محمد يونس

سعيد عدنان
saeed_almuhanna@yahoo.com

2010 / 7 / 28





مضى مُعْجَلاً، وهو يتهيأ لبداءة عام دراسي جديد، وينظر في مسودات أثر أدبي له، كان يرجو أن يراه مطبوعاً، لكنه دُعي فمضى مُعْجَلاً، وانطوت به صفحة عالم فاضل، ومرب جليل، وأديب ناقد. بل انطوت صفحة رجل أخلص نفسه في مسعاه حباً في الحقيقة، وطلباً لها، وصدقاً في تحريها، رجلٍ مسعاه في صدقه واحد، لم يقبل فيه دَخَلاً، ولم يرتضِ فيه شوباً، يعتقد الصدق والاخلاص غير حافل أن يفضيا به الى درب قليل سالكوه، ذلك أنه لا يطلب الاّ رضا نفسه وثبات قدمه على نهج ارتضاه، فلا غرو أن يكون قليل الزاد الاّ من العلم والفضل.

1
ولا بد للحديث عنه أن يتصل، ولكي يتصل، لابد أن ترجع به إلى عناصر النشأة والتكوين، إلى تلك الجذور القديمة التي أمدت الشجرة بالغذاء والماء، وجعلت ثمرها نضيجاً. ولد في الكاظمية في سنة 1937م، وتعلّم فيها، ورأى الأفكار الصاعدة في أربعينيات العراق وخمسينياته وأفاد منها درساً: أن المعرفة مقرونة بالموقف، ولا جدوى منها إذا اختلت الرؤية واضطربت، وقوامُ الموقف أن يكون في نصرة الإنسان فرداً، وجماعة، ومجتمعاً،وأن يهتف بالظلم متى وقع وأن يسعى إلى إزالته. كان ذلك إطار الثقافة والأدب في تلك السنين من منتصف القرن، وكان عنوان طليعة الأدب شعراً ونثراً ونقداً.
رأى ذلك، وأفاد منه، ونفذ إلى أعماقه واستقر، وصار ملاكَ ما ينظر فيه إلى الأدب عندما شرع يكتب. ورشحّه أن يدرس الأدب على نحوٍ بعينه، يطلب فيه حسن المثال في الصنيعة، ويتوخى الفكرة القويمة التي تبتغي خير الانسان فرداً ومجتمعاً.
درس الأدب الروسي في موسكو وتخصص به، ونال شهاداته في حقله وأحرز الدكتوراه في سنة 1972م وعاد ليلتحق بكلّية الآداب في قسم اللغات الأوربية- فرع اللغة الروسية، وكانت كلّية الآداب يومئذٍ معهداً أكاديمياً قليل النظير، لا أقول في العراق وحده بل في بلدان كثيرة، وكلّ أقسامها كان على رفعةٍ وسمو للذي فيها من أساتيذ تُزهى بهم بين أرقى معاهد العلم.
التحق بفرع اللغة الروسية، يدرّس الأدب، ويترجم، ويكتب في الأدب الروسي، وينشر أبحاثه في مجلات جامعية، وينشرها في كتب، وكلّها مزيته حسن الاحاطة، وسعة الاستيعاب، وسلاسة العرض، وتوخي الحق، والخير، والجمال.. كتب في ((سلسلة أعلام الفكر العالمي)) التي تنشرها المؤسسة العربية للدراسات والنشر: ((غوغل)) و((تورجينيف)) وهما علما الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، الأول صاحب ((الأرواح الميتة)) والثاني صاحب ((الآباء والبنون)) الأثرين الخالدين في الأدب، ولم تكن كتابته عنهما معارف مبسوطة فقط، وإنّما كانت دراسة نقدية محفوفة بمحبة هذين الكاتبين، وخير النقد ما كان محفوفاً بالمحبة، ذلك أنها سبيل اتساع المعنى!
وكتب مع د. حياة شرارة: ((مدخل إلى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر)) ومزيته كسابقيه في حسن الاحاطة، وسلاسة العرض وتوخي كريم القيم.
ووضع في حقل الأدب المقارن: ((الكلاسيكيون الروس والأدب العربي)) على نهجه من الصدق والإخلاص.. وترجم: ((فن الأدب الروائي عند تولستوي)) تأليف أدينوكوف ترجمة رصينة لا تشكو اضطراباً أو خللاً.
وهو في آثاره تلك منسجم مع صحب كرام من أساتذة الأدب الروسي أغنوا الثقافة العراقية بما كتبوا، وما ترجموا كحياة شرارة وضياء نافع وجليل كمال الدين الذين كان يُزهى بهم قسم اللغات الأوربية في كلية الآداب.



2
ولابد للحديث أن يجري إلى غايته حتى تلتقي الملامح وتنهض الصورة حيّة نابضة، ولا بدّ له أن يبلغ مقطعاً منه، فأقول كان قسم اللغة العربية برئاسة العلامة الجليل مهدي المخزومي قد أضاف إلى المنهج الدراسي مادة ((الأدب العالمي)) وجعلها في سنتين: الثالثة والرابعة، وكان الدرس في السنة الثالثة: ((أدب ألماني)) وفي الرابعة ((أدب روسي)). وكلا الدرسين كبير الفائدة إذا تولاّه أستاذ أديب، وقليل الجدوى إذا كُلّف به من لا يفقه مقاصده، وكان من حسن التوفيق أن أُسند درس الأدب الروسي الى د. محمد يونس، وارتقب الطلبة، فما عساهم أن يجدوا في هذا الدرس، وما عسى أُستاذه أن يفيدهم فيه، وأقبل موعده وكان في الساعة الواحدة والنصف، وأطلّ كريماً سمحاً لا يتكلف أمراً في حركة أو كلام، وشرع في درسه، وقد امتلك ناصية الحديث وهو يخوض في الأدب الروسي، في نشأته، وفي أعلامه، وفي القضايا التي عالجها، ويشعر الطلبة أن الأستاذ قريب منهم، وأنه يحدثهم من غير استعلاء، ومن غير تعالم، حديثاً كلّه علم، وكلّه ذوق لهذا الأدب ولمداره الاجتماعي، وينفذ ما لديه إليهم نفاذاً ميسوراً فيحبون الأدب الروسي في أعلامه، وفي شخصياته الروائية،
كان درسَ فائدةٍ ومتعة، وكان نافذةً على الأدب العالمي، وعلى قضاياه، وكان درساً لا ينسى طلبته أستاذه، بل إنهم أحلّوه منذ اللقاء الأول محلاً كريماً من أنفسهم.
وتقضّت تلك السنة 1978-1979، وكان الجو العام يتجه نحو الضيق، وطفقت النُذُر تترى، متسارعة، وأريد على ما لا يرتضيه، وسيم أن يلتحق بحزب السلطة فأبى، ولم يكن أمامه الاّ أن يحيل نفسه على التقاعد، وهو يومئذٍ من أبواب الأربعين مكتمل الشباب، فأيّ خسارة لحقت بقسم اللغات الأوربية!! وأيّ أمر دهى طلبته!!
وخرج الرجل من كلّية الآداب طاهر الثياب نقي الضمير، وعمل مرفوع الرأس في ميدان بعيد عما هو فيه!!
وانقطعت أخباره أو كادتْ لولا صدور ((الكلاسيكون الروس والأدب العربي)) فردّ إلى محبيه طيفاً منه! وما لديه مما هو قيد الإتمام كثير، ولكن أين السبيل إلى ذلك والأفق متلبّد بالظلام، وما في الميدان لا يُغري بالنزول إليه فليعتصم المرء بما لديه ولينأ بنفسه عما ليس من شأنه! فنأى، ونأتْ أخباره، وتفرّق الناس في الأرض، وعزّ الملتقى!
وبقيت صور منه تعتاد عارفي فضله، وتحيي لديهم بعضاً من شمائله في الاستقامة، وحبّ الخير، وسمو النفس عن كلّ ما يشين، ومثله لا يُنسى في علمه، وفي خلقه.




3
ولا بد للحديث أن يتم، ولا بدّ أن يبلغ مداه، وكان من كريم الاتفاق أن أتى إلى جامعة القادسية، والتحق بكلية التربية، فيالبهجتنا به، ويالأنسنا بما نجد منه، كان في طليعة من يعمل على علوّ سنه وتزاحم العلل عليه، إذ كان فتيّ الروح قويّها مليئاً بالأمل واثقاً أن الشر لا بدّ أن ينهزم، وأن الخير لا محالة ينتصر، وكان ابنُ السبعين كما كان في الأربعين، وثوقَ نفس، واشراقَ أمل، وصفاءَ سريره وابتعاداً عما يشين فأحبه كلّ من اتصلت أسبابه به.
وكانت صحبةً رجونا لها أن تمتد، وأن تزداد ثماراً، وأن يبقى معنا ألقاً في الأفق الجامعي، وودّعنا، على مألوف عادته، في تموز على أمل أن نلتقي في أيلول، في بدء العام الدراسي، وقال عند الوداع سنلتقي إذا كانت في العمر بقية، وأشفقت أن تكون نبوءةً وقلت: ترجع أستاذنا سالماً غانماً، وتستأنف عملك بيننا. ولم يرجع فقد تخطفته المنون في أرض بعيدة، وأتى النبأ الذي لذنا منه بالكذب، فلعل، وعسى، وتصدق الأنباء حين لا تكون خيراً! ويقول القائل فلئن مضى فلقد أبقى ذكراً طيباً، وسيرة عطرة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن