ابو العيناء ظريف الظرفاء

أحمد صبحى منصور

2010 / 7 / 23

ابو العيناء ظريف الظرفاء
مقدمة
1 ـ اختلاق الأكاذيب ونسبتها للنبى محمد عليه السلام كان سلعة رائجة منذ العصر الأموى واستمرت بعده ، وتم تدوين تلك الأحاديث فى العصر العباسى جنبا الى جنب مع استمرار الروايات الشفهية فيما كان يعرف بمجالس العلم وحلقات القصص فى المساجد . وبعض من لم ينبغ فى صناعة الكذب هذه اختار ان يمارس هوايته فى الكذب والتأليف فى ناحية أخرى ، هى الكذب فى الروايات التاريخية ، وبعضهم تخصص فى سبك الروايات الكوميدية الضاحكة ، فاكتسب بها مكانة وشهرة فى عصره ، ربما تفوق بها على الرواة الآخرين الكاذبين على خاتم المرسلين ، أو ناقلى ذلك الكذب.
2 ـ وقد عرضنا سابقا لسيرة أشعب الطامع الذى اشتهر بالفكاهة و التطفل على الناس والتسول منهم حيث لم يهتم برواية الأحاديث عن مشاهير التابعين. ونعرض اليوم لشخصية ذائعة الصيت فى العصر العباسى ، إنه ابو العيناء ، الذى كان مقدرا له أن يصير من كبار علماء الحديث ولكن الظروف جعلته يستعمل موهبته فى الكذب والاختلاق فى مجال آخر، هو تأليف النوادر.
وحسنا فعل .
أولا :
1 ـ كان (محمد بن القاسم بن خلاد ) يعيش عيشة هانئة في البصرة ، ثم جال بخاطره أن يشترى عبدا فذهب إلى سوق النخاسين فوجد عجبا ؛ وجد غلاما يبدو عليه النباهة يساوى ثلاثمائة دينار وينادى عليه بثلاثين دينارا فقط. رآها فرصة لا تعوّض، فطمع في شراء العبد فاشتراه بثلاثين .
2 ـ وكان الرجل يبنى له دارا جديدة فى البصرة ، فأعطى غلامه الشاب عشرين دينارا لكي ينفقها على العمال البنائين ، فغاب الغلام ، ثم فوجئ به يأتيه بعد أيام وقد أنفق من العشرين دينارا عشرة دنانير اشترى بها لنفسه ثيابا فاخرة ، وقبل أن يفيق محمد بن القاسم بن خلاد من دهشته وقبل أن ينطلق فى غضبه وثورته قال له العبد : يا مولاي لا تعجل على !!.. فان أهل المروءة مثلك لا يعيبون على غلمانهم إذا فعلوا ما يعود بالخير عليهم ..
سكت الرجل وكظم غيظه وقال في نفسه حانقا : أنا اشتريت الأصمعي ولم أعلم .!!

3 ـ وأراد الرجل أن يتزوج سرا امرأة يحبها ، وكتم الأمر عن زوجته ابنة عمه وهى صاحبة المال والدار, فقال الرجل للغلام : أفيك خير؟ فقال: نعم.. فأطلعه على رغبته في الزواج بمن يحب ، وسأله أن يكتم الخبر عن زوجته، وتزوج وأعطى الغلام دينارا ليشترى به طعاما فيه نوع من السمك المعروف بالهازبى , فرجع الغلام وقد اشترى نوعا آخر من السمك اسمه مارماهى , فاغتاظ الرجل وقال له : أليس قد أمرتك أن تشترى هازبى ؟ فقال الغلام : بلى , ولكن قرأت أن أبقراط الحكيم يقول أن السمك الهازبى يصيب الآكل بالسوداء ويمدح السمك المارماهى . فاشتد غضب الرجل وشتم الغلام قائلا : أنا لم أعلم أنى اشتريت الحكيم جالينوس. وقام إليه فضربه عشر مقارع . فلما فرغ من الضرب إذا بالغلام يأخذ المقرعة وينهال بها ضربا على سيده سبع مقارع ، ثم يقول له في هدوء : يا مولاي .. يقول الفقهاء أن تأديب الغلام بثلاث مقارع فقط , وقد زدت عليها سبعا فضربتك سبعا قصاصا حتى لا تقاسى العذاب يوم القيامة : !! فجن جنون الرجل فرماه بحديدة فشج رأسه .

3 ـ فانطلق الغلام إلى الزوجة الأولى ابنة عم الرجل وقال لها : يا مولاتى , إن الدين النصيحة وأنا أعلمك أن مولاي تزوج وطلب منى كتمان الأمر عليك فلما قلت له لابد من تعريف مولاتى الخبر ضربني بالمقارع وشج رأسي !... فثارت الزوجة ومنعت الرجل من دخول الدار وأمسكت يدها في النفقة عنه ، واستعر الخلاف بينهما إلى أن رضخ الرجل وطلق الزوجة الثانية فأعادته الزوجة إلى بيتها .
4 ـ عاد الرجل الى البيت ولكن أصبح للغلام فيه نفوذ ظاهر حتى كانت الزوجة تلقبه بالناصح , ولم يعد بوسع الرجل أن يتكلم معه , واشتد غيظه منه , فقال في نفسه : أعتقه وأستريح منه فلعله يمضى بوجهه عنى .. فلما أعتقه عاد إليه الغلام ولزم صحبته قائلا : الآن وجب حقك علىّ. أى سيخدمه متطوعا .
5 ـ واشتد كرب الرجل بصحبته وفكّر فى طريقة للتخلص منه فأغراه بالحج ، فوافق الغلام ، فقام الرجل وجهز له النفقة والزاد فسافر الغلام للحج , وتنفس الرجل الصعداء واستراح , ولكن راحته لم تطل , إذ فوجئ بالغلام يعود إليه بعد عشرين يوما ويقول له : قطع اللصوص الطريق علينا وفكرت فإذا الله تعالى يقول " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " وكنت غير مستطيع , وفكرت فإذا حقك على ّ أوجب من الحج فرجعت إليك !!
6 ـ ولبث الرجل يفكر في طريقة أخرى يتخلص بها من ذلك الغلام الثقيل , فأغراه بأن يذهب للثغور يجاهد الروم , وأقنعه بذلك وجهز له النفقة والسلاح والفرس والزاد... فلما غاب عنه أسرع وباع كل ما يملك في البصرة ورحل عنها إلى بغداد خوفا من أن يرجع إليه ثانيا .

7 ـ وحين وصل الرجل إلى بغداد ذاع صيته فيها حتى أصبح ضيفا ونديما في مجالس الخلفاء والوزراء والأدباء .. ونسى الناس اسمه الحقيقي ( محمد القاسم بن خلاد ) وانشغلوا بنوادره وأجوبته المفحمة وجرأته في القول ، وانشغلوا أيضا بلقبه الجديد " أبو العيناء " الذي كان أشهر الظرفاء في القرن الثالث الهجري .. مع إصابته بالعمى ودمامته .
ثانيا :

1 ـ وكان من ابرز نوادر أبى العيناء تلك القصة السابقة التي يحكيها عن نفسه يعلل فيها سبب رحيله عن البصرة إلى بغداد ، ومنها نعرف أن ذلك الغلام الثقيل هو السبب الذي جعل أبا العيناء يرتحل إلى بغداد حيث عالم الشهرة والخلود ..
وتلك القصة التي رواها أبو العيناء عن سبب مغادرته البصرة نرى أنها تحيطها الشكوك برغم جاذبيتها وطرافتها،والأرجح أن أبا العيناء اصطنعها اصطناعا ضمن ما رواه عن نفسه من نوادر تجلب له الشهرة في ليالي السمر وندوات الأدب في قصور الخلفاء والوزراء ..
2 ـ لقد جاء أبو العيناء إلى بغداد في خلافة المتوكل ، ولم يشتهر في عهده إذ كان معروفا استيلاء الوزير الفتح بن خاقان على قلب الخليفة المتوكل ومجلسه ، وبنفس القدر كان الخليفة مشغولا بجاريته "قبيحة" أشهر نساء عصرها في الجمال وأم ابنه المعتز الذي تولى الخلافة فيما بعد , أكثر من ذلك كان الخليفة المتوكل محاطا بقطيع من أجمل الجوارى بلغ عددهن ثلاثة آلاف جارية ، وقد ( وطأهن ) جميعا حسب رواية المسعودى الذى لم يكن بعيدا عن عصر المتوكل .
خليفة من هذه النوعية ـ اقتصرت حياته على معاقرة الخمر مع نديمه ووزيره الفتح بن خاقان والطواف على آلاف الجوارى و مجابهة مكائد النساء ـ من المستحيل أن يكون لأبى العيناء وجود في تلك الحلقة الضيقة التي تحيط بهذا الخليفة .. ومستحيل أن يرتقى الى التعرف بالخليفة بمجرد قدومه لبغداد.
3 ـ والواقع أن شهرة أبى العيناء أتت بعد عصر المتوكل بعد جهاد عنيف واتصالات مكثفة ودءوبة مع مجتمعات الأدباء والشعراء والكتاب سمحت له في النهاية بأن يحوز شهرة تؤهله للجلوس مع الوزراء والخلفاء ..
وحين أتته فرصة الشهرة – وربما قبلها روى عن نفسه روايات متناقضة قالها في فترات متباعدة حسب الأحوال , وذلك التناقض يعطينا حجة التشكك في حدوث تلك الروايات أو بعضها على المستوى التاريخي .
4 ـ وعلى سبيل المثال فان أبا العيناء يروى روايتين متناقضتين عن بدء علاقته بالخليفة المتوكل عندما جاء أبو العيناء إلى بغداد , والمفهوم منهما معا أن قصور الخلافة كانت تترقب مجيء أبى العيناء من البصرة إلى بغداد , وذلك مالا يتفق مع الواقع التاريخي أو مع العقل .
وقد وردت الروايتان في (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي ونقلهما عنه ابن الجوزى في (المنتظم) وتقول إحداهما أن الخليفة المتوكل قال لندمائه : " أشتهى أن أنادم أبا العيناء لولا أنى ضرير ، فقال أبو العيناء: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة ونقش الخواتيم فإني أصلح.." أي أن أبا العيناء رضي واستجاب لرغبته الخليفة في مسامرته ومنادمته. ولكن هناك رواية أخرى تقول إن المتوكل قال له قد أردتك لمجالستي ، فقال له أبو العيناء .. لا أطيق ذلك وما أقول ذلك جهلا بما لي في هذا المجلس من الشرف ولكني رجل محجوب. والمحجوب تختلف إشارته ويخفى عليه إيماؤه ويجوز على أن أتكلم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أميز هذين هلكت..
ومع التأكيد بأن أبا العيناء لم يلق الخليفة المتوكل يظهر لنا كذب الروايتين مع تناقضهما. وواضح أن أبا العيناء قد اختلقهما وقت شهرته ، وبعد موت الخليفة المتوكل .
5 ـ ويذكر أبو العيناء روايتين مختلفتين عن سبب إصابته بالعمى ، يقول في إحداهما إن الخليفة أبا جعفر المنصور استدعى جد أبى العيناء واسمه خلاد وبعثه جاسوسا يأتي له بأخبار محمد النفس الزكية حين ثار بالحجاز ، وحين نجح في مهمته وانكشف أمره لدى السائرين دعا عليه عبد الله بن الحسن بالعمى هو ونسله ،ومن هنا فان كل صحيح النسب من نسل خلاد يكون أعمى أو يصاب بالعمى بعد أن يكبر .. هكذا يقول أبو العيناء .
وهناك رواية أخرى لأبى العيناء تقول إن جده الأكبر لقي الإمام على بن أبى طالب فأساء مخاطبته فدعا عليه بالعمى هو وذريته ،فكل من أصابه العمى من الذرية فهو صحيح النسب ..!
ثالثا :
1 ـ حين جاء أبو العيناء إلى بغداد كان يعد نفسه لمستقبل عظيم ولكن كانت الصعوبات هائلة ، والمنافسة على الوصول لمجالس (الأكابر ) على أشدها فى عصر الترف والمسامرات والمجون . وأين أبو العيناء بدمامته وإصابته في بصره بآلاف الأدباء والشعراء الذين يزدحمون على أبواب الوزراء والخلفاء ؟
2 ـ ثم كان الجاحظ وقتها في أوج شهرته وتقدمه بين الأدباء، وهو الجواد الرابح بين الأدباء والمتكلمين ، وكان متعذرا أن تتسع القمة لأبى العيناء بجوار الجاحظ .
ولكن كانت لأبى العيناء مؤهلاته الخاصة التي لا يباريه فيها احد من أهل عصره حتى الجاحظ .
صحيح أن الجاحظ كان أستاذ النوادر ولكن الجاحظ كان كاتبا مؤلفا يلازم بيته ومكتبته معظم وقته ولا يسعى لأحد إلا نادرا ، بعكس أبى العيناء الذى كان (تحت الطلب ) يسعى للقاء هذا وذاك ، ثم كان أبو العيناء ظريفا بالبديهة، أو بالرواية الشفهية وليس بالكتابة ، أو كما قيل عنه أنه كان مطبوعا على تأليف النوادر،وأكثر من ذلك كان جيد الإلقاء لها مع سرعة الرد وقوة الحجة وشده الجرأة،وذلك يصنع منه فارس الندوات والمسامرات والمنادمات .
3 ـ على أن ذلك لم يأت له إلا متأخرا وبعد عناء وجهد شديدين من أبى العيناء استغل فيها كل مواهبه في التأليف والتندر على نفسه فجعل من إصابته بالعمى روايات مختلفة شغل بها الرواة. كما أنه أكثر من النوادر التي حاكها عن علاقته بالخليفة المتوكل بعد موت الخليفة المتوكل ، ووضع في تلك الروايات بذكاء شديد أغراضه في الشهرة بالعلم والنوادر وسرعة البديهة والجرأة .، فما ينبغي لنا أن نصدق – مثلا تلك الرواية التي يدعى فيها أبو العيناء أن الخليفة المتوكل أراد أن يعبث به ويسخر منه فرد عليه أبو العيناء برد أسكته وأفحمه .. ولا نستطيع أيضا ذكر الرواية لما فيها من إسفاف...

رابعا :
1ـ وحين وفد بغداد لأول مرة لم ينس أبو العيناء أن يختلط بأصحاب الحديث وقيل انهم اكتشفوا أنه يكذب في الرواية فانقطع ما بينهم وبينه . على أن المتوقع ألا يحدث انسجام بينه وبينهم ، فأبو العيناء ليس من النوع الذى يصطنع التدين والمراءاة ، علاوة على جرأته فى النقد وسلاطة لسانه وردوده المفحمة التى تدمر الهالة المصطنعة لمن احترف التدين ، ثم إنه بتطلعاته الى الوصول للطبقة الارستقراطية فى المجتمع العباسى فلن يلبث طويلا بين حلقات علماء الحديث ، وقد سيطر عليها الحنابلة فى هذا الوقت ، واتخذوا منها طريقة للتحكم فى الشارع وقيادة العوام ، ولا محل للعوام فى خطة أبى العيناء للوصول الى منادمة الطبقة العليا من الخلفاء فمن دونهم.
2 ـ كان سهلا أن يتهمه الحنابلة بالكذب فى الرواية ليتخلصوا من منافس لهم فى مجال الكذب ،وفى نفس الوقت كان صعبا عليه نفى هذه التهمة لأسباب كثيرة ، منها أنه فى سعيه للوصول لأعلى لا يريد أن يخلق له أعداءا يعيقون وصوله ، ويضيعون وقته فى الصراع معهم ، خصوصا وهو قادم الى بغداد غريبا عنها . ثم إنه رأى أن الوضع والتأليف في النوادر أسهل وأكثر شهرة بين محبى التسلية واللهو من سادة القوم ، فجنح عن أهل الحديث ، فذاعت نوادره وصار الناس يتداولون تعليقاته وردوده وطرائفه سواء ما كان منها صحيحا أو تأليف ،وصار مطلوبا في منادمات الخلفاء والأعيان إلى أن مات في خلافه المعتضد.
خامسا
1 ـ وعلى حين جنح الحنابلة للتمرد على السلطة العباسية والتحكم فى الشارع والعوام نجد الملمح السائد في نوادر أبى العيناء هو تأييد الدولة العباسية في سياستها خصوصا ضد العلويين الذين كانوا شوكة في حلق العباسيين . وقد رأينا أبا العيناء يصوغ روايتين يعلل فيهما سبب العمى له ولأسلافه بأنه من غضب العلويين على جده ، وإحدى الروايتين يجعل فيها جده خلادا جاسوسا يعمل لصالح الخليفة أبى جعفر المنصور ضد الثائر العلوي محمد النفس الزكية ، مع أن أحداث ثورة النفس الزكية تخلو من تلك الرواية، بل وهناك رواية تجعل أبا جعفر المنصور يرسل شخصا آخر معلوما مشهورا يقوم بجهد كبير على حث محمد النفس الزكية على الثورة في وقت غير مناسب...
2 ـ وفى نفس الاتجاه يروى أبو العيناء أنه تخاصم هو وأحد العلويين فقال له العلوي أتخاصمني وأنت تقول في صلاتك .. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقال له أبو العيناء لكنى أقول ..الطيبين الطاهرين فتخرج أنت منهم ..
سادسا : ومن الطبيعي أن تحتفل السلطات العباسية بتلك النوادر السياسية التي تتمشى معها، ولذلك راجت معها نوادر أخرى لأبي العيناء كانت في اغلبها تميل للسخرية من الآخرين أو ترد عليهم بقسوة...
ـ ومنها أنه ذهب إلى الوزير صاعد بن مخلد ، وكان نصرانيا فأسلم ، فاستأذن عليه فقيل .. هو مشغول بالصلاة ، ثم أستأذن بعدها فقيل : هو مشغول بالصلاة ، فقال أبو العيناء لكل جديد لذة..
ـ ومر أبو العيناء يوما بباب عبدا لله بن منصور وكان مريضا وقد أبلَ من مرضه فقال لغلامه : كيف خبر مولاك؟ فقال .. كما تحب.. فقال إذن كيف لا أسمع الصراخ عليه؟
ـ ولقيه بعض أصحابه في السحر فجعل صاحبه يتعجب من بكوره فقال له أبوالعيناء أراك تشركني في الفعل وتفردنى بالعجب ..
ـ واجتمع أبو العيناء مع أبي هفان الشاعر على مائدة، فقال أبو هفان له .. هذه اشد حرا من مكانك في لظى ، فأسرع أبو العيناء يقول له .. اجعلها باردة بشيء من شعرك !!
ـ وأراد ابن المرزبان الكاتب أن يسخر من أبى العيناء فقال له :يا أبا العيناء لماذا تلبس جباعة؟ فقال له :وما الجباعة؟ فقال . التي ليست بجبة ولا دراعة ،فقال له أبو العيناء .. ولماذا أنت صفد؟ فقال .. وما الصفد ؟ قال الذي ليس بصفعان ولا نديم . ـ وسبك أبو العيناء رواية يسخر فيها من دمامته فقال إن امرأة أحبته مما تسمع من نوادره دون أن تراه ، فلما رأته فزعت من دمامته فكتب لها شعرا يحتج على ذلك فردت عليه تشمته وتقول .. ألديون الرسائل أريدك أم أريدك لنفسي؟
- وتشاتم أبو العيناء مع ابن ثوابة الكاتب ،فقال له ابن ثوابة ..اسكت فما تشاتم اثنان إلا غلب ألأمهما فقال له أبو العيناء . لهذا غلبت بالأمس أبا الصقر .. وكان أبو الصقر خصما لابن ثوابة وصديقا لأبى العيناء.
سابعا
وكانت لأبى العيناء نوادر مع الحكام والولاة .. ـ فقد اشتكى ابن المدبر صاحب الخراج لأنه يؤخر راتبه، فقال له عبيد الله بن سيلمان :أنت اخترته ، يعنى إنه الذى رشحه للمنصب ،فأسرع أبو العيناء يقول : وما علىّ في ذلك ؟ فقد اختار موسى من قومه سبعين رجلا فما كان منهم رجل رشيد فأخذتهم الرجفة ، واختار النبي (ص) ابن أبى سرح كاتبا فلحق بالكفار مرتدا ، واختار (على ) أبا موسى الأشعري حكما في التحكيم فحكم عليه !!
ـ وحضر أبو العيناء مجلس أحد الوزراء فذكر الجالسون كرم البرامكة ، وأمعن أبو العيناء في ذكر محاسنهم ، فضاق الوزير وقال لأبى العيناء: قد أكثرت من ذكرهم وإنما هذا من تصنيف المؤلفين والوراقين وأكاذيبهم ، فأسرع أبو العيناء يقول له : فلم لا يكذب عليك المؤلفون والوراقون بالبذل والجود ؟ فسكت الوزير ولم يستطع الإجابة ..
ثامنا
وكانت له نوادر مع الجاحظ .. وقد ذكر بعضها الخطيب البغدادي .. فقد جاء صديق إلى أبى العيناء يطلب واسطة إلى أحد الولاة ، فوعده أبو العيناء أن يكلم الجاحظ بإعتبار الجاحظ صديقا لذلك الوالي ، وذهب أبو العيناء إلى الجاحظ وعرض عليه التوسط لصديقه عند ذلك الوالي ، فاستمهله الجاحظ للسمر والحديث ثم في النهاية أعطاه كتابا مختوما إلى ذلك العامل . وفى الطريق شك أبو العيناء في الخطاب ولم يأمن الجاحظ ، ففتحه وقرىء له ، فإذا الجاحظ قد كتب فيه للوالي: ( كتابي إليك مع من لا أعرفه ، فقد كلمني فيه من لا أوجب حقه ، فان قضيت حاجته لم أحمدك وان رددته لم أذمك ) ، فلما عرف أبو العيناء محتوى الخطاب رجع إلى الجاحظ مستنكرا ، فقال له الجاحظ : هذه علامة بيني وبين الوالي فيمن أعتني به ، فانطلق أبو العيناء يسب الجاحظ ففزع الجاحظ ، فقال له أبو العيناء : ( هذه علامتي فيمن أشكره )!!
أخيرا :
1 ـ وكان مولد أبى العيناء بالأهواز سنة 191هجرية . ونشأ بالبصرة ، ثم ارتحل الى بغداد فاستقر فيها ، ثم مات عام 283هجرية.
2 ـ أى كان معاصرا للبخارى وتخصص مثله فى سبك وصنع الروايات ، مع فارق أساس هو أن أبا العيناء كان يكذب على نفسه وعلى الآخرين تندرا وتسامرا وتفكها ، ولم تؤخذ رواياته وأقاصيصه على سبيل الجد ،بل المزاح والتسلية.
أما أكاذيب البخارى وغيره من (علماء ) الأحاديث فهى من النوع السّام المعدى المميت ، صدّق بها الناس وآمنوا ان النبى محمدا عليه السلام قد قالها، وتناقلها المسلمون جيلا بعد جيل بالتقديس فاصبح بها البخارى الاها مع الله جل وعلا . ولا يزال البخارى حيا بيننا يواصل دوره فى تخدير المسلمين ،إذ هو أفظع المخدرات التى تدمر الانسان فى الدنيا والآخرة.
3 ـ عاش أبو العيناء معاصرا للبخارى وأكثر شهرة منه لأن صيت البخارى انتشر شيئا فشيئا بعد موته. البخارى كان فى حياته مجرد واحد من مئات الالوف من المشتغلين بالحديث مثل مئات الالوف من المشتغلين بنفس الأحاديث فى عصرنا، وهل هناك أروع من هذا التقدم المستمر والسريع الى الخلف ؟
هذا ، بينما كان ابو العيناء نجم عصره يتداول الناس نوادره ويتناقلون أخباره مثل نجوم الكوميديا فى عصرنا .
ثم انعكس الأمر فما لبث أبو العيناء أن مات واختفى بين سطور التاريخ فى هدوء بينما زحفت الشهرة نحو البخارى وارتفعت به بعد موته الى مرتبة الالوهية ، ولا يزال أحد الآلهة العظام لنحو بليون مسلم (فقط )!!.
4 ـ نعود لأبى العيناء وقد إشتاق للبصرة فخرج من بغداد وركب سفينة عصفت بها الريح فغرقت بكل من كان عليها ، ونجا أبو العيناء وحده بصعوبة ، ولكنه مات بعد وصوله للبر.!!
أي كانت نهايته من النوادر .ولكن النوادر الصادقة...لأنه لم يؤلفها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن