من الفلسفة إلى نقد الاقتصاد السياسي

هشام غصيب
ghassib@psut.edu.jo

2011 / 3 / 8

أوصل كارل ماركس الفكر الغربي إلى أوج علمانيته بإدراكه أن التاريخ ليس مخططاً إلهيا، كما إنه ليس الحركة الذاتية للعقل المطلق ولا الحركة العشوائية للنظم الطبيعية غير العضوية، وإنما هو حركة خلق المجتمع البشري لذاته عبر خلقه بيئته بالعمل الاجتماعي. فالبشر يشتركون معاً عبر علائق إنتاج موروثة في تغيير بيئتهم الطبيعية، وفق تصوراتهم لما يلبي حاجاتهم ومن أجل توفير هذه الاحتياجات. لكنهم، بهذه الممارسة الإنتاجية التي تغير بيئتهم، يعملون على تغيير أنفسم وإطلاق قدراتهم الكامنة وتغيير العلائق الاجتماعية القائمة بينهم. فالإنسان في جوهره كائن اجتماعي يخلق ذاته بالعمل الإنتاجي، أي بالعمل الهادف الذي يحركه العقل. وهو بذلك يملك القدرة على تملك الكون وأنسنته (من إنسان) وجعله امتداداً له، أي جعله جسده غير العضوي، كما عبر عنه ماركس، وإعادة خلقه على شاكلته ومثاله، ومن ثم جعل الكون يعي ذاته عبره. بذلك أوصل ماركس عقيدة التنوير والعقلانية الحديثة إلى أوجهما.ذلك أن أساس هذه العقيدة كان منذ البداية، منذ مكيافيلي وبيكون وبرونو وديكارت، جعل الإنسان محور اهتمام الإنسان ومرجعه، وتأكيد الجوهر العقلي للإنسان وقدرة الإنسان على التحكم في ذاته وفي بيئته الطبيعية وخلقهما، ومن ثم أن حقيقة التاريخ البشري هي الحرية، كما عبر عنها هيغل. وها هو ذا ماركس يضع تصوراً – مشروعاً علمانياً، كامل العلمانية، على أساس ذلك ومن أجل تحقيقه، من دون الانزلاق في متاهات اللاهوت والفلسفة التأملية. إنها لثورة فكرية تاريخية عزّ نظيرها، وتحدٍّ تاريخي لا مثيل له، وإعلان جليّ عن بلوغ الإنسان مرحلة النضج، مع كل ما تنطوي عليه هذه المرحلة من مسؤوليات بشرية صوب الإنسان والطبيعة. إنها دعوة جدية للإنسان لتحمل مسؤوليات نضجه وحريته واستقلاله وقدراته المتنامية. ويصاحبها تأكيد على أن البديل هو البربرية والدمار. فإما أن يحقق الإنسان ذاته بصيرورته سيداً لنفسه ولبيئته الكونية، وإما البربرية، فالدمار. وبتعبير ماركسي، إما الاشتراكية، فالشيوعية، وإما البربرية، فالدمار.

لقد أدرك ماركس خصوصية العمل البشري، ومن ثم خصوصية علاقة الإنسان بنفسه (التاريخ) وبالطبيعة؛ أي، أدرك أن العمل البشري هو عمل اجتماعي، وأنه ينبع من خصوصية الدماغ البشري والجسد البشري، وأنه تجسيد فعّال للعقل، ومن ثم أنه لانهائي وكوني الطابع. فالإنسان لا ينتج بطريقة بيولوجية واحدة، كما هو الحال مع النمل والنحل مثلا، وإنما ينتج بطريقة عقلية متنوعة ولانهائية وحرة. إنه حرية شاملة كونية تتخطى حدود الكائن إلى رحاب الممكن تصوراً وفعلاً وواقعاً. لذلك كله، أدرك ماركس أن جوهر عالم الإنسان، أي المجتمع والتاريخ، هو العمل الاجتماعي. فالإنسان يصنع عالمه وعلائقه الاجتماعية، ومن ثم تاريخه، بعمله الاجتماعي، أي في سياق تلبية حاجاته المتنوعة (البيولوجية المباشرة والمعنوية). لذلك وضع ماركس نصب عينيه منذ شبابه (منذ 1843) تفسير عالم الإنسان نقديا بمفهوم العمل الاجتماعي. وأدرك الوحدة الجدلية لهذا العالم، أي كون هذا العالم كلاً مفتوحاً متناميا، بهذا المفهوم. لكن من الخطأ الظن أن العمل الاجتماعي مجرد مفهوم يبنى دفعة واحدة مسبقاً، ثم يستعمل أداة علمية ونقدية. إن الطريقة العلمية الوحيدة لبنائه هي بناؤه في سياق استعماله أداة لفهم التاريخ وتغيير الحاضر. فهو في حد ذاته كيان مادي تاريخي معقد ومتنامٍ، وليس مجرد تجريد بسيط. وبصفته كذلك، فإنه لا يعبر عنه بمفهوم واحد، وإنما بشبكة متنامية من المفهومات المادية التاريخية. فالعمل الاجتماعي يأخذ أشكالاً متنوعة لا حصر لها في سياق التطور التاريخي للإنسان وعالمه. كما إن تجلياته متنوعة ومعقدة، بمعنى أنها لا ترتبط معه بصورة مباشرة خطية، كما بين الفيلسوف الفرنسي الراحل، لوي ألتوسير، في كتابه المعروف، “من أجل ماركس”. لذلك كله، فإن بناء مفهومه هو في حد ذاته عملية معرفية وثورية تاريخية يدخل فيها استيعاب تجلياته التاريخية وعناصر عالم الإنسان في تاريخيته. فمفهومه يبنى في سياق استعماله أداة معرفية نقدية. إذ تضاء جوانبه المتنوعة وبناه في سياق استعماله أداة تفسيرية نقدية. إنه يضاء بتفسيراته، أو قل، إنه يضاء بما يفسره بقدر ما يضيء ما يفسره. فالعلاقة بين الأداة التفسيرية والظاهرة المراد تفسيرها علاقة جدلية ضرورية. أضف إلى ذلك أن عملية التفسير هنا ليست مجرد عملية اشتقاق، وإنما تنطوي على قدر كبير من المشاهدة والرصد والاستقراء للظاهرات والآليات والعلائق الاجتماعية والتاريخية. لذلك وجد ماركس لزاماً عليه نقد الاقتصاد السياسي الذي كان سائداً في عصره، وقضاء سنوات طوال في مكتبة المتحف البريطاني في لندن لتجميع أكبر قدر من المعلومات الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية وتصنيفها ونقدها وتفسيرها. إن مشروع ماركس هو مشروع علمي في أساسه، وليس مشروعاً فلسفيا، وإن كان نقد الفلسفة مدخلاً إليه. فهو يؤسس منهجاً علميا مناسباً لفهم عالم الإنسان في سياق تغييره. وهذا المنهج يمكننا من إنتاج المعلومات بصدد المجتمع والتاريخ وتحليلها وصولاً إلى الآليات الموضوعية الفعلية التي تنتج ظاهرات المجتمع والتاريخ، بصورة مشابهة لما يتم في علوم الطبيعة، مع الفارق في موضوع المعرفة بالطبع.

ويؤكد ماركس على الطابع العلمي التجريبي لمشروعه بالقول (في كتابه “الآيديولوجيا الألمانية”، 1846): “إن المقدمات التي نبدأ منها ليست مقدمات اختيارية، ليست دوغمائيات، وإنما هي مقدمات حقيقية… وهذه المقدمات هي الأفراد الفعليون ونشاطهم والظروف المادية التي يعيشون فيها، تلك التي يجدونها موجودة من قبل، وتلك التي ينتجها نشاطهم. من ثم، فإنه يمكن التحقق من هذه المقدمات بكيفية تجريبية بحتة”.

لذلك نجد ماركس يركز في دراسته التاريخ والمجتمعات على شبكة العلاقات القائمة بين الأطراف الآتية: المنتجون؛ العمل الاجتماعي الموروث (المخثر، المتموضع، الميت)، أي شرائط الإنتاج وأدواته؛ المتحكمون بالإنتاج الاجتماعي والمنتجات عبر تحكمهم بشرائط الإنتاج وأدواته (وبخاصة عبر نظم الملكية الخاصة)؛ المعتاشون على إنتاج المنتجين بفضل ارتباطهم بالمتحكمين بشرائط الإنتاج وأدواته. وتختلف التشكيلات الاجتماعية والحقب التاريخية عن بعضها في كيفية ارتباط هذه الأطراف معاً، أي شبكة العلاقات الاجتماعية (علائق الإنتاج) بينها وفي الفاعليات الإنتاجية (قوى الإنتاج) التي تمارسها.

وقد رأى ماركس أن مفتاح تنفيذه مشروعة وتملكه المعلومات والمعارف بصدد المجتمع الرأسمالي هو نقده المادي الجدلي للاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ذلك العلم الذي بناه بصورة خاصة مفكرو البرجوازية الإنجليزية الصناعية المتقدمة في مرحلة صعودها، وعلى رأسهم أدام سميث وديفد ريكاردو. ومع أن سميث وريكاردو أدركا محورية العمل الاجتماعي في البناء الاقتصادي، إلا أنهما أخفقا في إدراك اغتراب العمل الاجتماعي في المجتمعات الطبقية وتجليات هذا الاغتراب، فاعتبرا بعض هذه التجليات مسلمات أولية لا تستلزم التفسير، مثل الملكية الخاصة. كما إنهما أخفقا في إدراك الطابع التاريخي التناقضي للمجتمع الرأسمالي، فافترضا أن نمط الإنتاج الرأسمالي هو نمط دائم ملازم لعملية الإنتاج تحت جميع الظروف التاريخية. لذلك، كان على ماركس نقدهما ونقد غيرهما من بناة الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وذلك مساهمة في تحطيم الآيديولوجيا البرجوازية، وبلورة للبديل (المادية التاريخية)، وتملكاً لفيض المعارف والمعلومات التي احتواها الاقتصاد السياسي الكلاسيكي. لذلك نرى أن مؤلفات ماركس الاقتصادية جميعاً جاءت تحمل عنوان: “نقد الاقتصاد السياسي”. إذ ينطبق ذلك على كتابه “إسهام لنقد الاقتصاد السياسي” (1859)، وما يسمى “الغروندريسه” (1857 – 1859)، وكتابه الرئيسي “الرأسمال” (1867) بمجلداته الأربعة. وبالطبع، فإن هذه المؤلفات العظيمة ليست مجرد مؤلفات أكاديمية اقتصادية، بالمعنى البرجوازي الشائع، وإنما هي تنفيذ للجانب المعرفي من المشروع الماركسي الآنف ذكره، هدفه فهم الإنسان الحديث بوصفه كائنا اجتماعيا وفهم تاريخ الحقبة الحديثة وصراعاتها وتناقضاتها الجوهرية ليكون هذا الفهم مرشداً للفعل الثوري، فعل تخطي الرأسمالية صوب الشيوعية.

ومن الأهداف الرئيسية لهذا النقد الكشف عن أوهام الفكر الاقتصادي البرجوازي والأرضية الرأسمالية لهذه الأوهام، واختراق السطح الزائف المغترب، الذي تظهره الرأسمالية للوعي، صوب الباطن الفعلي المستتر، أي كشف المجتمع الرأسمالي بوصفه نظاماً مغترباً متناقضاً من حيث علائقه الداخلية وعلاقته بالطبيعة. لذلك أعتقد أن مفهوم الاغتراب (آليات الاغتراب الاجتماعي) يدخل جوهريا في العلم الماركسي ويدخل في علاقة هذا العلم بالثورة الاجتماعية، وذلك بعكس ما اعتقدته المدرسة السوفييتية وما اعتقده الفيلسوف الفرنسي الراحل، لوي ألتوسير. ذلك أن مفهوم الاغتراب هو الذي يبرز لاطبيعية المجتمع الطبقي، وبخاصة الرأسمالي. فهذا النمط من المجتمعات غير طبيعي لأنه يناقض جوهر الإنسان وطبيعته. فالأصل والجوهر أن يخلق الفرد ذاته بالعمل، أي بتجسيدها واقعا طبيعيا، ويحقق أنسنة الطبيعة من أجل تملكها وجعلها جسده غير العضوي. وعليه، فالأصل أن يعبر عمل الفرد عن جوهره وأن يكون عالم الإنسان تحت تصرف الأفراد وامتداداً للإرادة البشرية العامة. لكن واقع المجتمعات الطبقية، وبخاصة الرأسمالية، هو عكس ذلك تماماً. فهو نظام معقد تحركه قوانين شبه طبيعية لا تأبه للإنسان ولا تخضع إليه، بل تجابهه وتسلبه جوهره وتجلياته ومنتوجاته. وبهذا المعنى، فإن المجتمعات الطبقية، وبخاصة الرأسمالية منها، لاطبيعية. والمفهوم الذي يبرز هذه السمة الموضوعية للمجتمعات الطبقية هو مفهوم الاغتراب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن