تركيا : من التحديث إلى الحداثة

حازم صاغيّة

2002 / 8 / 6

 

تركيا خطت خطوة كبرى. ربما كانت تحاول التاريخي للمرة الثانية بعد كمال أتاتورك.

إلغاء عقوبة الإعدام (الا في حالة الحرب). إتاحة حق التعلّم بالكردية للأكراد. إزالة الكوابح من طريق حرية التعبير, ومن طريق عمل المنظمات الحكوميةô هذه ليست بسيطة ولا عادية.

طبعاً سيظهر من يربط التشريعات البرلمانية الأخيرة بأوضاع الإئتلاف الحكومي لبولند أجاويد. ربما. إلا أن الموضوع أخطر وأهم.

لماذا? لأنه نقلة في الإقلاع نحو أوروبا, وفي الآن نفسه تمتينٌ للنسيج التركي على قاعدة ديموقراطية. فمن بين البلدان الـ13 المرشحة للانضمام الى الاتحاد الأوروبي, ظلت تركيا طويلاً البلد الوحيد الذي لم يستجب شروط الانتساب. انها الآن تستجيب. وهي أيضاً, وبحسب ما يقول مسؤولوها, تحاول جذب الاستثمارات والتوظيفات. لكنها, كذلك, تسهّـل على الـ4 ملايين تركي المهاجرين الى أوروبا شروط إقامتهم وشروط عمالتهم. الى ذلك: هناك تحسّن العلاقات مع الجارة اللدود: اليونان. هناك قبرص التي يُستحسن أوروبياً أن تنضم كلها الى الاتحاد, لا بعضها ولو كان الأكبر.

يكمن وراء هذا أن المصالح والحسابات الفعلية للبشر بدأت تتغلب على الأوهام القومية. على (الهويّة) و(الكرامة) وغير ذلك. هذه الأخيرة لم يعد يدافع عنها الا (حزب العمل القومي) شبه الفاشي لدولت بهشلي: معظم أكلاف الأورَبة ستُـحسم من رصيد هذا الحزب الذي رسمل على التكريه بـ(الآخر). هذا أساساً ما صيّـره, في خضم أزمة اقتصادية وسياسية, الحزب الأول عدداً في البرلمان.

الاسلاميون? لا. أغلب الظن أن أكثريتهم ستجد في الوجهة الجديدة ما يطمئنها. ستعضّ على جرح الهوية من أجل الحياة والحرية لناشطيها الذين عانوا الأمرّين من (الاستبداد الشرقي) يمارسه عليها العسكر (الغربي). أجواء ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) ضيّـقت على الأصوليين فرص الرفض والقبول. رب ضارّة نافعة.

الأكراد? لا. 12 مليوناً منهم غنموا التعليم بلغتهم. صار لهم إسم بعدما كانوا (سكان الجبال). أُنقذت, كذلك, حياة عبد الله أوجلان: أبرز المرشحين للمقصلة. في الأفق اليوم: احتمالات توقف حرب دامت 15 عاماً وكلّفت 35 ألف قتيل وتهجير مليون كردي وتخريب منطقة بأسرها.

العسكر? مجرد تمرير ما تم تمريره هزيمة له. فرص تعزيز الحكم المدني زادت. حق نقد الجيش وحق نقد السلطة صارا مضمونين.

الخلاصة: بداية انتقال من التحديث الأتاتوركي الى الحداثة. الأول عسكري فوقي إجرائي. الثانية ديموقراطية تعددية تحتية. الذين أرادوا التوقف عند التحديث هم دعاة تعفين المجتمع بالقمع: انهم بعض العسكر وحزب بهشلي. لكن المجتمع مُطالَب اليوم بإعلان استعداده الصعودَ من التحديث الى الحداثة المفتوحة, لا الهبوط عن التحديث الأتاتوركي. والحداثة المطروحة أوروبية: أي غير أميركية. من مداخلها موضوع حكم الإعدام, أحد الفوارق بين التجربتين الأوروبية والأميركية.

ومؤتمر كوبنهاغن الذي سيُعقد أواخر العام للنظر في الترشيحات الى الاتحاد قد يحوّل هذا المستجد الى مكسب كبير للقيم الأوروبية. صحيح أن تحفظات ستبقى, وسيبقى من يقول: (تركيا كبيرة جداً. مسلمة جداً. فقيرة جداً). مع هذا: فالأوروبيون الأبعد نظراً والأشد تسامحاً يمكنهم اغتنام الفرصة للردّ على (صراع الحضارات) وتقديم استجابة عاقلة ومتوازنة لـ11 أيلول: استجابة تتميز عن الغضب الأميركي المجنون, فيما توفّر للعالم مخرجاً ونموذجاً.

 (5/8/2002  الحياة)


https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن