عن أصالة المفاجأة والاستهلال في مجموعة أحمد محمد أمين القصصية

جاسم المطير
j.almutair@kpnplanet.nl

2011 / 3 / 10

عن أصالة المفاجأة والاستهلال في مجموعة أحمد محمد أمين القصصية
جاسم المطير
بالمصادفة تسلطتْ على قراءاتي، هذا الأسبوع، مجموعة قصصية بعنوان " زمن كالضباب" . المجموعة صادرة عام 2004 عن دار أزمنة في عمان ، لكاتبها احمد محمد أمين. كاتب عراقي مقيم بالسويد لم أتشرف بالتعرف عليه ، بعدُ. لم أقرأ له من قبل أي قصة قصيرة من كتاباته، رغم أن مجموعته الأولى كانت قد صدرت عام 1984 في الكويت، كما تشير إلى ذلك سيرته القصصية المنشورة، اختصارا، في مقدمة المجموعة.
منذ القصة الأولى حتى الأخيرة بدت لي صور ومضامين مجموعة "زمن كالضباب" كتلة متراصة لعناصر في التجديد القصصي العراقي، يمكنني القول عنها، بداية ً، أنها تسجل التماعة ً مهمةً التقطتها عيناي في العملية القصصية العراقية، الرامية إلى اكتشاف واقع الحال العراقي، واكتشاف بعض الوضع الحقيقي للمغترب العراقي في جزء على الكوكب السويدي الشاسع بكيفية مغايرة تماما في كل شيء لمنظومة الحياة في الوطن الأم.
في الحقيقة تنقصني معرفة تفاصيل تجارب قصصية أخرى عن هذا الكاتب بعد تجاوزه لتجارب عام 2004 الواضحة في مجموعته القصصية الصادرة في نفس العام .. هل كتب شيئاً قصصياً جديداً بنفس المستوى الفني أم برقي ٍ أعلى.. هل صدرت له مجموعة جديدة أم مجاميع أخرى حقق فيها اكتشافاً قصصياً جديداً خلال مساحة زمنية متعلقة بثمان ٍ من السنوات أعقبت مسافة (زمن كالضباب). لا ادري.
اندفعتُ منذ قراءة السطور الأولى في هذا الكتاب بتوق ٍ شديد ٍ متعلقا بذات المجموعة وبنائها الفني للتعرف على رحلة الكاتب في (زمن كالضباب) حدده ، بنماذج قصصه ، التي تعدادها 16 قصة قصيرة مع مقدمة باهرة، قريبة جدا من المضمون القصصي، بشكل أجبرني شكلها على وصفها قصة أيضا ، من دون أن أجد أية خطورة في هذا التجنيس.
لا أريد ، هنا ، أن أصوب تلسكوبي النقدي على جميع مدارات المجموعة، لكنني أحاول التمعن في نقطتين أساسيتين:
(1) النقطة الأولى تتعلق باستنطاق التجربة القصصية لهذا الكاتب واستنطاق الملاحظات عنها من خلال فوهة (الاستهلال) القصصي.
(2) النقطة الثانية محاولة استبصار الجمال الواضح في الشكل الفني المستخدم في قصص المجموعة كماً ونوعاً بافتراض وقوعها داخل عملية تجديد فن القصة العراقية.
لم أقم بمسح قصص المجموعة في ما يتعلق بالنقطة الأولى ووضعها على محك الدراسة والنقد، بل وجدتُ نفسي منذ قراءة القصة الأولى المعنونة (أيام ساخنة) في الصفحة 17 أن ثقافة وميول الكاتب ،وميوله القصصية بالتحديد ، كانت اختراعاً من نوع خاص ، بمعنى أنها حملتْ خــَلقاً قصصياً جديداً معتمداً على اختراع (استهلال) جديد النوع في مشروع الكتابة القصصية حيث كان هذا الاستهلال في جميع القصص أشبه بنحلة لا تمتص رحيق أزهار الأفكار المتنوعة حسب، بل على العكس تقدم شراباً مختلف الألوان والأذواق في القراءة القصصية. هذا العنصر الذاتي ذكـّرني باختراعات الناقد العراقي ياسين النصير ، المثمرة في كتابه النقدي الخاص بالاستهلال .
الاستهلال عند كاتب مجموعة (زمن كالضباب) كان في 15 قصة زاخراً بــ"مفاجأة" القارئ ، كما كان يفاجئنا الأدب الإغريقي القديم والأدب الانكليزي الحديث، مظهرا مفاجأته الاستهلالية بأساليب الأفكار، والتعبير، والصورة ، والحدث ، ليستوحي من عنصر المفاجأة أصالة البناء الفني، المتواصل في كل قصة من قصصه، ليظهرها بطابع خاص متميز عن الأساليب الكلاسيكية المتكررة عند الكثير من القصاصين العراقيين، الذين يستهلون قصصهم من شاطئ هادئ لا يرعش القارئ ولا يجعله مضطربا منذ البداية وفق مبدأ ( المدخل ) القصصي الممهد لظهور ( الحبكة) وتصعيدها وتعقيدها ثم (حلها) أو تركها (مفتوحة ) لاحتمالات اكتشاف القارئ نفسه.
المفاجـِئات في قصص احمد محمد أمين في هذه المجموعة رصينة وعددها غفير. وقد وجدتها قديرة في إزاحة عين القارئ من مركز التقليد القصصي نحو الامتياز القصصي ، منطلقا من فكرة تحرير القارئ من غطرسة الأسلوب التقليدي في القص بداية من الذرة الاستهلالية الأولى. هذا ما فعله في قصة (أيام ساخنة) عن طفولة بطل القصة وأمه الناجية من حريق، وعن بطولة كاتب في قصة (أجراس الغبش الوردي).
بطلة قصة (ليلى والمجنون) وغيرها من قصص المجموعة ذكرتني بإعجابي السابق بقراءاتي لقصص إبراهيم احمد ومفاجـِئات أبطاله في ما بعد استهلاله القصصي. كما ذكرني بإعجابي، أيضا ، بنموذج الاستهلال الروائي ذي المنظور الصادم في اغلب روايات الكاتبة العراقية عالية ممدوح التي قرأت العديد منها.
المفاجأة القصصية في هذه النماذج الثلاثة (احمد محمد أمين وعالية ممدوح وإبراهيم احمد) ليست رحلة قصصية إلى المجهول، وليست درسا فلسفيا يتوقف عنده القارئ، بل هي عنصر مهم من التشويق يجذب القارئ إلى أصول التأثير الاجتماعي في الفن القصصي بتحريك خيال القارئ، ليس كغريزة عمياء، بل كلغة من لغات العقل والاكتشاف وتحقيق رومانسية المتعة .
لا بد من الإشارة إلى أن فن المفاجأة القصصية ليس مجرد (صنعة) في الشكل القصصي تحقق متعة القارئ، بل أنها تتضمن (غاية خلقية) أخرى تساعد في نقل موهبة الكاتب القصصي وإلهامه لتضيفها إلى مواهب وإلهام القارئ ، أيضا ، إضافة إلى أن نضج مثل هذه التجربة تغني رسالة النقد الأدبي متجلية في دعم القيم التجديدية في فن القصة والرواية في بلادنا.
جوهر المفاجأة القصصية لدى احمد محمد أمين ينقل نظري إلى النقطة الثانية ، التي أشرتُ لها أنفا واعني أغناء وتجديد المدارس القصصية العراقية. فقد وجدتُ في هذه المجموعة تيارا متميزا في فنونها، خاصة في ظروف الإنتاج والاستهلاك القصصي في بلادنا، إذ أوجز القول بأن القارئ القصصي العراقي دعـّم نفسه على قراءة القصص الواقعية ، في الأغلب، خاصة لدى قارئ الطبقة الوسطى، منذ خمسينات القرن الماضي، حين اعتادت دور النشر السورية واللبنانية والمصرية على إصدار القصص والروايات (الواقعية) في اغلب إنتاجها، كما اعتمد بعض دور النشر العربية الأخرى على نشر القصص والروايات الرومانسية ووضعها تحت متناول بعض القراء من الطبقات البورجوازية. بهذه الصور الواقعية والرومانتيكية ظل اغلب الكتاب القصاصين العراقيين يقفون في الغالبية من إنتاجهم الإبداعي على مسائل ومشكلات الواقع الطبقي – الاجتماعي متأثرين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بالنداء الشعري المنطلق من الرومانتيكي – الواقعي فكتور هيجو (26 فبراير 1802 -22 مايو 1885) لجعل الأدب ممهدا للثورة والتغيير الاجتماعي. ثم جاءت تجارب مكسيم غوركي (28 مارس 1868 - 18 يونيو 1936) لتضيف تأثيرا جديدا على الكتاب الواقعيين العراقيين من أمثال غائب طعمة فرمان وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمود سعيد ومحسن الرملي وسميرة المانع ومحمود احمد السيد وعبد المجيد لطفي وبرهان الخطيب وذياب الطائي وذو النون أيوب وعبد الحق فاضل وحياة شرارة وإنعام كجه جي وعزيز السيد جاسم ودنى طالب غالي وسليم مطر ومهدي عيسى الصقر ومحمد خضير وفؤاد التكرلي وأحمد خلف وحميد المختار وغيرهم ممن بـُنيت سرديتهم على واقعية الزمان والمكان العراقيين، خلال القرن العشرين، بينما ظلت الأقلية من القصاصين العراقيين يحتلون موقعا متواضعا في التاريخ القصصي العراقي يعبرون فيها عن طبائع رومانسية ذات انتماء إلى مشاعر إنسانية منبثقة عنها أو بموازاتها تعرفتْ عليها الكاتبة العراقية ( عالية ممدوح) وقد حاولتْ فيها أن تضع الأدب الرومانتيكي الجريء داخل الحياة الواقعية، بصور تكشف المعاناة الارستقراطية أو البورجوازية، لتأكيد الفردوس الذاتي واعتداد الفرد بنفسه ضمن تيار عاطفي فردي عارم بالتوغل الجريء في اعماق الغابات الذاتية.
في كتاب احمد أمين نجد مرئيات من الخيال الرومانسي العام، ممتزجة بمرئيات واقعية، أو أننا نرى خيالا قصصيا مدركا العلاقة بين التجريبية والطبيعة الإنسانية، بين التجريبية والواقعية، بين التجريبية والقدرة التعبيرية عن الانفعال الذاتي، خاصة في قصص مكتوبة في المنفى أو عن نمط الحياة والطبيعة في مدنه، حيث المشاعر الفردية مؤثرة ومتأثرة بالعالم الخارجي وصوره ( قصة أفراس بلا أعنة / نموذجا) وقصة (جنة بأربعة جدران/ نموذجا آخر) . بصورة عامة يمكنني القول أنني وجدت وحدة عضوية عقلية – تصويرية- تعبيرية، بين الواقع والرؤى الخيالية، في قصص هذه المجموعة وهي نفس المظاهر المعبرة عن مشاعر ذاتية في قصص محمود عبد الوهاب حيث نجد تجديدا في صوره القصصية منذ عدة عقود إذ تستوي عنده مقاسات اندماج الرومانتيكية بالواقعية، عبر بعض فنون الرمزية.
اجتمع في قصص احمد محمد أمين وعي جمالي فني مركب على التجربة القصصية الواقعية منحته منفعة عناصر المفاجأة المغيرة لزمان ومكان قصصه، محققا معادلة الشكل بالمضمون، مما يجعل قارئ المجموعة يجد أن غاية القصص هي في جوهرها غاية جميلة، واعية، منتبهة، منبهة، قائمة على الموهبة والتجديد.
الغاية هذه تتطلب من القاص احمد محمد أمين أن يخرج بقصص جديدة معتصماً بمواهبه العديدة المكتشفة في تجارب مجموعة (زمن كالضباب) بضرورة تعميق الصلة الرفيعة بين الجملة القصصية والصورة التعبيرية الدقيقة ، وضرورة مشايعة الدقة في استخدام المفردة ، القادرة على كشف المثل الإنسانية في جوهر القصة القصيرة، كي لا تتباعد القصة عن الوعي الفطري للإنسان العراقي، الذي ما زال، حتى الآن، مقطوع الصلة بفن القصة القصيرة ، حيث لم يأتلف القارئ العراقي ، بعدُ، مع هذا الفن، ائتلافا واسعا، عميقا ، كما هو حال المواطن الغربي القارئ للقصة القصيرة في رحلة يومية على مقعد في باص نقل الركاب أو على مقعد القطار حيث يتوجه إلى مكان عمله أو في عودته منه ، في حين ظل سلطان القصة القصيرة العراقية مفروضا على موضع خاص ومحدود بين بعض المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى العراقية حيث ما زال التسويق القصصي العراقي مرهونا حتى الآن بطباعة ألف نسخة يتثاقل توزيعها وبيعها في غالب الأحيان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 2 – 3 – 2011

نقلا عن جريدة طريق الشعب 6 - 3



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن