الزنزانة

طالب عباس الظاهر
taleb1900t@yahoo.coom

2011 / 4 / 27

الزنزانة
طالب عباس الظاهر
حينما تغدو الحياة بصيص أمل شاحب كآها ت محتضرة بين شفاه شمعة آفلة؛ تنساب الأماني الصغيرة كالأفاعي إلى جميع الاتجاهات، وتستفيق الأحلام في الخلايا والعروق، وتصبح مؤلمة كما الجراح النازفة في عمق الروح، ويموت الحزن العابر إلى حين...أجل يموت، لتولد منه أنواع أخرى متباينة، ما أحسست به كان ضرباً من النبوءة التي آمنت بها في نفسي، وياليت تبعت حدسي ذاك، ووليت بوجهي فرارا صوب الصحراء، فأعدو وأعدو دون توقف وبلا هدف، حتى يمزق الرمل أقدامي، وتلتهمني كثبانه، أو تنهش أوصالي الريح، فأغوص في كنف المجهول وأتلاشى، لعل أغلب مصائبنا نستشعر تربصها في عروقنا ورغم ذلك...رغم ذلك لا نتحاشاها، لأننا نجهل ماهيتها، بيد إنها حاجات عميقة، أو ربما استجابات حتمية لنداءات القوى الخفية الكامنة عميقاً في كينونتنا.
- عفواً أستاذ إبراهيم إن المدير يطلب حضورك حالاً إلى الإدارة.
- حضوري أنا؟
- نعم وكما يبدو لأمر هام !
- ولكني لم أنهي بعد درسي؟!
- أرجوك أستاذ إبراهيم دع ذلك الآن لأن هناك ما هو أهم بكثير.
- أستاذ فؤاد لم يبق من وقت الدرس سوى خمس دقائق فقط لن أتأخر.
- حسناً أبا احمد.
ومن لا ينسى هموم يومه العابرة، حين تمر الفاجعة أو يحس بفحيحها يقترب، ومن... من لا يعشق نفسه وتفاصيل حياته العادية، إذ أذن المغيب، فتلوح له في الأفق تباشيره الحزينة، وعويل نداءاته الجنائزية، فيغشاه صمت المقابر ووحشتها، وصراخ الأبدية يطن في أذنيه، ذلك سر ديمومة الحياة، وجدلية البقاء...أجل،لم يمر ذلك اليوم البعيد القريب، كما تمضي الأيام عادة، إذ لم أرجع بعده إلى البيت... عبر تلك الطرقات والشوارع والأزقة التي ألفتها، والتي لم أعد أنتبه إليها، فقط لأني ألفتها، وبسبب الروتين المميت لروح الأشياء وحيويتها، أما الآن فقد صار السير فيها ... أجل مجرد السير حلماً عزيزاً يشبه المستحيل.
سينتظرونني بلا داع، وسيطول بهم الانتظار، حتى تصفعهم أيادي اليأس بقسوتها، وتتناهشهم مخالب الظنون، عند آخر الليل تنام عيون الصغار...أحمد، وفاطمة، ثم سكينة، وحينما تفزعهم ذكراي يصرخوا برعب بابا أين بابا؟خاصة الصغيرة سكينة ذات الثلاثة ربيعا فقط، والتي تعودت أن لا تنام إلا معي، لكن أنامل الكرى الحنونة، سرعان ما تجرفهم إلى حضنها الآمن؛ فيغفون بسكينة ،أما النسيان لابد سيتكفلهم في النهار، وفيما بعد من أيام وشهور وربما سنين، وبشكل تدريجي لأن عجلة الحياة ستظل تدور وتدور، لأنها لابد أن تكمل مسيرة الدوران العقيم...يا ترى ماذا قلت لهم يا رباب، حينما ألحّ الأطفال عليك بالسؤال ثم بكوا وأنت تترقبين الباب؟
سيعود بابا بعد قليل، أو لابد لديه دروس إضافية نسي أن يخبرني بها، أليس كذلك؟ لكنك حتماً في وقت ما، لسوف تنهارين عند انتهاء فسحة الانتظار المعقولة، رغم جلدك وإيمانك الذي أعرفهما جيداً، لأنك أكثر منا جميعاً حاجة لمن يواسيك...البكاء لا يعيد شيئا مما راح، رباب.. رباب كلها لحظات قصيرة، أنفاس متقطعة من عمر هذه الحياة الزائفة، وسوف ينتهي الألم... أجل، وما الداعي لبقائنا، فحينما نفقد الأمل؛ تسقط الأهمية عن كل شيء...كل شيء، وما ندري فنحن نقيم من حبائل الوهم جسورنا إلى الآتي كأننا بلا عقول.
- من يستطيع أن يعدد الخلفاء الراشدين أيها الأبطال؟
- نعم، تفضل محمود.
- أستاذ الخليفة الأول أبو بكر الصديق ثم الخليفة الثاني ............!
...................................................
- أنت المدعو إبراهيم يوسف؟
- نعم.
- إذن تفضل معنا...!
- أين؟
- لدينا أمراً بإلقاء القبض عليك فوراً.
- عليّ أنا....؟!
- نعم عليك أنت وهل تظننا واهمون؟ أم الذين أمامك بهائم؟!
- عفوا أيها السادة، ولكن لماذا ؟
- في الدائرة سوف تعرف.
- أرجوكم ما لزوم هذه الجامعة...هأنذا تحت أمركم.
هبّ مدير المدرسة قائلا بجفاء:
- إبراهيم لا تطيل الكلام، قالوا لك في الدائرة سوف تعرف!
همس في ذاته:
أيها ألبعثي القذر، ما ظننت تصل بحقارتك إلى هذه الدرجة، لكنها لا تعدو كونها أساليب الجبناء أمثالكم.
فجأة صاح احدهم بقوة وبلغة آمرة :
- هيا مدّ يديك بسرعة.
- التلاميذ ينظروا لنا...لنخرج من الصف على الأقل،أرجو أن تقدروا موقفي المحرج...!
- كفاك وقاحة، وإلا سنستعمل معك أسلوب آخر.
وأي سحر للحياة يغدو، حينما نحياها من خلف الجدران السميكة، ومن خلف قضبان كوة صغيرة لزنزانة مظلمة ولزجة تحت الأرض، لا يرشح إليها سوى بصيص كابي، وتفوح منها الرائح الكريهة لتفسخ الفضلات، وتعفن بقايا دمنا المتفجر، أثر الكدمات و(الصوندات) المعبأ بالحصى ، فأي شيء فينا يبقى سوياً، حينما نحيا أدق التفاصيل المريرة للإحتضارات المتتالية، ترقب مشوب بالقلق، عبر شتى الهواجس، انسحاق هائل، رعب أبله بلا حدود، وذكريات موجعة، وياليت تنتهي فصول الهزل لمسرحية وجودنا بالموت، وأن لا نمارسه عشرات المرات، أو نحياه بالمئات، بذلك التوجس الذي يتسرب إلى مسامات الروح، ويشل النبض والحياة في الخلايا، أن تفشل أو تنهزم، أن تنجرح في الصميم، أن تبكي ما هو أغلى من الدم، أن تذل بمجون، أن تظلم حد الثمالة، أن تنسحق بعهر، أن يحطّ من شأنك، فتقترب بإحساسك من أقذر الحشرات، وأن...أن...أن............!
كلها حلقات متلاحمة في كينونة الموت الهائل، ربما جرّبت من موتي الكثير...كم لك من السنين؟ أقصد كم مرة عشت طقوس موتك في الحياة ؟ مئات المرات، آلاف، ملايين... ذلك هو العمر الحقيقي لكلانا، وآه أيتها العيون البريئة، ما هذا الفزع الفاجر، وهو يغتصب غفلتها، انه دخول غير مؤدب نعنفكم عليه، إذ لم تطرق الباب أصلاً، أجل يعني ليس كما تعلمتم أول ما تعلمتم، المعذرة يا أبطال إنه شيء آخر يطول شرحه، ولن تفهموه الآن، لكنكم حتما في يومٍ ما ستفهمون... بل وتعانون أيضاً، ووداعا أيتها العيون المذهولة بفعل الصدمة، ربما لن تفيقوا أبداً... يا لسخرية إنهم يبتغوكم علماء وأدباء ومفكرين وأطباء ومهندسين وتربويين، ومع ذلك يلوحون لكم بالإرهاب!، استحال الصمت لحظتـئذ خنجراً، انغرز نصله القاتل في كياني، واجتزت الباب، ونظرات الإشفاق تتبعني، تنسكب ناراً في أحشائي، وربما ترقرقت بعض دمعات بريئة لوداعي، وكأني جنازة وهم مشيعيها إلى مثواها الأخير، وقد شلّت حواسي قبل أن يعصبوا على عيني، بخرقة سوداء أخرجها أحدهم من جيبه، ويداي مقيدتين إلى الخلف بضغط الجامعة ...الحق لا داعي لذلك، لأني لن أرى شيئاً البتة،ثم دفعت في السيارة التي انطلقت تلتهم الطريق بسرعة فائقة، بعد أن أطلقت فراملها ذلك الزعيق، لاحتكاكها العنيف بإسفلت الشارع عند استدارتها .
- إلى أين تريد بي؟
- نعيدك.................. أمك...!
- لا يعجبك وتهز برأسك أيضاً
- ..............!
- انظروا يتأفف هذا الـ( ....) أكيد انه لا يعرف من أباه...؟
- لم اقترف ذنباً صدقوني.
- أخرس ألم أقل لك أخرس.
أدارت وجهي صفعة عنيفة أفقدتني صوابي، وشرراً تطاير من عيني، فخلت بشرتي ستتفجر على الأثر، وأزيز غريب ظل يصرخ في دماغي، ثم تبعتها لكمة قوية من الجهة التي استدار إليها رأسي، أصابت أنفي وفمي، مفجرة الدم الغزير من وجهي، وقبل أن أفيق من عنف الصدمة ؛ شعرت بجسم صلب يرتطم بمؤخرة رأسي، لعله كعب مسدس أحدهم، كان يجلس في المقعد الخلفي، فيزل الدم غزيراً على قفاي منساباً على ظهري، وأشعر به حاراً لزجاً... عندها تلاشى إحساسي بوجودي ولم أفق من غيبوبتي، إلا وأنا مرمي في زنزانة ضيقة، تحيط بها الظلمة والرعب، على أصوات الصراخ المفجع وصوت أنين متقطع، ينداح مابين طيات السكون، وآلام جسدية لا تطاق، وبعد زمن لا أعلم مدته، بيد إني خلته دهوراً من الفراغ.
لم كل هذا الحقد...! بل من أين لهم كل هذه القسوة ؟ كأنها أحقاد شخصية دفينة، لكني لم يسبق لي أن رأيت أحدهم!، المعذرة يا سيدي العدو من أي نوع كان، ربما يكون أقل قسوة منهم، بل لعله سيكون أكثر رحمة بنا وشفقة علينا، من أبناء جلدتنا، ويا ليتني أقاسي ما أقاسيه على يديه؛ لهان الأمر كثيراً ...الحق لا يمكن التصور بأنهم بشر مثلنا، خلقوا من لحم ودم، وشربوا لبن الأمومة الطاهر، وجاءوا من أرحام وبيوت...ترى أيمكن للإنسان أن يحمل في داخله كل هذا القدر من الوحشية، ويظل أنساناً ولا ينقلب، بل وتظل هيئته آدمية ولا تظهر له أنياب ومخالب...!
أنهم ذوو قياسات شخصية لابد فريدة، رشحتهم لأداء مثل هكذا مهام... أجل، وربما إنهم فقط ينتقمون لشيء ما في داخلهم!، وضحكت فيما بعد كثيراً ، وسخرت من اعتداد نفسي كإنسان له طموحه ومشاريعه وأوهامه، بل وجنونه أيضاً...وبكيت!، لا وجود لشيء هنا البتة، حتى الذهاب إلى المرافق، فإنهم يعدون الأرقام، حيث ان التأخر ولو رقماً واحداً؛ فان الدنيا سوف تنقلب على رأس المتأخر، ثم تحل الكارثة بعقوبته وحرمانه من الذهاب ثانية، وإلى إشعار آخر .
أين نحن؟ أن يحيا المرء ذليلاً في وطنه وبين أهله وأحباؤه، فأي شيء سيظل ذا قيمة حقيقية إذن ؟ إذ لم نجد التقدير المناسب والأمان هاهنا، فأين سنجدهما ؟! لشدّ ما يثير قرفي هذا الموضوع وسخريتي ، حوربت بالإهمال في بادئ الأمر...فلم يسمح لي أن أسأل، أو أكلّم، أو يكلمني أحداً... ولمدة طويلة، كأني بلا وجود، وكثيراً ما بدأت أشكك بذلك، فعذبني قلقي وأسئلتي الحائرة التي استطالت، واستحالت بلا جواب،كسرب غربان تطرق بنعيقها بلاهة الاستفهام...ناهيك عن الرعب الذي تقمصني، عندما فهمت عبر الهمس الخافت الذي يدور سراً، وبعض الإشارات؛ بان هذه الزنزانات تأوي المحجوزين لتنفيذ حكم الإعدام بهم، وحسب التسلسل، وفعلاً سمعت غير مرة دويّ طلق ناري يسبقه صراخ وعويل، ولست أدري كم مكثت...حيث لا فرق هنا بين ليل ونهار، فالكل سواء بسواء، إذ لا وجود لثوابت لنقيس من خلالها سير الزمن، زمن صار لأدق مفرداته نصل الحراب، ولخطاه ثقل الجبال، ولصوته عويل الموت، وصدى ضحكاته .
وبحكم معرفتي بأن لديهم المتهم مجرم؛ حتى تثبت براءته، فأين لي بتلك المعجزة...!، في زمن شحيح حتى بالمعجزات، وآلام الجوع والعطش تتفاقم يوم بعد آخر، وكثيراً ما شارفت على الموت... عدة أيام بلا ماء أو طعام، ومراراً فقدت الوعي، لأيام... لأسابيع... لست ادري؟ فصار الموت ذاته أمنية عزيزة، وأضحى نجاة من حياة أمرّ وأقسى من الموت...!
- تكلم الآن عن كل ما تعرفه عن المجرم عبد الرزاق محمد الصراف،ونوع العلاقة التي تربطكما، وآخر مرة التقيتما بها وأين؟
- عبد الرزاق ... لا أعرف شخصاً بهذا الإسم.
- كيف لا تعرف وأنت أقرب أصدقاؤه؟
- بل لم أسمع به إطلاقاً.
- إذن تصرّ وتكذب علينا ولا تتكلم !، لكني أعرف كيف أجعلك تتكلم...!
أين أنا... بل من؟ حينما يدركون إنك أكثر وعياً منهم؛ يغدون أكثر سخرية منك، حتى تشك بأن ما تعرفه ليس إلا عاراً عليك، يجب طرحه مع فضلاتك في أقرب فرصة سانحة، عند أول نوبة ذهاب إلى المرافق!، فالمسألة تبدأ بتفضل معنا، ثم تنتهي بما علمه فقط عند الله والراسخين في التجريب!، أجل، الآن فهمت الأسلوب الآخر...! يالي من ضال حقاً، ومغفل كبير،كنت أفهم ذلك،كفهم طفل صغير بأن الأرض بكل ما عليها وفيها مجرد كرة...!
ومضى دهر طويل من الظلمة والفراغ والرعب ...كل ما أعلمه، هو إني أحيا انتظار دائم، لدوري في الاستجواب والتعذيب، فيخفق قلبي بشدّة كطير ذبيح، كلما سمعت وقع خطى أحذيتهم الثقيل على البلاط،أو قرقعة السلاسل الحديدية للأبواب، يسوقها نحوي سكون الدهاليز، وكثيراً ما بدأت الأوهام تراودني، بمثل تلك الأصوات، رغم عدم وجودها، وتحبس أنفاسي، وأحسبها النهاية وأتشهد، وأحياناً يكون المقصود غيري، أو إنهم الحراس وحسب، أو هو فقط جزء من الحرب النفسية التي كثيراً ما استعملت ضد المحجوزين، لكسر نفسيتم، وإضعاف مقاومتهم، سبيلاً إلى جرهم للاعتراف، أما إذا كنت المقصود، فيخرج بي من زنزانتي، بعد أن يقيدوا يدي للخلف بالجامعة، ويعصبوا عيناي بالخرقة السوداء، فأعيش وداع رهيب لجميع الأشياء، وباعتقادي أن لا أعود ... وما لم أفهمه أبداً هو شعوري الغريب نحوها بالحنين رغم قسوتها، خاصة عندما يشد بي الألم، ويستطيل مكوثي في غرفة العمليات!، هم هكذا يتغزلون بها، فيؤتى بي إليها...عبر ممرات ودهاليز وأقبية،أصعد سلّم وأهبط من آخر، أحني ظهري حتى تلامس أصابعي الأرض، خوفاً من السقف الواطئ الذي يحذرني أحد اللذين يأتيا بي، من مغبة اصطدامه برأسي، لأني لا أستطيع رؤية شيئاً، لعتمة وضغط تلك الخرقة على عيني، ويأمراني بالركض محدودباً، وسياطهما تلعب على رأسي وظهري وقدماي، وعندما أستقيم، أشعر بأن ظهري يكاد ينقسم، فأكتشف باستمرار من صنوف القهر، وألوان العذاب، مالا يحصيه كتاب(رحلة التجريب في دهاليز التعذيب...!) عبر مختلف الطرق، وشتى الأساليب الوحشية،وغير المحتشمة، وحينما تنتهي فترة الغزل الشيطاني، غالباً ما كنت أحمل في بطانية، ثم أرمى كالخرقة البالية في زنزانتي، ولا أفيق إلا بعد زمن لست أعلم أمده، على سعير أنياب الجرذان الحادة، وهي تنهش بأطراف أصابع يدي أو رجلي، ووقع أرجل وبطون الحشرات اللزجة على وجهي وصدري وبين قدمي، وبرودة ورطوبة الأرض، تتسرب إلى عظامي، أستفيق مذعوراً، وأشباح الدكاترة والمضمدون وهمس مشفق أسمعه لأول مرة في خضم تلك الأجواء القاسية، يطن في أذني، هامسا كالصدى (يا أخي أعترف بأي شيء، وإن لم تقترفه...! إنك ستموت في التعذيب).
ويتراءى لي كل ذلك كأنه حلم بعيد، يلفه ضباب كثيف ...حقاً لقد دخلت والحرارة على أشدها، والآن بدأ الصقيع يزحف ويتغلغل في عظامي،كدبيب كائنات متناهية الصغر ، دود يسبح في دمي، ويتسلل إلى ذاكرتي، ويحتل مساحة وجودي، في محاولة لمسخ إنسانيتي.
- كما قلت لك اعترف ،فسبيلك إلى ذلك محتوم.
- بماذا أعترف؟
- أنت هنا، وهم يأكلون ويشربون وينعمون بالحياة.
وبخبث يردف قائلاً:
- ثم لا تنسى إن لك أطفال صغار يحتاجون إليك... وهناك زوجة جميلة تنتظر
- عمن تتكلم؟
- لا تتغابى نفسنا طويل ...أطول مما تتوقع، فإنك إن لم تعترف اليوم فغداً، أو بعد سنة!، لا تعقد الآمال على يأسنا منك.
- صدقني ليس لدي ما أعترف به... ولو كنت أعرف أي شيء ؛لما ترددت لحظة.
- لماذا أنت هنا إذن؟
- لا أعرف ولم أفهم سبباً لوجودي؟
استشاط غضباً وحقداً وهو يصرخ كالمجنون:
- نعم ...لا تعرف ولم تفهم! كلكم هكذا تستمريئون الألم؟
يبدو إن إيماءة ما، أمرت ببداية جولة جديدة من غزلهم الجهنمي، لكنها أشد عنفاً من ذي قبل، وأكثر وحشية وانتقاماً، كأن العذاب مشيئة كتبت منذ الأزل، ووجدت الأرض تحتضنني من أخرى ، وقبل أن أفقد الوعي... تجيء نبرات الصوت القادم عبر السماعة ، ذلك الصوت الأجش ذاته، يخاطبني من السقف حيناً، ومن الخلف، ومن الأمام والجانبين، بأذني حينا آخر، كعادته في كل مرة، غاضبا مستهزءاً، وهو يسوق أقذر الكلمات النابية، والشتائم المنحطة.
- والآن ما رأيك يا.............!
- ...............
- خذوه.
- نعم سيدي.
وكثيراً ما تكرر ذلك...وتكرر، لأعيش قسوة الانتظار الفاجع، ومرارة الترقب القلق، المشوب بشتى الهواجس المرعبة، للألم والخطر القادم بالخطى البلهاء ...فلعل أقسى ما فيه مجهوليته، ولشد ما آلمني وأرعبني الصراخ المفجوع، والعويل المتألم، الذي تحاول أن تكتمه الجدران، وتسكت رفضه الممنوعات، بيد إنه يولي هاربا... متملصاً، وهو يخترق السقوف والأبواب والجدران وسلاسل الحديد، بل وكل الحواجز المهولة ، ويعبر المسافات بتحدٍ فارغ، وتصميم عقيم .
ملاحظة:
أخيراً دخلت برقية الإفراج عنه فوراً، لبراءته وعدم ثبوت التهم الموجهة ضده... بالتقارير المرفقة، سواء عن طريق الأدلة أو الاعتراف، ولحصول اشتباه في الاسم، والقبض على صاحب العلاقة ...وقد وصلت البرقية العاجلة جداً...متأخراً جداً، ومعها التوصية بالترقية والاعتذار، لأن الأستاذ كان قد فارق الحياة.
taleb1900t @yahoo.com






https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن