انها صراع ضد الاسلاميين والارهاب.
وفي بعض الحالات تغذي الحكومات الصراعات ذات الاسباب الاقتصادية والسياسية، وتصورها على انها صراعات دينية وتستغلها لتقدم نفسها كحكم بين المتصارعين.
ويشير رمضان الى ان كثرا في الغرب يحمّلون الاسلام مسؤولية اندلاع صراعات دموية، من دون ان يعبّروا صراحة عن ذلك لكنه يؤكد ان النظام الاقتصادي القائم على فلسفة ما فوق ليبرالية، يؤدي الى نقاش يتناول القيم وعلاقتها بالتقاليد. ومن خلال هذا النظام تطلق الأحكام على ما نعتقد أنه ((تقدمي)). ويبدو ان ((المعقلين)) الكاثوليكي واليهودي قد استسلما لهذا النظام ويقولون في الغرب انه لم يبق الا ((المعقل)) الاسلامي. ويرون ان المسلمين يرفضون من جهة، الرؤية الليبرالية و((التقدمية)) وفي المقابل يتمسكون بدين توسعي وعنيف. وفي استنتاجات هذا المنطق: لا بد ان يكون الاسلام رجعيا ومنتجا للعنف. لذلك يبدو ان مجرد الاشارة الى الاسلام تكفي لتفسير اسباب اندلاع الصراعات.
ويختم رمضان بالتشديد على ان مستقبل الدول المسلمة يمر بإعادة تحديد علاقاتها بالاسلام كمرجع وبتطوير اصيل على ايقاع نقد الفكر والعقليات في قلب حضارة متصلة بالحضارات الاخرى، وعلى ضرورة النضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية مشككا في الوقت ذاته في استعداد الغرب للقبول بهذه التعددية في الدول المسلمة.
ويتساءل: هل فشل الاسلام السياسي؟ هل نريد الاطمئنان الى بقاء الاوضاع في المجتمعات المسلمة على حالها الراهن؟ هل نريد القول ان الاصلاحيين المسلمين فشلوا في تقديم نموذج محدد؟ هل يعني ذلك فشل الثوريين؟ بالنسبة للعالم العربي المسلم ليس هناك إلا فشل واحد: الديكتاتوريات باقية والشعوب تختنق.
في النهاية دعوة الى النضال ضد الديكتاتوريات ولترك الشعوب تختار، وعندها يمكن التوصل الى حصيلة موضوعية.
ليس تشكيكا بإيمان المنظمات الاسلامية وانتمائها الديني، فهذا ليس شأنا نتدخل فيه ولا المقالة بحث في فقه الدين، بل، على طريقة ((للراشدين فقط))، النص موجه الى المنظمات التي تنتهج سياسة التكفير وتتدخل تدخلا سافرا في سرائر الأفراد وعلاقاتهم الحميمة، والى تلك التي تنتظم في حركات مكافحة من أجل غايات سياسية محددة، والى المنتظمين حتى من الفقهاء والمعممين وآيات الله، فضلا عن سائر المحازبين، من الذين يمارسون السياسة في احزاب وحركات ومنظمات وأطر تتجاوز همومها شأن التبشير الديني والبحث الفقهي، ومن الذين يستخدمون المنابر ومكبرات الصوت وشاشات التلفزة والتظاهرات، ممن يوهمون الناس باهتمامات دينية في حين ينطوي نشاطهم في صورة أساسية على الهم السياسي. من هو خارج هذا الانتظام من المؤمنين ليس معنيا من قريب ولا من بعيد.
نعرف ردهم الجاهز والقائل بأن الاسلام دين ودنيا، ونعرف كما يعرفون حكاية السجال الحديث حول هذه المسألة، من قضية علي عبد الرازق حيث بددت المصالح السياسية للخديوي نفحة التجديد الفقهي التي اقتحمها الشيخ الأزهري، إلى ارتباك العالم الاسلامي حيال الموقف من الغزو الاميركي لأفغانستان، وهو ارتباك لا يفسره أو يبرره إلا عدم الإجماع الديني على اعتبار قضية طالبان والقاعدة وابن لادن قضية دينية، والاجماع على أنها قضية سياسية بامتياز، ولهذا السبب بالذات ما كانت مناشداته مقنعة لغير أنصاره ولا مستجابة من الحركات الاصولية.
  
الاصوليات كلها تتذرع بالنص وتستقوي به على سواها. كل الاصوليات تفعل ذلك، الاسلامي منها والماركسي والقومي، ولكل منها نصه الجاهز. وكما تبرأ ماركس، وهو حي، من الماركسية حين أصغى الى أحد أتباعه يبشر بها، فقد تبرأ مسلمون من مسلمين، ولم يحتمل الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية في أيامه، ما آل إليه وضع المتدينين فنبه من خطر المؤمنين على الاسلام:
ولست أبالي ان يقال محمد/ أبلّ أم اكتظت عليه المآثم
ولكن ديناً قد أردت صلاحه/ أحاذر أن تقضي عليه العمائم
وسرعان ما يكتشف المرء ان النص نصوص، هكذا في الماركسية ولدى أهل اليسار، وكذلك في الاسلام والتيارات الاسلامية، ولا يعود كافيا ان يتبرأ أحد من أحد، حين يؤول الاختلاف على النص الى حروب وصراعات مدمرة، ذهبت بتروتسكي في أميركا اللاتينية على بعد آلاف الأميال عن موسكو، وأزهقت ذبحا مئات الجزائريين مع نصوصهم المقدسة، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
والاصوليات تبدأ معاركها بالاسلحة الثقيلة: بالتكفير. فلا يعود مفيدا سجال فكري او حوار بين مختلفين بعد ان يسبق السيف ال... قلم.
والاصوليات تزهو بالادعاء الواثق بامتلاك ناصية الحقيقة، حتى بات يحيرنا من منها يمسك بمفاتيح الجنة، ومن منها يملك الوكالة الحصرية باسم الخالق. واليقين عند كل منها لا يرقى إليه الشك، وبالتالي فإن طريق الشك معروفة ووجهته واضحة. يبدأ الشك بالأقربين وينتهي بمن نستطيع إليه سبيلاً.
والاصوليات لا تكرر النصوص وحدها بل تكرر العصور والأزمان، ومن يستسهل التلاعب بالتاريخ وادعاء تكراره ينطبق عليه قول الشاعر:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا/ فأهون ما يمر به الوحول
يصبح من السهل عليه ان يبدأ التكرار بالأزياء. استحضر الماركسيون من ماركس لحيته الكثيفة وجعلوا منها احدى علامات يساريتهم، اما الحركات الاسلامية فقد استحضرت الصحراء كلها برملها وبداوتها وأزيائها. وإذا كان الماركسيون قد أذعنوا لتواضع فرضته عليهم آليات في بنية الفكر الماركسي، فالاسلاميون أعفوا أنفسهم من المتطلبات المرهقة في حقل المعرفة ومنحوا أنفسهم الألقاب، من أمير الجماعة حتى أمير المؤمنين، وبات ينطبق عليهم ما تخيله الشاعر حين قال:
... فأنا نبي، لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء...
ويغدو واحدهم جاهزا للفتاوى والاحكام في كل شأن عام وخاص، من التبول حتى علوم الفضاء، مرورا بالاحوال الشخصية والوضوء وأمور النكاح، ناهيك عن علم اليقين بشؤون الآخرة... من هذه العدة المعرفية يخرج الى الناس في صورة المبشر، الصورة التي تتماهى بالأنبياء والأولياء والمعصومين.. لحى معفاة وشوارب محفاة وعمائم وجلابيات وسيارات شبح وأجهزة اتصال ومكبرات صوت، وكل ذلك هو حق له. نعم حق له، لا يجوز لأحد في عصر الحريات ان يحرمه منه، لكن ما لا يجوز له هو ان يدعي اكثر من سواه معرفة في علم الغيب، كما لا يجوز له ان يوظف الدين في المناورات.
خطر المناورة كامن في توظيف هذا العلم خارج حقل الدين، كمن يمارس التطبيب بعدة النجارين او الالكترونيات بعدة الحدادين. هذا هو بالضبط سر التجهيل الذي تُمنى به الجماهير على أيدي الاصوليات، حيث تساق الى حلقات الوعظ، فتشحن باسم الدين نحو الآخرة، من غير ان تدري ان هذه الشحنة ستفرغ في الحياة الدنيا بما يشبه الخداع، تفرغ في السياسة الجهلاء، في التكفير والهجرة، في رباط الخيل وعدة البداوة ومجافاة العلم والحجر على النساء، ولا غرو عندئذ ان تؤول مصائر الحركات الاصولية بخبطها العشواء الى بناء من العدم السياسي مشيد على الجهل وسوء التقدير وحسابات مغلوطة بموازين القوى، ولا يغير في واقع الامر ان يكون بعض قادتها من خريجي الجامعات وبعضهم من العلماء، ولا يجدي واحدهم نفعا ان هو تظاهر بالمعرفة الموسوعية المفتعلة.
  
نفي المعرفة عن الأصولي لا يعني تجريده من كل معرفة وفضيلة، فالذي فعله ستالين يوم نصب نفسه فيلسوفا وعالما في الفيزياء والاقتصاد... ونشر كتاب ((التناقض)) الذي هو عبارة عن محاضرات لقنه إياها أحد أساتذته قبل ان يعدمه بتهمة الخيانة، ثم ألغى الاحصاء الاقتصادي بصفته علما برجوازيا... كل ذلك وغيره لا يعطل فضائله في الانتصار على النازية، والمناضلون الصاعدون من الثقافة الاسلامية حرروا الجزائر من الاستعمار ولبنان من الاحتلال لكن بعضا من سلالتهم قتلوا سواهم غيلة وذبحوا مسلمين كالخراف، وهم ان نجحوا فبفضل مهارتهم في قراءة علم السياسة، وإن فظعوا فبسبب جهلهم قوانين هذا العلم، أما علوم الدين فهي ذاتها في الحالتين من دون تغيير. جهلهم إذن الذي نعنيه هو الجهل السياسي، وهو نابع من وهمهم بأن أصول العمل السياسي متوافرة في طقوس الايمان.
خطيئة الأصوليات إذن خطيئتان: واحدة بحق الدين وأخرى بحق السياسة، لأن الخلط بينهما يسيء الى الاثنين معاً على قول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف في العلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
من هنا بالضبط نشأت الحاجة في الحضارة الحديثة الى التمييز بين الدين والسياسة باعتبارهما حقلين مختلفين في الهموم وآليات العمل والتفكير، وقد جرت صياغة هذا التمييز بدقة في شعار الفصل بين سلطة رجال الدين وسلطة الدولة، وذلك لتسهيل قيام الدولة الحديثة، دولة السيادة والقانون، على ان يبقى للمثقف، المعمم او خريج الجامعة، دوره، تحت سقف الدولة ورعايتها. وكم هو بالغ الدلالة ان يجمع الاصوليون على مواجهة الدولة الحديثة والقانون، وأن يتمسكوا بأية صيغة استنسابية للحكم تحت دعوى استحضارها من التاريخ، ولم ينتبهوا الى قضية بسيطة جدا، وهي ان التاريخ ماضٍ الى الأمام وأن له قوانينه التي، على رأي ديكارت، اذا كان الله قد خلقها بحكمته لتسيير شؤون العالم، فإن عقل البشر، وهو من خلق الله ايضا، اكتشفها ليعمل بهديها. غير ان عقل الاصوليات مصر على ربط عجلة التاريخ الى الوراء، لا في مجافاة العلم ومسخ التراث وقتله وتدميره فحسب، بل في منع قيام الدولة الحديثة، والوقوف بالتالي في وجه كل حداثة، بما في ذلك تحديث الدين.
خطيئتهم الفكرية بحق النص هي قتل الحداثة التي فيه. فهم يجهلون ما في النصوص القديمة من طاقة على التجدد، نصوص الدين ونصوص الشعر والفلسفة. يتعاملون معها بجمود فيقتلونها، ولا يقرؤون فيها الا حروفها الصماء. إذن من أين لهم ان يكتشفوا سر الجمال الخالد في هوميروس والشعر الجاهلي والقرآن والانجيل وسائر كتب التراث؟ انهم يمسخون نصوص الدين فيحولون روحه الى طقوس، والطقوس الى أصنام. فأي إيمان إيمانهم؟ وأي دين هم عابدون؟




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن