ف1 : الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع قبل البدوى

أحمد صبحى منصور

2011 / 4 / 10

ف1 : الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع قبل البدوى
أولا : بذور الحركة الشيعية فى المغرب
-----------------------
ظروف المشرق السياسية فى القرنين السادس والسابع
-----------------------------
فتح القرن السادس الهجرى عينيه على تطورات جديدة فى العراق والشام ومصر، وكان الشيعة على إدراك بهذه التطورات بحكم توزيعهم فى هذه المناطق وغيرها، واستمرار الاتصال بينهم وترقبهم الدائم للاستفادة من كل جديد فى حربهم السرية والعلنية ضد الدولة العباسية. وأبرز التحولات الجديدة فى القرن السادس ما يلى :
أولا: بالنسبة للدولة العباسية : كان يتحكم فيهم بنو بويه الديالمة وهم شيعة أرهقوا الخلفاء العباسيين بالقتل والعزل والسمل ( أى إحراق العيون بالحديد المحمى) ثم حل السلاجقة محل البويهين الديالمة ، ومع أن السلاجقة كانوا سنيين يدينون ببعض الولاء للخليفة العباسى وهو الزعيم الروحى للسنيين فى العالم الإسلامى ضد الشيعة الفاطميين فى مصر ، إلا أن تحكمهم- أى السلاجقة- فى الخلفاء العباسيين استمر والنزاع بينهم اشتد ، وانتهى الأمر بتقلص نفوذ السلاجقة وأن يحكم الخليفة العباسى الناصر منفرداً . إلا أن ضعف الدولة العباسية استعصى على العلاج وترتب عليه أن انتقلت مراكز التحكم والسيطرة والأضواء إلى الدولة الأيوبية التى قامت على انقاض الدولة الفاطمية.
ثانيا : ولم يكن الفاطميون فى مصر بأسعد حالاً ، فالخليفة الفاطمى ضعيف مقهور أمام سطوة الوزراء العظام ، بل إن الدعوة الفاطمية الإسماعيلية تعانى انقساماً داخلياً حين انفصل عنها تيار الباطنية. وينتمى ( الباطنية) إلى الحسن بن الصباح الذى كان يؤيد الخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر، وقد قتل نزار فانفصل الحسن بن الصباح عن الدولة الفاطمية بأتباعه الذين عرفوا بأسماء شتى من الباطنية أو(الاسماعيلية ) نسبة للعقيدة الاسماعيلية أو (النزارية) نسبة للخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر الذى كانوا يؤيدونه أو ( الحشيشة) نسبة لتعاطيهم الحشيش أو الملاحدة ..إلخ .وقد تملك ابن الصباح قلعة (الموت) وجمع الأنصار واتخذ من الاغتيال السياسى وسيلة للتخلص من خصومه من الحكام والعلماء والقواد ، وافزع الناس فى المنطقة بفدائييه المستميتين فى تنفيذ أوامره بالقتل مهما تكن الظروف ، وظل خطرهم ماثلا حتى قضى عليهم هولاكو سنة 654.
ثالثا : ومع وجود ذلك الضعف فى الصف الشيعي كان الشيعة ينتشرون فى كل صقع ، إما بصورة علنية كالفاطميين فى مصر وفارس وإما فى صورة سرية كالتجمعات الشيعية فى المغرب وأفريقيا .. أو فى طوائف المتصوفة التى تنتحل التصوف وتميل للتجمعات الشيعية وتبتعد عن الخوانق الصوفية الرسمية المتعاونة مع الحكام السنيين.
رابعا: ثم حل بالمنطقة خطر جديد تمثل فى الحروب الصليبية التى كونت ممالك لها فى الرها وانطاكية وبيت المقدس سنة 492 . وتوالت بعدها الحملات الصليبية التى اتخذت لها مساراً جديداً تمثل فى الهجوم على مصر بعد أن اخذت على عاتقها فى الدولة الأيوبية الجهاد ضد الصليبيين . ومع ضعف الحكام السلاجقة فى الدولة العباسية والاضطراب الصليبى والمؤامرات بين صغار الحكام انشغل الحكام الأقوياء بمواجهة الخطر الصليبى كعماد الدين زنكى وإبنه نور الدين زنكى وتلميذه صلاح الدين الأيوبى ، وفى هذه الظروف المتداخلة المتشعبة غرق الشيعة فى الشرق إما بالدفاع عن وجودهم المنهار كما فى مصر الفاطمية أو بتدبير مؤامرات القتل كما فعل الباطنية فى الشرق الفارسى..
وفى هذه الظروف المتدهورة حيث صغار الحكام وظلمهم ومؤامراتهم والمذابح الصليبية انتشر التصوف بين العامة وحظى بمكانة عالية بين الحكام والمحكومين ، إذ وجد فيه الحكام الظلمة المتنافسون وسيلة لتبرير الظلم واستجلاب الدعوات أو حرب الخصوم ، بينما وجد المظلمون فيه وسيلة للهروب من المظالم والحظوة لدى الحاكم والمحكوم ودنيا من الأحلام الوردية التى تعوض عجز الواقع وقسوته بالتحليق فى سماء أحلام اليقظة بالتصريف فى الكون بدعوى الكرامات والمنامات للهروب من واقع بائس لا سبيل للخلاص منه إلا بالخيال والأحلام.
وفى حين انشغل الشيعة فى الشرق بالأحداث الملتهبة وغرقوا فيها فإن شيعة المغرب توفر لهم قدر من الهدوء مكنهم من التفكير فى مخطط جديد واسع يشمل المنطقة بأسرها ليقوض العروش الهزيلة التى تتعاقب على البلاد بشخصية قوية يتبعها الأبناء الضعاف، كالشأن فى الدولة الزنكية التى ورثت الدولة السلجوقية ثم الدولة الأيوبية التى ورثت الدولة الزنكية، فالدولة السلجوقية قامت على أكتاف قادة عظام وما لبث أن وقع أبناؤهم فى الضعف والأختلاف فتمكن عماد الدين زنكى وهو أحد أتباعهم من أن يرث سلطانهم ، وبعد نور الدين زنكى كان الاختلاف بين الورثة من آل زنكى فتمكن التابع صلاح الدين الأيوبى من أن يستأثر دونهم بالدولة فضم إليه أملاك سادته آل زنكى ، وبعد موت صلاح الدين تنازع أبناؤه فورثهم أخوه العادل الأيوبى ثم وقع أبناء العادل فى خلاف وشقاق أضاع ما أكتسبه صلاح الدين من انتصارات على الصليبيين ..وعظمت فائدة الصلبيين بهذا الخلاف الأيوبى فاكثروا من الحملات الصليبية وادخلوا أنفسهم فى تحالف بين الأمراء الأيوبيين.
لم يكن شيعة المغرب بعيدين عما يجرى على الساحة فى مصر والشرق ، بل إن بعدهم المناسب وعدم استغراقهم فى بؤرة الصراع فى الشرق مكنهم من تقييم الموقف بدقة فأدركوا أن المنطقة تحتاج إلى تخطيط جديد يعيد توحيدها فى ظل حكم شيعى يجدد شباب الدولة الفاطمية فى مصر الآخذة فى الذبول ويمنع عنها الموت الآتى لها حتما ويقيم صرح الخلافة الشيعية فى المشرق والعراق ، ولن يكون ذلك إلا بالتستر بالتصوف الآخذ فى الانتشار فى المشرق على الخصوص ،وهم كأسلافهم أدرى بالتصوف واستغلاله،وهكذا ،ولدت الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف فى المغرب واتجهت بنظرها للمشرق ..
(ب)مدرسة المغرب :
وقد كان المغرب ـ ونقصد به غرب مصر إلى ساحل الأطلنطى ـ مسرح النشاط الشيعى ،ففيه بدأت الدولة الفاطمية الشيعية على أساس المذهب الاسماعيلى وانتقلت إلى مصر مؤثرة فى المشرق ، ثم قامت فيه دولة الملثمين المرابطين ثم الموحدين،فقد كان من السهل أن تقوم فيه الدولة وأن تسقط أيضا، فالبربر رجال حرب بطبيعتهم،والحرب إحدى أنشطتهم الضرورية، وإذا كان الموحدون قد أقاموا دولتهم على أنقاض الملثمين فإن الموحدين من جانبهم خشوا من مجاورة الشيعة لهم فى بلادهم ، فبدأ الاضطهاد التقليدى يأخذ مجراه ، ولم تعد أفريقيا أمنا للشيعة فتحركوا عنها إلى مكة حيث الأمن والأمان.وفى هجرة جماعية تحرك الشيعة من أرجاء المغرب وغيرها إلى مكة مستترين بالحج ليبدأ الإعداد للمخطط الجديد مستغلين الظروف الجديدة التى أتى بها القرن السادس وأهمها التصوف المتشيع وانهماك حكام المشرق إما فى الحرب ضد الصليبيين أو ضد بعضهم البعض .وكان منطقيا أن يكون مسرح عملهم فى المشرق الذى أتوا منه قبلا .
يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق فى مجلة السياسة الأسبوعية أن الشيعة عقدوا مؤتمراً فى مكة بحثوا فيه حال الأمصار وكيف تغلب عليها الاغراب من ترك وسلاجقة وأكراد ، وعملوا على قلب تلك العروش وإعادة الدولة الإسلامية علوية قرشية .ويقول: ( وكان السيد على البدرى والد أحمد البدوى أحد أولئك العلويين الذين نزحوا من المغرب إلى مكة بقضهم وقضيضهم ، وبين افرادها أحمد البدوى ، وهو لم يتجاوز الحادية عشر من عمره، وكان نزوح السيد على البدرى إلى مكة عام 603) .
ويقول عبدالصمد فى نفس الموضوع على طريقة الصوفية فى المنامات (لما أذن للشريف على بن إبراهيم أن يسير إلى مكة أهله وأولاده ويخلى دوره وأملاكه بمدينة فاس بزقاق الحجر البلاط ، رأى هاتفا يقول له فى منامه: يا على استيقظ من منامك يا غافل ، وكن بأهلك وأولادك إلى ناحية مكة راحل ، فإن لنا فى ذلك سراً ولترى من آياتنا عجباً . قال الشريف على : فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وأخبرت أهلي وأصحابي ، وذلك فى ليلة الإثنين سنة ثلاث وستمائة ، وأصبحنا فى ذلك اليوم مسافرين ) .
ويقول الحلبي أن والد البدوي انتقل إلى مكة سنة 603 ( وفى مكة أكرمهم الأشراف) .
وقيل فى نسب أحمد الرفاعى أن أباه هو على بن يحيى المكي المغربي .
أى هاجر جده من المغرب إلى مكة فاكتسب لقب المكي المغربي ، ويقول العيدروس أن جد أحمد الرفاعى الأعلى وهو الحسن رفاعة نزيل المغرب هاجر من مكة إلى المغرب سنة 317 وبقيت ذريته بالمغرب إلى عهد يحيى جد أحمد الرفاعى الذى عاد إلى مكة،ومنها إلى العراق حيث سكن إبنه على (والد أحمد الرفاعى) أم عبيدة وأصهر إلى بنت يحيى البخاري فأولدها أحمد الرفاعي .
فاعمدة الحركة الشيعية الصوفية ينتمون لأصل مغربى هاجر إلى مكة حيث لا حرج فى التلاقى فى موسم الحج ثم توطن العراق وانطلق منها إلى بقية الأمصار وبخاصة مصر بعد سقوط الدولة الفاطمية فيها .
وواضح أن المغرب ليس هدفا فى حد ذاته يسعى الشيعة لإقامة الحكم الشيعي فيه،فأساطين الدعوة السرية فى اضطهاد ،وأعين السلاطين الموحدين مسلطة عليهم، وهم يعلمون طريقة الشيعة فى التستر بالتصوف والزهد ، وقد تعلموا أنفسهم هذه الطريقة فى إقامة الدولة الموحدة .
ولكن لا يعنى هذا أن يطرح المغرب جملة وتفصيلا من التخطيط الشيعى ، فلهم فى المغرب عصبية لا تزال قائمة وأتباع لا يزالون منتشرين ، إن عرف السلطان بعضهم فلن يعرف البعض الآخر .
وهكذا تمخص التخطيط الشيعى الصوفى على التركيز على المشرق ، فرحل إليه اساطين الدعوة بدعوى الحج ، وعقدوا مؤتمرهم السابق فى مكة الذى وضعوا فيه الخطط. وفى هذا الوقت تركز دور مدرسة المغرب ـ بعد رحيل الأعيان والكبار ـ في المساندة والتعضيد ، وكونه عمقا للدعوة وقد تزعم هذا الدور في المغرب أبو مدين الغوث ومدرسته.
(جـ)مدرسة أبي مدين المغربية:
وأبو مدين وثيق الصلة بعبد القادر الجيلاني أحد أساطين الدعوة الشيعية الصوفية في العراق ، ثم طوف بين(مكة)عصب التحرك الشيعي و(بجاية) و(فاس) في المغرب وتتلمذ على أبى يعزي أحد كبار الصوفية المتشيعين في فاس ، وقد وصف الشعراني أبا يعزي بأنه ( انتهت إليه تربية الصادقين بالمغرب وتخرج بصحبته جماعة من أكابر مشايخها وأعلام زهادها) .
وبعد أن تم إعداد أبي مدين بين المغرب ومكة عاد إلي ( بجاية ) فاتخذ منها مركزاً بعيداً عن أنظار السلطات الحاكمة، إلا أن العيون لاحقته وتعرض لكثير من الاضطهاد الذي هو سمة الدعاة المتخفين بالتصوف.
وتحاول الروايات الصوفية أن تطلق الدخان للتعمية عن الاسباب الحقيقية للاضطهاد المزمن الذي عانى منه أبومدين طيلة حياته في المغرب ،من ذلك مايرويه تلميذه ابن عربي القائل (ذهبت أنا وبعض الأبدال إلى جبل قاف فمررنا بالحيّة المحدقة به، فقال لي البدل :سلم عليها فإنها سترد عليك السلام ، فسلمنا عليها فردت ثم قالت: من أي البلاد ؟ فقلنا : من بجاية . فقالت : ما حال إبي مدين مع أهلها ؟ فقلنا لها: يرمونه بالزندقة، فقالت: عجبا والله لبني آدم ..) فابن عربي نسج هذه الأسطورة عن أحد الأبدال الصوفية وجبل قاف والحية المحيطة بجبل قاف ، ودفاع الحية عن أبي مدين ، وكل ذلك ليوحي بالأسلوب الصوفي إلى الظلم الذي يتعرض له أبو مدين ، ويحصر القضية في اتهامه بالكفر وأنه مظلوم وأن أهل بجاية لا يقدرون أبا مدين حق قدره. وإذا استغرق القارىء في عصر ابن عربي في هذه الأسطورة انمحى من ذهنه أى خاطر عن دعوة أبى مدين السياسية أو أنها السبب الحقيقى فى اضطهاده، فالقارىء فى هذا العصر يتقبل بكل سهولة أى حديث عن جبل قاف والأبدال والحية المحيطة بقاف، يأخذ هذه الخرافات مأخذ التسليم والاعتقاد، وحينئذ فلن يتساءل لماذا يضطهد أبو مدين وحده مع أن كل الصوفية يحظون بالاحترام؟
وفى القرن العاشر بعد أبي مدين بأربعة قرون حاول الشعرانى فى (الطبقات الكبرى ) أن يتجاهل السبب الحقيقى فى اضطهاد أبي مدين فأخفق ، فالشعرانى يقول فى مقدمة كتابه ( وأخرجوا أبا مدين من بجاية كما سيأتى فى ترجمته) وحين نأتى إلى ترجمة أبى مدين نجد الشعرانى يحاول أن يرسم صورة وردية لاعتقال السلطات لأبى مدين فيذكر رواية ابن عربى السابقة ثم يقول( وكان سبب دخوله تلمسان أن أمير المؤمنين ( أى سلطان الموحدين ) لما بلغه خبره أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به فلما وصل إلى تلمسان قال : وما لنا وللسلطان ، الليلة نزور الاخوان ، ثم نزل واستقبل القبلة وتشهد وقال : وعجلت إليك ربى لترضى ، وفاضت روحه) فهنا تناقض وقع فيه الشعرانى بين ذكره للاضطهاد الذى وقع على أبى مدين واعتقاله الأخير الذى مات فيه ، مع أن العبارات التى ذكرها الشعرانى نفسه تنبىء بالاضطهاد رغم أنف الشعرانى نفسه .. فهو يقول أن السلطان لما بلغه خبر أبى مدين ( أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به) مع أن العادة أن السلطان هو الذى يسعى للصوفي ليتبرك به لا أن يأمر باحضاره من مسافة بعيدة، ثم يروى الشعرانى أن أبا مدين لم يكن راغباً فى السفر للسلطان معرضاً عن هذه المهمة .. مع أن الشأن فى الصوفى أن يسعد بالصلة بالحكام ، ثم يختم الأسطورة بأن أبا مدين مات أو فضل الموت على لقاء السلطان ونطق بآية يفضل تلاوتها الثوار على الحكام حين الموت والاستقتال : آية ( وعجلت إليك ربى لترضى).
وبعد موت أبى مدين سنة 580 لم ينقطع الاضطهاد عن خليفته ابن بشيس فدفع ابن بشيس حياته ثمناً لتفانيه فى الدعوة ، فقد قتله ابن أبى الطواجن ،ومع خطورة هذا الحدث فإن المصادر الصوفية تسكت عن الخوض فيه ، مع أن ابن بشيس هو شيخ الشاذلى وهو الذى أمر الشاذلى بالتوجه للاسكندرية لملء الفراغ فيها بعد موت أبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الأسكندرية كما سيأتى ..
ومع كثرة القلاقل والمحن التى تعرضت لها مدرسة أبي مدين فلم ينقطع دورها فى الاسهام فى تعضيد الحركة السرية فى المشرق .. فأبو مدين كان يؤازر الرفاعى ، وابن بشيس يعضد مدرسة الرفاعى ومبعوثيه فى مصر ..ثم أمر الشاذلى بالهجرة إلى الاسكندرية ليكون فى خدمة البدوى الذى سيحتل مكانه فيما بعد فى طنطا ، وسنعرض لذلك فى أوانه ، إلا أن الدور الهام الذى قامت به مدرسة المغرب تمثل فى الدعاية لفكرة ( المهدى المنتظر) الشيعية لتهيئة الأذهان وخلق جو عام يساعد على إنجاح المخطط الشيعى دون أن يضرّ به أو يكشفه ، وهذا ما قام به ابن عربى تلميذ ابي مدين ..
(هـ) مدرسة ابن عربى والدعاية للمهدى المنتظر:
نشأ ابن عربى فى الأندلس ثم تتلمذ لأبى مدين فى بجاية وقد عدد كثيراً من آرائه ومناقبه فى ( الفتوحات المكية) أكبر ما خلفه ابن عربي من كتب ، وبعد موت أبى مدين ذهب ابن عربي إلى (فاس) المركز الشيعي وتردد عليها حتى أن السلطان الموحدي يعقوب شك فيه وضاق به فتركها خشية أن يلحق به ما لحق بشيخه أبى مدين . ثم طوّف ابن عربى بمراكز الدعوة الصوفية الشيعية فزار تونس حيث ابن بشيس ثم عرج إلى مكة بؤرة التحرك الشيعي الصوفي سنة598 فظل فيها عامين، وكان منتظراً منه بعدها أن يذهب للعراق حيث المدرسة الرفاعية ، ثم أنتقل بعدئذ إلى مصر ، فزار الاسكندرية وفيها مدرسة أبى الفتح الواسطى المبعوث من لدن الرفاعى..
ونشاط ابن عربى جعل الشكوك تحيط به حيث الدولة الأيوبية تتخوف من الشيعة المستترين بالتصوف، فيذكر أنهم سعوا به إلى السلطان العادل الأيوبى ، وقد سجل ابن عربى الكثير من نشاطه السابق فى كتابه الضخم ( الفتوحات المكية) .
وأثناء تجوال ابن عربي كوّن مدرسة فلسفية تخلط التشيع بالتصوف وبهما تبث دعوتها للمهدى المنتظر الذى يخلص الناس من ظلم الحكام وضعفهم وتنازعهم وتقاعسهم وصغارهم أمام الغزو الصليبى المستمر. واحاط ابن عربي آراءه تلك بالرمز الصوفي والتأويل الشيعي وحشا بذلك كتبه ( عنقاء مغرب) و( شجرة الكون) ومواضع كثيرة فى ( الفتوحات المكية) ..
وفى حياة ابن عربى وبعد مماته استمرت مدرسته تردد آراءه الشيعية ، وابرز أتباعه ابن سبعين وعفيف الدين التلمساني والقونوي وغيرهم ،وبهم وباتباعهم استمرت الدعاية الصوفية الشيعية تتردد حول الفاطمي المهدي المنتظر حتى بعد فشل الدعوة السياسية وتحولها إلى تصوف بحت ، إلى درجة أن ابن خلدون فى القرن الثامن عقد فصلاً فى المقدمة بعنوان (فى أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس فى شأنه ) وقد قرر فى هذا الفصل بأن المتصوفة المتأخرين كابن عربي وابن سبعين وغيرهما تأثروا بمذهب الشيعة فى الحلول والاتحاد وتأليه الأئمة والأولياء والقطب والأوتاد والإمام والنقباء ،ويقول (وامتلأت كتب الاسماعيلية من الرافضة ـ أى الشيعة ـوكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك فى الفاطمي المنتظر، وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم عن بعض ،وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين فى شأن الفاطمى المنتظر ابن العربى الحاتمى فى كتاب عنقاء مغرب وعبد الحق ابن سبعين) أى أن ابن عربى مزج عقائد الفاطميين الاسماعيلية الشيعية بصبغة صوفية وكل ذلك للدعاية للفاطمي المنتظر، وهى الفكرة السياسية التى يدعو إليها ،وأن (بعضهم يمليه عن بعض ويلقنه بعضهم عن بعض).أى كانت لهم اجتماعات ولقاءات لبث الأفكار ونشر الدعاية،وأن هذا النشاط استمر بعد ابن عربى نفسه بأكثر من قرن حتى استحق أن ينهض ابن خلدون للرد عليه. وابن خلدون فقيه مغربى ينتمى لنفس الموطن الذى جاء منه ابن عربى والعفيف التلمسانى وابومدين ، ولابن خلدون تاريخ طويل فى الشئون السياسية لإمارات الموحدين فى المغرب والأندلس ، وله العلم الكافى بالنشاط الشيعى هناك وبآثاره وجذوره ، وقد غلب ذلك على انتباهه فعمد للهجوم على ابن عربى والمدرسة المغربية واتهمهم بالحلول والاتحاد بل عمم الحكم فاتهم به كل المتصوفة المتأخرين وجعلهم من الشيعة المغالين ولم يستثن منهم أحداً، مع أن الحلاج سبق فى القرن الثالث بمقالة الحلول والاتحاد وكانت له آثاره الشيعية ، ولكن ابن خلدون المغربى الأصل والذى يعمل فى خدمة السلطة المملوكية فى مصر استغرق فى مواجهة الدعاية الشيعية التى استمرت طالما استمرت كتب ابن عربى بعد موته، وفى هذا الدليل على عمق التأثر بالدعاية السياسية التى قامت بها مدرسة أبى مدين ومدرسة أبن عربي وتلامذتهما.
وقبل أن نترك مدرسة المغرب ونتوجه للعراق نقرر أن الاتصال قائم ونشط بين دعاة المغرب والعراق إلى درجة أن القيادة موحدة، والاتصال بينهما (أى المدرستين) على قدم وساق ، ومكة هى مكان اللقاء السنوي فى موعد الحج ، علاوة على ما يتيحه التصوف من حرية الحركة بدعوى الرحلة أو السياحة الصوفية أو أخذ العهد ، لذا لا نعجب إذا رأينا داعية كبيراً كابن بشيس زعيم المدرسة المغربية بعد أبى مدين يأخذ العهد على الشيخ بري العراقي فى مدرسة أحمد الرفاعي ، ولا نعجب إذا رأينا ابن عربي فى قمة شهرته العلمية يذهب للعراق ليأخذ العهد على داعية مجهول فى المدرسة العراقية هو ابن سيدبونه الخزاعى تلميذ أحمد الرفاعى .
فبالتظاهر بالسياحة والرحلة وأخذ العهد كان اللقاء يتم بين أساطين الدعوة فى العراق والمغرب ، وفى اللقاء يتم التخطيط وتبحث الظروف الجديدة فى أوانها ويبتكر الشيعة كل جديد من فنون التستر والرمز واستمالة الاتباع وتكوين الخلايا، وتتوزع الأدوار وينتقل الاتباع من مكان إلى مكان وفق الخطط الموضوعة.
لقد كان أساطين الدعوة فى المغرب يذهبون للعراق فى نشاطهم المؤيد لمدرسة الرفاعى ، فإلى مدرسة الرفاعى نتجه ونتعرف.

ثانيا:شجرة الدعوة في العراق
مدرسة أحمد الرفاعى
فى أم عبيدة – واسط – العراق
(أ‌) أم عبيدة:
1ـ من عادة الشيعة المتصوفة أختيار المكان المناسب (الأستراتيجي ) ليكون مركزاً لدعوتهم السرية . وقد كانت مدن العراق الشهيرة تموج بالفتن السياسية وشغب العيارين ـ أو اهل الفتوة من أصحاب الحرف ـ مع سطوة اللصوص والصراع الذي لا يهدأ بين السكان الشيعة والسنة ، والحنابلة والمعتزلة ، يزيد في ذلك كله الأغتيالات المستمرة التي يقوم بها الحشاشون اتباع أبي الحسن الصباح الباطني وقد شملت هذه المؤامرات خصومة من العلماء والوزراء والحكام .
وقد وقع أختيار العلويين على منطقة واسط وهى مع شهرتها القديمة منذ الدولة الأموية فقد تمتعت بهدوء وسكون حرمت منه بغداد وما يليها من مدن ..ومع ذلك فإن (واسط) تتميز بموقع (وسط) بين البصرة والكوفة وقريب إلى حد معقول من العاصمة بغداد.
ولم تكن مدينة واسط هى المركز الأساسى للدعوة السرية بل اكتفى الشيعة بتواجد بعضهم فيها وظهورهم فيها كواجهة ترقب الأحداث من موقع متقدم بينما تركزت الدعوة السرية فى قرية (أم عبيدة) وفيها عصبية الشيعة وتجمعهم وقرابتهم بحيث لا ينفذ إلى هذه القرية غريب إلا بعلمهم وتحت أنظارهم ، فإذا أستطاع أن يمر من( واسط) وفيها الواجهة الشيعية فلن يمكنه التخفى فى (أم عبيدة).
والصوفية العاديون فى الأغلب يميلون لمجاورة الحاكم والمدن الشهيرة ،أما إذا تعلق الأمر بدعوة سرية فالاقتراب من الحاكم لا يكون إلا بالعيون والواجهات الشهيرة من الأعلام المرموقين، أما مركز الدعوة فلابد أن يتخير موقعاً (استراتيجياً) سهل الاتصال هادئاً ساكناً تتركز فيه العصبية أو القرابة ، وينطبق ذلك على ( أم عبيدة ) ثم (طنطا) فيما بعد.
ولقد أمر أحمد الرفاعي ـ حين تلقى العهد ـ بالمقام فى أم عبيدة ـ وفيها أخواله بنو النجار ( وفيها رواقهم المبارك المدفون فيه جد السيد أحمد الرفاعى لأمه الشيخ يحيى البخاري الأنصاري والد الشيخ منصور) .
(ب) نشأة الرفاعي واعداده:
وأحمد الرفاعى ( 512- 578 ) توفى أبوه وهو جنين أو طفل فى السابعة على أختلاف الروايات فكفله خاله منصور البطائحي الأنصاري، وتنفيذاً لرؤيا منامية نقله خاله إلى واسط ، وفيها أخذ التصوف وأصول الدعوة على يد أبي الفضل الواسطي مع رعاية خاله الأكبر أبى بكر الواسطى شقيق أمه واستغرقت هذه المرحلة عشرين عاماً .
وأبو الفضل الواسطي ـ شيخ أحمد الرفاعي ـــ هو ما يعرف فى مصادر أخرى باسم ابن القارىء وكان من أعيان الشيعة الصوفية وكانوا يدققون فى إختيار من يتتلمذ على يديه يقول صاحب طبقات الرفاعية ( وكان السيد أحمد رضى الله عنه قد أكمل قراءة القرآن العظيم حفظاً بقرية (حسن) على الشيخ الورع المقري الصالح عبد السميع الحربوني ، فلما صار فى كنف خاله أخذه إلى واسط بأمر سبق له من النبي صلى الله عليه وسلم فى منامه وأدخله على الإمام العلامة المقري الحجة الشيخ على أبى الفضل الواسطى قدس سره فتولى أمر تربيته وتعليمه وتأديبه أمتثالاً للأمر النبوى ) .
وفى نفس الوقت كان الرفاعي يتمتع برعاية خاله الاكبر أبي بكر الواسطى ويلازم درسه (وهو المشار إليه فى وقته بين الشيوخ والعلماء ) ،( وكان مع إشتغاله بالدروس والتعليم ملازماً خدمة خاله سلطان الرجال،الشيخ منصور .وواضح أن أبناء يحيى البخاري (أبوبكر ومنصور ) قد توليا معاً مهمة الدعوة فى هذه الفترة فأشرف(سلطان الرجال الشيخ منصور ) على الإشراف الإداري وكان صاحب الخرقة بينما تمكن أخوه الأكبر أبوبكر بما أوتى من علم أن يهيمن على الإعداد العلمى للدعاة ، وقد حظى ابن أختهما ـ أحمد الرفاعي ـ برعايتهما معاً فكان يلازم درس خاله أبى بكر ويلتزم بخدمة خاله منصور ويحضر مجالسه وطريقته فى الإشراف على الدعوة .
ويذكر العيدروس شيخاً آخر لأحمد الرفاعى هو أبو الليث الحراني (وكان معروفا بالصلاح والتقوى بين الناس وكان والده أمير حران فترك طريق الإمارة التى كانت شأن والده وتبع طريق الفقر ) ورائحة السياسة واضحة فى أبى الليث الحراني هذا .فلو صح أن أباه كان أميراً لحران فإن الاضطراب السياسى وكان السائد فى هذه الآونة كفيل بأن يثبت لأبى الليث أن حصوله على ملك أبيه لا يكون إلا بالغلبة وهى عنه بعيدة فليس أمامه بعدها الا التصوف الشيعى فلعل وعسى..!!
والزهد والتصوف كانا دائما يعبران عن رغبة دفينة فى النفس لاسترجاع ملك ضائع أو جاه بائد أو كتعبير عن النقص الذى يحس به المحكوم الطموح للحكم ،ولذا فان الصوفية لهم دولتهم الباطنية المستمدة عن أخيلة الشيعة والقائمة على القطب وأعوانه ؛وذلك كتعبير عما يعتمل فى نفوسهم من رغبة مدفونة فى التحكم والسيطرة لم تجد لها مجالاً إلا فى أحلام اليقظة وفى التحكم فى المريدين والأتباع .
ونعود لأحمد الرفاعى ، وقد بز أقرانه (ولا زال يعظم أمره وينمو علمه حتى تفرد فى زمانه ) .
فأجازه شيخه ابن القارئ (اجازة عامة بجميع علوم الشريعة والطريقة فلما بلغ هذه المرتبة العلية أجازه خاله الشيخ منصور وألبسه خرقته وأمره بالمقام فى أم عبيدة ) .
(جـ) تولى الرفاعى المشيخة:
يلفت النظر أن وراثة الطريق الصوفي العادي تكون دائما للابن،ولو كان منصور البطائحي صوفيا عاديا لخص إبنه بالخرقة كما هو الشأن فى الطرق الصوفية ،إلا أننا هنا أمام مسئولية ضخمة لا يستطيع تحملها إلا الكفء ، ولسنا أمام صوفية عاديين حياتهم الولائم والجاه بين الخلق ويحرصون على أن يرث أبناؤهم النعيم الذى يرتعون فيه.
ثم إن الاختيار دقيق بين شباب الشيعة الصوفية وقد أثبت الرفاعي جدارته في الطريقين :(الشيعي العلمي ) باجازة شيخه ابن القارئ إجازة عامة و(العملي ) حين أثبت لخاله منصور شيخ الخرقة مهارته وهو يلازمه خادماً يتعرف على أسلوبه فى إدارة الدعوة والسيطرة على الأتباع.
وقد عهد منصور البطائحى لإبن أخته أحمد وعين له قرية أم عبيدة مركزاً جديداً للدعوة وفيها أسرة منصور وعصبيته، وكانت وفاة منصور فى عام 540 . وقد عهد للرفاعي بالمشيخة قبل موته بعام ، مما يدلنا على ثقته فى كفاءة ابن أخته أو لعله أراد أن يستوثق من هذه الكفاءة وهو حى يرزق، وربما تدهورت صحته فى العام الأخير لحياته فعهد للرفاعى بأعباء المسئولية تحت رعايتة ونظره ،وكان للرفاعى وقتها ثمان وعشرون سنة شاباً فتياً وكان ذلك فى زمن الخليفة المقتفى العباسي .
والمصادر الصوفية المتأخرة واجهت مشكلة العهد بالخرقة للرفاعى من خاله باضفاء المزيد من الكرامات والخصوصيات على الرفاعى لتبرز اختياره من دون أبناء خاله،يقول العيدروس أنه كان لمنصور البطائحي خال أحمد الرفاعى ولدان (وكان تقيد سيدى منصور بسيدى أحمد ولد أخته أكثر من تقيده بولديه ،وكان مراد الشيخ منصور أن يجعل سيدى أحمد قائماً مقامه فى السجادة فيكون شيخ الشيوخ أيضاً . فقال له أولاده وبعض محبيه: أن ميراث الأب لا يكون إلا للإبن ولا يكون لإبن الأخت فقال لهم إنى رأيت منه شيئاً اقتضى ذلك ) وقص كرامة كان النجيل يسبح فيها بحمد الله أمام الرفاعي ، وردد الشعراني ذلك فى ترجمته للرفاعى وزاد فجعل منصور البطائحي يقوم إجلالاً للرفاعي وهو جنين فى بطن أمه .
والمهم أن الرفاعي عهد إليه خاله ( قبل وفاته بمشيخة الشيوخ والأروقة المباركة ، فتصدر على سجادة الارشاد العام ) . وكان الرفاعي عند حسن الظن به وأثبت أن ما تعلمه على يد ابن القارئ وما خبره من أسلوب خاله حين خدمه عشرين عاما لم يذهب هباء.
(د) تضخم أتباع الرفاعي :
نجح الرفاعي فى استغلال التصوف فكثر أتباعه وزادت شهرته (وشاع إسمه ورسمه فى آفاق الدنيا وكان كل من رآه يعتقد فيه بالقلب) ،
( وتتلمذ له خلائق لا يحصون فى كل بلد وقطر منهم الرائحة والأكبار والأعيان ولم يكن فى مدن المسلمين مكان يخلو من زواية أو موضع برسمهم ) .
وقد رددت المصادر التاريخية والصوفية كثرة أتباع الرفاعى، وقد جمعها أبو الهدى الصيادي فى كتابه طبقات الرفاعية. يقول ( قال الحافظ تقي الدين الواسطي فى كتابه ترياق المحبين ما ملخصه: أحصيت الرقاع التى وردت للسيد أحمد الرفاعىٍ فى السنة السابعة من تصدره على بساط المشيخة بعد خاله الشيخ منصور فبلغت سبعمائة ألف رقعة كلها من مريديه. وذكر الأمام ابن الجوزى فى تاريخه أنه كان عند السيد أحمد ليلة نصف شعبان وعنده أكثر من مائة ألف إنسان من الزائرين. وذكر الأمام الشعراني فى طبقاته والمناوي فى الكواكب الدرية إن مريدي سيدنا السيد أحمد الذى يحضرون مجلس درسه وورده المعتاد كل يوم فى رواقه العالى ستة عشر ألفا يمد لهم السماط صباحاً ومساءاً.. وقال العلامة ابن الأثير فى تاريخه إن له من التلامذة ما لا يحصى ، ومثله قال القاضى الوليد بن الشحنة . وقال الإمام الذهبى فى مختصره وفى كتابه دول الإسلام أن أتباعه لا يحصى عددهم. وقال شمس الدين أبو المظفر فى تاريخه إنه كان يجتمع عنده كل سنة فى الموسم خلق عظيم لا يحصى عددهم، وقال الواسطي فى خلاصة الأكسير: كان رجال العصر يسمون السيد أحمد الرفاعي قبلة القلوب لشدة ارتباط قلوب الناس به ومحبتهم له ) .
ولا ريب أن الرفاعي استفاد من إنتشار التصوف منذ بداية القرن السادس، وقد أصبح قبلة الجماهير فيما يعقده من مراسم وما ينصبه من ولائم، والعامة هم سدنة الصوفية وبهم انتشر التصوف وتكاثر عددا..
على أن الواجهة الصوفية لم تشغل الرفاعي عن هدفه الشيعي السياسي فكان له أتباع زرعهم فى الأمصار ، كانوا فيها الائمة والكبار والأعيان ، ولم يكن فى مدن المسلمين على حد قول البكرى مكان يخلو من زاوية رفاعية.
ولابد للرفاعى أن يصطفى من هذه الجماهير المحتشدة خلاصة من المريدين والمبعوثين ، ولابد أن تكون له سياسة محددة مع أتباعه وخصومه، وشأن من له هذه الشهرة ألا يخلو من خصوم ، خصوصا إذا كان صاحب دعوة سرية فى موطن الخلافة العباسية.
وهذا ما سنفصله..
(هـ) سياسة الرفاعى:
كان له من المرونة الكافية فى التعامل بما يمكنه من تغيير سياسته حسب الظروف . فالرفاعى مع أتباعه حازم جاد صارم ، ومع خصومه مداهن متخاشع حتى يكسبهم إلى صفه ويضمن اعتقادهم فيه ، وحينئذ يظهر له بحزمه وصرامته، مع شدة التحرز والأحتياط من الأتباع والأعداء على السواء..
يقول العيدروس ( روى عن الشيخ يحيى قال: ما رؤى الشيخ الكبير وهو يأكل الطعام ولا هو نائم ، وما كان أحد يعرف مكان نومه ، ولا مزح مع احد ولا مازحه احد ، وما كان يتكلم من غير سبب ولا موجب ، وما كان أحد يقدر أن يتكلم معه أو يكلمه من غير سبب لما كان عنده وعليه من الجلالة والمهانة ، وإذا استدعى أحداً يمشي إليه لأمر فكان يتقيد ذلك الواحد بالشيخ من ساعته ، ويحرص على السير معه بالأدب ، فلا ينطق بقليل الكلام ولا بكثيره إلا بإذن)
ووصفه خليفته عز الدين الصياد بأنه (كان قليل الضحك ذا هيبة عظيمة لا يتمكن جليسه من إباحة النظر إليه ) .وكان يتعهد مريديه بالحزم الزائد وقد سمع فى الرواق بعضهم يضحك فأرسل يقول لهم (إن كنتم اقتديتم بأحمد الرفاعى فإن أحمد الرفاعى لا يضحك ) ويبدو أنه أنشأ مريديه على نوع من الاستعداد العسكري فى الصحاري والبراري المحيطة بواسط تحسباً لأى طارئ ،يفهم ذلك من قول العيدروس (ونقل عن سيدي كنز العارفين قال : من عادة الفقراء أن خيولهم كلها سائبة فى الصحاري والبراري مجردات من آلاتها وعددها فإذا أراد أحد التوجه إلى جانب أحضروها وأسرجوها وساروا عليها ،إلا الشيخ مجرد الأكبر فإن حصانه كان دائماً معداً متهيئاً للركوب مسروجاً ملجوماً وصاحبه مجرد يلقب عندهم بفارس ميدان التوحيد وغازى الفقراء )
وقد كان (مجرد )هذا ملازماً للرفاعي لم يرسله إلى مصر من الأمصار ، ويتردد فى كرامة صوفية أنه أنقذ مريداً رفاعياً فى طريق الحج استغاث بالرفاعي فسمع مجرد صوته ، وكان الرفاعي نائماً فى الخلوة فأنقذه ، ويوحى ذلك بأن مجــــــرد الأكبر- وإسمه يدل تجرده للحرب والقتــــال ـــــــــ كان يتولى الجانب الحربى حماية للفقراء الأحمدية الرفاعية ، وفرسه جاهز على أهبة الاستعداد لأى طارىء ، وإذا نام الرفاعي فهو لا ينام..
ولم يكن لشهرة الرفاعي التى ملأت العراق أن تنجو من حسد الفقهاء وهم أعوان السلاجقة ، وأولئك خفض لهم الرفاعي جناح الذل سياسة ونفاقاً ليستميلهم وقد نجح. يقول العيدروس " وحكى أن علماء بغداد وجميع أئمة العراق كانوا يحسدون السيد الكبير لأنهم علموا زيادة رفعته وأن تزايدها فى كل يوم وكل عصر، وانتشار صيته لا ينقطع ، فكاد يهلكهم الحسد وعجزوا عن الصبر عنه، وشرعوا معه فى كلام السفاهة ، فكان السيد إذا سفهوا عليه يدعو لهم بالخير ويكلمهم بالكلام الطيب، ومع أذيتهم له وشدتها يعاملهم بالإحسان ويرتب لهم الوظائف، وإذا لقيهم بطريق يتواضع لهم غاية التواضع . فلما رأوا منه ما رأوا من هذه الأخلاق الحميدة عملوا معه التواضع الزائد وصاروا يرعونه مراعاة تامة ورجعوا أجمعين مريدين ، واعترفوا بالحق وأوصوا أولادهم وأهلهم وأتباعهم باتباع السيد الكبير وصاروا من مريديه " .
ويذكر الشعراني أن بعضهم لقى الرفاعي فسبوه " وقالوا له يا أعور يا دجال يا من يستحل المحرمات يا من يبدل القرآن يا ملحد يا كلب. فكشف سيدى أحمد رأسه وقبل الأرض وقال: يا أسيادي اجعلوا عبدكم فى حلّ ، وصار يقبل أيديهم وأرجلهم ، ويقول ارضوا عني وحلمكم يسعني.. وأرسل إليه الشيخ إبراهيم السبتي كتاباً يحط عليه فيه .. فإذا فيه: أى أعور أى دجال أى مبتدع يا من تجمع بين الرجال والنساء حتى ذكر الكلب وابن الكلب وذكر أشياء تغيظ، فقال الرسول اكتب إليه الجواب: من هذا اللاش حميد إلى سيدى الشيخ إبراهيم السبتي أما قولك الذى ذكرته فإن الله تعالى خلقني كما يشاء، وأنى أريد من صدقاتك أن تدعو لى.. فلما وصل الكتاب إلى السبتي هام على وجهه.. وكان لسيدى أحمد شخص ينكر عليه وينقّصه فى نواحى أم عبيدة ، فكان كلما لقى فقيرا من جماعة سيدي أحمد يقول له خذ هذا الكتاب إلى شيخك فيفتحه سيدي أحمد فيجد فيه: أى ملحد أى باطلي أى زنديق وأمثال ذلك من الكلام القبيح.. فلما طال الأمر على ذلك الرجل وعجز عن سيدى أحمد مضى إليه فلما قرب أم عبيدة كشف رأسه وأخذ مئزره وجعله فى وسطه وأمسكه إنسان وجعل يقوده حتى دخل على سيدى أحمد. ثم طلب منه أخذ العهد فأخذه عليه وصار من جملة أصحابه إلى أن مات)
ويبدو مما سبق أن أم عبيدة قد صارت فى عهد الرفاعى حصناً له ولأنصاره لا يمكن لمنكر عليه أن يدخلها إلا مستسلما..
(و) الرفاعى والخلافة العباسية:
عاصر تولى الرفاعى المشيخة سنة 540 بداية خلافة المقتفى العباسى ، وقد كان زاهداً أشيع أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فى المنام يأمره بأقتفاء أمر الله فلقب بالمقتفي لذلك، وقد وصف بالنسك والعبادة وقاسى الكثير من تسلط مسعود السلجوقى المتغلب على بغداد ، وقد أكثر من الاساءة إليه فلم يجد الخليفة طريقاً للتغلب عليه إلا بأن يتفق مع أصحابه بالدعاء عليه شهراً وفى سرية، ويقال أن مسعود السلجوقي مات بعد تمام هذا الشهر سنة 547 فتمتع الخليفة ببعض النفوذ، استخدمه فى إقامة العدل وفعل الخير .
ولا ريب أن الرفاعى استفاد بوجود المقتفى كخليفة ناسك محب لمن يتظاهر بالزهد والعبادة، ويتضح ذلك من الصورة الصوفية التى غلف بها تاريخ المقتفى، فعن طريق المنامات كان تعليل تلقبه بالمقتفى، مع أن لقب المقتفى كالمهتدى والمتقى والمسترشد والراشد والطائع والمطيع وكلها مترادفات سمى بها الخلفاء العباسيون قبل المقتفي ولكن لم يحظ أحدهم باختراع منام للرسول صلى الله عليه وسلم يزكى توليه وتلقبه.. ثم كان تفسير موت السلطان مسعود السلجوقى خصم المقتفى بما يوحى بالكرامة الصوفية وأنه كان استجابة لحملة مركزة من الدعاء عليه تمت سرا وكان فيها موته, فالمقتفى قريب من الصوفية ومنطقي أن يعظم إستفادة الرفاعي بوجوده فيكثر أتباعه وتنهال عليه رقاع المريدين دون تدخل من الخليفة الناسك.
بل إن تلك البداية الموفقة للرفاعي مع خلافة المقتفى استمرت بعد موت المقتفى وتولى إبنه المستنجد سنة 555، وفى هذه السنة حج الرفاعى وزار القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام ، وأشيع أنه يد النبى خرجت له من الضريح وأنه قبّل يد النبى عليه السلام ، وسارت الركبان بذكر ذلك وكيف أن اليد الشريفة خرجت من الضريح ، واستثمرت الدعاية الشيعية الصوفية هذه الاشاعة فى اجتذاب الأنصار فبدأت تصل إلى أسماع الخليفة الجديد الصورة التى أرادها الشيعة ، وكان الخليفة المستنجد كأبيه المقتفى موصوفاً بالعدل والرفق والفضل فلم يكن ذلك الخليفة عائقاً أمام مدرسة الرفاعى، بل على العكس ورد فى مناقب الرفاعى ما يفيد أن المستنجد أرسل للرفاعى يطلب منه النصح فوعظه .
ومات المستنجد سنة 566 وتولى إبنه المستضىء ، وفى عهده أنهى صلاح الدين الدولة الفاطمية وأعاد مصر للخلافة العباسية وخطب فيها للمستضىء بأمر الله سنة 567، واعتبر ذلك نصرا على الشيعة أدى لصدام بين طوائف الشيعة والسنة فى بغداد واشتعل الصدام بين الكرخ ـ وهو حىّ الشيعة فى بغداد ـ والبصرة وهم سنيون ، وأيد الخليفة البصريين ، ونشط الباطنية فى عمليات الاغتيال فهاجمهم صلاح الدين فى حصنهم الموت ، وحدث صدام فى مكة بين أميرهم الشيعى ومقدم الحجاج السلجوقى فعزل أمير مكة .
وفى غمرة هذا الاضطراب وتتبع الشيعة وشى بالرفاعي لدى المستضىء فأرسل حاجبه عماد الدين الزنجي وهو من واسط ليستطلع حقيقة الرفاعى ، وتمكن الرفاعي من استمالة الزنجي فصار من أصحابه، وصورت كتب المناقب هذا الحدث بما تعودت من اضفاء الكرامات وعلم الغيب أى الكشف ،
وتصور كتب المناقب أن عماد الدين الزنجي أحرز مكانة رفيعة لدى الرفاعي( وقد حصل بخدمة السيد الكبير مقاماً جليلاً حتى صار خليفة الخلفاء ) ، . ولا يستبعد أن يكون عماد الدين الزنجي ـ وهو سياسي عباسي مدرك للاضطراب الذى يحيق بالخلافة العباسية – طامعاً فى جاه مرتقب فى ظل الدعوة الجديدة . وتصور ذلك كتب المناقب فتروي أن الشيخ الزنجي ( طلب من سيدى أحمد الرفاعي ملكاً يتصرف فيه فقال له سيدى أحمد : أعلم أن ملك العرب والعجم نصفه لنا من إحسان الله تعالى ونصفه الآخر لسائر المشايخ ولكن أنا قد وهبت لك قيراطاً ونصف قيراط يا زنجي ) .
ومات المستضىء وتولى إبنه الناصر العباسى 575 هجرية، واستمر يحكم سبعاً وأربعين سنة، وعرف الناصر بالسطوة والدهاء والتفنن فى المكائد والتجسس، وكان منتظراً أن ينال الرفاعى منه ضرر كبير لولا أن الناصر كان يتشيع على مذهب الإمامية، ولم يعش الرفاعى كثيرا فى خلافة الناصر فمات سنة 578 أى بعد ثلاث سنوات من توليه الخلافة بينما ظل الناصر حتى توفى سنة 622 .
وما كان الناصر ليشك فى أحمد الرفاعى الذى ظل نحو أربعين عاماً علماً صوفياً شهيراً يرحل إليه الآلاف مجمعين على زهده ونسكه ، وقد ولد الناصر قبيل تولى الرفاعية المشيخة أى أنه نشأ على شهرة الرفاعى ورأى جده المستنجد يطلب منه النصح والوعظ ، حتى إذا تولى الناصر كانت شهرة الرفاعى قد طبقت الآفاق ، إلى درجة أنه بعد تولى الناصر الخلافة بعامين وقبل موت الرفاعى بعام أى فى سنة 577 فى الثالث من رجب جلس الرفاعي على كرسيه وفى رواقه خمسة آلاف من أنصاره بأيديهم المحابر يكتبون ما يقول ، وبعد خطابه ووعظه ازدحموا عليه يتلقون العهد " حتى عجزنا عن أن نحصيهم لكثرتهم واستمر تلقين العهد إلى نصف تلك الليلة السعيدة " .
وحين احتضر الرفاعي و (انقطع أمل الناس منه غصت صحراء واسط بالوفود وضربت الأخصاص حول أم عبيدة للوفود ، وبلغ عدة من صلى عليه وشهد مشهده تسعمائة ألف من الرجال وستمائة ألف من النساء ذوات القناع ، غير الأطفال وكان يوماً مشهوداً ) .
مات الرفاعي وقد جعل من (أم عبيدة ) القرية المجهولة كعبة لأنصاره وأتباعه ومركزا للتشيع الصوفى يتخرج فيها أساطين الدعاة ممن يتوسمون فيهم الكفاءة لأن يبعثوا إليها .
وفيما بعد أرسلوا البدوى لأم عبيدة وعندما أشرف على خيامها وأعلامها قال لأخيه حسن " يا أخى كأن هذا ملك من بعض ملوك العرب نزل فى هذا المكان ونشر أعلامه " .
لقد أحسن الرفاعى فى سياسته مع مريديه فكانوا طوع بنانه، وأحسن سياسته مع خصومه فصاروا من جملة أعوانه، وأحسن سياسته مع العباسيين وجماهير العراق فأعظموا من قدره وشانه..
ولم تدر تلك الجماهير المحتشدة أنه يخفى خلف تصوفه حركة منظمة دقيقة، ولم يعرف العباسيون أن ذلك الزاهد الصوفي المتخاشع هو القائل " الميل إلى الحكام يستعبد العبد من الله عز وجل ، والرجوع إليهم كالرجوع إلى النار ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"
ولم يعرف العباسيون أن طموح الرفاعي السياسي جعله يتنبأ بقرب تحقيق أمله فى قيام حكم شيعي بالفاطمي المنتظر . يقول الرفاعي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح باب الارشاد وسلمه إليّ ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها . واليوم ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية "
ثم لم يعرف الجميع من عامة وحكام بأمر البعوث التى كانت تفد للرفاعى ويرسلها إلى الشرق والشمال والشمال الشرقي ..

(ز) بعوث الرفاعي للشرق :
يقول العيدروس " ونقل أنه كان من جملة عبيد سيدي أحمد الرفاعي ومحبيه سيدي محمود الحيراني الرومي ، وكان من قصته ، أنه كان فى عصر الشيخ.. وكان أميراً كبيراً حاكماً جليلاً متعيناً مشهوراً. فلما شاع ذكر الشيخ فى الآفاق، وكان من جملة من سمع طيب أثره سيدي محمود الحيراني هذا فعشقته أذنه على السماع واشتد حبه للشيخ.. فعزم على زيارته والتوجه إليه فترك الديار والعشيرة والأمارة والحكومات وما كان فيه من التخول فى النعيم والمباهاه.. وسار إلى الشيخ ، وأخذ عليه العهد ولزم خدمة أعتابه إثنى عشر سنة، ثم أذن له الشيخ فى السفر فتوادع معه فى أم عبيدة ، وتوجه إلى الروم من حيث أتى، فلما وصل البلاد فوافى محلاً وهو سائر فرأى جماعة جالسين فى الحضرة يتحادثون وكان منهم شخص يسمى "صاري صاليق" أمين ملك الروم ، فلما أن وقع بصره على سيدى محمود الحيراني وهو مار بهم قام إليه من بين الجماعة واستقبله وصافحه، قال سيدى محمود:افتح فمك ففتحه فوضع يده عليه فصار بذلك " صاري صاليق" حيران سكران ،لأن نفس سيدى محمود الحيراني نفس سيدي أحمد الرفاعي ، وصار صاري فى بلاده الروم من أهل الإشارة والتسليك وبه يحصل الفتح للمريدين ، كل ذلك من بركة السيد الكبير سيدي أحمد الرفاعي. وبقى سيدى محمود الحيراني فى بلاد الروم قاطناً شهراً ، وصار " صاليق" بنواحي بلاد الافرنج. ونقل أن شخصاً يدعى (براق)كان من أكابر الروم فلما سمع بأخبار الشيخ الحسنة أعنى سيدي أحمد الرفاعي ، عزم على زيارته وتوجه من الروم ، وسار إلي أن وصل إلى سيدي أحمد الكبير فاندرج فى سلك خدمته اثنى عشر سنة خدمة خالصة بالقلب ، فعند ذلك نظر إليه الشيخ بعين الرحمة والعطف وأذن له فى التوجه إلى بلاده معمراً مسلكاً، فامتثل أمر الشيخ ، فقبل يديه ورجليه واستأذنه فى السفر فأجازه ، وأذن له فيه وتوجه إلى بلاده.
ونقل أن من جملة من وفد على سيدى أحمد الرفاعى الشيخ أحمد اليسوى ،جاء إلى خدمة الشيخ ومعه من المريدين أربعمائة درويش ، وألبسه سيدى أحمد الرفاعي خرقة الفقر وصار من بعض مريديه، وجعله من جملة الخلفاء المتعينين وأذن له فى السفر وعينه هو وتلامذته فى نواحي التركستان فأمتثل أمر الشيخ وأخذ خاطره هو ومريديه وتوجهوا الى الأماكن التى أشار إليها الشيخ ، فلما أن وصلوا اليها تعطرت بأنفاسهم بقاعها..ووصلت عدة تلامذة الشيخ اليسوي ومريديه نحو التسعين ألفا وصار صاحب الوسم والرسم فى ذلك العصر بتلك الأقاليم , وكل ذلك ببركة سيدى أحمد الرفاعى.
ونقل أن الشيخ أبا بدر العاقولي سار إلى خدمة سيدي أحمد الرفاعي فى بعض دراويشه من أطراف بلاد واسط يريد زيارة السيد الكبير واجتمع به وتقيد هو ومن كان معه من الدراويش بخدمة الشيخ مدة طويلة..وأمرهم الشيخ بالسير الى بلادهم فتوجهوا إليها وصاروا من أهل الإشارة والتسليك.
ونقل إن الشيخ مسعود كان من أبدال الأتراك وقد اشتد شوقه وحبه للشيخ السيد أحمد الرفاعى فجاء إليه حافياً عرياناً قاصداً خدمة عتبة الشيخ ، ولازم الشيخ أربعين يوماً وبايعه .. وصار مريداً معتقداً ، وألبسه السيد الكبير من ملبوساته وجعله من جملة المقربين عنده..وهو الآن مدفون فى موضع يافث)
فالحيراني وهو من ذوى المكانة وفد لأم عبيدة من بلاده فقضى فيها اثنى عشرة سنة يخدم الرفاعي ويتعلم بالضرورة أصول الدعوة وبعدها بعث به الرفاعي لبلاده داعية فتمكن من استمالة (صارى صاليق) فصيره داعية هو الآخر ووجهه إلى مكان آخر.
و"براق" كالحيراني تماما.. والشيخ "اليسوي" وفد للرفاعي بأتباعه فجعله من خلفائه وسيره داعية فى التركستان فأصبح أتباعه فيها نحو التسعين ألفا. ومن وسط العراق وفد أبو بدر العاقولي مع أنصاره فتعلم من الرفاعى وخدمه وبعثهم إلى بلادهم دعاة، ومثله الشيخ مسعود التركي . وعلى عادة كتب المناقب فى هذا الشأن فقد عرضت لبعوث الرفاعي فى صورة رمزية لم تشف الغليل عن أماكنهم الحقيقية أو جهودهم فى بلادهم أو ما تعلموه فى أم عبيدة وما انتهى إليه أمرهم . ولكن يستفاد مما سبق أنهم نجحوا كدعاة صوفيين وهو ما استتروا وراءه ولكن لم يظهر لهم أثر سياسي وهو المأمول من جهدهم الذى قصروا حياتهم عليه ، فلم يرد أن بعض أولئك المبعوثين ترك مكانه الذى أوفد إليه وعاد لأم عبيدة ، بل يظل أحدهم فيه إلى أن يموت، وتلك سمة أساسية فى تاريخ الدعاة الشيعة ستؤكدها الأحداث التالية ، ولا ريب أن سبل الإتصال بين الرفاعى وبعوثه كانت قائمة ومستمرة ، ينطبق ذلك على بعوثه فى المشرق و المغرب ، وإلا ما أحس الرفاعى بمزيد التفاؤل وأيقن بقرب (ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية ). وإذا عرفنا أنه مات عن ست وستين عاما فى سنة 578 أيقنا أنه كان يأمل أن يمتد به العمر ليرى هدفه قد تحقق على رأس القرن السابع، فقد قال: (إن رسول الله فتح باب الإرشاد وسلمه إلى ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها ، واليوم ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية).

بيد أن الظروف لم تعد فى صالح الدعوة فى العراق، فقد وطد الناصر العباسى ملكه وملأ العراق بجواسيسه وكون لنفسه عصبة من العيارين أهل الفتوة ينقلون إليه الأخبار، وفى نفس الوقت مات الرفاعي (السيد الكبير) ولم يخلفه بعده من يطاوله فى شهرته أو سياسته، فكان التركيز السياسي على مصر بعد انهيار الحكم الفاطمي فيها وانشغال الأيوبيين بعد صلاح الدين بالتنازع فيما بينهم أو مع الصليبيين.
( حـ) خلفاء الرفاعي:
خلفه إبن أخته وزوج إبنته " مهذب الدولة " على بن عثمان الرفاعي، قيل فيه " صار شيخ الرواق بعد خاله" " وكان يقدمه على غيره من أهل بيته وأصحابه" ومع ما يوحى به لقبه " مهذب الدولة" من أن الطريقة الرفاعية صارت دولة بأتباعها ونفوذها ومع ما يوصف به مهذب الدولة من تحكم وهيبة إلا أن أوصافه فى المناقب لم تخل مما يشي بضعفه واضطرابه ، فيقال فيه " وكان قوياً فى الله متمكناً بأمر الله ما خالف أمره أحد إلا قتله الله، وكان له غيرة غريبة وهمه عالية وهيبة عجيبة وسطوة غريبة لا يقدر أحد يقابله لخشيته ولا أن يدانيه لهيبته ولا يخالفه " وإلى هنا وملامح سياسته واضحة ،ولكن يقال فيه بعدها " وكان دائم الهم والغم والفكر والحزن والاضطراب له قلب رحماني.. وكان سريع الغضب والرضا "
وقد ورد فى منام صوفى أن مهذب الدولة أعطى سيفاً من السماء ، ويفسر ذلك كيف أن من يخالفه كان يقتله الله، ومع شدته تلك كان سريع الغضب والرضا..وإذا جاز استعمال القتل فى الدعوات السرية فلا يكون ذلك إلا سراً وبمؤامرة تبدو ككرامة ، أما أن تتضح الأمور ثم يكون التناقض من القتل إلى الرضا فذلك قد يغتفر فى حاكم بين جنده وملكه لا فى داعية لا يزال فى طور الأعداد لدولة ، وإذا استكان الاتباع للرفاعى بشخصيته وشهرته فلن يكون هذا حالهم مع صهره وخليفته ، ولم يعمر " مهذب الدولة" فى خلافته فمات سنة 584 .ودفن إلى جانب خاله.
وتولى بعده أخوه (ممهد الدولة) وكان صهرا للرفاعي هو الآخر فقد تزوج البنت الثانية من بناته ، ولم يبد فى سيرته أية ملامح سياسية سوى لقبه ومات سنة 604 وازدحمت سيرته بالكرامات الصوفية كدليل على أن ( أم عبيدة) قد أقفرت سياسياً وظلت مركزاً روحياً للدعوة بينما تحول عنها النشاط السياسي الى مصر بالذات .
ويتضح ذلك فى تاريخ ( ابراهيم الأعزب) بن ( ممهد الدولة) وأقاويل الصوفية وكراماته التى لا تختلف عن أى صوفي عادى ، وقد كان ابراهيم الأعزب مقيماً بأم عبيدة .
أما أخوه عز الدين الصياد الرفاعي فيمثل التطور الجديد فى السياسة الشيعية.
(ط) عز الدين الصياد الرفاعى ( 574-670) .
تحول عن العراق سنة 622 , ويعلل ذلك بأنه ( خاف على نفسه من آفة الشهيرة!!) والواقع أن العراق لم يعد الموضع المناسب سياسياً فقد اجتذبت الدولة الأيوبية الأضواء من العراق والخلافة العباسية ، وبعد موت صلاح الدين كان تنازع أولاده فى مصر والشام واستغل أخوه السلطان العادل ذلك التنازع فى الاستئثار بملك صلاح الدين دون أولاده ، وفى هذا الوقت كان العراق مهدداً من الشرق من قبل جلال الدين منكبرتى الخوارزمى الناقم على الخلافة العباسية تعاونها مع التتار أعدائه حينئذ.
والشيعة بما لهم من خبرة بأوضاع المنطقة أقدر على تقييم الأمور والاستفادة منها ، وقد رأوا أن الشرق لم يعد المكان المناسب لهم بعد ظهور قوة التتار والخوارزمية ولا بد لأحدهما أن تقضى على الأخرى . وكلتاهما قوة شابة، والمنتظر من المنتصرة منهما أن تسيطر على العراق ، فالحاضرة العباسية ( بغداد ) تستهوى دائما المغامرين من الشرق من الأتراك والسلاجقة والديالمة . وبالنسبة للتتار والخوارزمية فهم أشد عتواً وأعظم خطراً ..لأن السلاجقة والديالمة كانوا عصبات قبلية لم تتكون لهم دولة ثابتة فى آسيا، أما التتار والخوارزمية فلهم سلطان قائم فى قراقورم وغزنة فكلاهما ينشد التوسع والاحتلال، ووسيلته الإبادة والقهر ، وقد رأى الشيعة الصوفية أن الوضع الجديد فى الشرق قد أجهض مجهوداتهم التى قام بها الدعاة أمثال براق وصارى صاليق والحيراني واليسوي ومسعود التركي فكانوا على حذر مما يخبئه لهم الشرق من أخطار، فاستبقوا فى (أم عبيدة) مدرسة صوفية روحية فى الظاهر مثلها إبراهيم الأعزب بينما طوف أخوه ( عز الدين الصياد) فى مراكز الدعوة فى الحجاز والشام ومصر
وقد أحسن الشيعة بابقاء ( الأعزب ) فى (أم عبيدة) ممثلاً للدعوة الصوفي مستترا بها، فالصوفية محل رعاية حكام العصر ولا يشك فيهم أحد، وللصوفية مقدرة هائلة على التكيف مع كل حاكم جديد ، واستمالته، ونقطة الضعف لدى أى حاكم تتمثل فى اعتقاده فيهم وحفاوته بهم ، لأنهم معه طالما ظل فى سلطانه فإذا تولى قبلوا له ظهر المجن ، ولقد استطاع الرفاعية فى (أم عبيدة) استمالة غازان المغولي بعد أن قضى المغول على الخلافة العباسية وتملكوا العراق ، وكانت لخليفة الرفاعية أحمد بن عبد الرحيم الرفاعي ( 604-711) صلات بالسلطان أبي سعيد المغولي وأسلم ( أو تصوف) على يديه غازان وأتباعه سنة 694 .
ونعود إلى عز الدين الصياد الرفاعى (ت670) وما يمثله من تحول للنشاط السياسي إلى الغرب فنقول أنه تحول من العراق إلى الحجاز فقصد (مكة) بؤرة الدعوة ثم ذهب للمدينة فاستمال حاكمها ابن نميلة وظل يرعى الدعوة فيها تسع سنين وبنى بالمدينة رباطاً للرفاعية ، وكوّن فيها مدرسة سياسية كان عن أعلامها الأبيوردى والسخاوى وعبد الكريم القزوينى .
وقد دخل عز الدين مصر سنة636 ـ قبل استقرار البدوي فى طنطاـ ( فأقام فى المسجد الحسيني وأقبل عليه الناس وتلمذ له العلماء والشيوخ وأكابر الرجال ..إلخ ) ثم طاف باليمن ونزل الشام ، وعمّر زاوية رفاعية فى دمشق وحمص ( وقصده الناس من العراق والمغرب والحجاز واليمن )أى كانت الشيعة على إتصال به أينما حل وأقام .إلى أن مات سنة 670. والطريف أن الصياد الرفاعي وصف بالهيبة شأن من أهتم بالسياسة من أجداده- كالرفاعي ومهذب الدولة – فوصف الصياد بأنه كان (ذا هيبة وسكينة ووقار لا يتمكن الإنسان من إباحة النظر إليه لجلالة قدره ) بينما لم يوصف شقيقه إبراهيم الأعزب بمثل ذلك.
وثمة ناحية أخرى فى حياه الصياد تنم على أسلوب من أساليب الشيعة المتصوفة وهى المصاهرة السياسية .وقد سبق أن والد الرفاعي قد أصهر للشيخ يحيى النجاري وأنجب أحمد الرفاعى ، وكان خاله منصور البطائحى صاحب الخرقة فعهد إليه..وتكررت القصة مع أحمد الرفاعي فقد زوج أخته من ابن عمه عثمان الرفاعي, فأنجب عثمان منها مهذب الدولة وممهد الدولة. وأصهر أحمد الرفاعي إلى إبني أخته..فتزوج مهذب الدولة فاطمة بنت الرفاعي وتزوج أخوه ممهد الدولة زينب بنت الرفاعي.وقد أنجبت زينب من ممهد الدولة عز الدين الصياد..
وقد اتبع الصياد هذه الطريقة فى تطوافه بمراكز الدعوة .فكان يمارس (الزواج السياسى ) فحين جاء إلى مصر الأيوبية (تزوج بدرية خاتون من آل الملك الأفضل وأقام بمصر سنين وهاجر منها وترك زوجته بدرية حاملا فولدت له السيد علياً المعروف بالشباك الرفاعى فى تلك السنة ، وبقى ولده عند أخواله آل الملك الأفضل ) . ودخل الصياد معزة النعمان فاصهر للشيخ الصوفي الشهير عبد الرحمن بن علوان وتزوج أخته وأنجب منها ذرية.
وأسلوب المصاهرة هذا ينم على ما أعتاده الشيعة فى دعواتهم من استعمال النفس الطويل فى الدعوة وإنتظار نتائجها على مهل، وحين تتم – حسبما يأملون – تكون من نصيب ذرياتهم فى المستقبل. ولذا فإن التزاوج كان يتم بين أنصار الدعوة ويولد الطفل بين أخواله وأتباع أبيه وعصبيته.
لقد كان عز الدين الصياد تطوراً هاماً فى الحركة الشيعية الصوفية ورث عن جده أحمد الرفاعي الكثير من الحنكة السياسية فأكمل طريقه، ذلك أن الرفاعي اهتم فى أخريات عمره بمصر بعد إنهيار الحكم الشيعي فأرسل لها البعوث السياسية المستترة بالتصوف.

ثالثا: بعوث المدرسة الرفاعية فى مصر الأيوبية
وطد صلاح الدين نفوذه فى مصر ابتداء من سنة 564هجرية. وانفرد بها بعد موت آخر الخلفاء الفاطميين سنة 567. واهتم صلاح الدين بحرب التشيع فى دولته الأيوبية الوليدة. ولم يكن للرفاعي وهو فى قمة شهرته وتضخم أتباعه أن يسكت عن التطورات الأخيرة فى مصر بعد انهيار الحكم الفاطمي فيها، ولعله أدرك الخطر فى طموح صلاح الدين وتواجده المستمر فى الشام وخشى أن يحكم صلاح الدين قبضته على الشام والعراق وينقل إليها حربه ضد التشيع فبادر الرفاعي بإرسال البعوث إلى مصر الأيوبية. وعلى نفس السياسة سار خلفاؤه من بعده خصوصا وأن خلفاء صلاح الدين كانوا بعده أقل شأناً وأكثر ضعفاً.
ومع حدب الأيوبيين بالصوفية فإن رائحة الاضطهاد تغلف تاريخ الصوفية المتشيعين من أصحابنا فى هذه الحركة ، والنفور بينهم وبين الحكام مستحكم كما يبدو فى ترجمة أبى العباس الملثم وأبى الفتح الواسطى. وهناك ناحية أخرى تتجلى فى التعاون القائم بين مدرسة الرفاعي العراقية ومدرسة أبى مدين المغربية . وتمثلها العلاقات الغامضة بين أبى السعود الواسطى مبعوث الرفاعى وأبى العباس البصير المغربي .

أبو العباس الملثم:
نظرا لكونه مبعوثاً سرياً يتستر بالتصوف فى دولة تحارب دعوته فإن الرمز والأساطير تغلف تاريخه وتجعله أقرب للأسطورة .. أو أقرب للبدوى فكلاهما ملثم وهم رفاق دعوة ، إلا أن أبا العباس قفز إلى اهتمام المؤرخين فكتبوا عنه ، ولتستره وغموضه فلم يكن فى تاريخه إلا الغموض والرمز .
وحين نقرأ ترجمته فى طبقات الشعرانى نحس بأن الرمز فى ترجمته كان مقصوداً ومتعمداً لإخفاء دعوته السرية التى جاء على أساسها مصر ، وأول ما يقول الشعراني فى تاريخه ( وكان أبوه ملكا بالمشرق ) ومعلوم أن ملوك المشرق فى هذه الفترة كانوا معروفين تكتب الحوليات التاريخية فى صراعهم وتقلباتهم ، ولكن الذى توحى به كذبة ( كون أبائه من المشرق) أنه وفد من المشرق رسولاً لدعوة سرية تحيطها الأسرار والألغاز وتهدف لأمر سياسي يتعلق بالحكم والملك ،وليس هناك من تعارض بين تلقبه بالملثم وكونه مشرقيا ، إذ عرفنا أن ( سلاطين الدعوة الشيعية فى المشرق) أتوا إليها من المغرب ووصفوا كآبائهم باللثام والملثمين ، بهذا وصف أحمد البدوي وأحمد الرفاعي ومنصور البطائحي ثم أبو العباس الملثم.. فكلهم ملثمون مغربيون فى الأصل مشرقيون فى النشأة.
ثم يزداد الغموض المتعمد حين يأتى الشعراني بالراويات التى حكيت عن عمره. يقول ( وكان الناس مختلفين فى عمره فمنهم من يقول : هذا من يونس عليه السلام ، ومنهم من يقول : أنه رأى الإمام الشافعي وصلّى خلفه ومنهم من يقول أنه رأى القاهرة وهى أخصاص ، وقال الشيخ عبد الغفار القوصي : فسألته عن ذلك فقال : عمرى الآن نحو أربعمائة سنة ) ونحن هنا أمام مؤامرة واضحة تتعمد إضفاء الغموض على تاريخ الرجل وعمره وتغلفه بالأساطير ، ويشارك فى هذه المؤامرة ويقودها عبد الغفار القوصي كبير الأتباع لأبى العباس الملثم .. ولكن هذه الأساطير تصله بالمشرق مركز الدعوة السرية، فيونس عليه السلام من العراق ، والشافعي تجول بين مكة والعراق ومصر.. والاضطهاد هو السبب الحقيقي فى غموض هذا الرجل ، وإن غلف الشعراني هذا الاضطهاد بالكرامات.
يقول الشعراني " وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه فى الرؤية والخلوة فأنكر عليه بعض الفقهاء فقال : يا فقيه اشتغل بنفسك فإنه بقى من عمرك سبعة أيام وتموت فكان كما قال.. وأنكر عليه مرة قاض وكتب فيه محضرا بتكفيره ووضع القاضي المحضر فى صندوقه إلى بكرة النهار يدعوه للشرع فجاء بكرة النهار فلم يجد المحضر ومفتاح الصندوق معه، فأخرج الشيخ المحضر و قال : الذى قدر على أخذ المحضر من صندوقك قادر على أخذ إيمانك من قلبك ، فتاب القاضي ورجع عما كان أراده ، وسمّوه ثلاث مرات ليموت فعافاه الله تعالى منه وذلك لشدة ما كانوا ينكرون عليه" .
وإذا رجعنا بالذاكرة إلى أحمد الرفاعي والإنكار عليه نجد أن أتباعه يعترفون بأن أساس الإنكار على الرفاعي هو فى جمعه بين النساء والرجال، ونسترجع بعض هذه الاتهامات التى ووجه بها الرفاعي شتما وتقرعيا كقولهم له " يا من يستحل المحرمات ، يا من جمع بين النساء والرجال" . وحين وشوا بالرفاعي عند الخليفة المستضىء العباسي قالوا عنه للخلفية " يا مولانا هذا المجلس يشتمل على مفاسد كثيرة منها الجمع بين النساء والرجال " .. ونحن لا نتهم الرفاعي بهذه التهم .. ولكننا نعتبرها دليلا على الدافع السياسى ، فالرضى بهذا الاتهام البشع الذى يمس الخلق لا يكون إلا للتغطية عن إتهام أخطر فيه القضاء على الدعوة وربما أصحابها. وجدير بالذكر أن كتب المناقب التى أوردت هذه الاتهامات لم تذكر أن الرفاعي نفى هذه الاتهامات أو دافع عن نفسه ، بل ركزت على التخاشع وتطيب نفوس المنكرين عليه واستمالتهم ..
وعلى ذلك فاتهام أبى العباسى الملثم بنفس تهمة الرفاعى كانت غطاء مقصودا يحجب الصراع بينه وبين أنصار الدولة الذين يتتبعون دعاة الشيعة ويلاحقونهم بعقد المجالس للتكفير والاعتقال . ويلفت النظر أن الرواية لم يذكر فيها أن أبا العباس الملثم أنكر هذه التهمة عن نفسه كشأن الرفاعي تماما حين اتهم بها..
وورد فى ترجمته أن خصومه حاولوا قتله بالسم ثلاث مرات ( لشدة ما كانوا ينكرون عليه) وهذا الإصرار على ملاحقته واغتياله لا يمكن أن يكون لمجرد الإنكار على رؤيته النساء والخلوة بهن ، ولو صح هذا لكان منع النساء عنه ومنعه عنهن أيسر من تتبعه بمحاولات الاغتيال السرية. ويبدو من سيرة أبى العباس الملثم أنه تجول بين القاهرة والصعيد ، فقد التقى بعبد الغفار القوصي، وقوص من مراكز التشيع فى الصعيد ، ودفن فى القاهرة بالحسينية أو فى قوص – على إختلاف فى الروايات ..
بقى أن نعرف شيخ أبى العباس الملثم الذى يقاسى كل هذا من أجله .. يقول أبو العباس الملثم :( بلغني عن سيدي أحمد الرفاعي أنه كان يقول : إذا استولى الحق سبحانه على قلب عبد ذهب ما من العبد وبقى ما من الله ..) وبغض النظر عن مقالة الرفاعي الموحية بالاتحاد – مذهب الصوفية – فإن الملثم اعترف بتبعيته للرفاعى المقيم فى أم عبيدة ، وأنه كان على صلة بمدرسته وإلا ما قال ( بلغني عن سيدي أحمد بن الرفاعي..) .
ثم أليس غريبا أن تخلو ترجمة أبى العباس الملثم من ذكر لأى من الشيوخ الذين أخذ عنهم الخرقة ؟ مع أن المتبع فى ترجمة الصوفية ذكر الأشياخ والتلاميذ. أما صاحبنا فلم تكن فى ترجمته إلا قوله " بلغنى عن سيدى أحمد بن الرفاعي " ، والرفاعي لا حرج على تصوفه . أما الحرج فهو على تشيعه السرى وتلميذه الغامض فى مصر الأيوبية والمملوكية التى تحارب التشيع الصوفى.
أبو السعود بن أبى العشائر الواسطي:
ينتمى إلى واسط مركز تجمع شيعة الرفاعي ، وأبوه أبو العشائر الحسني من كبار أصحاب الرفاعي ، وقد وفد إلى مصر ومات بالمقطم سنة 644، وتحيط( الكرامات السياسية) بتاريخ أبي السعود ، منها أن له نوبة كاسات تضرب له فى الأرض وفى كل سماء، وأنه كان أحد الملوك السبعة وأن السلطان كان يمشي إلى زيارته ، وهذا ما لم يثبت فى المصادر التاريخية المعاصرة للقرن السابع ، أما الشعراني والزيات – فقد كتبا عنه ذلك من أفواه مريديه حافظي سيرته ، وأولئك خلطوا سيرة الرجل بعد موته بثلاثة قرون بما يشى بالدافع السياسى والنشاط السرى وغلفوه بالكرامات فجعلوه ملكاً فى الأرض والسماء يخضع له السلطان الذى لا نعرف إسمه.
وقد كوّن أبو السعود مدرسة صوفية شيعية كان من أعيانها أبو الغنائم ت695 الذى ( قدم القاهرة مع أبيه فاجتمعا بالعارف القدوة أبى السعود ابن أبى العشائر الواسطى واقتديا بطريقته) وشرف الدين الكردي المدفون بالحسينية – حيث دفن أبو العباس الملثم – وبدر الدين الجاكي الكردي ، وقد وشوا به للسلطان ، وعقدوا له مجلسا لمنعه من الوعظ .
ثم كان أهم أصحاب أبى السعود هو الشيخ خضر العدوى وكان له شأن مع الظاهر بيبرس وقت أن كان البدوي يمارس دعوته فى طنطا .
ويلاحظ أن مدرسة أبى السعود كلها كانت من الوافدين عليه من الأكراد والمشارقة وأولئك جاءوا مصر فقصدوا الشيخ وصاروا من أخصائه، ولو كان الأمر طبيعيا فما كان أسهل عليهم اللقاء فى بلادهم.
وهناك ناحية أخرى فى تاريخ أبى السعود الواسطي تتمثل فى علاقته الغامضة بأبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الإسكندرية ، يروى بعض مريدى أبى السعود عنه( لم يمش لبيت أحد قط إلا لبيتي بمصر مرة، ومرة زار فيها الشيخ أبا الفتح الواسطي لما ورد القاهرة بسبب علم له فيه ، ولم يجتمع به بعد ذلك) . ووجه الغرابة أن أبا السعود التزم بالعزلة حتى كان لا يخرج من زاويته إلا للجمعة أو الحج ، ومع ذلك فقد اجتمع – على غير عادته – بأبى الفتح الواسطى – الذى سعى للقائه فى القاهرة آتيا له من الإسكندرية ( بسبب علم له فيه) ثم كان التحرز من اجتماعهما بعد ذلك ( ولم يجتمع به بعد ذلك) .
فلعل أمرا خطيراً سرياً أوجب هذا الإجتماع الطارىء ، ثم لم يكن بعده احتماع فى مصر .
ومعلوم أن الحج إلى مكة كان ستاراً يجتمع فيه أساطين الدعوة المنتشرون فى العراق والشام ومصر ويتداولون فيه الآراء ويرسمون فيه الخطط مع أساتذتهم فى مكة .
وأبو السعود كان داهية ، أدرك ما يعانيه أبو الفتح من اضطهاد فى الاسكندرية فتحرز من الاجتماع به فى القاهرة . ويكفى فى إدراك نجاح أبى السعود أن تاريخه خلا من أى إشارة لاضطهاد الحكام له ، بل على العكس ورد أن السلطان – ولا نعرف من هو ذلك السلطان- كان يسعى للقائه دليلاً على أن مظهره الصوفى العادى خدع السلطات الحاكمة ، بينما أخفق بعده تلميذه بدر الدين الجاكي فافتضح أمره فعقدوا له مجلسا ومنعوه من الوعظ.
أبو الفتح الواسطي :
فى الوقت الذى استقر فيه أبوالسعود الواسطي فى القاهرة واجهه صوفية ترقب العاصمة ، وفى الوقت الذى تجول فيه أبو العباس الملثم بين القاهرة والصعيد كان أبو الفتح الواسطي يحتل قبلهم مكانه فى الاسكندرية مبعوثا من لدن الرفاعى .. شيخ الجميع.. وقد ختمنا به لأن البدوى خلفه بعد موته . يقول الشعرانى عن أبى الفتح ( شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر المحروسة ، وكان من أصحاب سيدى أحمد بن الرفاعي فأشار إليه بالسفر إلى مدينة الإسكندرية فسافر إليها ) . ويروى المناوي أن الرفاعي أرسل الواسطي للاسكندرية وقال له ( إقامتك ووفاتك بها،) . وهذا أسلوب الشيعة فى دعوتهم ، فمنصور البطائحي خال الرفاعي ألزمه بالبقاء فى أم عبيدة حتى مات فيها ، والرفاعي ألزم خليفته بالبقاء فى أم عبيدة حتى دفن بها ، وألزم مبعوثه الواسطي بالبقاء فى الإسكندرية حتى مات بها . وينطبق ذلك على مبعوثيه الآخرين أبى السعود الواسطي وأبى العباس الملثم .
على أن أبا الفتح واجه معارضة عنيفة فى الإسكندرية ، وهذا أمر متوقع بحكم موقعها الساحلي ويقظة الأيوبيين لما يجري فيها خوف الإغارات الصليبية وقد كانت الحملات الصليبية تأتى لمصر الأيوبية عن طريق البحر المتوسط وتتخذ من قبرص نقطة ارتكاز للتآمر على الثغور المصرية ، ولأن أعين الأيوبيين تترصد كل تحرك فى الاسكندرية فقد تتبع أعوانهم من القضاة والفقهاء أبا الفتح بالمحاكمات والاتهامات حتى أصابة القنوط فخالف أمر شيخه الرفاعي وعاد إلى أم عبيدة.
يقول المناوى أن الواسطي أقام فى الإسكندرية مدة ثم عاد لشيخه الرفاعي ( لأنه لم ير فى الإسكندرية إقبالا ) ثم أمره الرفاعي بالعودة إلى الإسكندرية وأنشده:
أيها السائر سر فى دعــــة أينما كنت فما عنك خلف
إنما أنت سحاب ممــــــــطر أينما صرفه الله انصـــــرف
ليت شعرى أى أرض أملحت واعيــت بك من بعد التلف
أرسلك الله إليها رحمــــــــــــــــة وعدمناك لذنب قد ســــلف
يقول المناوي : فسافر الواسطي للإسكندرية ، ويقول الشعراني عنه ( وكان مبتلى بالإنكار عليه وعقدوا له المجالس بالإسكندرية وهو يقطعهم بالحجة ) .
ولا ريب أن دعوة الواسطي للأسكندرية ونجاحه فى مجابهة خصومه يرجع إلى توجيهات الرفاعي حين عاد إليه بخفى حنين ، فرجع بعدها الواسطى شخصا جديدا يقابل خصومه و( يقطعهم بالحجة ) ويجتذب الأنصار ويكون الخلايا السرية ، وأبرزهم أتباعه المقربون ( كالقليبي والبلتاجي والدنوشري والمليجي وعبد العزيز الدريني ..) وأولئك لهم شأن مع البدوي الذى جاء ليخلف الواسطي حين مات سنة 635 .
ونجاح الواسطي يرجع لسبب آخر يتمثل فى الاضطراب الذى حاق بالأيوبيين ابتداء من مطلع القرن السابع حيث عمّ الخلاف بين أبناء العادل الأيوبي واشتدت بينهم المؤامرات والحروب فى نفس الوقت الذى آمنوا فيه للصليبيين وادخلوهم فى منازعتهم الأسرية حتى أن الكامل الأيوبي تنازل عن بيت المقدس للأمبراطور فريدريك الثاني الألماني بدون حرب فى مقابل أن يؤيد أطماعه فى دمشق. وإذ تقرر التحالف بين الكامل والصليبيين فقد أمن من ناحيتهم وانشغل عن المؤامرات الداخلية بما يجابهه من خطر أخوته فى الشام والعراق.
وهذا الحال المتردى الذى صار إليه حال الأيوبيين من أبناء العادل قد شجع مدرسة المغرب التى كونها أبو مدين فى بجاية وقام على رعايتها ابن بشيش، وقد تم التعاون بين مدرستي العراق والمغرب فى مصر التى تتوسط الشرق والغرب .
وإنصافاً للحق فإن بعوث المدرسة المغربية قد تلمست طريقها لمصر منذ سقوط الحكم الشيعى الفاطمى فيها وحرب صلاح الدين للدعوة الشيعية ثم زاد دورها أبان ضعف خلفائه .
بعوث المدرسة المغربية إلى مصر:
1-اتخذت بعوثها من الأسكندرية القريبة للغرب نقطة ارتكاز تنطلق منها للقاهرة – العاصمة – والصعيد موطن التشيع . وأبرز الأشياخ فى هذه المدرسة أبو الحجاج الأقصري ت 642 وقد ورد للاسكندرية من المغرب ، وفيها أخذ عن داعية مجهول من تلامذة أبي مدين ،يقول الشعراني فى ترجمة أبى الحجاج " وكان شيخه الشيخ عبد الرازق الذى بالإسكندرية قبره من أجل أصحاب سيدى الشيخ أبى مدين المغربي " ، وتتلمذ على هذا الشيخ المجهول أبو الحجاج الأقصري وابن الصائغ، يقول أبو الحجاج " كنت أجىء أنا وأخى أبو الحسين بن الصائغ بإسكندرية إلى شيخنا " ، وانتقل أبو الحجاج إلى قوص – وهى مركز كبير للتشيع الإسماعيلي – وكون فيها مدرسة كان من أعيانها كمال الدين بن عبد الظاهر يقول الشعراني فى ترجمة ابن عبد الظاهر " صحب الشيخ أبا الحجاج الأقصرى رضى الله عنه حين كان بقوص" .ثم استقر أبو الحجاج فى الأقصر حيث مات واكتسب لقب الأقصري ..
2- وكعادة دعاة الشيعة المتسترين بالتصوف فقد واجه أبو الحجاج عنتاً من الأمراء ، ويقول الشعرانى " إن شخصاً من الأمراء المشهورين فى عصره أنكر عليه" ، ولم تنقطع المؤامرات الخفية ضده تنشد قتله يقول خادمه زكريا التميمى " طلب شخص من مريدي أبى الحجاج الأقصري قتل شيخه مرات فلم يقدر" ، أى اندس بعضهم ضمن مريدى الشيخ محاولاً قتله فلم يستطع رغم تكرار المحاولة ، ليقظة الشيخ وتحرزه.


الاتصال بين المدرستين:
وقد أبقى الشيعة الصوفية من مدرستى الرفاعي وأبى مدين الصلات بينهما فى طى الكتمان وغلفوها بالكرامات والأساطير إذا جد ما يستدعي اتصالاً بينهما كما حدث بين أبى العباس البصير الوافد من المغرب ت623، وأبى السعود بن أبو العشائر الوافد من العراق ، يقول الشعراني فى ترجمة أبو العباس البصير " كان من معاصري الشيخ أبو السعود بن أبى العشائر ، وكان سيدي أبو السعود فى زاويته بباب القنطرة يراسله بالأوراق فى أيام خليج النيل الحاكمي إلى باب الخرق بزاوية الشيخ أبو العباس ، فكانت ورقة أبو السعود تقلع ورقة أبو العباس ولا تبتل " .
وفى مناسبة الحج كان يتم بحث شتى التفصيلات بين الأشياخ ..وسبق القول بأن أبا السعود ابن أبى العشائر كان لا يخرج من داره إلا للحج أو لصلاة الجماعة .. يروى الشعراني عن خادم أبي السعود قوله" خدمت سيدى أبا السعود عشرين سنة وأنا أسأله أن يأخذ على العهد فيقول : لست من أولادي أنت من أولاد أخي أبي العباس البصير سيأتى من أرض المغرب، فلما قدم إلى مصر أرسل سيدى أبو السعود إلى سيدى حاتم- الخادم وقال له : شيخك قدم الليلة فاذهب إلى ملاقاته فى بولاق ، فأول من اجتمع به من أهل مصر سيدي حاتم ، فلما وضع يده فى يده قال : أهلا بولدي حاتم ، جزى الله أخى أبا السعود خيرا فى حفظك إلى أن قدمنا" .
ومنطقي أن يجد أبو العباس البصير حين يقدم إلى مصر خادماً يمهد له سبل الاتصال بينه وبين أبى السعود . وكل شىء متفق عليه سلفاً ، ويحكى فى صورة كرامة تستغل ما شاع فى العصر من اعتقاد فى علم الصوفية بالغيب، مع أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
هذا.. وجدير بالذكر أن أبا العباس البصير المغربي تعلم أصول الدعوة على يد الداعية العراقي الرفاعي السري ابن سيدبونه الخزاعي " ثم سافر للصعيد وأقام بالقاهرة" .
وهناك اتصالات مجهولة لم يكشف عنها الستار تمت بين الشيعة المتصوفة من مدرستي العراق والمغرب ، إلا أننا يمكن أن نترصدها من تحركات الفريقين ، فأبو العباس الملثم طوف بالصعيد وأقام مدة فى "قوص" وله علاقة بالشيخ عبد الغفار القوصي ، والملثم موفد من قبل الرفاعي ، وفى " قوص" أقام أبو الحجاج المغربي الأقصري مدرسة كان من تلامذته فيها ابن عبد الظاهر ، ولعل المؤامرات التى حكيت ضد أبي الحجاج تمت فى " قوص" الشهيرة بالتشيع لدى السلطات مما جعل أبا الحجاج يرحل عنها إلى الأقصر لينشىء مدرسة جديدة غير معلومة.
وفى " قوص" نشأ "عبد الغفار القوصي " وتنقل بينها وبين القاهرة، وفى شخصيته تبدو ثورية وعنف وميل للتآمر ، وهى صفات أبعد ما تكون عن التصوف العادى ..فقد" كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يبيع نفسه فى طاعة الله تعالى " " وكان يقول : كلام المنكرين على أهل الله تعالى كنفخة ناموسه" .
ولعله كان صلة بين أبى الحجاج وأبى العباس الملثم ، ونشأ فى جو التآمر هذا حتى إذا فشلت الدعوة الصوفية لم يجد مجالاً لتآمره إلا الكنائس، فقام بمؤامرة واسعة سنة 721 أحرق فيها الكنائس المصرية فى وقت واحد بين الإسكندرية والقاهرة والصعيد ، ورددت المراجع التاريخية هذا الحدث الفريد من نوعه فى حوادث سنة 721 ، ولا يمكن لمؤامرة على هذا المستوى أن تتم إلا بخبرة تامة فى التآمر وتطواف مستمر بمدن مصر ومعرفة بكنائسها وتنظيم محكم بأتباع منتشرين ووسائل اتصال على مستوى عال.
ولا بد أن يكون عبد الغفار القوصي قد استثمر أدوات الدعوة الشيعية الصوفية بعد فشلها فى إحراقه العام للكنائس المصرية فى الإسكندرية والقاهرة والصعيد ففى هذه المناطق تتركز الخلايا الشيعية الصوفية بلا عمل، وربما رأت فى هذه المؤامرة وسيلة لإفساد الأمر على السلطة المملوكية وذلك ما فطن إليه الناصر محمد بن قلاوون وسنتعرض لذلك فى أوانه.
وجدير بالذكر أن خضر العدوي – وهو عضو هام فى الخلايا الشيعية الصوفية – كانت له تحركاته المعادية للمسيحيين وكنائسهم – وقد ذكرنا ذلك كدليل على وحدة الاتجاه لدى المدرسة الشيعية الصوفية.
ونعود للشيعة المتصوفة والكتمان الذى يسود العلاقات بينهم ، ونذكر أن أخوف ما كانوا يخافونه هو أن يتسلل إلى خلاياهم عميل للأيوبيين أو المماليك . وقد سبق أن بعض العملاء تسلل إلى جماعة أبى الحجاج الأقصري كأحد مريديه وحاول قتله ثلاث مرات فلم يفلح ، وللشيعة العذر فى هذا التحوط فقد استغل صلاح الدين أسلوب التسلل للخلايا الشيعية الصوفية حين استمال عبد الرحيم القنائي وأوفده للصعيد فتمركز فى "قنا" حربا على زملائه القدامى ، وهو بهم أدرى ، وقد استطاع استمالة ابن الصائغ السكندرى زميل أبى الحجاج الأقصري فى الإسكندرية ، وصار ابن الصائغ من جملة أتباع عبد الرحيم القنائى..
وعبد الرحيم القنائي من الأتباع الأوائل للشيخ أبى مدين الغوث إلا أنه انقلب على الدعوة وتعاون مع صلاح الدين الأيوبي ، ولم ينس له الشيعة المغاربة هذا الموقف . وتلمح إلى هذا رواية صوفية نسبت للشيخ أبى العباس البصير المغربي ، يقول الشعراني أنه ( قدم شخص من مريدي الشيخ أبى العباس البصير على سيدي عبد الرحيم القناوي بعد وفاة الشيخ أبى العباس ، وكان الشيخ يأخذ العهد على جماعة من الحاضرين فمد يده ليد فقير أبى العباس وهو فى المحراب فخرجت يد أبى العباس من الحائط فمنعت يد الشيخ عبد الرحيم فقال : رحم الله أبا العباس يغير على أولاده حياً وميتاً ) والثابت أن أبا العباس توفى بعد عبد الرحيم بمدة طويلة ، فعبد الرحيم توفى سنة 592، وأبو العباس كان معاصراً لأبى السعود وتوفى سنة 623 ، ولكن صياغة هذه الكرامة توحى بالصراع الخفي بين القناوي وبقية الشيعة الذين انشق عليهم فحقدوا عليه حتى بعد موته..
ثم نعود لأبى الفتح الواسطي وقد استفاد من الاضطراب السياسي فى مصر فكوّن مدرسة قدر لها أن تنمو وأن تلعب دوراً هاماً فيما بعد ، وصار كما يقول الشعرانى ( شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر المحروسة . وأخذ عنهم خلائق لا يحصون .) إلا أن موته آذن بانهيار جهوده.
فسارع الشيعة حين بلغتهم وفاته سنة 635 بإرسال أحمد البدوى ليحل محله فى مصر وليتزعم بشبابه وحيويته الدعاة فى مكانه البعيد الخفى عن الأنظار فى "طنتدا" .
يقول باحث عن أبى الفتح الواسطي " كانت له مكانة بين أتباع الرفاعي فلقد أرسلوه إلى مصر ليبشر بطريقتهم ويتزعم الأتباع فوصل الإسكندرية سنة 620 وأقام بها داعيا ، ولقى هناك عنتا كبيرا من شيوخ الشرع والفقهاء وتوفى سنة 632 ، ولما وصل خبر وفاته إلى خلفاء الرفاعي بالعراق مركز الدعوة والطريقة الرفاعية وقع إختيارهم على السيد البدوي ليخلفه فى زعامة الإخوان وأتباع الرفاعي بمصر . .
ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق فى مجلة السياسة " دوهم العلويون فى مكة بنبأ وفاة أبى الفتح الواسطي داعيتهم فى مصر ، ذلك الرجل المدهش الذى استطاع فى سنين قلائل أن يجمع إلى رايته أجل أرباب النفوذ من علماء مصر وأعيانها ، فلم يجدوا أكفأ من السيد أحمد البدوي لهذه المهمة فوجهوه إلى الديار المصرية فنزح إليها من مكة عام 637 هجرية وسكن بطنتدا) .
وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى البدوي كمبعوث سياسي سري للصوفية المتشيعين .
وقد عشنا مع المراحل السابقة من مراحل الدعوة وأشياخها ومواطنها ابتداء بالمغرب ومرورا بالحجاز والعراق ثم نحط الرحال فى طنطا لنري ماذا سيفعل البدوى بالدعوة وعلام ينتهى أمره..
وقبل أن نستغرق مع البدوى فى مشاكله فى طنطا نستعرض الخطوط العريضة لكثير من التفصيلات التى سبقت فى توضيح الجهد الذى قامت به مدرسة الرفاعي فى العراق ، باعتبار أن هذه المدرسة هى الأم التى أنجبت أساطين الدعوة فى مصر والشام والعراق واليمن ، فنلاحظ الآتى :
1- نجح الرفاعي تماما فى استغلال التصوف كساتر لحركته الشيعية السرية . ظهر كصوفي أمام العامة والحكام فازداد أتباعه فى نفس الوقت الذى قرب إليه خواصه من مريديه المقيمين معه فى أم عبيدة ، وقد جعلها قلعة لأتباعه يرسل منها سراً البعوث إلى الشرق والشمال ، وكانت له سياستان حسب الظروف ، فساس أتباعه بالحزم والصرامة، وعلى العكس من ذلك صابر أعداءه ولاطفهم حتى استطاع النجاة من مكائدهم واكتسبهم أنصاراً ومريدين.
2- لم يكن خلفاء الرفاعي فى مستواه السياسي ، بينما تغيرت الظروف السياسية إلى غير صالح الدعوة ، فالناصر العباسى أحكم سيطرته على العراق والتحركات المغولية والخوارزمية فى أواسط آسيا وشمالها أجهضت الدعوة الناشئة فى هذه المناطق ، فيمم الشيعة وجههم شطر مصر التى كانت تعاني من الاضطراب السياسى تحت حكم أبناء العادل الأيوبي .
ولأنه لم يوجد من خلفاء الرفاعي من يدانيه مقدرة ودهاءاً فقد توزعت مهامه بين خلفاءه ، فظلت ( أم عبيدة) مركزاً صوفياً فى الظاهر شيعياً فى الباطن يتعلم فيه المبعوثون أساليب الشيعة فى الدعوة، بينما انتقل النشاط السياسى إلى خارج العراق ممثلاً فى عز الدين الرفاعى الذى طوف بالحجاز ومصر والشام واليمن يكون فيها الخلايا وينشىء فيها الزوايا .
3 ـ سبق الرفاعي خلفاءه فى الاهتمام بمصر بعد سقوط الدولة الفاطمية الشيعية فأرسل أبا السعود بن أبى العشائر وأبا الفتح الواسطي وقد احتل كل منهم مكانه بين الاسكندرية والقاهرة .
4 ـ فى مصر نجح أبو السعود الواسطي فى استغلال الاضطراب الذى حاق بالأيوبيين بسبب تنازعهم العائلى المستمر فأكثر من أتباعه وانتشروا فى مصر إلا إن موته حدا بالعلويين إلى إرسال من يحل محله ، فكان "البدوي".
5- بقى أن نقول أن اتجاه العلويين إلى مصر مكنهم من الاستفادة بإخوانهم أتباع مدرسة المغرب وبتنسيق سرى منتظم ، كما حدث من أبى الحجاج الأقصري وأبى العباس البصير، وكما سنراه مع الشاذلي والبدوي. والمنتظر منهم أن يجهزوا للقادم الجديد "البدوي" عرشه فى طنطا ، فلابد أن يستفيد مما زرعه السابقون.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن