قبل رحيل الذكريات إلى الأبد (3-3)

عدنان حسين أحمد
adnanahmed9@hotmail.com

2011 / 5 / 28

السينما الطلابية في العراق بين ثنائية التروّيض والإلغاء
تناولنا في الجزأين السابقين من هذا المقال القسم الأكبر من الأفلام الطلابية التي ركّز عليها المُخرجان فلاح ومناف، وفي الجزء الثالث من هذا المقال على بقية الأفلام التي أُنجزت خلال العشر سنوات الأولى من الألفية الثالثة ومن بينها (جروح بغداد) و (في منتصف الطريق) و (صباح الخير يا عامرية. .) كما نقدّم للقاريء الكريم خلاصة بحثنا ودراستنا الطويلة والمعمّقة لهذا الفيلم الوثائقي الناجح الذي يكشف عن شغف السينمائيين العراقيين بمهنتهم وحبهم منقطع النظير لها على الرغم من بعض الهنات ونقاط الخلل التي سنشير إليها في متن هذه الدراسة النقدية الطويلة نسبيا.
الرؤية المُضبّبة
ثمة مَشاهِد للقوات الأميركية وهي تغزو العراق عام 2003، ثم يعاود حسين السلمان إطلالته من جديد حيث يقول: (بعد مرحلة التغيّير كنا نأمل بشيء من التطور سيحدث داخل البلد، لكن حدثت جملة من العوامل عملت على تأخير الحياة الكاملة في العراق وبضمنها السينما الطلابية). لم يحدث أي تغيير جذري في البلاد، وظل الطلاب يصوِّرون بالفيديو وتنقصهم الكثير من الأجهزة والمعدات. البعض كان يحلم بالتوجه إلى الفسحة الديمقراطية التي أوجدها المحتل الأميركي في العراق، وبدأ البعض الآخر ينظرون إلى الواقع نظرة مختلفة عمّا كانت عليه في السابق، لكن الرؤية كانت مُضببة وغير واضحة بعد الاحتلال، كما أن بعض الطلاب بدأوا يتوجهون توجهاً فكرياً آخراً، وقد ظهرت مفردات جديدة على المجتمع العراقي كانت غير مألوفة من قبل مثل الطائفية والقومية والاحتلال، وكانت هذه المفردات بمثابة بواعث جديدة نشطّت العقل الإنساني وحفزّته على التعامل سواء أكان هذا التعامل سلبياً أم أيجابيا. والدليل على بقاء الأمور على ما كانت عليه أن الأفلام التي صورت بعد التغيير مباشرة كانت بالفيديو أيضاً، ويمكن الإشارة هنا إلى فيلم (جروح بغداد) عام 2004 إخراج وتصوير زيد عادل طاهر، مدته ثلاث دقائق، أي أن الشريط السينمائي لم يعد حتى بعد سنوات التغيير الأولى. وأن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية قد أربك الحياة العامة برمتها. كما انتشرت ظاهرة التسيّب التي لم تقتصر على الطلاب حسب، وإنما امتدت إلى الهيئة التدريسية نفسها.
يؤكد الأستاذ والمخرج فلاح حسن الذي يعمل مدرساً في المعهد منذ عام 2005 وحتى الآن بأن ترّدي الأوضاع السياسية والاقتصادية قد أثر على مستوى طلبة المعهد. فالدروس العملية شبه مفقودة، وحينما يريد الطالب أن يصوِّر مشروع تخرجه بعد خمس سنوات من الدراسة النظريّة البحتة في قسم السينما يذهب ويستأجر كاميرا فيديو لكي يصوِّر بها فيلمه، وكالعادة فإن التصوير يكون بائساً والإضاءة ضعيفة، لكن المهم بالنسبة إليه أن يتخلص من المهمة المناطة إليه. حاول الأستاذ فلاح حسن أن يجلب أجهزته ومعداته الخاصة إلى المعهد فوجد أن الطلاب قد بدأوا يستجيبون للدروس العملية بحيث بات بعضهم يترك الدروس النظرية لكي يحضر درسي العملي.
ثمة مَشاهد مجتزأة من فيلم (في منتصف الطريق) 2010 إخراج محمد مونيكا مدته (12) دقيقة مصور على شريط (دي في كام).

النظام الشمولي
يرى عادل الطائي، أستاذ مادة التصوير في المعهد بأن أي إنسان يمكن أن يكون مستقلاً سياسياً باستثناء الفنان لأنه يحمل فكراً ما، وهذا الفكر لابد أن يتجّه إتجاهاً معيناً. ولو كان الفنان مستقلاً لكان مثل الفقّاعة التي يمكن أن تطير بأي إتجاه، ولابد أن يكون للفنان وجهة نظر، ووجهة النظر هذه هي التي تشير إلى عدم استقلالية الفنان. أما الأستاذ عمّار العرّادي فيعتقد أن النظام الشمولي له خطط وبرامج تخدم سياساته، ولهذا فإن الغالبية تتجه لخدمة سياسات النظام وتبتعد عن توجيه الانتقادات إليه. في حين يرى الأستاذ عادل قاسم بأن النظام الشمولي قد دعم السينما، ليس حُباً بها، وإنما لكي تقوم هذه الأفلام بخدمة أفكار الدكتاتور وحزبه الحاكم وتوجهات حكومته بشكل عام. أما المخرج فارس طعمة التميمي فيعتقد أن الأنظمة الشمولية على مستوى الوطن العربي قد أسست لسينما حقيقية بغض النظر إن كانت سينما موجهة أم لا. فمعهد الفنون الجميلة كان يدرِّس طلابه بشكل أكاديمي ويخرّج طالباً يصلح أن يكون مخرجاً أو مصوراً أو مونتيراً أو ممثلاً أو تقنياً كي يعمل مستقبلاً في المؤسسات الفنية المحترفة.
وتأكيداً لدعم واهتمام النظام الشمولي بالسينما والسينمائيين يستذكر الناقد مهدي عباس حادثة وقعت في الثمانينات حينما زار العراق المخرج الإيطالي الشهير روبيرتو روسليني ومجموعة من الفنانين المصريين من بينهم المخرج رأفت الميهي وخيري بشارة والفنان الراحل فريد شوقي، وقد قالها خيري بشارة وفريد شوقي بالنص: (أنتم لديكم أجهزة سينمائية حديثة جداً ومتطورة، ونحن في مصر لازلنا نعمل بأجهزة وكاميرات تعود للخمسينات والستينات، ولو كانت لدينا مثل هذه الأجهزة الحديثة لأنتجنا بدل الخمسين فيلماً سنوياً (150) فيلماً في السنة). أما الاستاذ جواد ثويني فيجزم بأن الحكومة كانت تدعم السينما في السبعينات والثمانينات والتسعينات، وأن طالب قسم السينما كانت تُرصد له ميزانية لفيلمه، كما أن المهرجانات السينمائية كانت تموّل من قبل الدولة. أما الأستاذ فؤاد شهيد فيعتقد أن دراسة السينما لا علاقة بالمتغيرات السياسية التي تحدث في البلد، ولكنه يرى أن النظام الشمولي في العراق لم يقدّم أي دعم للسينما، فيما كان يدعم مشاريعه الخاصة التي تخدم توجهاته. وهذا الرأي غير دقيق فالسينما العراقية كانت تخدم النظام الشمولي وتسوّق آرائه وتوجهاته السياسية.
قبل أن تنطوي صفحة النظام البعثي الشمولي في العراق يقدِّم المُخرِجان فلاح ومناف مَشهداً (للرفيقة) الدكتورة هدى صالح مهدي عمّاش، عضو قيادة قطر العراق وأمينة سر مكتب الطلبة والشباب المركزي وهي تختتم فعاليات مهرجان الفيلم الشبابي عام 2002، إذ نراها وهي تسلّم الجائزة الأولى التي ذهبت إلى أفضل فيلم وثائقي يحمل عنوان (صباح الخير يا عامرية، صباح الخير يا هيروشيما)، ثم تبدأ الحقبة التالية التي هيمنت فيها الأحزاب الدينية على السلطة في العراق، إذ نرى مَشهداً لمعهد الفنون الجميلة عام 2010، وكنت أتمنى على المُخرجَين أن يتدرّجا زمنياً في تناول أحداث ووقائع الفيلم، فمن غير المعقول أن نقفز ثماني سنوات دفعة واحدة من دون الإشارة إلى بعض الأفلام التي أنجزِت خلال تلك الحقبة الزمنية، وهذا الأمر ينطبق على كل الحقب الزمنية التي مرّت، وليس هذه الحقبة على وجه التحديد. ثم نرى مَشاهد من (مهرجان الإمام الحسين للفنون الدينية) حيث نشاهد فنانة تشكيلية محجبّة أقامت معرضاً كرّسته للأئمة الاثني عشر المعصومين بينما يقوم الوكيل الأقدم لوزارة التربية على الإبراهيمي وعدد من مرافقيه بافتتاح هذا المعرض الذي يضم حصراً لوحات دينية تصور الأئمة بدءاً من علي بن أبي طالب وانتهاءً بالامام الغائب المهدي المنتظر. ثمة مَشهد آخر لعدد من الشباب وهو يرتدون أزياءً تعود إلى عصر صدر الإسلام كما يحملون سيوفاً ورماحاً ودروعاً واقية فيما يهتف أحدهم قائلاً: (يا حسيناً يا حسيناً يا شهيد قاتل الله يزيد). كانت هذه المَشاهد كافية لكي توحي للمتلقي بأن الحكومات التي تعاقبت على سُدة الحكم بعد التغيّير تسعى بشكلٍ محموم لتكريس الهاجس الديني الذي يعود بنا إلى أربعة عشر عقداً إلى الوراء، بينما يجب على العراقيين أن يعيشوا حاضرهم ويستشرفوا مستقبلهم لأن واقع الحال المُضبب يبدو وكأنهم يُقادون إلى المجهول!
لم يقتنع المخرج هادي ماهود بالديمقراطية الموجودة في العراق الآن لأنها توصل السياسي فقط إلى كرسي الحكم حتى يصبح دكتاتوراً. فالديمقراطية تعني المسافة المحصورة بين صندوق الاقتراع إلى كرسي الحكم، وحينما يعوقه أي شيء من الوصول إلى هذا الكرسي فإنه يتحوّل في الطريق إلى دكتاتور ثم يمارس الدكتاتورية بأبشع صورها! أما الأستاذ عمّار العرّادي فيرى أن هناك فهماً مختلفاً للحريات، فالأحزاب العلمانية تفهم الحريات بطريقة مختلفة عن فهم الأحزاب الدينية، وهذه المسألة تحتاج إلى حوار جدّي في كيفية تطبيق الدستور الذي ينعكس تأثيره على المجتمع العراقي برمته وعلى السينما الطلابية تحديداً وبقية الفنون الإبداعية الأخرى. أما الأستاذ عادل الطائي فيرى أن هذه الأنظمة الدينية والشمولية ليست لها علاقة بالفنان، لأن الفنان هو الذي يخلّد بلده، وليس الشخصيات السياسية الطارئة والعابرة التي تنبثق من الفراغ ثم تنتهي إلى العدم والنسيان المطلق. يطرح الأستاذ جواد ثويني سؤالاً منطقياً مفاده: هل توجد دار عرض سينمائية واحدة في بغداد أو العراق؟ ولماذا أُغلقت معظم صالات السينما في العراق؟ ومنْ هو المسؤول عن إغلاقها أو تحويلها إلى مخازن للحبوب والسلع والبضائع المختلفة؟ ثم يضيف قائلاً: (إذا كان ابن البلد لا يرى الفيلم العراقي المُنتَج حديثاً فمن الذي يراه إذن؟).
لا تكترث الدولة حالياً بالفن السينمائي أو ببقية الفنون الأخرى حسبما يرى المخرج مناف شاكر. فبعد مرور سبع سنوات من تغيير نظام الحكم الشمولي السابق والاتيان بنظام حكم ما يزال يخطو خطواته الأولى على عتبة الديمقراطية لم يلمس المخرج أي دعم من قبل الدولة التي لا تكترث بمن يرفع اسم العراق عالياً في المهرجانات السينمائية أو في المحافل العربية والدولية، ولا تقدّم أي دعم للمشاريع الفنية. من هنا يصل مناف شاكر إلى نتيجة مفادها أن السينمائيين حينما كانوا أداةً من أدوات الماكينة الإعلامية لنظام الحكم السابق كانوا يتلقون الدعم، واليوم بعد أن أصبحوا خارج إطار هذه الآلة الإعلامية انقطع الدعم وأصبح الفن مغضوباً عليه في هذا الزمن (الديمقراطي) وأصبح كل شيء يطلبونه حراماً ومخالفا لتوجهات الدولة الدينية ونواياها.

أين الأفلام الطلابية اليوم؟
يسترجع الأستاذ والمخرج فلاح حسن ذكرياته الدراسيّة ويقول حينما أصبحت أستاذاً في قسم الفنون السينمائية صار عندي شغف كبير لأن أعرف مشروع تخرجي الذي أنجزته أنا وزميلي مناف شاكر عام 1995، وأين حلّ به الدهر بعد هذه السنوات الطوال نسبياً؟ ثم يمضي إلى القول: سألت أحد الأساتذة القدماء في القسم وقلت له: أين يخزّنون الأفلام التي ينجزها الطلبة كمشاريع لتخرجّهم منذ أربعين عاماً وحتى الآن؟ فقال: إنها ملقاة في أحد الغرف الواقعة في نهاية الممر! يقول فلاح مدهوشاً: لم أكتشف هذه الغرفة إلا قبل مدة قصيرة. ذهبت للغرفة فوجدت الأفلام مكدّسة على الأرض بطريقة عشوائية من دون أرشفة، ومن دون تنظيم، ومن دون سجّل يحمل أسماء الأفلام المخزونة! ثم يختم كلامه بالقول: استغربت لهذه الوضعية المؤسية وقلت أين سأعثر على فيلمي وسط هذا الركام كله؟
أما المخرج مناف شاكر الذي يبدي على الدوام اهتمامه بقسم الفنون السينمائية فقد زار زميله الأستاذ فلاح حسن في المعهد وكانا يتجاذبا أطراف الحديث حول الأفلام التي أنجزوها هم وأصدقاؤهم قبل سنوات طويلة. فقال له فلاح: تعال لأريك الأفلام التي تتحدث عنها. ثمة أكداس ملقاة على الأرض بصورة عشوائية يندى لها الجبين. فهذه الصورة المزرية تقول بلسان فصيح وكأن السينمائيين أو القائمين على قسم الفنون السينمائية في المعهد لا علاقة لهم بالسينما، ولا يفقهون شيئاً عن طبيعة خزن هذه الأفلام الحسّاسة. كل الأفلام ملقاة على الأرض، وبعض الأشرطة خرجت من مخازنها، وبعضها الآخر مجعّد، والبعض الثالث منها ممزوج مع أشرطة أفلام أخرى معفّرة بالتراب. يقول مناف بأن هذا المشهد المرعب صدمه وأدهشه في الوقت ذاته فسأل صديقه مباشرة: أين فيلمنا؟ ولكن المشكلة لا تكمن في فيلمهم فقط، ماذا عن الأفلام الأخرى التي يزيد عمرها على أكثر من أربعة عقود؟ وبينما هما يبحثان عن فيلم تخرجهما وجدا العديد من أفلام الطلبة الذين أصبحوا نجوماً في مجال الإخراج السينمائي والتلفزيوني مثل فارس طعمة التميمي وهادي وماهود وعاتكة الخطيب وآخرين. كانت هذه الأفلام كلها في طريقها إلى الاندثار. في تلك اللحظة نظر مناف في وجه صديقه فلاح وقال: (لن يكون مصير هذه الأفلام الزوال، يجب أن نأخذها ونحافظ عليها ثم نحوّلها إلى نظام رقمي حتى وإن كان بأبسط الطرق وأقدم الوسائل المتاحة لنا). يؤكد المخرج فلاح حسن بأنه أخذ الأفلام كلها إلى بيته بمساعدة زميله مناف، وهناك قاما بنقل هذه الأفلام وأرشفتها من جديد بصورة بسيطة تتناسب مع امكانياتهم المتواضعة وهي عارضة سينمائية 16 ملم ولوحة عرض بسيطة مكونة من ورق على جدار المنزل. يقول فلاح بأنهما حوّلا مجموعة كبيرة من هذه الأفلام إلى كاسيتات (دي في كام) بغية الحفاظ عليها من التلف ومن عبث العابثين. أما المخرج مناف شاكر فقد عبّر عن فرحه اللامحدود حينما كان يكتشف أفلاماً قديمة جداً يصور بعضها حياة الطلبة داخل معهد الفنون الجميلة، تلك الحياة المختلطة الحميمة التي فصلها النظام الديني المتزمت الآن. يؤكد مناف بأن الاهمال الذي يشهده الفيلم السينمائي أو تراث السينما الطلابية بشكل عام هو اهمال غير مسبوق ولم يعرفه معهد الفنون الجميلة من قبل، ولكي نوثق هذه الحالة المزرية ونحافظ على هذا الإرث السينمائي المهم قررت أنا وزميلي فلاح أن ننتج هذا الفيلم الوثائقي من تمويلنا الخاص لكي لا تضيع هذه الذكريات إلى الأبد، ولا تندثر هذه الأفلام الإبداعية التي تحمل الكثير من الجهود العظيمة للطلبة الذين درسوا الفنون السينمائية منذ تأسيس المعهد في أواخر ثلاثينات القرن الماضي وحتى الآن.

خلاصة البحث
لا شكَّ في أن المُخرجَين فلاح ومناف أرادا أن يصنعا فيلماً وثائقياً عن الأفلام الطلابية التي أنجزها طلبة قسم الفنون السينمائية بمعهد الفنون الجميلة منذ تأسيسه وحتى الآن، أي أنّ الحقبة الزمنية التي كانا يسعيان لتغطيتها هي ستة عقود بالتمام والكمال، وهي بالتأكيد حقبة طويلة وتحتاج إلى مزيد من البحث والتقصّي والمتابعة الجدية للإلمام بالموضوع والإحاطة به، ولكن هل تمّ هذا البحث فعلاً؟ الجواب هو: كلا، لأن الأفلام التي توقفا عندها لم تجتز العشرين فيلماً، في حين أن الأفلام المكدّسة كانت أكثر من مئتي فيلم في أضعف تقدير! ولا أدري لماذا لم يُشر المخرجان إلى عدد الأفلام التي وجداها في الغرفة وتمّ نقلها لاحقاً إلى منزل الأستاذ والمخرج فلاح شاكر بغية تحويلها إلى النظام الرقمي والحفاظ عليها من التلف والضياع؟ وطالما أن فكرة الفيلم كانت منبثقة من الإهمال التام لهذه الثروة البصرية الهائلة والتاريخ السينمائي لأفلام الطلبة فقد كان الأجدر بهما أن يحصيا هذه الأفلام ويقسِّماها بطريقة متوازنة في فيلمهما الوثائقي، وإذا لم يكن بمقدورهما تغطية الحقبة الزمنية كلها، فقد كان من الممكن أن يأخذا خمسة أفلام من كل عقد، أي أن النتيجة النهائية سوف تصبح ثلاثين فيلماً كي تغطّي هذه المسافة الزمنية التي امتدت إلى ستة عقود كاملة، لكن الذي حدث أن المُخرجَين قد ركّزا على حقبتي الثمانينات والتسعينات كثيراً ولو أحصينا الأفلام المُنجزَة في حقبتي الثمانينات والتسعينات لوجدناها (11) فيلماً تبدأ بـ (الصبي والطيور) وتنتهي بـ (السقوط) آخذين بنظر الاعتبار أن فيلم (الجدار) قد أنجزه حسين السلمان عام 1974 و (ذكرى ابني) قد أنجزه المخرج جمال عبد جاسم عام 1979، أما الأفلام التي أنجزت في العقد الأول من الألفية الثالثة فهي خمسة أفلام من بينها (صباح الخير يا عامرية، صباح الخير يا هيروشيما) 2002، و(جروح بغداد) 2004 وفيلم (في منتصف الطريق) 2010. إذن، كان على المُخرجَين أن يوازنا في عدد الأفلام ويوزعانها بالتساوي على الحقب الزمنية الست المُشار إليها سلفاً. لم يقتصر خلل التوزيع على عدد الأفلام التي أُنجزت خلال الستين سنة الماضية، وإنما حتى على عدد إطلالات المتحدثين الخمسة عشر، فقد أطلّ علينا الأستاذ حسين السلمان تسع مرات طوال مدة الفيلم التي بلغت (95) دقيقة، فيما أطلّ الأستاذ عمّار العرّادي ثماني مرّات، بينما تحدث الأستاذ جواد ثويني ثلاث مرّات، وظهر الناقد عباس مهدي ثلاث مرات أيضاً، فيما أطلّ الأستاذ جمال عبد جاسم مرتين لا غير. كانت هذه الإطلالات غير متوازنة، فيما يقتضي واقع الحال في الأفلام الوثائقية أن تكون المُدد الزمنية موزّعة بالتساوي على المتحدثين من دون الانحياز لشخص على حساب الآخرين. تمحوّر الفيلم أيضاً على سؤال مهم مفاده: هل كان النظام الدكتاتوري السابق يدعم السينما؟ ولماذا لم يكترث النظام الثيوقراطي الجديد بالسينما العراقية؟ وقد تبيّن لنا بالدليل القاطع بأن النظام الشمولي كان يدعم السينما، لكنه كان يروِّضها لأهدافه ومشاريعه الخاصة. أما النظام الثيوقراطي الجديد فهو لا يكترث بالسينما أصلاً، لأنه يسعى لمحوها وإبادتها من الوجود، كما أنه فرض نظام الفصل بين الجنسين كي يعزّز الهوّة بين طلبة الصف الواحد، ويخلق نوعاً من القطيعة التي لم تعرفها المعاهد والكليات العراقية من قبل. سلّط الفيلم الضوء على بعض الأسماء الإخراجية النسوّية المهمة في المشهد السينمائي الطلابي التي نأسف لغيابها مثل المخرجة المبدعة سؤدد جورج، والمخرجة المتميزة عاتكة الخطيب، والمصوّرة والفنانة خديجة منخي وسواها من الأسماء الإبداعية التي اختفت في ظروف غامضة ومبهمة ولا نعرف الأسباب الحقيقية وراء انقطاعهنَّ وغيابهنَّ المحزن عن هذا المضمار الإبداعي الجميل.
وختاماً إذا كان ثمة خلل في الفيلم فأنا أعزوه إلى كاتب السيناريو نفسه مناف شاكر. فكتابة السيناريو تقتضي الموضوعية والدقة والمتابعة التفصيلية، هذا إضافة إلى أهمية بناء الشخصيات والأحداث في الفيلم الوثائقي، ولو كانت الشخصيات والأحداث مبنية بناءً فنياً رصيناً لما حدث هذا الخلل الذي لمسناه في إطلالات المتحدثين أو عشوائية تقسيم الأفلام التي أُنجزت خلال العقود الستة الماضية. وعلى الرغم من نقاط الخلل التي أشرنا إليها تواً فإن فيلم (قبل رحيل الذكريات إلى الأبد) هو إضافة حقيقية إلى أرشيف السينما الطلابية العراقية التي عزّزت حضورها منذ تأسيس معهد الفنون الجميلة وحتى الوقت الحاضر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن