مماحكة ممكنات انبثاق حركة اجتماعية فلسطينية بعد قرن من النضال

نضال حسن
nidal.hatim@gmail.com

2010 / 12 / 15

إن تناول الظواهر الإنسانية –ظواهر المجتمع البشري وما يتعلق وينبثق عنه - وما يفرض على الإنسان ويقوم به بكامل إرادته- مع الاختلاف الشاسع على قضية كامل الإرادة – لا يمكن بل من المستحيل بأي شكل كان أن تتم ضمن معطيات التنبؤ الساذج أو خطها في مصفوفة حسابية أو هندسية , لتخرج في نهاية اليوم بمعادلة ذات مكونات حتمية ونتائج مفروغ منها . إذ أن ما يظهر ويتفاعل في حياة الإنسان ما هو إلا نتاج لكل ما يتعلق بهذا الإنسان من أبعاد – أي بعبارة الديالكتيك : الظرف الموضوعي والشرط التاريخي- حيث أن أعتى المشاريع والمبادرات السياسية والثورات تنطلق من فكرة ومجموعة مبادئ أو توجهات وحاجات حيوية أساسية , لكن إلي أين يمكن أن تصل ويصل ميكانزمها فانه يسهل النظر إلى المستقبل وتوقع الإمكانيات تبعا للمعطيات التاريخية الموضوعية المتوافرة والتي يتمكن الوعي من انجاز بناء الصلة معها , لكن هل فعلا يعرف الإنسان مهما بلغت قدراته الفكرية والتحليلية ما مدى تحقق هذه الإمكانيات !!! , أو كيفية تبلورها في الشكل التحصيلي النهائي بدون معاصرة عملية هذا التشكل –أي دخول سباق الزمن في عميلة تنبؤ – !!! إن الجواب لا يكون بشكل ميكانيكي بنعم أو لا , أو هكذا على الأقل ربتنا السوسيولوجيا , فأين كان كارل ماركس عن توسع وامتداد الطبقة الوسطى والياقات البيضاء وبشكل خاص بعد حقبة الحربين العالميتين بعد أن كان مستبشرا بان التناقض وفن إدارة التناقض وتكثيفه الثوري سوف لا يبقيان معسكرا محايدا أو وسطيا , فإما مالكين أو منتجين بروليتاريين , وما بينهما سوف يدهك بمسننات العجل التاريخي والفعل الصناعي , ورد الفعل الثوري , هكذا كان طبع الصراع في شكل فهمه الفج الكلاسيكي . وخير تدليل على عبثية التنبؤ ومحاولة ضبط المستقبل للظواهر والأفعال البشرية هو " دع ألف وردة تتفتح , ومائة مدرسة فكرية تنشأ " ( ماو ), إذ انه بالفعل القائم يمكن تحليله وفهم غرضه ولكن الفعل الذي من المحتمل أن يقوم كيف يمكن ضبط فهمه بمهماز أو قارورة اختبار , حتى إذا كان من المحتمل اقتحام باب الغرض وفهم المحفزات والدوافع والممكنات , إلا أن العودة إلى سؤال الإمكانية وتحققها تقول مجددا أن لا ضابط أو مسار حتمي للفعل الإنساني وظواهر المجتمع ولكن هناك ممكنات للاستشراف المبرر بما هو قائم فعلا , وهذه الاستشرافات تبقى محط جدل وتوقع حتى يثبت ما يثبته درس التاريخ ووقائع الأحداث, والتي يتمركز ويتكثف الجهد المعرفي للوعي الإنساني في التعاطي مع تاريخية الواقع لا مستقبليته .

لذلك في هذه الورقة فإننا سنحاول قدر المستطاع أن نتناول الظرف التاريخي والشروط الموضوعية القائمة فعلا , وعاملة تأثرا وتأثيرا في ذاتها وفيما حولها , باتجاه شمعة إمكانية تشكل حركة اجتماعية فلسطينية بالعودة للمعطيات الأبرز التي تتزاحم في قارورة انبثاق هذه الحركة - أي الشرط الفلسطيني تاريخيا وموضوعيا - فنتناول أبعاد عدة والتي ساهمت في صنع هذا الشرط من نوع طبيعة الكيان الكولينيالي الاحلالي الصهيوني وما جر من فعل على المجتمع الفلسطيني منذ بداية القرن العشرين مرورا بالعقدة الأكبر –القطع التاريخي- النكبة الفلسطينية 1948 وما تلاها من العيش ضمن السياق الكولينيالي الصرف والجلف , هذا إلى جانب تناول ما نشا نتيجة هذا الظرف الكولينيالي العنصري كردة فعل وقوة رفض لشكله ولوجوده ,والمعني هنا النضال القومي الفلسطيني والكلاشيه الأبرز فيه متمثلاً بغاية التحرير والعودة .

لكن طبيعة الشرط الفلسطيني التي لا نخرج منها إذا أردنا أن تتناول ما يتعلق بها إلا إلى دوائر ذات علائقية مباشرة أو غير مباشرة فقد طرأت عدة متغيرات حتمت بقوة وجودها وعسفها أن تكون من المحاور الأساسية لأي تحليل للسياق الفلسطيني وهنا نعني بهذه المتغيرات احد أبرزها وهو الدخول في دهليز إلقاء السلاح من قبل قيادة الثورة الفلسطينية اليمينية عبر سلسلة التفاوضات الغير منصفة للفلسطيني مع كيان الحركة الصهيونية, وقبل هذا فان عملية الخروج من بيروت وما تلاها من إعلان لنبذ الإرهاب في القاهرة عام 1985 من قبل رئيس منظمة التحرير آنذاك ياسر عرفات منتجتا جنين الأنابيب المتمثل بسلطة الحكم الذاتي – سلطة عرفات , رابين – وما جرته هذه البنية السياسية مجردة السيادة من انعطافات على المشروع التحرري الفلسطيني .

من المؤكد ليس من الممكن أو العملي والعلمي أن يتم القفز إلى تناول هذه البنية السياسية دون الفرش لفهم مسار الثورة والكيان السياسي الفلسطيني في العقود السابقة لنشوء هذه البنية لذلك قدمنا تناول النضال القومي والقوة السياسية الفلسطينية عليها , على أن تكون المحاور العلائقية التي برزت للعيان بشكل أكثر وضوحا وتطورا بعد قيام سلطة الحكم الذاتي في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة , هنا نعني دور منظمات المجتمع المدني – في حالة وجود مجتمع مدني فلسطيني " قدمنا لهذه المجادلة في مقال سابق بعنوان :المجتمع المدني في الاكاديميا الفلسطينية ما بعد أوسلو" – أي بالأحرى المنظمات الغير حكومية وما يرتبط بها وبعملها وبنشوء سلطة الحكم الذاتي بالترافق مع اتساع الفئات الوسطى في المجتمع الفلسطيني و غزو "الفيروس الليبرالي" وداء التمويل الخارجي لبنية المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة , بشكل خاص الضفة الغربية وقطاع غزة- المناطق المنكوبة بسلطة أوسلو- وما جره هذا التمويل من تحولات علي البناء السياسي الاقتصادي الاجتماعي والثقافي الفلسطيني وبالترافق مع انصهار هذه العوامل في دهليز الفعل فان امتدادات الإسلام السياسي والحاضنة الجماهيرية التي تمتع بها في أخر عقدين من الزمن تعد من العتبات الفارقة في بورتريه المشهد الفلسطيني .

نبدأ بتناول تفاعلات طبيعة الكيان الكولينيالي الاحلالي الصهيوني الذي يرافق وجوده الفعلي المادي في فلسطين ال63 عام ,هذا إذا لم نحتسب بداية المشروع الصهيوني والمبادرات منذ أكثر من قرن فيما يتعلق بفلسطين . أن طبيعة الاستعمار تتطلب بشكل لا جدال فيه أو تفرض أكثر مما تتطلب وجود طرفين مركزين للتفاعل ضمن هذا السياق , أي المستعمر والمستعمر , وما يقع على الأخير من ضيم واضطهاد من قبل الأول هي كامنة في طبيعة الصراع , حيث أن لا استعمار يقدم إلى ارض الاصلاني ويهيمن عليها في المادة والوعي عن طريق رش الورود , كما انه لا يتفكك مشروعه ويخرج برش الملح كذلك إلا إذا كان ملح البارود , إذ انه –أي الاستعمار- في طبيعته دموي , عنيف , غير رحيم , بالتالي تكون الميكانزمات الناجعة تماما كما وضعها المأثور العربي " خير الدواء الكي" أو في قول أخر "الدواء من الداء" لكي يعول عليه كما وضعها محي الدين بن عربي , وهذا ما تمحورت عليه مجادلة مدرسة كاملة بنت على مداخلة فرانتز فانون في "المعذبين في الأرض" المركزية في الفكر الإنساني وفي التنظير التاريخي والممارسة لحركات التحرر وتفكيك الاستعمار .

هناك اتفاق اقرب ما يكون ضمني ومعلن معا , على أن الاستعمار يبدأ في حالة السيطرة المادية على الحدود ,الموانئ,المطارات, الثروات ,و الفضائات العامة بمختلف تمظهراتها , وتمتد هذه السيطرة المادية لتخدم الحالة الأمثل للحلم الكبير لكل كتلة استعمارية والمتمثلة بتحقيق الهيمنة في الوعي والممارسة , بمعنى أن كل نتاج اجتماعي أو فكري يكون ضمن الحظيرة الشرعية في منظور البنية الاستعمارية أو يجب ويحبذ أن يكون كذلك , ومن يتحالف معها من كمبرادور محلي , الذي كثيرا ما يكون اخطر في ميكانزم تحقيق عملية الهيمنة هذه من قوة الاستعمار التي تلبس القبعات العسكرية وتحمل البنادق , مرفوداً هذا الكمبرادور بشكل أساسي بجيش من الممولين والوكالات للاحتكارات الإمبراطورية , والمثقفين الاستعماريين والصحف والإعلام , وهذه العوامل أو المسننات في العجلة الاستعمارية المكتملة والغير مغلقة – بمعنى انفتاحها على تلبية متطلبات كل حاجة جديدة تظهر في سبيل استمرارية هيمنتها - هي التي تشكل ما هو مسموح به وما هو محظور , وفي خضم الحالة الفلسطينية المبتورة داخليا فان ما يتبادر اليوم من مبادرات تسمي نفسها حركات اجتماعية تعمل من خلال النضال المؤسساتي السلمي ما هي وبكل فجاجة واضحة إلا فقاعة تضليل , ليظهر من خلالها الاستعمار أن هناك حيزا للتعبير "ديمقراطيا" جدا , ولكن الاستجابة لمتطلباته بطبيعة الأمور ليست إجبارية , باستثناء متطلب استمرار يته-أي العمل المؤسساتي السلمي- لأنه من ضرورات مقرطة وانسنة الصراع أو بالأجدر القول انسنة النقيض الاستعماري والنظر إلى عسفه بعين الرأفة , أي أن حنان الضحية على الجلاد مطلوب جدا من قبل الأطراف الامبريالية الأخرى التي تضخ بأموالها ومنظريها إلى داخل الحلبة الاستعمارية لكي لا تقع مأساة شوفينية في التاريخ كما يصرحون ويصرحن . إن سذاجة الاعتقاد بان الاستعمار والبرجوازية الكمبرادورية وأضف إليهما الامبريالية العالمية ستتنازل بسهولة عن جنتها في الأرض بمجرد أن يتم مخاطبتها بلسان الضحية السلمي ما هي سوى ضرب من تبديد الجهود والوقت , وخلق وعي كولينيالي جديد في مخيال الأصلانيين , فالتساؤل يكمن في انه مما لم يثبت تاريخيا أن القلم انتصر علي السيف يوما , بحيث أن هذا القلم لكي ينتصر فهو بحاجة لسيف باتر وصارم لكي يخط له السطور التي سوف يكتب عليها خطابه , تماما كما تملك فهم الصراع غسان كنفاني ,معرفاً أدوات دفاعه عن نفسه ب" قلمي ,ريشتي وبندقيتي" مع رسم ثلاثة خطوط لا يهم إن كانت متوازية تحت "بندقيتي" .

إذا إن علاقة وطبيعة الاستعمار وممارسته وخطابه الأكمل واضحة بمجرياتها نحو الهيمنة التامة في المادة والوعي وصولا إلى وحدة الوجود إن أمكنه هذا – مع الاعتذار عن استخدام وحدة الوجود للرفاق الصوفيين- , فلا ضير إن تمكنت القوى الاستعمارية والرجعية من التحكم بمسار الشمس , فقد تحتاج لحجبها عن الأصلانيين الذين تستعمرهم , بالتالي حركة مشرعنة من قبل سلطة خطاب الاستعمار لا تكون إلا أكثر من عبثية- اقل من عدمية , ف " فوق الدم وتحت النار" يعود التراب كما وضعها احمد فؤاد نجم مرمزاً هوشي منه والنضال الفيتنامي ,قد يبدو الاستنتاج بشكل الحركة الممكنة وشكل الحركة الاجتماعية الفلسطينية المطلوبة والفجوة بينهما مبكرا , لذلك سنتناول بعض ما يعبث بممكنات تشكلها ضمن الخصوصية الفلسطينية لكي نتمكن من حصر نتائج تحليلية تاريخية بشكل مادي أكثر .

عند تناول البنية السياسية الفلسطينية وفعلها وغرضها فان حالة من التشعب تعتلي الصفحات البيضاء , هذا منبعه أن الحصاد – إن جاز أن نسمي ما وصل إليه الفلسطينيين اليوم حصادا ,بالرغم من الإيمان على المستوى الشخصي بعدم بلوغ مرحلة الحصاد , لان الاستعمار الاحلالي العنصري الصهيوني قائما كما أنه لا زال يرمى بالحجارة والمولوتوف , وان نادراً - قد تشتت – الحصاد- وابتعد بما يجدر ملاحظته عن القصد والمنشأ لحركة التحرر الوطني فلسطينياً , إذ أن الاضطلاع على بداية النضال التحرري الحداثي في فلسطين , ثبت وجوده عبر القرن العشرين منذ مطلعه , بالرغم من الدعايات الاستشراقية الصهيونية العنصرية بأنها ارض بدائية عذراء وسكانها كذلك إلا أن وقع تاريخي بحجم ثورة ال36 بكل ما حملته من معاني ومضامين فإنها تؤشر على بنية حداثية سياسياً تحرك جماهير الشارع للنضال نحو حقوقهم , ولكن بشكل أكثر تكثيفا فان البنية السياسية الفلسطينية ارتبطت بشكل قهري كما العادة بما يعبر بيئتها من أحداث ووقائع , ضمن الحالة الفلسطينية كان الحدث الأبرز هو قيام دولة المشروع الصهيوني عام1948 وما تمثله من نكبة للشعب الفلسطيني بتبعاتها من تشتيت وتفتيت لبنية المجتمع الذي كان قائما في عموم فلسطين, وعبر ما مثل هذا القطع التاريخي مع جغرافيا المكان والوعي في آن فان المحاولات لتثو ير الواقع والجمهور عليه كانت مبكرة جدا ولاحقة له , وهذا يظهر بالنظر لبدايات خلايا الثار المسلح عبر بعض التنظيمات الشبابية الصغيرة , والذي لحقه بزوغ حركة القوميين العرب وقبل ذلك أثناء فترة النكبة كانت هناك مقاومة محلية وبعض من المقاومة العربية في القرى والمدن الفلسطينية , إلا أن الحدث الأبرز يبقى في انطلاقة الثورة الفلسطينية وعمل ما كان موجودا من الفصائل معا آنذاك , باتجاه تحرير الأرض كاملة والإنسان , وهذا التشكل أعطى للفلسطيني أبعادا جديدة وثورية في تشكل الهوية ووعي الذات والمواجهة في كل أوجهها ومراحلها , إلا أن العودة هنا لفكرة أن الحصاد لم يتم أو إن ما تم منه لم يكن بالشكل المرغوب والمنشود عند انطلاق الثورة , فقد ألقت قيادة منظمة التحرير المتمثلة "بفتح" السلاح لتتجه نحو مصفوفة متسلسلة لا نهائية من ما يشبه المفاوضات – إذ لا يزال وصف ما يجري إشكاليا مقارنتا بالمفاوضات التي عرفتها الثورات عبر التاريخ - , إلا أن هذه المصفوفة أفضت لوجود كيان مشوه ووليد حاضنة الاستعمار يعرف بالسلطة الفلسطينية ,كجهاز وظيفي يقترب من فرض مسألة الحكم الذاتي على جمهور ما برح يطالب بالانعتاق والعودة الكاملة الغير مجزوءة إلى أرضه الأم , ومن هنا يفتح بابا جديدا للتفاعل علي محورين , داخل الأرض المحتلة , بالأخص أماكن تواجد هذا الجهاز المحدودة , وثانيهما محور الشتات الفلسطيني مع ما أصبح يعانيه من ضبابية مغرقة في عدم الانتباه , كما أن ميكانزمات النضال قد ضربت في نخاعها داخل الأرض المحتلة ولا زالت تعاني أعراض الصدمة و ما بعدها وان اختلفت الأعراض ونسبها , كما أن لا يجب غض النظر على أن الساحة العربية وساحة الشتات بالأخص قد تم تحييدها عبر مخطط رابين باستقدام قيادة منظمة التحرير إلى أجزاء من الأرض المحتلة , وتحويل الاحتلال الي احتكار مجاني , لا يظهر إلا عند تقسيم الكعكة. هذا فيما يتعلق بالقصد والمنشأ وما وصلا إليه بالنسبة للنضال الفلسطيني , لكن قيام كل هذه العوامل على ارض الواقع لم يساهم فقط في إعادة رسم شكل علائقي جديد مع النقيض ,بل أصل لنشوء وتحفيز عدة متغيرات أخرى لم تكن بهذا الحضور الطاغي قبل حقبة أوسلو وساهمت هذه المتغيرات بدورها بإعادة الترسيم مراراً , فمن جهة أصبح هناك ما هو اقرب إلى الفورة في المؤسسات الغير حكومية – أو كما يصطلح عليها مؤسسات المجتمع المدني بالرغم من ضبابية التسمية , إذ لا زال الميدان الفلسطيني بحاجة لمجتمع مدني لكي يستطيع أن يقول بوجود مؤسسات مجتمع مدني , بل هو يفتقر إلى المدينة أساسا بمعناها الحداثي المكتمل وما يشتمل عليه من فضائات – إن هذه المؤسسات باختلاف التسميات , تفتح باب جدليا أخر حول طبيعة وجود وعمل هذه المؤسسات والتي انتعشت وازدهرت في حقبة ما بعد أوسلو بحيث ساهمت في إعادة ترسيم خارطة الفعل الفلسطيني كما الوعي بذات المستوى , فقد ساهمت في تعويم رؤية جديدة مستقدمة لم تكن يوما محلية باتجاه شكل النضال والعلاقة مع النقيض , ومختلف الأنماط الأخرى ذات العلائقية بالفعل الجمعي في المجتمع وهذا عبر تلقيها دفق من الدولارات واليورويات ومختلف العملات الامبريالية الأخرى لتمويل مشاريع ذات أجندة متمركزة حول الذات البيضاء ولا تلمس حاجة الخصوصية الفلسطينية , بل تعمل على إعادة إنتاج الوعي والممارسة دوما بشكل الأجندة التي توافق أرصدة البنوك التي تملئها دوما وكالات الاستعمار الأبيض الجديد والمتلفعة برداء الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان , وكأن العراق بعيدا عن فلسطين لكي يعتبر أصحاب هذه السوبر مؤسسات من ديمقراطية المركزية الامبريالية هناك , ولكن يبقى هناك عامل ساهمت فيه هذه النهضة المؤسساتية جنبا إلى جنب مع قيام سلطة الحكم الإداري , وهو ما لم يكن بحسبان الواقع الفلسطيني يوما حتى مطلع التسعينات, نقصد هنا التمدد المتجه في حجم وشكل الفئات الوسطى الفلسطينية , بل وخلق شكل جديد لها غير ما عرف كلاسيكيا في فلسطين , وهذه النشأة إلى جانب ارتباطها بواقع قيام السلطة وانتشار المؤسسات ساهمت في تأطير الفئات الجديدة تماما ضمن حلقة أجندتها التمويلية , ولا بد من الأخذ بعين المراقب أن جملة هذه الفئات هي من العائدين بعد حقبة أوسلو و/ أو أبناء الفصائل السابقين الذين انسلخوا من عباءة النضال متوجهين إلى عباءة أل NGO وبهذا نكون قد رسمنا ما يقترب إلى خارطة معرفية لمعطيات الفعل في الفعل الفلسطيني وفي شكل المقاومة ومآلها بشكل تمهيدي , ويبقى التنبه لمد الإسلام السياسي والذي بدا في مرحلة مبكرة من انتفاضة الحجارة , مستفيدا بعدها من تراجع الحركة الوطنية والفصائل اليسارية والعلمانية على اثر تفكك الاتحاد السوفيتي وقيام سلطة أوسلو , محققا اكتساح لفئات واسعة من الجماهير الشعبية ومن الفئات الوسطى على حد سواء , وهذا قد ألقى بظلاله على ما يمكن أن يتوافر من ممكنات لقيام حركة اجتماعية فلسطينية , بالتأكيد بأشكال أخرى عن ما تفعل المعطيات السابقة ولكنه يبقى من العوامل المركزية لأي تأصيل سوسيوسياسي للواقع الفلسطيني , إذ لا مجال لاستثنائه من أي تقييم فكما لبرلت المؤسسات ذات التمويل الامبريالي المزاج الفلسطيني فهذا المد الديني قد ساهم في اسلمة المزاج بالمقابل وكل منهما له جمهوره ومريديه , حتى أمست مسالة الحسم هي بين معسكرين بشكل حاد , إما ملبرل ومهمين عليه ومتمركز غربيا عبر السلطة وباقي ألNGO وإما مأسلم وتمركز حول دعوات نكوصية ذات ارتباطات مع محاور خارجية أخرى, أما ما بينهما من بقايا اليسار فهي تراوح في مأساة اقرب الي فعل الصليب الأحمر بين الأطراف , مع بعض الانحياز هنا أو هناك تبعا لمزاج الحالة المختلف بشأنها , وهذا ما اتضح بشكل أعمق واكبر في ممارسة اليسار الفلسطيني المبتورة عن خطابه الإعلامي على اثر الانقسام الحاصل بين الإسلاميين في غزة ستان والنيوليبراليين في رام الله لاند .

اذا وفي سبيل التكثيف , فقد حاولنا ضبط ابرز ما يفعل ويؤثر في الظرف الموضوعي والشرط التاريخي فلسطينيا , في سبيل بناء تصور حول ما هو ممكن بالارتباط مع حركة اجتماعية فلسطينية , وهذا يدفع بعد وضع اليد على واقع ما هو قائم من حراك اجتماعي بهذا الاتجاه , بين مؤسسة ليبرالية منخورة استشراقيا وامبرياليا , تضخ مفاهيمها باتجاه شعارات ما يصطلح عليه نضالا سلميا , وإذا تم ذكر نضال النار والدم الذي يشكل الفعل الأنجع في التناقض ألتناحري مع الاستعمار فإنها تدخل في غيبوبة لا ينشلها منها إلا موجة تمويل وورشات عمل تعيد ترسيم ما يمكن ترسيمه في سبيل أن لا تسمع بالدم والنار مجددا – أي باختصار أنها قائمة علي فكرة الكفاح المسلح "بأسلحتها الخاصة" لمقاومة الكفاح المسلح الفلسطيني من أجل الانعتاق وتفكيك الاستعمار – أما في الخندق المقابل , وبعيداً عن استخدام التلطيفات هنا إذ إن التناقض قائم وحاد بالفعل بين المدرستين فلسطينيا , فنجد بالشكل الأبرز المشروع الإسلامي بشكل أساسي حماس والجهاد الإسلامي - هذا لان الكثير من الإسلاميين الآخرين ينتظرون قدوم الخلافة من السماء على ظهر براق الي بيت المقدس -, والى جانب هذا المشروع- أي حماس والجهاد الإسلامي- وان كان بشكل موارب فعلى الأقل بقايا بذور أيدلوجيا لبعض من اليسار الفلسطيني والماركسيين والقوميين , الذين لم تغزوهم موجة الانجزة , أو الالتحاق بهرم سلطة أوسلو وبقي الرهان على العنف الثوري قائما في الذهنية التي تحركهم , ولكن من غير مشروع رافد لهذه الذهنية على ارض الواقع , كما أن هناك ثمة ما يستحق ملاحظته إلى جانب غياب مشروع العنف الثوري المادي للماركسيين والقوميين أن الفريق الأول من الإسلاميين أيضا يرتكز الي العنف كتكتيك لحظي يخدم توازنات مصالحية وليس كمحور تحرري استراتيجي , هذا بعد أن قدمت نبعا من الدم , إلا أن استثماره في توازنات الهيمنة في قطاع غزة والتناحر مع سلطة رام الله قد دفعا باتجاه تكتيكية العنف بل وعدم الارتباط الجذري به .

إذا نحو ما هو مراد وناجع من اجل صد الصهيونية يحتاج الفلسطيني اليوم – وهذا مجرد افتراض مبني علي المعطيات المتوافرة وليس وصفة يسارية – إلى مجمل حركة اجتماعية وحدوية تضع الأصبع على الجرح بغض الطرف عن مدى الإيلام . لتكون رافدا لفكرة وممارسة الإرهاب الثوري المسلح بكل ما يحمل من قيم تقدمية وإنسانية , وهذا لا يكون عبر التشرذم والتشظي القائم وإنما بتوحيد كافة المسارات بما ان النقيض واحد-أو هكذا يفترض- مع ترك الجانب الأيدلوجي والعقائدي جانبا لبعض الوقت بما أن المهمة الأساسية لحركات التحرر الوطني هي تفكيك الاستعمار واستعادة السيادة الوطنية من ثم تأتي اولولية المقرطة والنضال الاجتماعي" مع عدم إهمالها أثناء المعركة التحررية مع التناقض الأساسي " وهذا يمسي دور كل من يرى أن منظومته الأخلاقية والفكرية هي الأسلم, وهذا في الوضع الصحي يترك للتاريخ قراره وللجماهير أن تختار , فليس على الثوريون إلا أن يقوموا بمهامهم الملحة بدايتاً . فلم يحصل في الجزائر ما قبل التحرير مثلا أن اختلف في من سيترأس الجمهورية بين بن جديد أو بوضياف أو بن بله , " فلكل حادث حديث " وهذا الحديث يفضل أن يكون بعد إنزال علم الاستعمار عن موانئ الوطن , فصياغة شكل الحركة الجديدة والمطلوبة ممكنة في حالة أن هناك إرادة باتجاه ذلك , هذا لان الإرادة الي جانب فهم التناقض وطبع الصراع هي أول ما يخلق ممكنات مثل هذا الفعل وهذا الحراك المطلوب فلسطينيا – أي بعبارة سيمون بوليفار : إذا عاندت نضالنا الطبيعة , فيجب هزمها أولا – أو كما وضعها" لينين : غذي الاضطهاد بالوعي يزداد بشاعتاً " , ولكن إذا بقيت حالة الانخراط والتماشي مع ما هو موجود من شكل لحراك اجتماعي يصوغ ويعرف ذاته بحركة النضال المؤسساتي السلمي ف صباح الخير على شمس قصور الأندلس , إذ إن ما هو موجود من حراك تحت عنوان الحركة الاجتماعية وحركة النضال السلمي , لا يرتقي بمهامه التاريخية أعلى من مرحلة العبث وغربلة أشعة الشمس .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن