هل يحق للمثقف الفرنسي نقد السياسة الاسرائيلية دون ان يتهم بمعاداة السامي

جواد بشارة
jawadbashara@yahoo.fr

2002 / 8 / 18

الاعلام الفرنسي والانتفاضة الفلسطينية

 

    
         تساءل سيرج حليمي في كتابه "كلاب الحراسة الجدد" عن مدى استقلالية الاعلام الفرنسي باعتباره السلطة الرابعة ، وهل يعمل بمعزل عن التأثيرات المالية والسلطوية السياسية او الاقتصادية ؟ وخرج بقناعة مدعمة بالوقائع بأن الاعلام سلطة بالفعل ، ولكنها سلطة غير مستقلة ، وهي اداة تستخدمها الاحتكارات والشركات الكبرى والسلطات السياسية ايضاً .. وها هي الايام واخبار الانتفاضة الفلسطينية تثبت ان الاعلام الغربي عامة والفرنسي خاصة يعاني من هيمنة اسرائيلية فرضت على الاعلاميين رقابة عامة واخرى ذاتية في الوقت نفسه .. وكل من يشذ عن هاتين الرقابتين يتعرض للضغوط و الشتائم والتشكيك بقدراته الاعلامية والثقافية ، وفي احيان كثيرة يساق الى المحاكم ويقاضى بتهمة زرع الكره ضد الاسرائيليين وتسويق الارهاب و" معاداة السامية " !!
        ان كل هذه التهم التي يفاجئ الاعلاميون والمفكرون الفرنسيون بها اليوم سبق وان تعرض لها بعض الاكاديميين الذين فصل بعضهم من وظيفته لأن حظه العاثر قاده للبحث فيما أسموه " الموضوعية التاريخية " او الحقيقة التاريخية ، واتهم بـ " نكران المحرقة او بمراجعة التاريخ وبالتالي بمعاداة السامية " وسيق بعضهم للمحاكم استناداً الى قانون " فابيوس ـ غيسو" ، وطردوا من جامعاتهم ومن المركز الوطني للبحوث العلمية الفرنسية ، ودفع بعضهم الغرامات ، وسحبت عن بعضهم الآخر شهادته الجامعية وعاش في رعب الملاحقة اليومية . وعلى الرغم من ذلك لم يعرض الاعلام الفرنسي  قضيتهم ، بل على العكس شوهها ودانهم دون معرفة حقيقية بطبيعة اعمالهم ..

الارهاب الثقافي


   إن هذا الارهاب الثقافي ، كما بدأ يسميه بشجاعة بعض المثقفين الفرنسيين ، قد مورس على بعض قوى اليمين ، التي اتهمت بالتعاطف مع " النازية الجديدة" ولهذا تخلى عنها اليمين واليسار ولم تثر ملاحقاتها وقمعها ضجة ما ، مع ان كثير من هؤلاء كان ينتمي الى اليسار وليس الى اليمين . إن هذا الارهاب الثقافي قد اتسعت دائرته اليوم فشمل قوى اليسار نفسه ،  وامثلة ذلك عديدة ومنها ما تعرض له من سباب وشتائم الاستراتيجي الفرنسي المعروف آلان جوكس مدير الدراسات في معهد الدراسات العليا بباريس ، عندما كتب في صحيفة " لوموند" في اكتوبر الماضي مقالة دان فيها بشدة حكومة باراك بسبب اهمالها الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني مع علمها بتفاقم اوضاع الفلسطينيين منذ توقيع اتفاق اوسلو . وقوله ان استمرار اسرائيل في سياستها هذه سيجعلها الخاسرة الحتمية في هذه الحرب رغم تفوقها العسكري لأنها تقود الجميع الى حرب اهلية سيدخل طرفاً فيها خمس سكان اسرائيل وهم عرب فلسطين  . وخلص جوكس الى ان هذه الحرب ستحول اسرائيل الى نظام عسكري استعماري متطرف يعيد الى الاذهان ما حدث في صربيا ويوغسلافيا السابقة .
       وما تعرضت له من ضغوط وحصار وشتائم عالمة الديموغرافية الفرنسية المعروفة ميشال تريبلا عندما نشرت في صحيفة "الفيغارو" ردها على كاتب صهيوني أساء للجالية الاسلامية في فرنسا ، وانتقدت تريبلا الطبقة السياسية والاعلامية التي تسمح لهذه الاراء العنصرية بالانتشار ، رافضةً  الارهاب الذي تمارسه بعض النخب على الشعب الفرنسي بحجة محاربة العنصرية واللاسامية ، وقالت بصريح العبارة  " انه من المخجل ومن غير الاخلاقي الاختباء وراء المحرقة اليهودية والاستفادة من الاجواء المشحونة والحديث عن غزو اسلامي في فرنسا" .
       ولم يسلم آلان ديكوف مدير الابحاث في مركز الدراسات العالمية بباريس من التشهير به عندما كتب في العشرين من اكتوبر الماضي في صحيفة " ليبراسيون" معتبراً ان سياسة اسرائيل هي المسؤولة عن اندلاع اعمال العنف في فلسطين ، وذلك لأنها لم تطبق اتفاقات اوسلو وواصلت سياستها الاستيطانية مما جعل السيادة الفلسطينية على اراضيها منقوصة اذ لم نقل حبراً على ورق  ، وأشار ديكوف الى ان الدولة العبرية بقيت خاضعة لمنطق التوسع الاستعماري الذي بنيت عليه اسرائيل منذ تأسيسها ، وهو ما جعل الحكومات الاسرائيلية بيمينها ويسارها عاجزة على تفريغ المستوطنات أو ايقافها .
        واذا كان جاك آتالي مستشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران لم ينل سوى بعض اللوم بفعل مكانته الخاصة في وسط الجالية اليهودية الفرنسية عندما كتب في مجلة "الاكسبريس" يقول بالنهاية الحتمية لاسرائيل ، لأنها وصلت الى نقطة النهاية ، وهي ستزول بالحرب او في السلم ، فإن المثقفين اليهود الفرنسيين الـ 51  ومن بينهم المحامية المشهورة جيزيل حليمي قد اتهموا بأبشع الصفات وتلقى بعضهم تهديدات لأنهم نشروا بياناً في صحيفة " لوموند" بعنوان " بصفتنا يهوداً " أعلنوا فيه بشجاعة منقطعة النظير  انهم متحالفون مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة ويشجبون القتل العمد لاطفال الحجارة  .

باسكال بونيفاس : هل نقد اسرائيل ممنوع ؟


      ولكن الفضيحة الحقيقية هي التي يتحدث عنها مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس باسكال بونيفاس الذي يواجه المحاكمة والتهديد بالقتل ، وهو مفكر يساري فرنسي قريب من الطبقة السياسية الفرنسية الحاكمة  ..وذلك لأنه كتب في الرابع من اغسطس مقالة في " لوموند " بعنوان "رسالة الى صديق اسرائيلي" ضمنها حقائق شجاعة عندما خاطب الاسرائيلي بقوله :
       " تخيل ان بلداً احتل نتيجة حرب أراضي الغير وخرق القوانين الدولية ..  اربعة وثلاثين عاماً والاحتلال مازال مستمراً على الرغم من الادانات المتكررة من المجموعة الدولية . والسكان في هذه الاراضي المحتلة يحرمون من حكم انفسهم ، وتدمر منازلهم ، وتصادر اراضيهم ، ويسجن ابنائهم دون محاكمة ، ويذلون بشكل يومي حتى أصبح تعذيبهم مشرعاً قانوناً وبدون خجل يسمى بـ " الضغوط الجسمية المعتدلة" ويمارس بشكل يومي . يثور السكان وبطالبون  بدولة مستقلة على الاراضي المحتلة ، وهو طلب لا يعدو ان يكون تنفيذاً لميثاق الامم المتحدة . وتبدأ دورة عنف وقمع حيث تقوم قوات نظام الدولة المحتلة باطلاق النار وتقتل بشكل منظم ومستمر المتظاهرين ومقابل ذلك يقوم الضحايا بعمل تفجيرات بحق شعب الدولة المحتلة .
       ويضيف بونيفاس : تخيل ان بلداً يحكمه رئيس وزراء  ارتبط اسمه بمجازر ارتكبت بحق المدنيين وبخاصة النساء والاطفال في معسكر لاجئين غير مسلحين . دولة يصف زعيم الحزب الثالث فيها المشارك في السلطة  افراد المجموعة السكانية الاساسية في البلاد وهم العرب بأنهم "افاعي واكثر من ذلك افاعي سامة" ويقترح "تصفيتهم " ويقول بضرورة " تصفية هؤلاء الاشرار ، العصابات وذلك باطلاق النار عليهم باقوى الصواريخ " في هذا البلد الذي يسمح للمتطرفين المسلحين ان ينظموا بدون ادنى قصاص حملات عقابية بحق السكان غير المسلحين . ان هذا الوضع غير مقبول باي شكل وفي أي مكان ، ومع ذلك فهو يمارس في الشرق الاوسط بذريعة ان المحرقة تغذي عقدة الذنب الجماعية ازاء الشعب اليهودي ... الضحايا اليوم هم الفلسطينيون وليس الاسرائيليين لأننا لا يمكن ان نضع على مستوى واحد قوة الاحتلال والشعب المحتل . ان الدعم الاعمى الذي تقدمه الجالية اليهودية في فرنسا لسياسة تعرف يوماً بعد يوم بأنها غير عادلة ، لكي لانقول سياسة قبيحة، يجعل الجالية تخاطر بعزل نفسها عن المجتمع .
       اثار هذا المقال الصريح ثورة اللوبي الصهيوني وهاجمته اقلام عديدة وكتب بونيفاس من جديد في الثلاثين من الشهر نفسه مقالة بعنوان "هل نقد اسرائيل ممنوع ؟" يقول فيها : انني لست يهودياً او عربيا او مسلماً ، افكر بكل بساطة بوجهة نظر اخلاقية بأن المبادئ الكونية لا ينبغي ان تطبق بشكل انتقائي ، ومن وجهة نظر واقعية فإن أي سلام دائم لا يمكن يرسى على نكران حقوق شعب اخر .. واعتقد بأن حق اسرائيل بالامن لا يتعارض مع حقوق الفلسطينيين بتقرير المصير .. ويشير بونيفاس ان مقالته الاولى "أثارت النقد والشتيمة ووعود بالثأر الشخصي وتهديدات خفية ضد شخصي" . بل ان ايلي بارنافي سفير اسرائيل في باريس كتب " ليس رداً على وجهة نظري وانما قام برد فعل مريضة اذ رفع ضدي دعوى قضائية بمعاداة السامية ونشر الكره ضد الاسرائيليين ". ويضيف بونيفاس " اجد ان غير المقبول ابداً ارهاب المثقفين ، واتهام كل من ينتقد الحكومة الاسرائيلية بمعاداة السامية .. تهمة ينبغي ان تطبق على مناصري السلام في اسرائيل وعلى اليهود الفرنسيين الذين يشاركونني رأيي ... ويخلص للقول "اتمنى ان تبقى المناظرة في فرنسا ممكنة حتى وان كانت عن الشرق الاوسط دون اللجوء الى جعل الاخر شيطاناً "

الكاتبة اليهودية ميشال مانسو : اسرائيل ستدفع الثمن


      وقد تضامنت مع بونيفاس وفي اليوم نفسها وعلى صفحات "لوموند" الصحافية والكاتبة ميشال مانسو .. ففي مقالة ترد فيها على وزير العدل الفرنسي الاسبق روبير بادنتير الذي يبرر سياسة شارون بذريعة القلق اليهودي ذكرت مانسو : " كنت يهودية قلقة لكن هذا لم يعطيني أي حق .. ان اسرائيل لن تجد سلامها الا عندما تصبح ذكرى المحرقة جرح من الماضي .. ولن تتمكن اسرائيل من مواصلة الحياة دون الاعتراف بدولة فلسطينية .. ان اسرائيل بمساندة الولايات المتحدة تمتلك حق التملص من مواثيق حقوق الانسان الدولية باطلاقها النار على الاطفال الفلسطينيين .. من 1993 وحتى 2000 انتظر الفلسطينيون السلام بهدوء ولكن الوعود لم تنفذ والمستوطنات تضاعفت وقد دفعت الاوضاع الفلسطينيين الى اليأس .. حتى نجد ان رجالاً يفجرون انفسهم من شدة انعدام الامل الكامل .. هذه التفجيرات تنذر بحرب الاديان ، بتطرف عام في المنطقة واسرائيل ستدفع الثمن . ان الفلسطينيين لا يريدون موت الدولة العبرية انهم يريدون دولة فلسطينية بجانبها ، ويريدون نصيبهم من القدس ولهم الحق في ذلك حتى ولو لم يكونوا من ضحايا المحرقة التي يعتقد بادنتير انها تعطي الحق بكل شيء ! إن اسرائيل تسعى لخسارة نفسها .
      ان من يعرف عن قرب حدود المسموح اعلامياً في فرنسا يصل الى قناعة ان جدار الخوف قد كسر وان الالسن قد انطلقت من عقالها ، وبات النقد جائزاً للسياسة الاسرائيلية وان تلقى الكاتب بعض التهديدات . ويبدو ان الثورة على التعسف الاعلامي بحق القضية الفلسطينية اصبح ظاهرة عامة وبات جميع اعلام الفكر والصحافة الفرنسيين يطالبون بحرية التعبير عن افكارهم ازاء ما ترتكبه اسرائيل من جرائم يومية . ويبقى ما حدث ليس سوى غيض من فيض فما زال في الفم ماء وما هي الا البداية ، وقل للذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .


   



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن