لان هناك عقولا تطرح أفكار التقسيم

نضال فاضل كاني
nidhal.albaghdadi@gmail.com

2011 / 4 / 2

في مقال قد يبدو مضمونه أقرب الى الحلم الوردي منه الى الواقع العنيف بما فيه من فعل ثوري شعبي اشعلت جذوة بركانه المضمر ، روح احرقت نفسها بنفسها، ومن رد فعل حكومي اخذ يتناول جرعات مناعة تكتيكية سريعة -كسبا للوقت- على أمل ان يصمد في وجه تسونامي مدمر للأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية.. يطرح الكاتب محمد السراج مقترح (الامم العربية المتحدة).
في مقترحه هذا تكون اللغة الرسمية هي العربية حتى بالنسبة للكرد والبربر، والاسلام هو الدين الرئيس الرسمي، حتى بوجود المسيحيين واليهود الذين لم يتطرق لذكرهم.
ثم طرح مفهوم الامم ليحافظ في هذا الاتحاد على المدلول القطري بما يتضمنه من ثراء ثقافي وبترولي، ولعل الاهم ، ليكون مقابل الامة الاسلامية الاشمل لتكون قلبها النابض.
يتزعم هذه الامم مجلس من حكماء كل قطر عربي، هم بمثابة البرلمان العربي الموحد، الذي تنتخبه الشعوب العربية من خلال التصويت الديمقراطي على ان يكون المرشحين تكنوقراط من الدرجة الممتازة.
مهمة هذا البرلمان السعي في تصريف اعمال الناس العالقة واحدة واحدة خلال عقد او عقدين استعدادا لمرحلة تالية وكل ذلك في اطار عقد اجتماعي سياسي عربي جديد.
بهذه الطريقة – كما يرى سراج – يحصل التغيير الجذري في العالم العربي ، وإلا فستبقى فلول الاستبداد مستحكمة الى لا نهاية.
* * *
لماذا يطرح العقل مثل هذا المقترح الان ؟
هل لأنه يتوقع الاسوء من احتمال تفتيت الدول الى دويلات اصغر نتيجة للانفلات الثوري الشعبي غير المبرمج أم لانه يطمح للأفضل في ظروف مواتية يمكن ان تستفيد من شعلة التغيير التي بدأت تتوهج في المنطقة؟
هل يتحرك هذا النمط من التفكير كخطوة استباقية لما يمكن ان تقدمه عقول اخرى تقع في الجانب الاخر من العالم ، عقول لا تربطها في المنطقة الا المنفعة البرجماتية ؟
قبل الاجابة، اود التنويه الى أن غايتنا من مناقشة المقال ليس التأييد او الرفض او التحليل للفكرة التي عرضها محمد السواح بل نحن نحاول تسليط الضوء على طريقة التفكير نفسها .. ليست طريقة تفكير السواح بل طريقة تفكير العقل الانساني بشكل عام ..
نحن نفترض ان هناك منظومتين للعقول : منظومة العقل الفردي الذي يتميز به كل شخص على حده، تقابلها منظومة العقل الكلي وهو الحد الادنى الذي تشترك فيه جميع العقول الانسانية بلا استثناء ، وهذا التقابل بين المنظومتين يجعلنا ننظر للواقع بمنظارين :
الاول : يفرز لنا نظريات تبدو عند جمعها وعرضها على لوحة كبيرة انها الوان متعددة .. متشابهة متناقضة متضادة متعارضة متباينة متألفة متخالفة متعاكسة متناسقة متكاملة متضاربة ..الخ.
الثاني: يكشف لنا انه يضمر كل ذلك مجتمعا ومتفرقا في ذات الوقت وكأن كل تلك الالوان عبارة عن لوحة فسيفسائية غير منتهية باطار معين لصورة محددة .
وميزة الفسيفساء انها عند الوقوف على مسافة معينة لا هي بالقريبة ولا هي بالبعيدة فإنها تعطي الجمال الكلي لجميع الاجزاء المتعددة فيها، ويتلاشى ذلك الجمال تدريجيا عند الاقتراب للنظر من اجزاء محددة اذ تتلاشى القيمة الكلية لذلك الجمال بنسبة الاقتراب التركيز على اجزاء بعينها، كما ان الابتعاد أكثر من اللازم يضائل من امكانية رؤية جميع قسمات تلك اللوحة اذ يتداخل بعضها مع البعض وبنفس الطريقة تفقد نسبيا من قيمتها الحقيقية.
وفي كل الاحوال، الواقع يفرض – بطريقة ما – منظومة التفكير بطريقة العقل الفردي ، وما يترتب على ذلك المنظار هو ما نراه في حياتنا : الحرب والسلام، الاتفاق والاختلاف، الوئام والخصام، والحب والكره، القانون والاجرام.... وثنائيات لا تُعد ولا تحصى .
إن كل ما نراه من هذا التعدد الفردي ما هو الا مفردات او الوان تلك اللوحة الفكرية الكلية الجامعة لكل الالوان في صورة لا يمكن رؤيتها بسهولة لأنها تتطلب من العقل ان يسمو على النظرة الواقعية الفردية ولا يبالغ في السمو فينتهي الى التجريد الذي يظهر الالوان وكأنها في تشكيلات متماهية في الصراع او الاتفاق.
إن المنظومة الفكرية الكلية تضمر كل تلك الافكار الجزئية او الفردية، وما يظهر هنا أو هناك ليس إلا امتداد لتلك القوة الفكرية من خلال النفس الانسانية في مواجهتها مع الواقع .
المنظومة الفكرية الكلية عندنا بمثابة المحبرة ، الجامعة في حبرها لكل الحروف بكل اللغات ، وهي تظهر الى الواقع – أي على الورق – من خلال الانسان، فان كان عربيا كانت حروفه عربية وان كان فرنسيا كانت حروفه وكلماته فرنسية .. وما يحدد جنسية الانسان اصله ومجتمعه وبيئته ..
فإذا جلس ديني ولا ديني امام محبرة وكتب كل منهما عبارة عن عقيدته في الإله فاننا سنقرأ عبارتين متناقضتين تماما ، كانت تلك العبارتان مضمرتين في الحبر ، ومن خلال شخصين ولدا من اصلين مختلفين ونشأ في مجتمعين وبيئتين مختلفتين ظهرت فكرتان مختلفتان .
وهذا يعني : ان الكثرة الفكرية كانت مضمرة في اصل فكري كلي واحد قبل ان تظهر
بتعبير آخر: الوحدة تضمر الكثرة والكثرة تضمر الوحدة
لكن اضمارات الكثرة نسبية مرتبطة مع الواقع بشكل مباشر، واما اضمارات الوحدة فهي مطلقة كلية لا ترتبط مع الواقع الا بطريقة غير مباشرة من خلال الانسان ضمن ظروف ومحددات واقعية معينة.
ان صيغة علاقة الاضمار بين المطلق والنسبي في التفكير يمكن تحديدها من خلال أخذ عناصرها الرئيسية في الاعتبار وهي :
العنصر الاول: الواقع ، وهو الظرف المحيط بالقضية المراد التفكير بها
العنصر الثاني : التوقع ، وهو ما يفكر فيه شخص ما في قضية ما
العنصر الثالث: التوقع المضمر، وهو ما لا يفكر فيه ذلك الشخص في تلك القضية ويمكن أن يفكر فيه شخص آخر.
فعندما تواجه المنطقة العربية مثل هذا الظروف الصدامية بين الشرعية الثورية التحررية وبين الشرعية الدستورية المهمشة فإن القوة الفكرية تنشط في واقعياتها المختلفة ويبدأ كل عقل باستحضار ما يتناسب مع العناصر المؤثرة فيه ..
وهنا وضمن مفهوم الاضمار فإن كل ما يقال يضمر اقوالا أخرى يقولها آخرين تختلف عناصر واقعيتهم عن عناصر واقعية القائل.
فإذا كان السيد محمد سراج مثلا، دعا الى ( الامم العربية المتحدة ) فإن ذلك يعني أن هذا القول يضمر أقوال أخرى تخالفه او تبيانه او تعارضه .. أي ان آخرين يدعون او سيدعون الى انفصال القوميات والطوائف عن بعضها البعض اما بشكل مباشر كما حصل في جنوب السودان او غير مباشر كما حصل في شمال العراق ..
واذا عدنا الى سؤالنا : لماذا يطرح العقل هذا المقترح ؟
فإن جوابنا هو : أن ذلك بسبب الاضمار
بتعبير آخر : لان هناك عقولا تطرح أفكار التقسيم .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن