من علوم القرآن :القرآن والواقع الاجتماعى ) 9 )( سيجعل الله بعد عسر يسرا )

أحمد صبحى منصور

2010 / 10 / 27

القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "
( سيجعل الله بعد عسر يسرا )

عمرو بن مسعدة ،هو أشهر كاتب للخليفة المأمون ، وقد توفى فى يوم الأضحى عام ‏217 . وأحد الرواة فى عهد المأمون . وقد روى هذه الحكاية من تعاملاته فى عصر المأمون . وننقلها عن تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) لما فيها من واقعية تجعلها قابلة للتصديق وتكرار الحدوث فى اى عصر ، ولأنها تحقق وعد الله جل وعلا بأنه سيجعل بعد عسر يسرا ، أى يعطى رب العزة أملا لكل مأزوم ومقهور و يائس وعابس ولكل فقير وحسير .
قال عمرو بن مسعدة ‏:‏ ( كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم حتى إذا نزل الرقة قال‏:‏ يا عمرو أو ما ترى الرخجي قد احتوى على الأهوار وجمع الأموال وطمع فيها ، وكتبي تصل إليه في حملها وهو يتعلل ويتربص بي الدوائر‏!‏ فقلت‏:‏ أنا أكفي أمير المؤمنين هذا وأنقذ من يضطره إلى حمل ما عليه ‏،فقال‏:‏ ما يقنعني هذا ‏.‏قلت‏:‏ فيأمر أمير المؤمنين بأمره ‏.‏ قال‏:‏ تخرج إليه بنفسك حتى تصفده بالحديد وتحمله إلى بغداد وتقبض على جميع ما في يديه من أموالنا وتنظر في العمل وترتب فيه عمالًا ‏.‏ فقلت‏:‏ السمع والطاعة ‏.‏ )
أى إن المأمون أمر كاتبه عمرو بن مسعده أن يسافر بنفسه ليحاسب الوالى الرخجى ، وهو حاكم الأهوار باسم المأمون ، وقد جمع ذلك الوالى الأموال وطمع فيها ، ورفض ارسالها ، والمأمون يخشى من تمرده فأرسل ابن مسعدة ليعتقله ويحاسبه على ما جمع من أموال ، ويولى مكانه واليا آخر .
ونتابع عمرو بن مسعدة وهو يحكى كيف أنه فى طريقه راكبا سفينته استغاث به شيخ عجوز قطع اللصوص عليه الطريق وجردوه من كل شىء ، ثم جاءه الفرج واليسر بعد العسر حين صادف سفينة عمرو بن مسعدة . استضافه عمرو فى السفينة ، وفى النقاش بينهما اكتشف عمرو بن مسعدة أن هذا الرجل الرث الهيئة خبير فى الكتابة والسياسة والتعامل مع اجهزة الدواوين ، وأنه هو الذى يريده عمرو بن مسعدة فى مهمته فى التحقيق مع ذلك الوالى الرخجى ، وانتهت القصة بأن إستأجره عمرو بن مسعدة ليقوم بمساعدته فى محاسبة الرخجى ، وأعطاه مكافأة وملابس و ووظيفة ، وحلّ اليسر بهذا الشيخ البائس بعد العسر .
يقول ابن مسعدة :
( فلما كان من الغد دخلت إليه (أى الى المأمون ) فاستعجلني (فى القيام بالمهمة ) فانحدرت (أى أبحرت جنوبا ) في زلال ( أى مركب ) أريد البصرة، واستكثرت من الثلج لشدة الحر ، فلما صرت بين جرايا وجيل ، سمعت صائحًا من الشاطئ يصيح‏:‏ يا ملاح ، فرفعت سجف الزلال فإذا شيخ كبير السن حاسر حافي القدمين خلق القميص ‏.‏ فقلت للغلام‏:‏ أجبه . فأجابه فقال‏:‏ يا غلام أنا شيخ كبير السن على هذه الصورة التي ترى وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني وأريد جيل (أى أريد الذهاب الى بلدة جيل ) فاحملوني معكم فإن الله يأجركم ‏.‏ فشتمه الملاح وانتهره فأدركتني عليه رقة ، فقلت للغلام‏:‏ خذوه معنا. فحملناه . فتقدمت بدفع قميص ومنديل إليه (أى أمر باعطائه قميصا ومنديلا ) فغسل وجهه واستراح . وحضر وقت الغداء . فقلت للغلام‏:‏ هاته يأكل معنا ‏.‏ فجاء فأكل معنا أكل أديب (أى أكل مثل أهل الجاه والمثقفين ) إلا أن الجوع قد بين عليه (أى ظهر عليه ) فلما أكلت قلت‏:‏ يا شيخ أي شيء صناعتك ؟ قال‏:‏ حائك. فتناومت عليه ( أى تصنع النوم )ومددت رجلي ‏( أى دليلا على عدم الاحترام له ) .‏فقال (الرجل ) ‏:‏ وأنت أعزك الله أي شيء صناعتك ؟ فأكبرت ذلك ، وقلت‏:‏ أنا جنيت على نفسي ! أتراه لا يرى زلالي وغلماني ونعمتي وأن مثلي لا يقال له هذا ؟! ثم قلت‏:‏ ليس إلا الزهد بهذا(أى عدم الاهتمام به ) فقلت‏:‏ كاتب. فقال لي‏:‏ أصلحك الله ! إن الكتاب خمسة.. فأيهم أنت ؟ فسمعت كلمة أكبرتها، وكنت متكئًا فجلست ، ثم قلت‏:‏ فصّل الخمسة ‏(أى أوضح أصناف الكتّاب الخمسة ) .‏ قال‏:‏ نعم . كاتب خراج‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالشروط والطسوق والحساب والمساحة والبثوق والفتوق والرتوق ، وكاتب أحكام‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالحلال والحرام والاختلاف والأصول والفروع ‏.‏ وكاتب معونة‏( شرطة وبوليس ) :‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالقصاص والحدود والجراحات ‏.‏ وكاتب جيش‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بحلي الرجال وسمات الدواب ومداراة الأولياء وشيء من العلم بالنسب والحساب ‏.‏ وكاتب رسائل‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالصدور والفصول والإطالة والإيجاز وحسن الخط والبلاغة ‏.‏ قلت له‏:‏ فإني كاتب رسائل‏:‏ فقال‏:‏ أصلحك الله لو أن رجلًا من إخوانك تزوجت أمه وأردت أن تكاتبه مهنئًا له كيف تكاتبه ؟ ففكرت في الحال فلم يخطر ببالي شيء ، فقلت‏:‏ اعفني ‏.‏ فقال‏:‏ قد فعلت ‏.‏ فقلت‏:‏ ما أرى للتهنئة وجهًا . قال‏:‏ فتكتب إليه تعزية ‏.‏ففكرت فلم يخطر ببالي أيضًا شيء . فقلت‏:‏ اعفني ‏.‏ قال‏:‏ قد فعلت ولكن لست بكاتب رسائل ‏.‏ قلت‏:‏ فأنا كاتب خراج ‏.‏قال‏:‏ لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل واستيفاء حق السلطان فتظّلم بعضهم من مساحتك وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك فحلف المساح بالله لقد أنصفوا وحلفت الرعية بالله لقد ظلموا فقالت الرعية‏:‏ قف معنا على مسحه فخرجت لتقف فوقفوك على قراح كذا وكذا - لشيء وصفه - كيف تكتب قلت‏:‏ لا أدري قال‏:‏ فلست بكاتب خراج . فما زال يذكر في حق كل كاتب حاله فلا أعلمها إلى أن قلت‏:‏ فاشرح أنت فشرح الكل . فقلت‏:‏ يا شيخ أليس زعمت أنك حائك ‏.‏ فقال‏:‏ أنا حائك كلام ، وأنشد :
ما مر بي شر ولا نعيم إلا ولي فيهما نصيب
قد ذقت حلوًا وذقت مرًا كذاك عيسى الفتى ضروب
نوائب الدهر أدبتني وإنما يوعظ الأديب
فقلت‏:‏ فما الذي أرى بك من سوء الحال فقال‏:‏ أنا رجل دامت عطلتي فخرجت أطلب البصرة فقطع علي الطريق فتركت كما ترى، (أى تركوه على الحال السىء الذى شوهد عليه ) فمشيت على وجهي فلما رأيت الزلال استغثت بك ‏.‏ قلت‏:‏ فإني قد خرجت إلى تصرف جليل أحتاج فيه إلى جماعة مثلك وقد أمرت لك عاجلًا بخلعة حسنة ( ثيابا حسنة ) ىوخمسة آلاف درهم تصلح بها من أمرك وتنفذ منها إلى عيالك وتصير معي إلى عملي فأوليك أجله ‏.‏ قال‏:‏ أحسن الله جزاك إذًا تجدني بحيث ما يسرك.
فانحدر(أى ركب ) معي فجعلته المناظر للرخجي (أى الذى يحقق مع الوالى الرخجى ) والمحاسب له فقام بذلك أحسن قيام فحسنت حاله معي وعادت نعمته ‏.‏ )



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن