البحث عن مخرج لأزمة اليسار الفلسطيني!

محمد صوان
mgsnmanzeen@yahoo.com

2010 / 8 / 22

ينتمي اليسار بداهة إلى المنهج الجدلي العلمي والتطور التاريخي التنويري، وهو دائم التجدد، ما دامت الحياة متجددة، فكل ما يهرم أو يتحجر يتم تجاوزه، وكل ما تبرهن وقائع الحياة صحته يتمثله ويضيفه على تجربته وخبرته.. هذا المنهج الذي ينطوي على كل ما هو ثوري في موروث البشرية الثقافي والحضاري، المترابط جدلياً مع حقائق الواقع الملموس، ومع جذور الماضي وآفاق المستقبل.
فتصبح رسالة اليسار إزالة كل أشكال الاحتلال والاستغلال والقهر وبناء العدالة الاجتماعية، وإطلاق الطاقات الإبداعية، واجتثاث كل أشكال الظلم والقمع، وممارسة الديمقراطية، وتكريس التعددية الفكرية والسياسية والثقافية، وصيانة مبدأ التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. واليسار صاحب وجهة نظر وموقف نقدي على الدوام لا يستسلم للجلاد، ولا يحتمل المنافقين والمشعوذين والمعتدين على عقل الإنسان وكرامته، وعلى حقه المقدس بالعيش الحر والكريم، فالسعادة من صنع الإنسان، وكذلك البؤس والتعاسة. يرحب اليسار بالإصلاحات الصغيرة ما دامت لا تمس جوهر الرؤية الاستراتيجية، لكنه لا يكتفي بذلك بل يراكم عليها ويبني لإتمام رسالته التغييرية.
عثرات وأخطاء في سياق العمل
يمر اليسار الفلسطيني هذه الأيام في مرحلة انتقالية مغايرة لتلك التي كانت عقب هزيمة عام 1967، فرغم مرور أكثر من أربعة عقود على تلك الهزيمة، فإن اليسار الفلسطيني يعيش اليوم مرحلة انتقالية مختلفة نوعياً عن تلك التي شهدنا فيها نشوء فصائل وأحزاب يسارية استوعبت طبيعة المرحلة قبل أربعة عقود، فطوّرت برامجها، وأنجبت قيادات جديدة، وأدركت دروس الهزيمة وتداعياتها بينما نشهد اليوم تراجع دور اليسار ومكانته، وصعود الإسلام السياسي على حساب فرق اليسار وسمعتها وهيبتها الكفاحية، ناهيك بحالة التشظي، وتهافت البنية الداخلية لهذه الفرق والفصائل، وعجزها عن التوصل إلى برنامج إجماع توافقي ينهي حالة الانقسام والتشظي، ويفسح المجال واسعاً نحو تشكيل جبهة اليسار الفلسطيني الواعدة.
فالأزمة عميقة، والأرجح أن ينتج عنها ما هو أكثر من ضرورة تجديد البنية، أو إعادة البناء، وربما يأتي الجديد من رحم القديم، أو من خارجه، أو مزيجاً من الاحتمالين.
وهنا يمكن طرح السؤال التالي: إلامَ يمكن إرجاع هذا التراجع والتأزم في دور اليسار الفلسطيني؟!
فعلى الرغم من قناعتنا بأن ممارسة الديمقراطية كنظومة علاقات متكاملة داخل الحزب من جهة، وفي علاقة هذا الحزب مع المجتمع من جهة أخرى، هذه الديمقراطية هي تعبير عن مصلحة وطنية وطبقية، وإن التحول الذي دفع بأشكال ممارستها إلى الانهيار هو ولادة قوى وشرائح وفئات جديدة لها مصلحة في تحويلها إلى بيروقراطية استبدادية بدلاً من تعميقها ديمقراطياً على المستويين الحزبي والمجتمعي. وترتكز ممارسة استبدادية كهذه إلى نظرية الحزب الشمولي الواحد القائد، وهذا يعني انفصال الحزب عن المجتمع بداية، وعن الطبقة تالياً، واستلاب الحرية السياسية والثقافية والفكرية ثالثاً، واستلاب حرية العضو الحزبي وحقوقه رابعاً.
فحصر حرية النقاش في الإطار القيادي الأول في الحزب يعني إلغاء الرقابة والمساءلة الخارجية كحق للقاعدة الحزبية والمجتمع على السواء، بل واعتبار النقد من أي منهم نقداً هداماً، نقداً من (شرائح وطبقات معادية) نقداً أيديولوجياً، مما يعزز غربة القيادة عن القاعدة، وغربة الحزب عن المجتمع، والتغول نحو ممارسة القمع من جهة، وسيطرة النزعة التكتلية والعصبوية الحزبية والأيديولوجيا التضليلية من جهة أخرى، فتحل المسلمات الدوغمائية محل العلم والعقل، وتحل العصبية القيادية الحزبية محل الديمقراطية، لأن قيادة الحزب لا ترى أصلاً إلا نفسها، ولا تأخذ برأي أحد إلا رأيها، عبر ممارسة المركزية الشديدة وسياسة الإقصاء والإبعاد والتهميش للرأي الآخر.
وما يضخم من غربة القيادة عن القاعدة والمجتمع، هو حجم المهمات المطروحة على جدول أعمال الحركة الوطنية، وعجز هذه القيادة عن التصدي لها، واستمراؤها للامتيازات، ووقوعها تحت منافعها وتسلطيتها. كل ذلك يجعل الفرد القائد يقيم موازنة التعادل بين المهام وبين الامتيازات من جهة، وبين موقعه في هرم القيادة على نحو خاص، ومجموع العضوية الحزبية على نحو عام من جهة أخرى،أي تصبح القيادة هي الحزب وهي المجتمع وهي الثورة، وبذلك يحل الحزب بكل (عجره وبجره) محل المجتمع، وقيادة هذا الحزب محل الثورة.
إن تراتبية هيئات الحزب، قد تحولت، من خلال البيروقراطية المتنفذة، ومن خلال استلاب حرية القاعدة الحزبية، وانفصال الحزب عن المجتمع، قد تحولت إلى تراتبية ميكانيكية تلغي الديمقراطية وترسخ المركزية المراتبية. وبالتالي يحل استبداد القيادة العليا على كل الحزب، وتحل سلطات وصلاحيات الأمين العام على القيادة والحزب معاً. ذلك أن قيادة الحزب لم تعد منتخبة ومكلفة بولاية مسقوفة زمنياً، بل أصبحت سلطة وموقع امتياز تنعكس آثارها على بنيان الحزب وربما المجتمع، وعلى دور ومصلحة كل عضو فرد فيهما. وبالتالي فإن طبيعة القرار الحزبي تتحول من طبيعة كفاحية أخوية ورفاقية، إلى طبيعة مزاجية وعصبوية ومصلحية خاضعة للجزاء المادي والرضا المعنوي من القائد إزاء العضو، هذه الوضعية ترهف حساسية الرفيق المناضل، وبالتالي تجعل اختياره لموقف ما، لسلوك ما محدداً بمعيار الجزاء، أي يصبح الاختيار خاضعاً لاختيار مسؤول الهيئة الأعلى، وللقدرة على تبرير الموقف والسلوك أمام الأعلى. كما أن الأعلى يصبح اختياره، كي يستطيع الاستمرار في موقعه، خاضعاً لقدرته على كسب الأدنى.
إن خضوع الاختيار لإرضاء الأعلى ولكسب الأدنى، يخرج الاختيار داخل الحزب من منطق الضرورة الكفاحية والمجتمعية والطبقية ليدخله منطق التبرير المصلحي والنفعي الفردي، وبذلك تصبح سياسة الحزب وقيادته، سياسة استئثارية، بعيدة عن قانون التحالف الوطني والطبقي، ومدعية أنها وحدهاصاحبة الحقيقة المطلقة. وهكذا تتركب في الحزب والقيادة سلطة النموذج العصبوي، وصورة القائد العصبوي ـ النفعي، وتحل هذه الصورة محل صورة الحزب الديمقراطي الجماهيري العلماني، وبالتالي تهيمن المركزية ـ العصبوية كعقلية وكممارسة على كل المستويات الحزبية والمجتمعية.
عناوين البناء الداخلي
تقافياً: من المفيد التذكير أن أهم عناوين العمل الوطني للمرحلة القادمة ينبغي أن يتركز على الجانب الثقافي، لا لحماية الجبهة الأخيرة (الثقافية) من الانهيار فحسب، بل للمساهمة في بناء (العضوية المتنورة) في (يسار تنويري) يساهم أيضاً في الحياة السياسية والثقافية (لمجتمع مثقف).
وعلى اليسار في هذا الصدد مسؤولية كبرى من أجل تجديد وبناء بنيته الداخلية بداية، والعمل في سبيل ثقافة وطنية وديمقراطية تكون الأساس لحياة سياسية غنية، من دون التضحية بالوضوح الفكري، أو إعاقة تبلور المنهج، ومواصلة كل أشكال المقاومة على طريق دحر الاحتلال وإنجاز الخلاص الوطني وحق العودة وتقرير المصير، ومن شأن تحول كهذا أن يتيح للعضوية الحزبية نوعاً من التوازن، فلا يكون الهدف السياسي المجرد وحده هدفاً للعمل، بل ينبغي أن يكون هناك عدة أهداف تساعد على الوصول إلى ما هو استراتيجي، بل تؤسّس له، يقول غرامشي: (لماذا انتشرت الحالة السلبية من التشاؤم؟!.. ويجيب: (هذا يعود على الأقل إلى حقيقة أنه ليس لدى حزبنا برنامج تفصيلي يومي وقريب، فالجماهير لا تملك اتجاهاً محدداً، وربما تسعى للخروج من المأزق، ولهذا فهي تقبل بالحل الذي يحتاج إلى جهد أقل).
من الضروري أن يكون الهدف الاستراتيجي واضحاً، ومفصلاً إلى مهمات مرحلية، يمهد إنجازها الطريق لها والمراكمة عليها نحو التغيير المجتمعي، وعلى رأس هذه المهام والقضايا (الديمقراطية كقيمة وممارسة التعددية والتداول السلمي للسلطة، التنمية المستدامة، التشبيك مع مؤسسات المجتمع المدني، حقوق وحرية المرأة، إعادة النظر بمناهج التربية والتعليم..إلخ).
سياسياً: كل شعار سياسي يصاغ أو يرفع، يفترض أن تتوفر له حوامله وأدواته الاجتماعية والكفاحية، وبالتالي تحويله من مجرد شعار إلى ممارسة محققة على الأرض. ومما لا شك فيه أن نقطة الانطلاق هي الواقع الوطني، لكن المبالغة بالخصوصية الوطنية بعيداً عن عمقها القومي والأممي، ربما يؤدي لاحقاً إلى المبالغة بالخصوصية الفصائلية والطائفية والجبهوية والعشائرية.. إلخ. لكن هذه الحوامل والأدوات الوطنية والقومية المنشودة، ليست مجرد عودة على صيغ العمل والمفاهيم التي سادت في ستينيات القرن الماضي ولا تزال سائدة إلى يومنا هذا، بل ينبغي أن تبنى على أساس إيلاء اهتمام وتمثل المصلحة الوطنية بترابطها الجدلي مع عمقها القومي الأممي الأشمل، وبذلك لا يمكننا تجاوز صيغ العمل الراهنة والمفرغة من محتواها، والتي لا تعني سوى إنجاز المهرجانات الخطابية والاحتفالية، أو تلك اللقاءات والمؤتمرات التي لا تتجاوز أو تتعدى الثرثرة السياسية والترف الفكري لعدد من قيادات الأحزاب والفصائل التي تستهوي الخطابة وإصدار البيانات، والإقامة في فنادق الخمسة نجوم.
ومن المفيد أن يكون شعارنا واقعياً وعقلانياً، ومشتقاً من ميزان القوى الراهن، ولا من الرغبات الذاتية، وبالتالي أن يكون منسجماً مع طبيعة المرحلة وقدرة الأدوات والحوامل الديمقراطية حقاً والبعيدة عن المزايدات والمناقصات، أو المساومة مع القوى الإقليمية المتنفذة.
ـ مبدأ التحالفات: لا يمكن إنكار أهمية الحوار والالتقاء والتحالف بين القوى والأحزاب والفصائل الوطنية واليسارية والتفافها حول برنامج الحد الأدنى، والاحتفاظ بحقها في الاستقلالية التنظيمية والفكرية. ولا يمكن تجاهل أهمية العمل الجبهوي من أجل خوض معارك التغيير الكبرى. لكن على الأحزاب الأكثر ديمقراطية إخضاع أسس تحالفاتها للتدقيق والنقد بشكل دائم، فقد يكون مشروعاً لهذه الأحزاب أقصى أشكال المرونة من أجل تجميع الجهود، وتوحيد الطاقات، والقانون الأساسي الذي يحكم التحالفات هو قانون (الوحدة مع التنوع) و(الوحدة مع النقد).
صحيح أن اليسار ضعيف ومتراجع، وصحيح أنه بحاجة إلى تجميع الجهود في مواجهة الاحتلال والانقسام المدمر، إلا أن الاعتقاد السائد لدى بعض فصائل اليسار أن التحالفات القائمة لمواجهة تحديات المرحلة، لن تؤثر في النتائج تأثيراً حاسماً، وبما أن التغيير السياسي غير ممكن الآن! فستنعكس هذه التحالفات سلباً على برامج الفصائل الأكثر ثورية!
وهنا يمكن طرح السؤال التالي: ما قول التاريخ، إذا كانت بعض فصائل اليسار مصرة على السير بعكس حركة التاريخ؟ لم يعد جائزاً أو مفهوماً استمرار حالة التشظي والانقسام بين فرق وفصائل اليسار، فباتحادها لا تنقذ نفسها فحسب، بل ستنقذ المشروع الوطني أيضاً. ومن الأفضل لها وللحركة الوطنية بلورة هويتها السياسية والثقافية والفكرية على نحو واضح، يزيل الضبابية المصاحبة لمواقفها، وتحضير المناخات المؤاتية لبناء جبهة اليسار العلماني والديمقراطي والفلسطيني، وبما يدفع النضال الجماهيري إلى الأمام، فلا تكون التحالفات مبنية على قضايا تكتيكية راهنة، أو رغبات في مكاسب فئوية ضيقة، بل ينبغي أن تتحاور وتلتقي حول جميع القضايا المصيرية.
ومن مهام فصائل اليسار وواجباتها لتخلص من جميع التكتلات الشللية والجبهوية داخل كل فصيل، ومحاربة التضليل الأيديولوجي السائد، وإعادة تأهيل فرسان الجملة الثورية، وتثبيت مفاهيم ورؤى علمية وتاريخية حول العلمانية والديمقرطية، وعدم التهليل للانتصارات الزائفة (والسعي لتوحيد أوسع جبهة وطنية عريضة داخل مؤسسات (م.ت.ف) الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في جميع أماكن وجوده، ومواجهة سياسة (تسييس الدين) التي يمارسها التيار السلفي في المجتمع الفلسطيني. لقد ثبت بالملموس أن فهم الإسلام السياسي للماضي (التراثي) والحاضر (المتجدد) لا تنبئ بأنه يضع الديمقراطية والعلمانية وإنهاء حالة الانقسام على جدول أعماله!
محمد صوان



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن