الحركة العقلية الاسلامية وتطوراتها

يحيى محمد
yahya1mohamed@hotmail.com

2010 / 7 / 23

دعنا في البداية نتحدث عن بداية الحركة العقلية التي مهما توغلنا في التاريخ الإسلامي لا يمكن إعتبارها سابقة أو مقارنة لوجود الحركة النقلية والنصية التي بدايتها تبدأ ببداية الإسلام ذاته. فأقدم ما وصل إلينا بشأن هذه الحركة هو الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفى سنة 101هـ) في القدر، ويرجع تأليفها إلى (سنة 73هـ)، وهي أقدم من رسالة القدر للحسن البصري (المتوفى سنة 110هـ) . وما تمتاز به رسالة إبن الحنفية هو أنها ذات منحى جدلي لا تختلف في العموم عن الطريقة العامة لعلم الكلام، فهي تفترض حضور خصم تحسم معه الحوار بالصيغة الشرطية، فتفترض جميع الأجوبة التي يمكن أن يطرحها الخصم لتوقعه في فخ النتائج الباطلة ومن ثم تدلل على بطلان مقدماتها. ويلاحظ في هذه الرسالة أيضاً أن صورة المجادلة تتخذ شكلاً مزدوجاًَ، فهي تنطلق تارة من منطلقات النص وتتبع هداه، وتلجأ تارة أخرى إلى الإعتبارات العقلية الصرفة .
وما تريد أن تكرسه هذه الرسالة هو دعم المشيئة الإلهية إلى حد قريب من نظرية الجبر أو الكسب الأشعرية. وبالتالي فهي تتلاءم مع النزعة التي تلجأ إليها السلطة الأموية الحاكمة. مع أن الحسن ينتمي إلى الأسرة الهاشمية المعارضة لهذه السلطة. لكن في المقابل هناك من المعارضين من يقول بنظرية الجبر التي وظفتها السلطة الأموية في قضاياها السياسية، كما هو الحال مع جهم بن صفوان. وعليه لا مبرر للطعن في نسبة الرسالة إلى الحسن من هذه الناحية - السياسية -، وإن كانت هناك بعض الشكوك، سيما وقد نُقل بأن غيلان الدمشقي (المتوفى سنة 105هـ) قد درس في المدينة على يد الحسن، وتأثر به في القول بالإعتزال، لكنه مع ذلك يقول بالتفويض وحرية إرادة الإنسان. كذلك فإن الهمداني المعتزلي يراه من أوائل المعتزلة وأنه لم يخالف أباه وأخاه إلا في نظرية الإعتزال، إذ كتب فيه كتابه (في الإعتزال). وعلى يد هذه الأسرة العلوية تربى واصل بن عطاء المُمذهب للفرقة الإعتزالية . إضافة إلى أن هناك إثنين آخرين بذلك الاسم، كما ينص عليهما إبن النوبختي في (فرق الشيعة)، وهما الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية والحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية، وأن كلاً منهما كان إماماً من أئمة الكيسانية أو المختارية، وقد عرفت هذه الفرقة بالغلو، كما وظهر بين أصحابها أفكار الجبر والتشبيه ، وهذا ما جعل الإمام يحيى بن الحسن (المتوفى سنة 298هـ) يرد على الحسن بن الحنفية في نظريته الجبرية؛ بكتاب اطلق عليه (الرد والإحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية) .
مع ذلك يمكن إعتبار عملية التنظير الأولى للحركة العقلية تعود إلى بداية القرن الثاني للهجرة، كما برزت لدى جهم بن صفوان (المتوفى سنة 128هـ). فقد أسس جهم منظومته المعرفية طبقاً للعقل، وهو بذلك يسبق المعتزلة من حيث المنهج العقلي، كما أنه يسبقهم في العديد من قضايا المحتوى. إذ كان كثير الإعتماد والتعويل على الحركة العقلية في التفكير والاستدلال. فمن ذلك إعتقاده بأن الله عبارة عن ذات فحسب، خشية تشبيهه بشيء من خلقه، فهو بالتالي لا يجيز وصفه بأي وصف يعرّضه إلى هذا التشبيه، فليس هو بشيء ولا من شيء ولا فيه، ولا يقع عليه أي صفة، لذلك فهو ينفي كونه حياً وعالماً، لأن هذه الأوصاف مناطة بمخلوقاته، والإشتراك بها يعني الشرك لها في الأزلية . لكنه مع ذلك يثبت كونه قادراً فاعلاً خالقاً، بإعتبار أن هذه المواصفات لا يوصف بها شيء من خلقه. ويعود سبب نفيه لوصف الله بالعلم، هو لأن العلم عنده حادث لا قديم، كما أن هذا العلم لا محل له، يتعدد بعدد الموجودات المعلومة. وكما قال في استدلالاته العقلية لهذا الموضوع: «لا يجوز أن يعلم - الله - الشيء قبل خلقه، لأنه لو علم ثم خلق، أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق؟ فإن بقي فهو جهل، فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد. وإن لم يبق فقد تغير، والمتغير مخلوق ليس بقديم.. وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو: إما أن يحدث في ذاته تعالى، وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته، وأن يكون محلاً للحوادث. وإما أن يحدث في محل فيكون المحل موصوفاً به، لا الباري تعالى، فتعين أنه لا محل له» . كما استدل عقلياً على القدرة الحادثة للإنسان ليثبت الجبر الإلهي بقوله: «إن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالإستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار. وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، واهتزت الأرض وأنبتت، إلى غير ذلك. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر. وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً» . ومن استدلالاته العقلية الأخرى، رأى أن حركات الخلائق في العالم الآخر- الجنة والنار - يجب أن تكون منقطعة لا خالدة. وهو في هذا الإعتقاد يقيس حركات الآخرة على حركات الابتداء، فكما أنه لا يمكن تصور حركات غير متناهية أولاً، فكذلك لا يتصور حركات لا تتناهى آخراً. وهو قد حمل قوله تعالى ((خالدين فيها)) على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة، مثلما يقال: «خلّد الله ملك فلان». كما أنه استشهد على إعتقاده في الإنقطاع بقوله تعالى: ((خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربّك)) ، إذ الآية فيها شرط واستثناء، بينما الخلود والتأبيد لا شرط فيه ولا استثناء .
لا شك أن مثل هذا التفكير العقلي لجهم وطبيعة الاستدلال الذي ينطوي عليه عموماً، نجده عينه لدى علم الكلام في كافة مدارسه ومراحله وتطوراته. فهو على سبيل المثال إن كان يتفق معه الأشاعرة في طبيعة الاستدلال من أن الفعل والخلق هو من خصوصيات الله دون أن يشاركه به أحد من خلقه، خشية الوقوع في حد الشرك، فكذلك يتفق معه المعتزلة أيضاً في علة القول بخلق القرآن وإستحالة رؤية الله، طبقاً لنفي الصفات الموجبة للتشبيه والشرك، والتي منها صفة الكلام والجسمية.
والمهم في طريقة جهم ما نُقل عنه - منذ بكارة الإعتماد على العقل - بأنه قائل بأسبقية الوجوب العقلي على السمعي، وذلك في عبارة مجملة كما يذكرها الشهرستاني، إذ ينص على أنه كان موافقاً «للمعتزلة في نفي الرؤية، وإثبات خلق الكلام، وايجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع» .
بيد أننا نشك بأن يكون جهم قد حدد فعلاً ذلك الوجوب وأسبقيته، سيما وأن هذا القول لم يرد عن المعتزلة الأوائل، ولم ينقل عنهم شيء حول ذلك، بالرغم من أهميته وحساسيته. فربما كان تاريخ القول بالواجبات العقلية - كما يقول المعتزلة - يعود إلى أبي الهذيل العلاف (المتوفى سنة 226هـ)، إذ نُقل عنه قوله في المكلّف قبل ورود السمع، فذكر أنه «يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإنْ قصّر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحَسن وقُبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور» .
كما اتبعه في ذلك ابراهيم بن يسار النظام (المتوفى سنة 231هـ)، فهو أيضاً يرى بأن الإنسان قبل ورود السمع إن كان عاقلاً ومتمكناً من النظر فإنه يجب عليه النظر والاستدلال لمعرفة الباري، كما أنه يقول بالحسن والقبح العقليين في كل ما يتصرف به الإنسان من أفعال . وقد عُرف عن النظام بكثرة تأويله للقرآن الكريم بحجة النظر العقلي، بل ويرى أن هذا النظر يمكنه أن ينسخ الأخبار. لهذا ألّف إبن قتيبة (المتوفى سنة 276هـ) كتابه (تأويل مختلف الحديث) للرد عليه وعلى أصحابه الذين أولوا الآيات وأبطلوا الكثير من الأحاديث والأخبار إستناداً إلى حجة النظر العقلي .
وأقدم ما وصلنا بشأن تحديد العلاقة بين العقل والنقل هي رسالة القاسم الرسي (المتوفى سنة 246هـ) والمسماة بـ (أصول العدل والتوحيد)، إذ تتبنى تأسيس حجة النقل على العقل. فالرسي يقسّم الحجج على الترتيب إلى ثلاث: العقل والكتاب والرسول. فبالعقل يعرف الله بعدله وتوحيده وصفاته. وبالكتاب تعرف أوامر الله ونواهيه وكل ما يرضيه وما يسخطه. كما أن بالرسول تتحدد كيفية إتّباع أوامر الله واجتناب نواهيه. وهو يجعل من العقل أصلاً لكل من حجة الكتاب وحجة الرسول، بإعتبار أنهما قد «عُرفا به ولم يعرف بهما» .
ويلاحظ أن التأسيس الذي طرحه هذا الإمام (الزيدي) ليس تأسيساً معيارياً بالمعنى اللاهوتي المعبّر عن بناء الوجوب الشرعي على الوجوب العقلي، أو على الأقل إعتبار الوجوب الأخير سابقاً ومتقدماً على الوجوب الأول كما ألفناه لدى النظّام وقبله العلاف وربما قبلهما جهم بن صفوان إن صحّ النقل عنه، بل يمكن إعتباره من وجه تأسيساً معرفياً يلزم عنه البناء المعياري. ومن الواضح أن بين التأسيسين علاقة عموم بخصوص، فمن الناحية المنطقية أن القول بالتأسيس المعياري ومنه اللاهوتي لا بد أن يقتضي ويتضمن التأسيس المعرفي. بينما القول بهذا الأخير لا يقتضي بالضرورة أن يكون متضمناً للأول.
ليس ذلك فحسب، بل قد شهد النظام المعياري في مراحله الأولى وجود حركة عقلية تجلّت بتأسيس الأصول المعرفية، مما جعل المذاهب بعضها يتميز عن البعض الآخر، كما يلاحظ عند أهل الإعتزال، إذ تحددت أصولهم بخمسة مبادئ عامة، هي (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). ونُقل أن أبا الهذيل العلاف «صنف كتاباً للمعتزلة وبيّن لهم مذهبهم وجمع علومهم وسمى ذلك الأصول الخمسة، وكلما رأوا رجلاً قالوا له خفية: هل قرأت الأصول الخمسة؟ فإن قال: نعم، عرفوا أنه على مذهبهم» . إلا أنه جاء في كتاب (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) للملطي، عبارة يتضمن فحواها أن هذه الأصول تعود في تأسيسها إلى واصل بن عطاء، مؤسس المذهب الإعتزالي ذاته، إذ جاء في الذكر: «وبالبصرة أول ظهور الإعتزال، لأن أبا حذيفة واصل بن عطاء جاء من المدينة. ويقال: معتزلة بغداد أخذوا الإعتزال من معتزلة البصرة. أولهم بشر بن المعتمر، خرج إلى البصرة فلقي بشر بن سعيد وأبا عثمان الزعفراني فأخذ عنهما الإعتزال، وهما صاحبا واصل بن عطاء، فحمل الإعتزال والأصول الخمسة إلى بغداد» .
ولو أن هذا النقل صحيح لكان واصل بن عطاء يمثل نقطة بداية ونهاية للمعتزلة، فتاريخ الأصول الخمسة عبارة عن تاريخ الإعتزال ذاته. بل الأهم من ذلك هو أن واصل بن عطاء قد حدد المصادر العامة لطريقة الإنتاج المعرفي لكل من علم الكلام والفقه معاً. فكما يُنقل عن الجاحظ أنه اعتبر هذا المتكلم «هو أول من قال: الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق، وخبر مجمع عليه، وحجة عقل، أو إجماع من الأمة». لذلك يقول الجاحظ في حقه: «وكل أصل نجده في أيدي العلماء في الكلام وفي الأحكام فإنما هو منه» .
على أن تحديد الجدل العقلي كما عند الحسن بن محمد بن الحنفية، وتحديد جهم لطريقة الاستدلال العقلي، وكذا تحديد واصل لأصول علم الكلام ومصادر الإنتاج المعرفي المعياري، فضلاً عن تأسيس الشريعة على العقل معرفياً ومعيارياً كما هو الحال عند العلاف والنظّام والرسي وغيرهم، كل ذلك قد جعل من نشأة علم الكلام وتطوره عبارة عن نشأة وحركة عقلية. فتاريخ العقل (المعياري) في الفكر الإسلامي يعود إلى تاريخ علم الكلام قبل أي علم آخر، رغم أن بداية نشوء هذا العلم مرتبطة أساساً بالأحداث السياسية والإجتماعية التي عصفت بالدولة الأموية خلال النصف الثاني من القرن الأول. فقد كانت قضية الجبر والاختيار، وكذلك قضية الإعتزال، من القضايا الأولى التي ربما وقف خلفها الصراع الآيديولوجي السياسي بين السلطة الحاكمة التي تشبثت بالجبر والإعتزال، وبين المعارضة التي غالباً ما لجأت إلى تبني فكرة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان. فلا يبعد أن يكون هذا الصراع سبباً في إنتاج بعض المعارف التي حددت مسار التمذهب في الفكر الإسلامي، ومن ذلك قضية مرتكب الذنوب الكبيرة، إذ أنها تمس بالصميم ما تقوم به السلطة الحاكمة من كبائر، وهو ما أدى إلى ظهور المعتزلة. فعلى هذا الفرض يكون الإعتزال قد نشأ نشأة لها إرتباط ما بالآيديولوجيا السياسية، سيما إذا ما سلمنا بالرأي الذي يقول بأن نشأة المعتزلة بدأت منذ أن اعتزل واصل بن عطاء درس الحسن البصري لأنه قد استقل برأي يخص صاحب الكبيرة، كما جاء عن بعض أصحاب الفرق والمقالات .
مع هذا نذكّر بأن تأثير العامل السياسي على تحديد مسار التمذهب في جملة من المعارف لا يمكنه أن ينسحب على سائر التشكيلة المنظومية المتأصرة بأواصر الإنشداد المنطقي داخل المنظومة المعرفية. مما يعني أن علة النظام والتأصر لا تعود إلى السياسة ونوعها، بل إلى حضور المنطق الجواني للتفكير طبقاً للأصل المولّد الفعال.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو أن نشأة علم الكلام لم تكن- من حيث الأساس - منبعثة بدافع مصارعة الطوائف اللادينية؛ كالثنوية والغنوصية وغيرها. صحيح أن لهذا الصراع نتائجه الهامة على تطور وازدهار علم الكلام، سيما في ما يتعلق بالمعتزلة، إذ أنها ترعرعت وازدهرت نتيجة الصراع مع المانوية، وهو الصراع الذي مارسته منذ البداية، وذلك على يد واصل بن عطاء مؤسس المذهب، إذ صنف كتاباً يتضمن بعض المسائل التي ردّ فيها عليهم .. لكن هذا لا يعني بأن النشأة الإعتزالية والكلامية عموماً كانت لهذا الدافع من الصراع. فقد سبق أن لاحظنا بأن المشاكل التي عنى بها الكلاميون هي مشاكل داخلية تخص في غالبها الطابع المعياري من التفكير، كما هو الحال مع قضايا التشبيه والقضاء والقدر ومرتكب الكبيرة والإعتزال وغيرها.
وإذا كنّا قد عرفنا بأن تاريخ علم الكلام يعبّر عن تاريخ العقل في الفكر الإسلامي، وكذا العكس صحيح أيضاً، إذ أن تاريخ هذا العقل يعبّر - أساساً - عن تاريخ علم الكلام ذاته، أمكننا أن نتساءل عن علة الممارسة العقلية لدى علماء الكلام كأساس للتفكير مثلما هو الحال عند جهم والمعتزلة، بل ونتساءل عن علة الإصرار عليه حتى لدى الأشاعرة والمتأخرين منهم بالخصوص؟ فمن الواضح - وكما بيّنا - أنه يتعذّر ردّ المسألة إلى مناوأة المذاهب غير الإسلامية بحجة الإحتكام إلى أداة مشتركة تتمثل بالعقل ذاته. فهذا التحليل وإنْ بدا منطقياً سيما إذا ما علمنا بحصول تأثر مبكر ظهر لدى المذاهب الإسلامية بالمذاهب الأخرى، وعلى رأسها مذهب فلاسفة اليونان، لكن الملاحظ أن العقل الذي شيّده الكلاميون هو عقل معياري، سواء في دوافعه أو في غالب إنتاجه من المعارف، وقد ظل الكلاميون محافظين على هذه البنية الثابتة الأصيلة طيلة تاريخ علم الكلام، منذ البداية وحتى النهاية. وهم حتى في بحوثهم الخاصة حول قضايا الطبيعة والوجود كانوا يستهدفون القضايا المعيارية. وسبق لإبن باجة أن اعتبر علماء الكلام لم يبحثوا في تلك القضايا لأجل التحقيق فيها مثلما يفعل الفلاسفة، بل كانوا يبحثون فيها لأجل مناقضة بعضهم بعضاً . هكذا فتأثر الكلاميين بغيرهم من المذاهب اللاإسلامية وصراعهم معهم لم يغير جوهراً من طبيعة التأسيس المعياري للعقل الذي شيّدوه حتى في أوج حالات المزج والإختلاط، كما هو حال المتأخرين منهم، إذ مزجوا علمهم بعلم الفلسفة ذي العقل الوجودي.
بذلك يصبح من الواضح أن حضور العقل المعياري في الفكر الإسلامي لا علاقة له بالنزعات اللاإسلامية، فإرتباطه في الحياة الإسلامية إرتباط وثيق، وجدوى حضوره هو أنه جاء لتسديد وتغطية القضايا التي أثارها الخطاب والتي تركها «سائبة» دون تغطية صريحة وكلية. ففارق كبير بين معاملة الخطاب - كما في القرآن الكريم - للقضايا التي أثارها، وبين معاملة علم الكلام - ذي العقل المعياري - لها. فتعامل الأول هو تعامل «تلقائي» لم يتخذ صورة «ممنطقة»، فهو كما يصفه الإمام علي بن أبي طالب إن صحّ النقل عنه «حمال ذو وجوه». في حين اتصف تعامل علم الكلام وغيره من العلوم المعيارية بالتمنطق إلى أبعد الحدود، مما مكّنها من التصدي لفهم الخطاب الديني من جهة، ولتأسيس النظر وإنتاج القبليات المعرفية من جهة أخرى.
وبحسب علم الطريقة، تتجسد علاقة علم الكلام بالخطاب الديني بنحو من التأسيس من جهتين، فلعلم الكلام تأسيس خارجي يتعلق بإثبات المسألة الدينية. كما له تأسيس داخلي يتعلق بطريقة فهمه للخطاب. وفي كلا الحالتين، سواء من حيث التأسيس الخارجي أو الداخلي للخطاب، يعد العلم الكلامي - في غالبه - علماً عقلياً، دون أن يتنافى ذلك مع ما آل إليه من خصائص آيديولوجية مذهبية جعلته يفقد الطرح الابستيمي.
أخيراً فإن مطابقتنا لنشأتي العقل المعياري وعلم الكلام، بحيث أن أحدهما - من حيث النشأة - كان عين الآخر، يجعلنا نبتعد عن التحديدات الآيديولوجية لنشأة ذلك العلم كما فعلها الإمام الغزالي الذي حاول إرجاع هذه النشأة إلى مرحلة تعد حالة من حالات رقي علم الكلام لا نشأته. وقد اتبعه في ذلك إبن خلدون الذي ضمّن تعريف الكلام طابعاً أشعرياً.

تطور علاقة العقل بالنص
سنخصص هذه الفقرة من البحث عن تطور علاقة العقل بالنص التي أخذت منحى دائرياً ضمن الإتجاه العقلي عموماً. فقد تصاعدت حركة هذه العلاقة خلال القرون الثلاثة للهجرة، لكنها ما لبثت أن تقهقرت منذ ظهور الأشاعرة بداية القرن الرابع، وبعد ذلك عادت إلى الصعود حتى بلغت أقصاه نهاية القرن السادس الهجري، لكنها تحولت - فيما بعد - إلى إنتكاسة عظمى على يد الفخر الرازي. لذا سنتحدث عن هذه التطورات التي ألمّت بالعلاقة المذكورة كالآتي..

الحركة المزدوجة للبيان والعقل
أ - العقل في خدمة البيان
لقد ظهر أبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324هـ) ممثلاً لتيار جديد وسط تيارين، أحدهما يعود إلى طريقة السلف، والآخر يرجع إلى الطريقة العقلية، مما جعله يحمل بصمات الإثنين معاً. فاقتبس المنهج العقلي من مشايخه المعتزلة، كما أخذ المحتوى الفكري من السلف، سيما الإمام أحمد بن حنبل.
وقد اختلف العلماء في تحديد إتجاه الأشعري ومذهبه؛ بعد أن ترك الإعتزال وانقلب عليه، حتى قيل بأن الأشعري أقام أربعين سنة على الإعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول . فهناك من رأى أنه صاحب طريقة مؤيدة لمذهب الحنابلة، سيما وأنه في كتاب (مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين) قال بعد أن حكى جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة: «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب» . لكن الدكتور عبد الرحمن بدوي لم يقتنع بهذه العبارة، واعتبر أن من غير المعقول أن يكون الأشعري قد ذهب إلى مذهب الحنابلة، حيث أنه من أصحاب الكلام والجدل وهم خلافه بالتمام، ولهذا احتمل أن تكون العبارة مزورة .
ومن الذين ظنوا بانتماء الأشعري إلى أهل السنة والحديث، إبن تيمية الذي دلل على رأيه بتلك العبارة. كما أن السبكي صاحب (طبقات الشافعية الكبرى) اعتبر الأشعري قد أقرّ مذهب السلف ولم يبدع رأياً يُنشئ به مذهباً، بل قدّم الحجج والبراهين لتقرير مذهب السلف، ومن ثم صار كل من اقتدى به على هذا المنوال والسبيل يسمى أشعرياً. وهناك حكايات تنقل بأنه كان لا يتكلم في علم الكلام إلا عندما يراه نصرة للدين أمام ما يظهر من «البدع والأهواء» . فبحسب هذا الإتجاه يكون الأشعري متأثراً وتابعاً للمدرسة (الصفاتية) من السلف الكلاميين، والمتمثلة بإبن كلاب والمحاسبي والقلانسي . في حين اعتبره إبن خلدون منتمياً إلى إتجاه وسط بين المعتزلة وأصحاب الحديث .
وعلى العموم هناك العديد من وجهات النظر المختلفة حول الإتجاه الحقيقي للأشعري، كما ذكرها الاستاذ آلار في كتابه (مشكلة الصفات الإلهية في مذهب الأشعري وكبار تلاميذه الأوائل) .
ومن وجهة نظرنا نجد للأشعري إشارة صريحة في إقترابه من الموقف السلفي وإتّباعه الحنابلة ومدحه لهم دون غيرهم، كما جاء في كتابه (الإبانة) الذي عدّه البعض آخر ما كتبه واستقر عليه أمره وإعتقاده ، وربما كان معه كتابه الآخر (مقالات الإسلاميين)، إذ يُعتقد أنهما من أواخر كتبه، وكل ما كتبه قبل ذلك مما يوافق فيه مقاييس المعتزلة قد رجع عنه في هذين الكتابين . وسواء في هذا الكتاب أو ذاك فإن للأشعري إشارات صريحة في اتباعه للسلف سيما الحنابلة، فلم تكن عبارته الآنفة الذكر مزورة كما ظن الاستاذ بدوي، فجميع القرائن دالة على أنه يذهب ذلك المذهب بالخصوص. فكتابه (مقالات الإسلاميين) مليئ بذكر الفرق لكل مذهب من مذاهب الإسلاميين سوى مذهب أهل السنة والحديث الذي خصّه من غير فِرق وطوائف، مما يعكس الظن بمرضاته عنهم دون غيرهم من المذاهب الأخرى. وقد نقل قولهم بأنهم قائلون بأن الله: «ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: ((الرحمن على العرش إستوى)) ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: إستوى بلا كيف، وأنه نور كما قال تعالى: ((الله نور السماوات والأرض))، وأن له وجهاً كما قال الله: ((ويبقى وجه ربك))، وأن له يدين كما قال: ((خلقت بيدي))، وأن له عينين كما قال: ((تجري بأعيننا))، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً))، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله (ص)» .
أما في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) فقد صرح في فصل عنوانه (باب في إبانة قول أهل الحق والسنة): «قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا عليه السلام، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم» .
وهو في هذا الكتاب اتبع طريقة السلف في إثبات الوجه والعين واليدين وال إستواء على العرش طبقاً لظواهر الآيات القرآنية، رغم قوله بأنها ليست بكيف إستناداً إلى نفي المماثلة بين الشاهد والغائب. وأيضاً فإنه لم يأوّل سائر الصفات التي ذكرها القرآن والحديث، والتي آمن السلف بها كما هي، فهو يعلن تصديقه وإيمانه بقوله: «ونصدق بجميع الروايات التي ثبّتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب يقول: (هل من سائل، هل من مستغفر).. ونقول أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال: ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً)) وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف شاء كما قال: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) وكما قال: ((ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى))..» .
هذا بالإضافة إلى أن الأشعري قام بتوجيه بعض الآيات القرآنية كما ذهب إليه الإمام إبن حنبل، مثل توجيهه للآيات المتعلقة بمشكلة خلق القرآن وقِدمه، كقوله تعالى: ((ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث)) ، وقوله: ((ألا له الخلق والأمر)) ، وقوله أيضاً: ((لله الأمر من قبل ومن بعد)) .
لكن إذا كان الأشعري في كتابه (الإبانة) قد سلك مسلك البيان مثلما فعل السلف من قبل، فإنه في كتابه (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) أظهر باعه في الجدل والتفكير الكلامي، وإن كان هذا لم يخرجه عما ذهب إليه من مضمون سلفي خاص بالعقيدة، فهو أيضاً يذهب في هذا الكتاب إلى إتّباع ما يقوله أهل الحديث من الإعتقاد، رغم أن فيه ما يختلف معهم في طريقة التفكير والاستدلال. لهذا وضع رسالته المسماة (في إستحسان الخوض في الكلام) للرد عليهم بهذا الخصوص من الطريقة.
على هذا فبالرغم من أن كتاب (اللمع) للأشعري هو كتاب عقلي على طريقة الإعتزال العقلية، إلا أنه لا يخلو من مسحة البيان، سيما وأن الهدف من تصنيفه هو لجعل العقل في خدمة البيان. فهو ينتهز الفرص - أحياناً - لتأييد آرائه من القرآن. فمثلاً أنه قدّم دليلاً على وجود الله تعالى عبر ملاحظة الإنسان لنفسه كيف تحصل فيه التطورات منذ كان نطفة وهو يعلم أنه لم يخلقها ولم يدبر أمرها، ثم أيّد ذلك بقوله تعالى: ((أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)) ، وعلّق عليه بالقول: «فما إستطاعوا أن يقولوا بحجة أنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون، ومع كراهتهم له فيكون. وقد قال الله تعالى منبّهاً لخلقه على وحدانيته ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) ، بيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبّر دبّرهم». وكذا فعل حين استدل على عدم مشابهة الله تعالى للمخلوقات، فاعتبر أن مشابهته لها من أي وجه يؤول إلى كونه حادثاً من الوجه الذي يشابهه فيها، ولو كان حادثاً لإستحال أن يكون قديماً، فأيد ذلك بهاتين الآيتين: ((ليس كمثله شيء)) .. ((ولم يكن له كفواً أحد)) . وكذا هو الحال حين استدل على وحدانيته تعالى، فهو قد منع من وجود إلهين، إذ لو أراد أحدهما إحياء إنسان وأراد الثاني إماتته، فإنه يستحيل أن يتحقق المرادان فيصبح الإلهان عاجزين، والعاجز ليس بإله ولا قديم، وأيد ذلك بقوله تعالى: ((لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا)) ، مع أنه لم يتعرض إلى إحتمال أن يتفق الإلهان على إتيان المراد . وشبيه بهذا الموقف ما اتخذه في رسالته (في إستحسان الخوض في الكلام) حيث ذكر هذه الآيات القرآنية: ((لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا)).. ((ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)) .. ((أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم)) .. ثم بعد ذلك اعتبر كلام المتكلمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع إنما مرجعه إلى هذه الآيات بالذات.
على أن هذه المسحة البيانية للأشعري نجدها متداخلة مع الممارسات العقلية التي شحن بها كتابه (اللمع). كما نجد في المقابل أن كتابه (الإبانة) قد شحنه بالصور البيانية المستخلصة من الخطاب الديني، مثل تلك المتعلقة بالصفات الإلهية؛ كاليدين اليمينين والعينين والأصابع والمجيء والنزول والإقتراب وغيرها مما ليس بكيف ولا بحد. لكن رغم هذه الصور البيانية فإن الكتاب لا يخلو من مضامين الممارسة العقلية، كالذي جاء في فصل (عدم خلق القرآن) وفصل (الإرادة) وغيرهما .
هكذا لقد مارس الأشعري طريقة العقل في البيان، كما مارس طريقة البيان في العقل، لكنه في جميع الأحوال أراد أن يكون العقل في نصرة البيان، وهو ما يعني أن النص ظاهر وواضح لا يحتاج إلى «الآخر» سوى الدعم والتأييد. وهو في ممارسته المزدوجة المشار إليها لم يتعرض إلى علاقة التقنين بين النص والعقل إلا بشكل خافت ومجمل. فهو يعترف بسلطة العقل المستقلة فيما يخص الحوادث الخارجة عن دائرة الشرع والنص، وإن كان لها مساس بتأسيس الخطاب الديني من الخارج؛ كإثبات الخالق والرسول. فهو يقول: «ينبغي لكل عاقل مسلم أن يرد حكمها - الحوادث - إلى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك، لأن حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أصول الشرع الذي طريقه السمع، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شيء من ذلك إلى بابه ولا يخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات..» .
كما للأشعري بعض الممارسات التوجيهية للنص تجعله يقوم بعملية التأويل كلما رأى «حجة أو دلالة» ومنها حجة البديهة ودلالة الحس. فمثلاً أنه منع حمل الآية ((وجوه يومئذٍ ناضرة، إلى ربها ناظرة)) ، بمعنى إلى ثواب ربها ناظرة، وعلل ذلك بأنه لا يجوز العدول بالكلام عن الحقيقة إلى المجاز ما لم تكن هناك حجة أو دلالة. في حين أنه قام بتأويل آية ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض)) ، ولم يحملها على الحقيقة، وذلك لأن الجماد ومنه الجدار يستحيل عليه الإرادة، فيلزم من هذا تأويل الآية وحملها على المجاز .
والأشعري وإن كان قد مارس العقل لنصرة البيان، إلا أنه مع ذلك أقام البيان على العقل، مما يجعلنا ندرك أنه بين أمرين: فإما أنه اختار نموذجاً بيانياً ثم سعى إلى دعمه بطريقة العقل.. أو أنه اختار نموذجاً عقلياً فقام بتأييده بالبيان.
والحقيقة أن الأمرين يصدقان معاً بإعتبارين مختلفين. فمن حيث الواقع والظاهر هو أنه مارس الشكل الأول، سيما مع (المشكل الوجودي) المتمثل بالصفات الإلهية، إذ مارس توظيف العقل لخدمة البيان، وهو ما يجعل نظريته بيانية، إذ كان يدعو إلى نفس مطارح السلف البيانية بطريقة عقلية. أما من حيث (المشكل المعياري) المتمثل بعلاقة الخالق بخلقه، فقد فعل العكس، إذ عمل على توظيف البيان لخدمة العقل. وعليه فنحن نعتبر الطرح الأخير (المعياري) هو ما يعبّر عن حقيقة ما يمتاز به الأشاعرة من أصل مولّد عقلي. مما يعني أن لمذهب الأشعري علاقة مزدوجة بالبيان والعقل. فهو لم يكن عقلياً على شاكلة المعتزلة ومنهجهم في الفهم والتفكير، لأنه صاحب «بيان» على خلاف المعتزلة، كما أنه ليس بيانياً على طريقة السلف، لكونه صاحب منطق وتنظير، وتنظيره مستمد من العقل أساساً.
على هذا فالمحاولة المزدوجة التي مارسها هذا المتكلم جعلته مرفوضاً من قبل أصحاب العقل كالمعتزلة، وأصحاب البيان كالحنابلة. فالمعتزلة اعتبروا محاولته هدماً للعقل وإنكاراً لقيمته. أما الحنابلة فقد نفروا منها نفوراً حاداً، ونُقل أن الأشعري حاول أن يسترضي إمام حنابلة بغداد المدعو (البربهاري) ليطلعه على مناصرته لأهل السنة والسلف، إذ قصده إلى بيته واطلعه على ردوده لمختلف المذاهب كالمعتزلة واليهود والنصارى وغيرها، وحينما أتمّ كلامه أجابه البربهاري بقوله: «ما أدري مما قلتَ قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل». فخرج الأشعري منه وصنف كتاب (الإبانة)، إلا أن البربهاري لم يقبل منه ذلك حتى في هذه المرة التي حاول فيها الأشعري أن يظهر بمظهر السلف وطريقتهم البيانية الخالصة .
وربما شعر الحنابلة بأن ما قام به الأشعري وإن كان يؤيد مساعيهم في تقرير ما استقر عليه السلف، سيما الإمام أحمد بن حنبل، إلا أن ما فعله يُعد مغامرة كبيرة من الناحية المنهجية، لكونه لا يستغني في طريقته عن الإطار العقلي، سيما وقد مدح علم الكلام ووضع لأجل ذلك رسالة ردّ فيها على كل الذين تجنبوا هذا العلم، وهو ما لا يرضي الحنابلة حتى لو كان مقرراً لمذهبهم السلفي. فهو في هذا المنهج قد ابتدع باب الكلام من موقع سلفي، وهو ما يعني فتح باب الجدل وإثارة الشبه والإبتعاد عن مسلك السلف في التسليم والتصديق، وبالتالي كانت طريقته أقرب للعقل منها للسلف. بدلالة أن الذين ظهروا بعد الأشعري أخذوا يقتربون مع الزمن لنصرة العقل على حساب البيان شيئاً فشيئاً، فتحولت الطريقة الأشعرية بمرور السنين، مما هي طريقة بيانية تجعل العقل في خدمة البيان ونصرته، إلى طريقة عكسية تفتح الباب أمام العقل وتوسع من دائرته، مع تضييق دائرة البيان منهجاً ورؤية. فربما هذا ما كان يتوقعه الحنابلة الذين ثاروا على الأشاعرة وهي في مهدها.

ب ـ من التأسيس البياني إلى التأسيس العقلي
إذا كان الأشعري لم يتعرض إلى منطق العلاقة التقنينية بين العقل والبيان إلا بشكل خافت ومجمل، فإن التطورات التي حملها أتباعه من بعده كانت مثقلة بهذه العلاقة. فقد أخذت الأخيرة بالظهور والإتساع شيئاً فشيئاً، منذ القرن الرابع وحتى نهاية القرن السادس الهجري. فمن المعروف أن منشأ التنظير لعلاقة العقل بالنقل وسط الأشاعرة قد بدأ عند الباقلاني الذي يعدّ مؤسساً لطريقة المتقدمين؛ لوضعه بعض الأسس التي تحكم هذه العلاقة. فقد وضع قاعدة (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول) كمنهج يجعل من الأدلة ذاتها واجبة لا على الصعيد المعرفي فحسب، بل حتى على صعيد المعيار الديني أيضاً، إذ تفرض القاعدة على المستدل أن يذعن وينصاع إلى الأدلة لما تفضي إليه من نتائج محددة، وكتكليف يجب الإعتقاد به مثلما يجب الإعتقاد بالنتائج المتمخضة عنها. لذلك وُضعت المقدمات العقلية الثابتة كأساس لبناء النقل والبيان. فهي مقدمات وإن كانت ذات طابع وجودي غرضها إثبات الخالق تعالى، من قبيل إثبات الجوهر الفرد والخلاء والعرض لا يقوم بالعرض ولا يبقى زمانين متتاليين وما إلى ذلك من الإعتبارات الوجودية، لكنها تنطوي على دوافع معيارية، فهي على قول إبن خلدون موضوعة «تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب إعتقادها» ، أو هي موضوعة من أجل تقرير أمور لا يتم الشرع إلا بها، سيما في ما يتعلق بإثبات القدرة الإلهية. كما أنها محكومة بمعيار التكليف تبعاً لنهج القاعدة السابقة المطروحة كسلطة لتحديد النتائج الثابتة أو تبريرها.
هكذا تبدأ عملية التنظير الفعلي لدى الأشاعرة؛ منذ الباقلاني الذي يعد مؤسساً لطريقة المتقدمين إستناداً إلى قاعدته (بطلان المدلول) الآنفة الذكر، والتي ظهر مثلها لدى الشريف المرتضى من الإمامية الإثنى عشرية، فهو قد ذهب خلال القرن الخامس الهجري إلى أن كل ما لا دليل على إثباته فهو منفي .
لكن العملية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد جاء الغزالي متأثراً باستاذه الإمام الجويني فأسس النهج المسمى بطريقة المتأخرين، حيث أدخل «المنطق» كعنصر هام يقضي به على منهج الباقلاني السابق. إذ بهذه الطريقة الجديدة يصبح من المنطقي خطأ قاعدة إبطال المدلول ببطلان الدليل، أو أن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول، فمن الممكن إثبات المدلول بدليل آخر غيره، وكذا من الممكن أن يكون المدلول غير خاضع للدليل أصلاً.
فمن الناحية المنطقية أن المدلول يبقى معلقاً حتى لو بطلت جميع صور الأدلة الممكنة، فليس من الضروري أن يتوقف وجود المدلول على وجود الدليل أو الدال عليه، فقد يكون المدلول شيئاً في ذاته لا يُنال بالدليل مهما كان نوعه، وبالتالي لا يصح نفيه لمجرد عدم إمكان الاستدلال عليه. بل من المسلمات ما لا تخضع للأدلة، وقد كان الغزالي على وعي بذلك عندما قرر - كما مرّ علينا - بأن «من ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة».
ويمكن إعتبار طريقة المتأخرين لحظة عطف جديدة في تاريخ النظام المعياري، فقد تأسست العلاقة الخاصة بين المنطق من جهة، والشريعة والمعيار من جهة ثانية، بعد أن كان المنطق عند الفلاسفة أداةً مكرسة لمعرفة الوجود. فالوضع الجديد وإن لم يفقده مركزه الأول كأداة معرفية للوجود، لكنه أضاف إلى ذلك مباحث أخرى جديدة. وعليه تمّ تصوير المنطق بأنه أداة شكلية تقبل التلبيس بأي مادة، سواء كانت وجوداً أم شريعة أو معياراً. وعُرّف «بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، يسبر به الأدلة منها كما يسبر ما سواها».
وسنرى أن هذه الخطوة قد سبق إليها إبن حزم الأندلسي وإن لم يكن له ذلك التأثير على من جاء بعده مقارنة بالغزالي.
وطبقاً للفهم السابق خالف الأشاعرة المتأخرون سلفهم المتقدمين في الكثير من قواعد علم الكلام ومقدماته، وعلى رأسها قاعدة الباقلاني السالفة الذكر .
هكذا ظهر التمييز بين توظيف المنطق لتأسيس الخطاب وقضاياه المعيارية، وبين ما كان يعتبر جزءاً من الفلسفة؛ الأخذ به يعني الأخذ بها، الأمر الذي تحرّج منه المتقدمون. لكن هذا الانتزاع للمنطق من الفلسفة لم يدم، إذ أخذ المتأخرون يهتمون بكتب الفلسفة ذاتها؛ مما أوقعهم في التأثر بمسائلها، كما حصل مع الغزالي ومن بعده الفخر الرازي، بل تطور الحال بعدهما فاختلطت أمور الفلسفة بالكلام والتبست مسائلهما، كالذي حصل مع البيضاوي في (الطوالع) والأيجي في (المواقف) .
على أن توظيف المنطق في القضايا الدينية وإن كان له بالغ الأثر على المتأخرين من الأشاعرة، لكن ذلك لم يكن له تأثير على تقنين العلاقة المباشرة بين العقل والنص. مع أن العمليتين قد سارتا جنباً إلى جنب، فمثلما ظهر الإنقلاب في المنهج الاستدلالي من طريقة المتقدمين إلى طريقة المتأخرين؛ فكذا ظهر إنقلاب آخر على صعيد علاقة العقل بالنص، إذ تحول هذا الإرتباط من علاقة عقل ببيان إلى علاقة عقل بمتشابه، وهو ما أفسد صورة البيان وأخلّ بالمركز الذي كان يحضاه. فقد سبق أن أشرنا إلى أن البيان عند الأشعري كان مركز الصدارة في العلاقة التقنينية مع العقل، لكن الأمر مع أتباعه ومنذ الجويني (المتوفى سنة 478هـ) أخذ يتحول شيئاً فشيئاً إلى ضده، فلم يعد «البيان» بياناً، بل تحول إلى «متشابه» يقتضي التعامل معه ملاحظة ما يفرزه العقل ويقرره من أحكام قبلية. واستمر هذا الحال بالتطور تدريجياً حتى نهاية التقنين على يد الفخر الرازي.
فإذا عدنا إلى الأشعري رأيناه ينظر إلى الخطاب الديني كبيان لا يختلف في هذه الناحية عمن سبقه من السلف وعلى رأسهم إبن حنبل، فهو كثيراً ما يبرر النتائج التي يتوصل إليها من خلال إعتبار الشريعة بينة ببيان اللغة العربية، فلا يتراجع عن هذا البيان للأقاويل العقلية التي بثّها المعتزلة ومن على شاكلتهم، ولا يتقبل العدول عن ظاهر النص إلا بحجة كحجة الإجماع مثلاً، ففيها يعدل عما هو ظاهر إلى ما يقره الإجماع، وهو في هذه الحالة لا يخرج عن دائرة البيان ذاته، فالإجماع إنما يعدّ أصلاً وحجة لكونه كاشفاً عن البيان الشرعي، أو أن عليه دليلاً من الخطاب الديني، كقول النبي (ص) كما في الرواية: «لا تجتمع أمتي على خطأ».
وهو على هذا الأساس لم يتقبل تأويل الآيات الخاصة بالصفات الإلهية، والتي منها صفة اليدين، كما جاء في قوله تعالى: ((لما خلقت بيدي)) ، إذ قرر زيف الفضول العقلي من خلال الإحتماء ببيان اللغة، فقال: «وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل (عملت كذا بيدي) ويعني به النعمة. وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل (فعلت بيدي) ويعني النعمة». فطبقاً للبيان اعتبر معنى (بيدي) هو «إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين، ولا يوصفان إلا بأنهما يدان ليستا كالأيدي» .
وتعويل الأشعري على البيان جعله يتمسك بظاهر النص ما لم تكن هناك حجة أقوى منه، غالباً ما تكون منتزعة من البيان ذاته بعيداً عن الفضول العقلي الذي أنكره، طالما أن الحركة لا تخرج عن دائرة فهم الخطاب الديني. فهو عندما لا يأخذ بظاهر الآيات التي تبدي بأن لله أيدي كما في قوله تعالى ((مما عملت أيدينا)) ، لا يفعل ذلك لإعتبارات المشكل العقلي كما هو جار في الدائرة العقلية، بل لكونه يرى وجود حجة بيانية أقوى من هذا الظاهر، فيقول: «قد أجمعوا على بطلان قول من أثبت لله أيدي، فلما أجمعوا على بطلان قول من قال ذلك وجب أن يكون الله عز وجل ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين، لأن الدليل قد دلّ على صحته للإجماع، وإذا كان الإجماع صحيحاً وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين، لأن القرآن على ظاهره، ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة، فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر، ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقة لا يزول عنها إلا بحجة» . وهو يؤكد هذه الناحية مرة أخرى بقوله: «حكم كلام الله عزّ وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة» .
هكذا فهو لا يعدل عن الظاهر إلا بحجة، وغالباً أنه يقصد بها تلك التي تقع ضمن دائرة البيان، وقد تشمل الحجة عنده مقتضيات البديهة والحس أحياناً، وهي في النتيجة لا تخرج عن الطابع البياني مما تعارف عليه في استعمال اللغة العربية، وقد مرّ علينا شيء من ذلك، كما في قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض)) ، حيث حمل هذه الآية على المجاز لا الحقيقة، وذلك لأن الجماد ومنه الجدار يستحيل عليه الإرادة؛ مما دفعه إلى تأويلها إستناداً إلى بداهة الحس .
ويبدو أن الأشعري لا يريد بالحجة بما تشمل حجة العقل الاستدلالي كما يمارسه أصحاب الدائرة العقلية. فالذي صرح به هو أن العقل يتحدد نشاطه ووظيفته بما هو خارج عن نطاق فهم الخطاب، فهو معني بآلية تأسيس الخطاب من الخارج لا الداخل. لذلك فهو يعترض على النشاط العقلي في الفهم ليؤيد البيان ويحتمي به، فيصرح وهو بصدد بحث مسألة اليدين قائلاً: «.. من أين يمكن أن يعلم بالعقل أن يفسّر كذا وكذا، مع أنا رأينا الله قد قال ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)).. ((لسان الذين يلحدون أعجمي وهذا لسان عربي مبين)).. ((إنّا جعلناه قرآناً عربياً)).. ((أفلا يتدبرون القرآن))، ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه.. وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل، وليس في لسانهم ما ادعوه» .
لكن رغم ذلك سنرى أن الأشعري مارس آلية التأسيس العقلي للفهم مثلما مارسها المعتزلة، ولم يتقيد بحدود البيان كما هو الحال عند البيانيين، وهو ما يتضح عند معالجته للمشكل المعياري الذي نال من الموافقة لدى الأشاعرة الأتباع ما لم ينله جناح الأشعري الآخر المتمثل بمعالجته البيانية للمشكل الوجودي.
كان ذلك مع الأشعري، أما مع أتباعه فقد أخذ البيان بالضمور شيئاً فشيئاً، إذ تحول بالتدريج إلى «متشابه» لإعتبارات العقل الذي احتل مركز الصدارة. وعند هذا الحد تساوى المعتزلة والأشاعرة في تقنينهما لعلاقة العقل بالنص، رغم إختلاف الإعتبارات العقلية بينهما. فقد سبق أن عرفنا بأن تاريخ هذه العلاقة يمتد إلى زمن صراع الجهمية وأوائل المعتزلة من جهة، والسلف من جهة ثانية. لكن مع ولادة الأشاعرة بداية القرن الرابع الهجري تشكل موقف جديد إزاء الموقفين الآنفي الذكر، إذ الجدّة فيه هو أنه ذو إعتبارين، فهو من جانب يتأسس على الإعتبارات العقلية، لكنه من جانب آخر يجعل نتائجه في خدمة البيان، وبالتالي فهو يعبّر عن دعم البيان السلفي كما لدى الحنابلة. فهذا هو حال الأشاعرة عند ولادتها. أما مع مرور الزمن فقد تحولت الطريقة لدى هذه الفرقة من توظيف للعقل لصالح البيان، إلى نهج معاكس غايته الانتصار للعقل على حساب البيان، فلم يُنظر للنص بأنه محض بيان، بل أُعتبر أمراً متشابهاً. وبذلك تساوى الأشاعرة مع نظرائهم المعتزلة، فدخلوا - جميعاً – ذات الحلبة من الدائرة العقلية التي كان همها الانتصار للعقل برفض البيان وتكريس التشابه.
وعلى العموم أن إيجاد الصيغة الكلية لعلاقة العقل بالنص وتكريس التشابه لدى الدائرة العقلية؛ لم يظهر دفعة واحدة، فتاريخ هذه الدائرة يحمل عدداً من المخاض المتعلق بالنص. فلم تكن لحظة ولادة العقل المعياري هي ذاتها لحظة نهايته، أو أن هذا العقل لم يفرغ جميع ما لديه من حمولة دفعة واحدة في علاقته مع النص. فقد عرفنا بأن البواكير الأولى للدائرة العقلية أفرزت عدداً من الإعتقادات الخاصة، ومن بينها الإقرار بالحجة العقلية وكون العقل مقدماً على الشرع؛ لكون الأخير لا يثبت إلا به، وأن للعقل واجبات ومحرمات ذاتية بغض النظر عن الواجبات والمحرمات الشرعية، فضلاً عن الممارسات العقلية المختلفة وما أسفر عنها من تأويلات للنص بتحويله إلى متشابه. ومع كل هذه الافرازات فإن العلاقة التقنينية للعقل مع النص أخذت تتطور بعد القرن الرابع الهجري، إذ بدأ التنظير لتكريس مبدأ التشابه في النص جماعياً، سواء لدى الأشاعرة أو خصومهم التقليديين من أصحاب الدائرة العقلية، كما هو الحال مع الجويني والغزالي والقاضي الهمداني والشريف المرتضى والفخر الرازي وغيرهم.
هكذا فإن التقنين الذي تمّ إجراؤه على إشكالية العقل والنص لم يكن دفعة واحدة منذ بداية التاريخ الفعلي للفكر الإسلامي. فالنظام المعياري وإنْ تعلّق بأهداب نظرية التكليف منذ أن عرف الفكر الإسلامي وجوده، إلا أنه لم يعِ علاقة العقل بالنص كما وعاها في ما بعد. فقد كانت هناك علوم ومذاهب بعضها يقوم على العقل، وبعض آخر يقوم على النقل، كما أن منها ما يقوم على العقل والنقل معاً، وكانت العلاقة التي تربط هذين الكيانين؛ تنطوي أحياناً على التعايش وربما التأسيس، وأخرى على الإستقلال، وثالثة على التباعد والنفور؛ طبقاً للدوافع الدينية والهواجس الآيديولوجية الخاصة. لكن سواء بهذه العلاقة أم تلك لم يظهر في أول الأمر وعي إبستمولوجي بانفصال هذين الكيانين كأمرين يحتاجان إلى نوع من التحليل والمعالجة ليمكن تبرير حالات الوصل أو الفصل بينهما معرفياً ومنطقياً، وهو الحد الذي أخذ تكامله عبر القرون بالتدريج، والذي أفضى في نهايته إلى الوعي بوجود نوع من التناقض المعرفي وتخلخل حاد في تلك العلاقة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن