مجدي أحمد علي مُخرج اللقطات الملهمة

فاطمة ناعوت
f.naoot@hotmail.com

2010 / 8 / 6

في وعينا الجمعيّ، ثمة منطقةٌ مطمئنة لا يقربُها الشكُّ. منطقة مغلقةٌ على ثوابتَ سَنّها ناسٌ عاشوا قبلنا في ظرفٍ مختلف، لا يشبه ظرفنا، وبمُدخلاتٍ معرفية وثقافية ومجتمعية تختلف عن مُدخلاتنا. ورثنا تلك الثوابت وأسميناها "أعرافًا". ودون كثير تأمّل، أو قليل، آمنّا بها واتّبعناها، ورحنا نقاتل من يهجرها، أو يستخفّ بها. فوقرتْ في قلوبنا ونامت في وعينا ملء جفونها. تلك المنطقة الخاملة من الوعي، أحبُّ أن أسميها "المنطقة العمياء" في وعي المجتمع. وتضمُّ فيما تضم كلَّ المسكوت عنه من قضايا إشكالية يتجنّب الناسُ مناقشتها، إما خجلا، أو خوفًا، أو ظنًّا منهم أنها أمورٌ نوقشت من قديم وحُسمَت نهائيًّا، وانتهى الأمر. تعمل معظم الأفلام العربية، قديمُها وحديثها، على دغدغة تلك المنطقة والتربيت عليها، والغِناء لها، فتغرقُ في مزيد من النوم الكهفيّ، ويتراكم خمولها، ويتوغلُ عماؤها. بينما أفلام أخرى، قليلة، تحاول إزعاج تلك "المنطقة العمياء" وإقلاق نومها، بل وأحيانًا تضرب على رأسها بالعصا، فتتقلقل، وتتمطّى، وتصحو، ثم تثب فزِعةً نحو منطقة الضوء، فيراها الوعي، ويتأملها، وربما يعيد النظر فيها، ويغيّر بها ما لم يكن قابلا للتغيير والنقاش. على رأس أصحاب تلك المدرسة الفنية "المزعجة"، يقف "مجدي أحمد علي"، المخرج الموهوب.
على أن تميّز ذلك المخرج لا يتأتى، وحسب، من امتلاكه تلك العصا الحرون التي يضرب بها رأسَ الثوابت، بل كذلك عبر عينيه اللتين ترسمان بالكاميرا لقطاتٍ ملهمةً فريدة لا تبرح مخيال المُشاهِد، ولو بعد سنوات.
في فيلم "أسرار البنات"، لا ننسى مشهد ياسمين، الصَّبية الجميلة الداخلة لتوّها في طور المراهقة، وهي تبسط الوشاحَ الحريريّ الخفيف بلون البرتقال على الفضاء، كأنما تبسطه فوق أحلامها الصغيرة. أحلامُ فتاةٍ شوَّشتها الأعرافُ والمحظوراتُ الدينية، الصحيحُ منها والخاطئ، فأمسى العالمُ أمام عينيها مُربِكًا مُخيفًا وغامضًا. (سيتحول الوشاحُ إلى اللون القاتم حين تفقد البنتُ عذريتها ذات غفلة). هي الحَيرةُ نفسُها التي عاينتها المرأةُ الناضجةُ فوزية، في فيلم "خلطة فوزية"، التي تزوجت مراتٍ خمسًا، ومع ذلك لم تصل بعد لمفهوم واضح يفسِّر لغزَ الحياة المعقد. فلجأ عقلها البسيط إلى حلٍّ مؤقت ومريح. هو قبول الحياة، كما هي، ببساطة مفرطة، وتعطيل العقل عن التفكير، حتى إشعار آخر. (هذا الإشعار الآخر سيطرق عقلها حين يموت ولدُها الكسيح تحت عجلات سيارة، فتخرج عن بساطتها وتدخل مع الله في سجال متسائِل معاتِب تحت شجرة التوت، التي كانت تقطف من ثمرها لابنها. تهزُّ الشجرةَ بعنف فيتساقط التوتُ، رغم غياب الولد!). تقرّب حبّات المشمش والفراولة إلى أنفها، قبل أن تطهوها في خلطة المربى. تستنشق رحيق الثمر بعمق تحت ضوء النافذة، علّ الثمرةَ (الأنثى)، تنبئ الأنثى البشريةَ، المرأة، بما تجهل من سرّ الوجود. مشهد العريس وهو يلوّح للمدعوين بيده مثل زعيم سياسي. اللحظة الوحيدة التي ينعم فيها البسطاءُ بأن يكونوا محطّ الأنظار ومحور الاحتفاء والهتاف. ثم ينالون، لقاء لحظة البهجة الشحيحة تلك، ما يناله الحكّام، لقاء آثامهم في حق مواطنيهم: رصاصةً. ثم المشهد العمدة في الفيلم ذاته: الولد المشلول على كرسي المعوقين، يدفعه الأولاد في لهوهم فيطير فوق سماء مصر، يتأمل العالم من علٍ ونظرة النشوة تملأ عينيه البريئتين، قبل أن يسقط فتدهمه السيارة، ويتكسرُ حلمُ الأم بين نثار دمائه. ثم مشهد الختام؛ حين يجتمع كل أزواج فوزية السابقين في محاولة لتبديد حزنها. يبتنون حمّامًا خاصًّا للمرأة الثكلى، التي لم تَزِد أحلامُها عن التحمُّم بعيدًا عن العيون المتطفلة في الحمام العام. ثم يجمع كل رجل قطعةً من مرايا مكسورة في نفايات القمامة، ويشيدون مسطح مرآة ضخمة، سوف تجمع صورَهم المنعكسة جميعهم مع فوزية، في مشهد محبة مصرية فريدة. تلك المحبة التي يتقن البسطاء صنعها بإمكاناتهم الشحيحة، وقلوبهم الغنية.
وعودٌ إلى فيلم "أسرار البنات"، نتوقف عند مشهد أم ياسمين، وهي تضعُ خاتم زواجها بين أسنانها، لتضيّق قُطره كيما يناسب إصبع الابنة، التي أنجبت سِفاحًا، لكي توهم الناس بأنها زوجة. كأنما تُضيّق بأسنانها دائرة الأحلام لتناسب عالم البنت الصغيرة التي وقعت في الخطيئة. ثم مشهد الأب وهو يسقط على حافة حمام السباحة، فيما الصبيةُ تنظر لأبيها بِحَيرة. الأب الذي أخفق في تحقيق حلمها البريء (أن تلبس مايوه لتسبح مع ابنة خالتها التي ترعرعت بين أبوين مثقفين يدركان الحياة بمفهومها المعتدل الحر). ثم مشهد ياسمين وهي تتأمل وليدها الذي جاء في غفلة من الزمن، عبر صندوق الحضّانة الزجاجي، فيظهر وجهه جوار وجهها، المنعكس على سطح الزجاج، وجهان لطفلين، إحداهما، للمفارقة، أمٌّ للآخر! ثم مشهد الختام الفانتازي الفاتن، حين تجتمع حول سرير الفتاة كل المتناقضات التي عذّبتها: الطبيب المتخلِّف الذي ختنها رغم أنفها وهي شابّة، الممرضات الثرثارات، المأذون الذي زوّجها وسط دموعها ودموع أهلها، الزغاريد المصطنعة، العمّ الظلاميّ الذي أجبر طفلاته على الحجاب، الخالة المستنيرة التي راحت جهودها هباءً، الصبايا الحائرات بين التقليد والمعاصرة، وفي الأخير، حوض الأسماك الملونة، تلك الكائنات الراقصة، التي تمتلك من الحرية أضعاف ما يمتلك البشر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن