الحادي عشر من سبتمبر

فؤاد النمري
fuadnimri01@yahoo.com

2009 / 9 / 21

في الحادي عشر من سبتمبر

ها أنا ذا أكتب بمناسبة الذكرى الثامنة للحادي عشر من سبتمبر رغم أنني أعتبر كتاب المناسبات هم الكتاب الذين لا حاجة لمجتمعاتهم بهم حيث أنهم بلا قضية وينتهزون المناسبة ليس لغرض لديهم سوى أن يذكّروا الناس بهم قبل تذكيرهم بموضوع المناسبة .

بالأمس زارني أحد المعارف وتحدث على غير عادته في السياسة من أجل أن يبعث بعض الحيوية في الزيارة، كما يبدو، طالما أنه عرفني كاتباً سياسياً وفق مفهومه في السياسة، فقال لا فضّ فوه .. " أزمة الرهن العقاري هي من صناعة أميركا من أجل امتصاص الأموال الفائضة في دول الخليج "، وقال أيضاً .. " لا تستبعد أن تكون إنفلونزا الخنازير هي أيضاً صناعة أميركية من أجل أن يبيعوا فوائض الأدوية الكاسدة لديهم "، ثم قال أخيراً .. " يا أخي شو بدّك ؟ أميركا قاعده بترقّص العالم على رؤوس أصابيعها " ـ زائري خفيف الظل لم يعطني فرصة لأعبر عن رأيي في الموضوع، فلذت بالصمت وغمرني إحساس بعبثية محاورة هذا الصنف من الناس . لذت بالصمت ولم أقل له .. " ولكن هذه الأميركا رقّصها بن لادن وهو الأعرابي المتخلف على رؤوس أصابيعه " .

زائري لم يأتِ بهذه الأفكار من عنده، فهو كما أعرفه جيداً لم يُعنَ قط بأي موضوع سياسي أو له أدنى علاقة بالسياسة طيلة عمره المديد . لقد التقط كل هذه الأفكار " النيّرة " من الشارع، بل إنني أعرف الكثيرين من ممتهني السياسة يتبنون مثل هذه الأفكار ويعلنونها بلا غضاضة . لذلك قبلت أن أكتب بمناسبة 11 سبتمبر لأجل أن أقدم ما يصفه ممتهنو السياسة المفلسون بالمشروع الأميركي في الشرق الأوسط على حقيقته، مشروع أميركا التي ترْقص على أصابعها والعالم يرقص معها غوايةً وتقليداً لذوي الجاه . أقدم ما يسمى بالمشروع الأميركي على حقيقته من أجل أن أحرر ممتهني السياسة المفلسين، من قومجيين ومتأسلمين وأدعياء شيوعية لاماركسيين، من أفكارهم السقيمة الهوجاء .

نذكّر هؤلاء من ممتهني السياسة الأفّاقين بحملتهم الهوجاء على الإدارة الأميركية الجديدة منذ بداية عهد بوش الإبن في كانون الثاني عام 2000 وحتى الحادي عشر من سبتمبر 2001 يوم كارثة البرجين . نفس هؤلاء السياسيين المفلسين كانوا يصرخون بأعلى أصواتهم يدينون إدارة بوش بسبب انتهاجها سياسة العزلة والإنصراف كليّاً للإنشغال بشؤون الولايات المتحدة الداخلية . أدانوها حينذاك لأنها نأت بنفسها بعيداً عن قضايا الشرق الأوسط وخاصة القضية الفلسطينية بعد أن كانت إدارة الرئيس بل كلنتون قد بذلت جهداً ملحوظا في إيجاد حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي . بعزم لافت عاد بوش الإبن خلال الشهور العشرين الأولى من ولايته إلى سياسة العزلة، وهي السياسة التي أرساها الجمهوريون في أميركا منذ بداية عشرينيات القرن الماضي والتي تتمحور حول مبدأ جورج واشنطن " الولايات المتحدة أولاً " . هؤلاء الساسة المفلسون، التحرريون بادعائهم، طالبوا الدولة الإمبريالية الأولى، كما زالوا يصفونها، أن تتخلى عن سياسة العزلة من أجل أن تتوظف لديهم في تنفيذ مشاريعهم " التحررية " الطموحة التي عجزوا هم أنفسهم عن تنفيذها !! هؤلاء المفلسون أرادوا أن يوظفوا الدولة العظمى في العالم في تنفيذ مخططاتهم !!

وحال أن انكشف أن أسامة بن لادن هو من خطط لاقتراف جريمة الحادي عشر من سبتمبر الوحشية، طالبت أمريكا سلطات طالبان في أفغانستان بتسليمها بن لادن لمحاكمته، لكن طالبان رفضت الطلب بل ذهبت إلى إضفاء الصفة الرسمية على شخص بن لادن بتعيينه مستشاراً ونائباً للملا عمر أمير طالبان وهو ما يؤكد شراكة طالبان بالجريمة . وجهت أمريكا إنذاراً جديّاً إلى طالبان يعتبرها المسؤولة عن جريمة البرجين إن هي لم تسلم بن لادن للمحاكمة، لكن طالبان وبناء على قرار من مجلس الشورى لديهم رفضت الطلب بصورة قاطعة الأمر الذي رتب على أمريكا إما أن تتحول إلى دولة هامشية دون دولة طالبان أو أن تثأر لنفسها ولضحاياها وتحافظ على هيبتها كونها الدولة الأعظم في العالم . انتظرت أمريكا أربعة أسابيع مؤملة تسلّم بن لادن وتحاشي حرب هي في غنىً عنها، لكنها عبثاً انتظرت ولم تجد مناصاً من دخول الحرب على طالبان في السابع من أكتوبر 2001 منهية بذلك سياسة العزلة التي كانت قد تبنتها بصرامة إدارة بوش الإبن خلال العشرين شهراً السابقة .

حالما شرعت القوات الأميركية بقصف قوات طالبان، تعالى صراخ ممتهني السياسة المفلسين من مختلف الأطياف يدينون الإمبريالية الأميركية . وما زاد الأمر قباحة هو أن هؤلاء الأفّاقين أخذوا يقسمون أغلظ الأيمان أن مسلماً لا يمكن أن يقترف جريمة ببشاعة جريمة البرجين . قالوا هذا وهم الذين هللوا وزغردوا ووزعوا الحلوى فرحاً بوقوع الجريمة . أن يوصف هؤلاء بالمفلسين والأفّاقين ليس فيه ظلم لهم طالما أنهم ظلوا يقسمون على أن بن لادن بريء من جريمة البرجين حتى وبعد أن اعترف بن لادن نفسه بجريمته وحمد إله المسلمين لما وفقهم في إلحاق أفدح الخسائر بالأمريكان الصليبيين . ولا تُنسى هنا الحملة الهوجاء التي شنّها هؤلاء الأفّاقون المفلسون على الرئيس بوش لاستعماله مفردة “Crusade” الإنجليزية التي أُفرغت من كل معنى ديني وغدت تعني حملة شرسة ـ وهو ما يستبطن بمعنى من المعاني إدانة للحروب الصليبية . يعي في الغالب هؤلاء الأفّاقون أن القانون في الولايات المتحدة يمنع السلطات الرسمية من أن تحمل أفعالها أي تعبيرات دينية لكنهم مع ذلك لا يعزفون عن الشحذ الديني ظناً منهم أن ذلك سيضيف إلى رصيدهم السياسي الذي اضمحل إلى درجة الصفر وما دون، دون أن يقلقوا بالإنعكاسات الخطيرة للشحذ الديني على مجتمعاتهم . هؤلاء الوضعاء على استعداد لأن يحرقوا مجتمعاتهم شرط أن يبقى لهم منبر يصيحون من فوقه .. " ها أنا ذا !! ها أنا ذا !! " .

كان رد الفعل الأميركي على جريمة 11 سبتمبر هو التخلي التام عن سياسة العزلة التي تبنتها إدارة بوش الإبن الجديدة وإعلان الحرب على الإرهاب ومستنبته الرئيسي والوحيد تقريباً وهو بلدان الشرق الأوسط بل البلدان العربية المتأسلمة على الخصوص كالعربية السعودية ومصر والجزائر . لقد تداعت الحرب الأميركية على الإرهاب في محورين هامين ..

المحور الأول ويتمثل فيما يسميه المتاجرون بالسياسة، من مثل حزب الله والحزب الشيوعي اللبناني وغيرهما، بالمشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط ويتجلّى بالضغط مباشرة على الدول في الشرق الأوسط لانتهاج الوسائل الديموقراطية، وهي عامتها مفارخ للإرهاب بسبب أنظمة الحكم فيها الأوتوقراطية والثيوقراطية التي تنوخ بكلكلها الثقيل على صدر شعوبها وتمنع عنها الهواء لتتنفس ملء رئتيها فتنفجر في دفقات من الإرهاب الأعمى . الإحتلال الأميركي لكل من العراق وأفغانستان حرر الشعبين من قهر السلطة الغاشمة إذ أقام السلطة الديموقراطية عن طريق الإنتخابات العامة وأطلق العنان للحريات العامة، حرية التنظيم وحرية الصحافة وحرية المرأة وحرية التعليم . وانعكس المشروع الأميركي كما تسميه التنظيمات السياسية العمياء، القومجية والمتأسلمة و "الشيوعية " الموبوءة بالقيادات البورجوازية الوضيعة، انعكس في تحرير لبنان من الإحتلال السوري وتقليم بعض أظافر القوى القمعية لنظام الأسد في سوريا ذاتها، كما في توفير مساحات غير قليلة من الحرية للقوى الليبرالية ومنظمات المرأة في السعودية وقيام النظام السعودي بحرب نشطة ضد قوى الإرهاب المتجذرة في الداخل، وفي أن تقوم السلطات القبلية في اليمن بمطاردة بعض المنظمات الإرهابية، ومثل ذلك تفعل السلطات المصرية التي جرّاء الضغوط الأميركية سمحت أيضاً بشيء من الحرية الدينية التي لم تكن من قبل من قضايا الشعب المصري . دعوى الديموقراطية وحقوق الإنسان لم تكن يوما على سلم أولويات شعوب الشرق الأوسط كما هي اليوم بفعل ما تسميه القوى السياسية المتخلفة والمناصرة لقوى الإرهاب بالمشروع الأميركي .

أن ترفع الإدارة الأميركية عالياً شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان بعد أن كانت، قبل انهيار الرأسمالية الإمبريالية، قد أوغلت في الأنشطة الرجعية والإجرامية في مقاومة الثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني، أن تفعل عكس ما كانت تفعل فذلك يعني أن القوى الظلامية وقوى العصابات المتسلطة على شعوب المنطقة قد فقدت حليفاً استراتيجياً لها وترتب عليها أن تتراجع خطوات ملموسة في طغيانها حتى وإن كانت الولايات المتحدة غير صادقة فيما تقول كما يزعم ممتهنو السياسة .

أما المحور الثاني فهو الأخطر ليس على مصائر شعوب الشرق الأوسط وحدها بل على مصير العالم كل العالم . في غمرة حرب الولايات المتحدة على فيتنام وما تطلبت تلك الحرب من إنفاق يفوق قدرة الإقتصاد الأميركي حينذاك، إذ كانت الولايات المتحدة قد فقدت كل أسواقها تقريباً بفعل حركة التحرر الوطني العالمية من جهة، وتجشمت إنفاق يتجاوز كل الحدود في مقاومة الثورة الإشتراكية في العالم وفي جنوب وجنوب شرق آسيا بصورة خاصة من جهة أخرى، وفي العام 1971 تحديداً انكشف الدولار عارياً تماماً من معظم قيمته وبدأ انهياره في أسواق الصرف الدولية . أمام مثل ذلك الإنكشاف لم تجد الإدارة الأميركية بدّاً من الإنسحاب من معاهدة بريتونوود 1944 التي تلزم المتعاهدين، وهم مجموع الدول الرأسمالية الغنية، بأن يغطوا 20% من كتلة الدولة النقدية بالذهب . فقدان الدولار كل غطاء ذهبي زاد الطين بلّة فعانى الدولار انهياراً متعاظماً في أسواق الصرف دون أن ىيسعفه تخفيض قيمته (devaluation) مرتين أعلنتهما إدارة نيكسون في العامين المتتاليين 1972 و 73 . في العام 74 بدا انهيار الولايات المتحدة أمراً محققاً فما كان من وزير المالية إلا أن استدعى نظراءه في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان (G5) وأبلغهم بأن انهيار الولايات المتحدة يعني انهيار بلدانهم مباشرة وبنفس اليوم، وهذا حقيقة لا مراء فيها . اتفق المجتمعون الخمسة على تم إعلانها في مؤتمر القمة للدول الخمسة في رامبوييه/باريس في 16 نوفمبر 1975 . في ذلك الإعلان الشيطاني، إعلان رامبوييه، أصدرت الدول الخمسة الأغنى في العالم " كفالة " مشتركة لعملاتها وهو ما يعني في علم الإقتصاد أن اقتصادات هذه الدول، منفردة ومجتمعة، هي الضامن لقيمة عملاتها سياسات مشتركة ثابتة وأسعار صرفها في الأسواق . مثل هذه الكفالة العائمة لا تعني شيئاً ولا تُصرف حقيقة بحال من الأحوال . تلك الكفالة غير المليئة لا تعنِي سوى التصريح بسرقة العالم من خلال أوراق نقدية زائفة لا غطاء لها .

اللص الأكبر بين هذه الدول الخمسة هو الولايات المتحدة الأميركية . وفقاً لتصريح صدر عن مجموعة من الخبراء الاقتصاديين الماليين قبل أشهر قليلة يقول أن الولايات المتحدة الأميركية قامت خلال العقود الأخيرة ـ فيما بعد إعلان رامبوييه 1975 ـ بطباعة 600 ترليون دولاراً لا غطاء لها أي أنها مزورة فعلياً . كل هذا الفيض من الدولارات المفرغة من كل قيمة تبيعه الولايات المتحدة إلى كل دول العالم دون استثناء وأولها الصين "الشيوعية" واليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي . كل البذخ الفائض الذي تعيشه أميركا إنما يتم على حساب الشعوب التي تشتري حكوماتها الدولارات الأميركية الزائفة . وكلما شعرت الإدارات الأميركية المتعاقبة أن العالم أخذ يعزف عن شراء دولاراتها وأن كفالة رامبوييه لم تعد تكفل كما اعتادت أن تكفل تطفق في البحث عن حرب صغيرة تكفل لها استعادة الثقة بقواها النارية التي تنعكس آلياً بثقة متجددة بقواها المالية وهو ما يسمح لها بطباعة مزيد من ترليونات الدولارات الزائفة .

جريمة البرجين هيأت الأساس القانوني والشرعي لحرب أميركا على أفغانستان ثم على العراق . كانت إدارة بوش الإبن ستتخلى طوعاً عن سياسة العزلة التي تبنتها قبل 11 سبتمبر لتبحث عن حرب صغيرة هنا أو هناك وذلك لأن الولايات المتحدة تفتقد كل قدرة على تغطية كتلتها النقدية المنتفخة باستمرار . العالم كله يتكفل بعملتها وهي لا تستطيع أن تنعزل عن العالم ؛ إنها بحاجة يومية إلى كفيلها . ما فعله الإعرابي المتخلف بن لادن هو أنه دفعها إلى الذهاب إلى حربين كبيرتين في أفغانستان وفي العراق تطلبتا وتداعياتهما نفقات باهظة قد تصل إلى نحو عشرة ترليونات من الدولارات، وهذا مبلغ يصعب على العالم أن يتحمله دفعة واحدة ومن شأنه أن يكشف زيف كفالة رامبوييه .

كفالة رامبوييه الزائفة لا تستطيع أن تغطي انتفاخاً سرطانياً في الكتلة النقدية للدولار يبلغ مئات الترليونات ولأكثر من ثلاثة عقود . أضف إلى ذلك أن الحرب على الإرهاب قد أثقلت على الموازنة الأميركية ببضعة ترليونات أو نحو عشرة ترليونات من الدولارات . في العام 1974 بدا الانهيار الأميركي محققاً وداهماً واليوم في العام 2009 يعود الانهيار ليكون أشد هولاً . لئن كانت كفالة رامبوييه الزائفة قادرة على أن تحول دون وقوع الانهيار الشامل في العالم الرأسمالي آنذاك مبتدئاً بالولايات المتحدة فلن يكون اليوم باستطاعة أبرع المزورين دفع الانهيار لبضع سنوات فقط . ليس لأن الحرب على الإرهاب فاقمت من الأزمة، وقد فعلت، بل لأن الإنتاج الرأسمالي كان له النصيب الأوفر في مجمل الدخل الوطني قبل 34 عاماً منه اليوم وقد هبط إلى 14 أو 16% بصورة عامة . أزمة الرهن العقاري التي نشبت في الولايات المتحدة في الخريف الماضي وامتدت إلى أطراف الدنيا إنما هي قمة الجبل الجليدي الضخم الظاهرة فوق سطح ماء المحيط . لن يفلح ربابنة العالم في اجتناب ارتطام النظام العالمي المدوي بهذا الجبل الطافي في عرض المحيط . انهيار الدولار الأميركي المفاجئ، وهو وشيك، سيقع وقوع الكارثة الكونية التي تقضي على كل وسائل الحياة في العالم كله دون استثناء . في الصبح التالي لليلة الانهيار لن تصل الماء والكهرباء إلى البيت وستغلق المخابز وكذلك المدارس وتتوقف المواصلات بمختلف وسائطها، ستتوقف وتنعدم وسائل الحياة لدى البشرية كافة .

أمام مثل هذه الصورة المأساوية حقاً سيصرخ الجميع متسائلين .. ما العمل ؟ ـ ليس لدي ما أقترحه لمواجهة مثل هذه الكارثة الكونية، بل ما أعلمه هو الأسوأ . لكن أمام مثل هذا المفصل النادر و الوحيد في تاريخ البشرية فإن غريزة حماية الحياة والدفاع عنها بكل ثمن ترتّب على الماركسيين الحقيقيين في العالم تحديداً، وهم الأكثر علماً في التطور الإجتماعي، أن يتنادوا إلى مؤتمر عالمي يظل في حالة انعقاد دائم للبحث في كل ما يمكن عمله للدفاع عن الحياة .

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن