كصبي ممتلئ بحب الحياة وحب السرد

هشام بن الشاوي

2011 / 2 / 15

قبل أربع سنوات، التقيت القاص والروائي مصطفى لغتيري بمدينة أزمور، وحدثني عن مشروع رواية جديدة، ولأنني كنت قادمًا من مدينة الجديدة، وهو من البيضاء، وجدتني متشوقا لقراءة تلك الرواية/ الرحلة، القادم بطلها من مدينة الدار البيضاء في اتجاه أزمور، الجديدة، ثم سيدي بوزيد، وهذه الأمكنة الدكالية ستحضر - في ما بعد- في روايتي البكر "كائنات من غبار"، والتي أدين بالفضل في كتابتها للصديق مصطفى، فهو من حرضني على اقتراف خطيئة هذا السرد الفتان اللايقاوم.
لم يتحدث مصطفى في ذلك اللقاء البعيد عن أية تفاصيل. تساءلت بيني وبين نفسي : "ترى هل سيأتي بطل الرواية إلى دكالة هربًا من قيظ غابة الإسمنت والحديد، كما يفعل أغلب البيضاويين؟". اكتفى بالحديث، وبنبرة متهكمة عن كسوته لبطله قبل مجيئه، وغرق في ضحك طفولي، كصبي ممتلئ بحب الحياة وحب السرد. وللأسف، هذا الطفل لا أفلح في سرقة ضحكاته في مراسلاتنا، فهو مقل في ردوده.. متحفظ إلى أبعد الحدود، ويخيل إلي، أحيانا، أنه شخص آخر، غير الذي أقابله هنا أو هناك؛ حتى في مكالماتنا الهاتفية المتباعدة زمنيًّا، أفشل في إخراج ذلك الصبي القابع في داخلنا من شرنقته.
ثمة صداقة غريبة تجمعني بهذا الرجل النبيل في زمن الأعدقاء الأنذال والمنافقين، ولا دخل لصداقتنا التي بدأت افتراضيًّا، كأغلب الصداقات التي تنشأ بين الكتّاب.. بهذا الحرص الرائع على الكتابة المتبادلة عن إصداراتنا، فهناك خيط رفيع بين الحب الشخصي والإعجاب الأدبي لا يمكننا إغفاله، والدليل أنني لم أكتب عن بعض مجاميعه القصصية، بسبب الانشغالات وقتها، وهو لم يكتب عن مجموعتي القصصية "روتانا سينما... وهلوسات أخرى"، والتي اكتشفت متأخرًا أنني تسرعت في نشرها.. لذا لم يكتب عنها سوى الصديق محمد فاهي، وقد غاليت في الانتقام منها ومن نفسي بعدم توزيعها، وكأنها لم تصدر. إذاً، لا مجال للمجاملة بيننا، كما يفعل كتّاب، لا يفترقون سوى ليلا.. في حين لا ألتقي لغتيري سوى مرة واحدة في السنة. لهذا أطلق العنان لذلك الصبي المشاكس، الذي يستوطنني، فيمعن في شغبه وجنونه.
هكذا حرص ذلك الصبي المتشيطن على أن يفسد حفل توقيع روايته الجديدة "رقصة العنكبوت"، بتفجير ديناميت الضحك، الذي يختزنه في غياباتنا.
فور عودتي، زرت مدونة صديقي مصطفى لغتيري، وهنأته على نجاح احتفالنا بتوقيع هذه الرقصة العنكبوتية، والتي حرصت على أخذ نسخة منها أمس، وأنهيت قراءتها قبل أن أقابله في جناح دار النايا، ناشرة الرواية. كتبت له في رسالة إلكترونية أنني حزين، لأنني عدت إلى صمتي وعزلتي. لأول مرة، ينتابني هذا الحزن، لأنني سأفتقد محبة كل هؤلاء الأصدقاء والصديقات... الذين طوقوني بمحبتهم، سأفتقد البتول المحجوب، التي ما تزال تراني الأخ الأصغر المدلل والمشاغب... سأفتقد محمد بلمو، المصطفى كيليتي، حميد ركاطة، محمد تنفو، سعيد بوعيطة، محمد يوب، نور الدين محقق، محمد اشويكة الذي لم ألتقه هذه السنة، وأفتقد حسن برطال، الذي ذكرني - اليوم- بتلك المرأة، التي أحرجتني بالتصاقها بي في سيارة الأجرة، ويمازحني بأنني من تحرش بها، بينما هي من كان يفترض عند نزول الركاب المجاورين لها أن تبتعد عني، أنا الملاصق للباب.. أفتقد إبراهيم الحجري، والإعلامية المتألقة أسمهان عمّور، وحتمًا، سأفتقد سامي أحمد بلهجته السورية المحببة، والأردني جهاد أبو حشيش، وتلك التي بهرتني بجمالها، وتركتني "ملتاعًا مثل خسارة نهائية" بتعبير حسن مطلك، وحتى الأشخاص، الذين تنتابك مشاعر كراهية عارمة عند رؤيتهم، كذلك الناشر الذي تشعر بالتقزز عند المرور من أمام جناحه... ستفتقدهم !
الأصدقاء يمكن أن تتواصل معهم إلكترونيًّا، لكن الإميلات اللعينة ستتخندق مرة أخرى في برودها المقيت، الخالي من كوليسترول المشاعر الحميمية. كل هؤلاء يمكن أن يحتمل غيابهم، بيد أن خسارتي الفادحة هي "باصطوف". في كل مرة أخترع "مقلبا".. ذات زيارة، وهو في المنصة، كنت أفاجئه، بأن أركب رقم هاتفه، وحين فطن للعبة، صرت أخفي رقمي وأتصل به.. ولأن المناسبة - اليوم- كانت حفل توقيع، لجأت إلى علبة المناديل الورقية، وفي كل مرة أغافله، وأمد يدي بالورقة المدعوكة جيدًا طالبًا منه... التوقيع؟ لا، كنت أطلب منه أن يفعل مثل الدجالين، و"يكتب لي حجاب القبول". وكنت أنتبه إلى أن البائعة كانت ترمقني بنظرات عدائية، بينما يداري ناشر الرواية ابتساماته، وكم كان حجاب لغتيري فعالا !. ففي كل مرة، كنت أجدني مطوقًا بمحبة أصدقاء وصديقات، وفجأة، وجدتني أركب رقم إبراهيم الحجري، لكي أخبره ضاحكًا بأن فقيهًا مر من أمامي، ويحمل عمامة في كيسه البلاستيكي.. بعدما فوجئت - اليوم - بحسه النقدي الساخر عندما لمحنا بدوًا، مبهورين.. تدل ملامحهم على أنهم فقهاء كتاتيب قرآنية بالبوادي، يبحثون عن تلك الأجنحة، التي يرتادها رجال ملتحون رفقة زوجاتهم المنقبات. سرقت ابتساماتي دهشة البدوي، الذي تخلف عن صديقيه، وهو مبهور بما يرى.. غارق في تلك الدهشة الطازجة... والمفقتدة، وحتى لا يساء فهمنا، فإن الصديق إبراهيم - وكذلك كاتب هذه السطور - بدوي المولد والنشأة، وهو الأقرب إلى قلبي من بين كل كتّاب الجديدة، ورغم انتمائنا إلى مدينة واحدة، لا نلتقي تقريبا سوى افتراضيًّا أو هاتفيًّا. لهذا اطلع على كل فصول مسودة روايتي الثانية "قيلولة أحد خريفي" تباعا، وهي رواية متجهمة، عبوسة.. لا يوجد بها سوى مشهد كوميدي واحد، حين يتأخر " التيباري" في وصوله إلى الورش، وعند الضحى، ومن فوق السقالات.. يلوح لهم قادمًا ممتطيًّا صهوة "أشهبه"؛ بناء يأتي بحماره في منتجع سيدي بوزيد، حيث الفيللات الفخمة، السيارات الفارهة والنساء الفاتنات... هذا الولع بالسخرية أعتبره الوقود اليومي لي ولأناس مسحوقين لمقاومة إكراهات الحياة.
هكذا، صار مصطفى يمازحني كل مرة، عند قدوم أي صديق أو صديقة بأنني جئت بحماري إلى المعرض، وحتى لا يبدو وجود حمار في رواية معاصرة سببا للسخرية، أكدت لأسمهان عمّور أن الرواية بأكملها أوحت لي بكتابتها قطة الجيران، ولم أخبر مصطفى أن بالرواية شخصية حيوانية أخرى وهي الكلبة، حتى لا يسألني ضاحكًا : "أهذه رواية أم حديقة حيوان؟".
بسبب صاحب "رجال وكلاب" فاتني القطار، فعند التقائي بأسمهان عمّور عند البوابة الرئيسة للمعرض، لم أشأ أن أغادر المكان حزينًا دون آخر بهجة، لاسيما وأن الصديقة أسمهان عمور وزميلها التقني أخبراني أنني صرت واحدًا منهم، بعد أن هددتهما - على سبيل المزاح - بأنني سأعتصم في خيمة أمام مبنى الإذاعة. وعند وصولنا، طلبت من التقني الميكرفون، وقفت أمام مصطفى، وسألته عن حمار التيباري.
للإشارة، فقد عاتبت لغتيري على ما فعله ببطلتي روايتيه الأخيرتين؛ أمل (ليلة إفريقية) ومنى (رقصة العنكبوت). هذا الوغد الجميل يجيد حتى اختيار الأسماء، مثلما يبرع في تعذيبهن، حتى يضفي لمسة من الرومانسية على سرده، بخلاف كتاب كثيرين يلجأون إلى تسويد صفحاتهم بتأوهات بطلات رواياتهم على الأسرّة. ولا أنكر أن الصديق محمد الصالحي - والد الشاعر عبد الإله الصالحي- عاتبني على كون أغلب الشخصيات النسائية برواية "قيلولة..." ساقطات، مشيرًا إلى وجود نماذج نسائية مشرفة بالمجتمع.. لكن هذا لم يكن موقفًا أخلاقيًّا، لأن الرواية تصب في منحى معين، بيد أن الشخصية النسائية التي تأسرني، التي تقاسمني بعض جنوني، لم أكتب عنها بعد.
مؤخرًا، التقيت فتاة عانسًا، ذكرتني بصديق نجار فضل العيش في ليبيا، لأنه يؤمن بالشعوذة مثلها، ويمقت الآخرين، معتقدًا أنهم سيؤذونه... ربما لأنهما فقدا الأم، فاعتقدا أن السبب سحر الأهل. هذا الصديق من الصعب إقناعه، فعند الاختلاف معه، حتى لو كانت فكرتك صائبة، يتهمك بالخبل.. وهذه الفتاة، وجدتني محرجًا من الحديث معها في الشارع، وهي تتكلم بطريقة انفعالية، وكان بقربنا رجلي أمن، وأي عابر سبيل سيعتقد بأنني أحاول إكراهها على "المجيء معي"...
تنفست الصعداء حين غادرت، وتحسرت على الفتاة الجميلة التي كانت، عند رؤية صورة البطاقة، التي رفضت إعطاءها لمراقب التذاكر بالحافلة، وهي تتحدث بصوت عال : "لا. لا يمكن، ستأخدونها.. مثل كل مرة، وعندما أريد مقابلة الملك..."، وتندلع عاصفة من الضحك في الحافلة، بعد أن أيقنوا أنها تفكر وتتكلم، كما طفلة لم تتجاوز ربيعها العاشر، حتى لو كانت البطاقة البيضاء تشي أنها سليلة شرفاء.. بيد أن جنونها ليس مثل جنون تلك العانس الأربعينية، التي سأعرف في ما بعد أنها صارت هكذا بعد ليلة زفافها.. وبسحر، ففقدت عقلها والعريس معًا.
كنت أتطلع إليها، وهي تبتسم تلك الابتسامات الطفولية، ثم فاجأتني بأن طلبت مني درهمًا، وانصعت لرغبتها، غير مقاوم تلك النظرات الطفولية الملتاعة، ثم إن استجداءها بصوت مرتفع - وبلهجة آمرة- جعل طفلي المجنون يخرج من كهفه، وأمازحها، وصمتت، أخذت أنظر إليها، كمن يمثل دور العاشق المتيم... وانفجرت كل الفتيات بالحافلة ضحكًا، والعانس الأربعينية المخبولة، تتخلى عن كبرياء حواء، وتسألني بصوت مرتفع إن كنت متزوجا : "انت مامجوجش؟".
لست كاتبًا ماجنًا، يرى في النساء بغايا.. فمازلت أسير ذلك الشجن الإنساني، المخضب بخبل لم تختره المرأتان. فهل سيسنح لي القدر فرصة للكتابة عنهما، وعن الطفل الذي يستوطنني، والذي لا يكبر أبدًا؟ هل سأكتب عن قسوة السنوات على وجه، كان فاتنًا من قبل، ففقد بهاءه ونضارته، واغتصبت شعيرات بيضاء الليل الدامس؟ فتاة تأتي من أزمور كل أصيل، للبحث عن عمل بالجديدة، والجميع يعتذرون لها بأنه لا يوجد عمل مسائي، لأنها لا تنام إلا فجرًا.. وتستيقظ متأخرة، وتسألني : ما الحل في هذا الأرق؟

***
قبل ثلاث سنوات، وصلتني رسالة مطولة من أحد الكتّاب، ولولا أننا في زمن العولمة لظننت نفسي سيف الدولة وفي حضرته يلقي المتنبي قصيدة مدح. كتب رسالة مطولة عن ابتهاجه بالقراءة، التي فاجأته بها، مع أنني لم أكن أعرفه من قبل وكتبت عن روايته، وتطوع بالبحث عن مجموعتي القصصية البكر، ووعد بالكتابة عنها، وانقطعت بيننا سبل التواصل..
حين رأيته، وعرّفته بنفسي، بدا لي غارقًا في جموده العاطفي، ربما غرورًا. هذا الكاتب كان منهمكًا في توقيع كتاب لأحد النقاد، حتى أنه لم يتقبل إشارتي إلى أن ذلك الناقد ليس واعدًا، عندما صححت له معلومته، فاتهمني بأنني أسعى إلى الإيقاع بينهما. ربما يكون هذا مزاحه، فملامحه بدت موغلة في حيادها العاطفي الثلجي.. وعلى سبيل المزاح، ذكرته بوعده القديم، ولم أكن أنتظر كتابته، لأنني نسيت المجموعة القصصية، ولم أعد أهتم بما قد يكتب وما قد لا يكتب عنها. فالمبدع قاسٍ في أبوته، ودائمًا يمنح كل حبه لوليده الجديد، يطرد الآخرين خارج حديقة القلب، ويعاملهم كلقطاء..
الزميل كان يتحدث بعجرفة، فتتخيل أنك تخاطب ميشيل فوكو، أخبرني أنه لم يجد أي مدخل للكتابة عن المجموعة، (وهي المجموعة التي أشاد بها الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، ونوه بأنها تنفع كسيناريو)، ووجدتني أوافقه على أن الكتابة تحتاج إلى التفاعل مع النص، فلا يمكنك أن تكتب عن شيء لا تحس به، واندهشت حين تفوه هذا الزميل بكلمة افتعال. تظاهرت بالغباء، حتى يشرح لي معنى الافتعال، فوضح بأن الكتابة مفتعلة.
لأول مرة، أسمع مصطلح "كتابة مفتعلة". ولم أرد بأية كلمة، بل وجدتني أشمئز من غروره، ولم أعقب بأية كلمة.. بل صمتت زاهدًا في محادثته، بعد أن اتضحت لي الصورة، فهذا الزميل الحائر من أي مدخل سيلج، يعرف مدخلا واحدًا فقط.. يمطر المجلات بترجماته، وقد أصدر كتابين مترجمين هذه السنة، ودور النشر تعوض المؤلف عن حقوق الترجمة، بخلاف الرواية التي يقبل عليها الناشرون، ويعفون الروائي عاثر الحظ من مصاريف الطباعة..
لا لوم على هذا الزميل على اختراع هذا المصطلح النقدي، فهناك فرق بين النقد والنقد، على الرغم من اشتراكهما في الحروف الثلاثة. هناك نقد مجاني نكافأ عليه بمحبة الأصدقاء فقط، والحب لا يباع ولا يشترى، كما علمتنا الأفلام الكلاسيكية الرديئة. وهناك نقد، يرتبط بالحسابات البنكية، ومن يحترف هذا المدخل النقدي.. لن يجود عليك حتى بابتسامة، كهذا الزميل، وإن شئت أن يبتسم لك، اطلب منه مراجعة حسابه المصرفي، بعد يومين، ليتأكد أنك دفعت حقوق الابتسامة.
الصورة ليست رائعة دائمًا، أيها الأصدقاء، حتمًا هناك من يعكر صفو قلوبنا، كأحدهم... يظن نفسه خليفة ماركيز، على الرغم من سطحية ما يكتب، وذلك النقيق المفتعل حول شخصيته، يصب في ناحية واحدة فقط، وهو ما يمكن تسميته بــ"النقد السريري".
ليت هذين الزميلين يدركان أن هناك قامات شامخة في العالم العربي.. كتّاب كبار بنصوصهم وبتواضعهم أيضًا، وبترفعهم عن السفاسف.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن