الصخرة

عبد الستار العاني

2011 / 5 / 29


قصة قصيرة الصخرة ........ عبد الستار العاني




ظلت اسلاك الهواتف ترتعش مشحونة وقد اعيتها مكالمات لم تنقطع منذ فترة طويلة ، لاهثة كادت ان تنفجر وهي تنز كلمات تقطعت لتسيل على جوانبها ، الهواتف هي الاخرى لا تكف
عن الرنين مثل حشرجات مبحوحة ، مقا بض سماعا تها علاها لون كالح تركته قبضات خشنة
وهي تشد عليها بأصا بع مرتعشة .
مكاتب التحقيقا ت كانت في حالة انذار وقد استنفرت كل اجهزتها ، عيون مبثوثة في الشوارع
وعلى مداخل الحواري ، كا نت المعاطف الثقيلة تلاحق المارة بعيون وحشية .
انتصف الليل وهو ينضو رداء عتمته لينشرها في كل مكان ، تثاءبت باب عن ظلفة انفرجت ،
خرج الى الشارع وقد خلا تماما من المارة الا من سكون كان مخيما عليه راح يفضه بضربات
حذاءه على وجه الاسفلت وبايقاع رتيب ، غير ان صوت صفير تناهى اليه يقترب منه ويلاحقه اكتشف بعدها انه حا رس ليلي ، انتصب امامه وهو يعدل عقاله ثم راح يشد على ربا ط
بندقيته القديمة سعل بصوت واضح صائحا :
:- من انت .... والى اين في هذه الساعة من الليل ...؟
:- كنت في زيارة صديق ... وانا عائد الى البيت ....
:- كلا ... انت لص ....
:- عمي ارجوك انا لست لصا صدقني.....
حاول ان يمسكه من ذراعه وهو يقول :
:- تعال معي واثبت ذلك امام رئيس المخفر ، عند باب المخفر توقف قليلا وهو يطلق سعلة واضحة منبها الحراس وقف قبالة مسؤول المخفر مزهوا :
:- سيدي القيت عليه القبض في الشارع واظنه لص .....
:- هل انت حقا لص ...؟ وما اسمك ...؟
:_ انا لست لصا ....واسمي فاضل بهاء .......
بصوت متهدج وهو يتثاءب
:- احجزوه وفي الصباح سينظرون في امره
في الصبا ح اصطف الحراس على الجانبين حين راحت اقدامهم تلطم الارض بايقاع واحد ،
جلس الى مكتبه ثم راح يتصفح سجل الخفارة الليلي صائحا
:- ادخلوه ......
وقف امامه بقامته المديدة ، رغم انه لم ينم بقية الليل الا ان وجهه كان طافحا باعتداد واضح ،
تملاه قليلا ثم سأله :-
:- هل انت لص حقا ...؟
:- انا لست لصا اؤكد لك ذلك ....
:- اذا من انت ....؟
وبنبرة لاتخلو من حدة رد عليه
:- انا فاضل بهاء .....
:- نعم ...لم اسمعك.....؟
قلت انا فا ضل بهاء
يا الاهي ايعقل هذا ...
انتفض مثل ملسوع وهو يصرخ
:- اين مسؤول الخفر....؟
:- نعم سيدي....
:- لماذا لم تخبرني قبل هذا ...؟
:- سيدي ما كان بودي ان اوقظك من نومك من اجل لص ....
:- أي لص هذا يا غبي .... انه فاضل بهاء .....
:- عفوا سيدي ..... وماذا يعني فاضل بهاء هذا ..
:- انه الشبح الذي دوخ اجهزة الامن ....
ظل مسؤول الخفر فاغرا فاه وهو ينظر اليه بعينين يملؤهما الاستغراب والذهول،
تراقص سلك الهاتف بين يديه وهو يختطف سماعته ، القرص يدور باصابع مرتعشة
:- آلو .... سيدي ... لقد القينا القبض على فاضل بهاء .....
:- معقول ....هل جننت ...؟
:- صدقني سيدي ..وهو الآن موقوف لدينا ، لا بل يقف امامي الآن .....
:- سوف اتصل بك فورا .....
على مكتب المدير العام ينفجر الهاتف برنين حاد ،
:- سيدي المدير ..... لقد القت مفارزنا القبض على فاضل بهاء ...
:- لا اصدق ما اسمع ..... وبنبرة منفعلة
:- احضروه فورا .....
ظل يدور في غرفة مكتبه وبقلق واضح اشعل سيكارة على عجل وهي تتراقص
بين انامله المرتعشة ، ثم راح يفرك يديه بانتظار ممض ، بعدها استدار مسرعا
مرتميا على كرسيه الدوار نافخا اوداجه مثل طا ووس وهو يتمتم
:- واخيرا ..... كم اتعبتنا ايها الشبح اللعين .... ولكن قبل هذا ما اسمك ....؟
:- فاضل بهاء .....
:- سكناك ومهنتك ....؟
:- اسكن في كل هذا الوطن وانا واحد من اولائك المتعبين
:- من هم زملائك ... ؟
:- ليس لي زملاء ....ولا اعرف احدا .....
:- الست المسؤول في التنظيم ....؟
:- انا مسؤو ل عن نفسي فقط وهذا كل ما عندي ....
:- اذا انت لا تريد ان تعترف ..... اليس كذلك ....؟
سوف نرى ان كنت فاضل بهاء فقط
لحظة صمت راح يتمتم فيها مع نفسه بانفعالة واضحة
:- اولاد الكلب ..... مثل نبات الثيل كلما قطعناه ازداد كثافة ......
وقف منتصبا امامه وهو يتملاه بعينين تنمان عن تحد واضح ، مد يده باسطا كفه
على مقدمة المكتب ، اثاره ذلك ، فتح علبة سكائره ثم اشعل واحدة منها ، وبعد ان
سحب نفسا منها وضعها فوق ظهر كفه وقد دسها بين اصابعه ، ثم عاد يستجوبه
ثانية بعينين ما انفكتا تعلوان وتهبطان بين وجهه وكفه ، تسلقت الدهشة وجهه
وهو ينظر الى ذلك الوجه الصخري وكفه التي ظلت لصيقة على وجه المكتب دون
حراك ، لقد انسلخ عن كفه حين ارتحل بعيدا ، وحين عاد كانت السيكارة لا زالت
متوهجة بين اصابعه ، خطوط الدخان كانت تتلوى في سماء المكتب متماهية مع
رائحة شواء للحم بشري انتشرت في ارجاءه .
نظر اليه بعينين سبقهما خطان من ضوء غريب وان عينيه قد اكتضتا بدهشة مريعة
راح الدم يصعد هاجما وكأنه يريد ان يخترق جلدة وجهه حين وقعت عيناه على بقايا
السيكارة خط من رماد ظل منغرزا في اللحم عندها صاح بصوت مثل خواروهو يصرخ
:- تعالوا ..... تعالوا....والله لو كان فيلا لسقط من الالم .....
وبانفاس متقطعة مثل فحيح كان يسمع بوضوح قا ل :
:- خذوه وحذار ان تمسوه باذى او تسمعوه كلاما جارحا .....مفهوم انه رجل يستحق
الاحترام .
حارسان امسكا باطراف السلسلة وهو يتوسطهما ، توقفا عند باب المبنى حين تناهت
اليهم اصوات من بعيد ، الاصوات تعلو وهي تقترب مثل ستارة انفرجت توا عن حشود
بشرية وهم يرفغون اللافتات ، الشارع بدا وكأنه قد تلفع برداء ابيض ، رايات مطرزة
باللون الاحمر راحت ترفرف فوق رؤوس المتظاهرين، وكلما اقتربت كانت حروف اللافتات
تزداد حمرة مثل غضب يمورعلى وجوه الجماهير ، ظل الحرا س ينظرون بعيون مذعورة
وهم مسمرون في اماكنهم لكن السلاسل انتزعتهم من وجومهم حين سقطت وتد لت مثل
بندول وهي تتأرجح ، لحظتها كان فاضل بهاء قد انسل وانسرب مثل قطرة زئبق حين ابتلعه
الطوفان وضيعه وسط تلك الموجة البشرية العارمة ....



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن