بين الكهنوت وسلطة الغضب

أيمن بكر
bakr.a@gust.edu.com

2011 / 4 / 23

في بداية حوار غريب اندفع أستاذ علم النفس الدكتور يحيى الرخاوي في حالة غضب شديدة معنفا محاوريه قبل أن يبدأ الحوار معه في برنامج مصر في أسبوع على قناة (أون تي في) On Tv يوم الجمعة 22/4/ 2011؛ معلنا أنه غضبان مما شاهده قبل الحوار معه ولا يقبل هذا الكلام السخيف الذي يسخر من الوزراء السابقين في سجن طره، أو ما أطلق عليه المصريون "بورتو طره"، قال الرخاوي بلا هوادة وبتعال أخلاقي صارخ إن هذا غير مقبول ولا يعبر عن خفة دم بل هو كلام فارغ وسخيف ولا يليق بالمرحلة التي يجب أن نتوجه فيها للبناء، تمادى الرخاوي مؤكدا بنبرة لا شك فيها أن الثوار مضحوك عليهم عندما يصدقون وصف العالم لهم بأنهم صنعوا شيئا لم يحدث تاريخيا، قال الرخاوي إن ما حدث هو ليس ثورة وإنما هو مشروع ثورة قد تحدث.
ما قاله الدكتور الرخاوي مقبول في إطار الرأي الشخصي، الواعي بنسبيته وليس المندفع الواثق من امتلاك الحقيقة. تحدث الرخاوي بأوصاف لاذعة لمن مارس السخرية على أهل طره من وزراء ووصف الثورة بكلمات قطعية لا يوجد فيها الشكية العلمية التي ينادي بها هو نفسه. ارتدى الرخاوي عباءة الكاهن مالك الحقيقة، ومارس سلطة الحماس والغضب على الجلوس. كان يقاطع بشراسة، ومنع المذيعة أكثر من مرة عن سؤال الضيف الآخر (أستاذ المخ والأعصاب) حول استخدام حسني مبارك للخلايا الجذعية ودور ذلك في احتفاظه بحيويته، ولماذا كان يصر مبارك على أن يصبغ كل العاملين بالقصر شعرهم؟ كلها أسئلة ترضي شغف الملايين حول حياة مبارك وطبيعة عقليته، كلها أسئلة تسهم في إنزال الحاكم من منزلة الإله إلى منزلة البشر، ليس الخطّاء فحسب وإنما البشر التافه أحيانا. حين حاولت المذيعة أن تسأل صرخ الدكتور الرخاوي بصوت مرتفع وإشارات يد حادة: ليه؟ إيه فايدة الكلام ده؟ إحنا هنفلس بعد كام شهر. بعد وصلة الغضب والتعالي الأخلاقي التي مارسها الدكتور الرخاوي، تحول الحوار إلى محاولة من كل الحاضرين لاسترضائه وعدم إغضابه ؛ حتى وصل الأمر بالضيف الآخر أن وجه كلامه إلى الدكتور الرخاوي بقوله: "سعادة الباشا الدكتور يحيى بيه". الباشا – الدكتور – البيه. هذا النداء يتناسب مع سياقين بحسب ما أفهم؛ الأول هو سياق تهكم، والثاني هو سياق الإحساس القلق من سلطة شديدة يحاول الشخص استرضاءها. وأحسب أن الضيف لم يكن يسخر من الدكتور الرخاوي؟
في المقابل لم يقدم الرخاوي معلومة واحدة مفيدة تساعد آلاف المتعطشين للفهم (وللانتقام أحيانا) في تحليل شخصية مبارك وعلاقته بزوجته التي سيطرت على الحكم لفترة طويلة، قال معلومات مبذولة تبدو منتشية بصياغتها اللغوية بأكثر مما تقدم من وعي جديد بما حدث ويحدث؛ من باب أن مبارك "أوقف الزمن" أكثر من مرة آخرها حين أراد أن يمتد في ابنه.
لكن في خضم غضبه لم ينس الدكتور الرخاوي أن يشيد بمشروعين قوميين نسبهما لسوزان مبارك وطالبنا بألا ننساهما وأن نعترف بفضل سوزان فيهما؛ وهما: مشروع مكتبة الأسرة والمشروع القومي للترجمة. وأحب أن أسأل الرخاوي: مشروع الأسرة لم تفكر فيه أو تعده أو تدفع تكلفته سوزان مبارك؛ فلماذا علينا أن نشكرها أو نحتفظ لها بجميل؟ هل لمجرد أنها وافقت على قيام المشروع؟ لكن ألا تتفق يا دكتور معنا (نحن أجيال المارقين غير الأوفياء) أن سوزان استغلت المشروع أسوأ استغلال في الترويج لنفسها ولنظام ديكتاتوري عنيف حين كانت تنشر صورتها البغيضة على غلاف كل كتاب؟ وأنها عبر هذا المشروع وعبر باقي مؤسسات الدولة أحكمت قبضة الرقابة السياسية على أهم مؤسسات النشر في مصر؟ أما إن كان هذا المشروع من بنات أفكارها فذلك يعد إدانة لوزير الثقافة أكثر من كونه منحة يجب علينا أن نظل ممتنين للهانم بسببها؟ فالمسئول عن تطوير العمل الثقافي وتوفير المادة المعرفية لعموم الشعب المصري هو وزير الثقافة؛ الذي يتقاضى راتبه ليفعل ذلك. الأمر الآخر: ألا يعد المشروع القومي للترجمة هو جهد جهيد لأشخاص آخرين على رأسهم الدكتور جابر عصفور الذي ذكر الرخاوي اسمه عرضا في كلامه؟ فما معنى أن يضمه مع مكتبة الأسرة في سياق واحد ويطلب منا بعد ذلك أن نشعر بالامتنان للهانم؟
ما سبق لا يعني الاعتراض على حرية الدكتور الرخاوي في أن يرى فضائل للنظام السابق، أو أن يرى في الثورة مشروعا لم يكتمل، بل ربما يتفق معه كثير من المحللين، غير الغاضبين، في أن الثورة تنمو، وأنها في مرحلة من مراحلها وبقي أمامها المرحلة الأصعب وهي البناء، وأن الكلام عن الإنتاج يجب أن يحتل مساحة أكبر في الإعلام. لكن الرأي حين يقدم نفسه بيقين مطلق، ثم يمزج نفسه بغضب معلن لا يتورع عن رفع الصوت والتلويح الغاضب في أوجه المخاطبين، مقرونا بمسحة من السخرية التي يستخدمها الدكتور الرخاوي كثيرا (وأراها شخصيا سخيفة لا خفة دم فيها) يتحول إلى فعل إملاء كهنوتي لا يطلب المحاور بل يطلب المريد التابع المتعلم. غير أن الدكتور الرخاوي بعد أن تخلص قليلا من غضبه، بدأت نبرة موضوعية تظهر في كلامه، مصرا على أن ما يقوله هو رأي شخصي، حدث ذلك بعد أن قام الدكتور برصف المحيطين به وتمهيدهم لقبول كل ما يقول دون حوار أو اعتراض.
صحيح أن الإعلام يبدو مسرفا في الاهتمام بتفاصيل تبدو شخصية، وربما تحول في جانب منه نحو إرضاء حالة من التشفي والانتقام يمارسها الشعب المصري، لكن غذا نظرنا بهدوء غير غاضب: أليس من حق الإنسان الذي انتهكت كرامته وسرق عمره أن يمارس قليلا من إشفاء النفس وإرضاء رغبة الانتقام؟ أليس لصوص الشعب الذين ننتظر مع الدكتور الرخاوي الحكم القضائي عليهم أثاروا من الشغف والفضول ما يحتاج أن يتم إشباعه إعلاميا؟ ثم ألا يسخر العالم كله من ساسته السابقين والقائمين؟ ومن قال للدكتور أن كل شباب الثورة والمهتمين بها تحولوا إلى حالة جماعية من تأليف النكات وإنتاج أفلام التهكم والسخرية؟
ما أحسبه أزمة في كلام الدكتور الرخاوي ليس في الآراء التي يمكن أن نتفق أو نختلف عليها، لكنها بحسب ظني في الطريقة الكهنوتية المحتكرة للحقيقة والسلطوية التي عرض بها رأيه، والتي تمارس التعالي الأخلاقي على من يختلف معهم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن