عرض كتاب -عصا الحكيم- ل -توفيق الحكيم-

باسنت موسى
basant_musa_m@yahoo.com

2008 / 12 / 26

توفيق الحكيم كاتب له رؤىَ تكون في أحيان كثيرة مغايرة لِما أعتنقه من أفكار، لكن وعلى الرغم من اختلافي معه هذا إلا أن سطور مؤلفاته تحمل جمالاً في الأسلوب ومنطقاً يستحق التأمل، مما جعله من الكُتّاب الذين أُفضّل القراءة لهم لتعلم مهارات جديدة في التعبير عن الفكر وتكوين اتجاه فكري وحياتي.
كتاب "عصا الحكيم" -محور عرضنا اليوم- عبارة عن حوار فكري متخيل بين الحكيم وعصاه، تلك العصا التي تعلم حملها لسنوات حتى أصبحت تلازمه وكأنها جزء من ذراعه، لتسير معه وتنتقل من مصير لمصير دون أن تُبدي أي ضجر من تلك الصحبة كما لو كانت ابنته، لكن حتى لو كانت تلك العصا ابنه من لحم ودم، لربما كانت ستشعر بالضجر من تلك الصحبة الدائمة مطالبة والدها بالابتعاد عنها لتلتفت لحياتها، لكن العصا لم تفعل ما يمكن أن تفعله الابنة وظلت مطيعة قانعة حياتها طوال الوقت، مما دعا الحكيم ليقدم لها بعض العرفان ورد الجميل عبر السماح لها بالكلام، والحديث عمّا بداخلها من شئون الناس والمجتمع والفكر، واليوم ننقل بعض من هذه الحوارات بين الحكيم وعصاه....
كيف سيقضي الناس يومهم في جنة الخلد؟ سؤال أنطلق في خيال الحكيم، وجاءته الإجابة من عقله تقول أن أغلب الظن يشير بأن الفقراء سيرتمون حول مائدة الطعام بالجنة، تلك المائدة المليئة بالفاكهة والطعام، وحتماً سيقول لهم حراس الجنة أن الاندفاع حول الطعام ليس بجيد، لأنهم مخلدون في الجنة ولن ترفع عنهم الموائد،لكن الفقراء حتماً لن يصدقوا الحراس، فمن يضمن لهم صدق حديثهم،ففي الدنيا عندما صدق هؤلاء الفقراء، الرجال الذين قالوا لهم لن تجوعوا في ظل مبادئنا، وجدوا العكس مع تأييدهم، لقد جاعوا من أجل الدولة، لذلك الخوف من الجوع لم يموت بداخلهم حتى وهم في جنة الخلد لأن الجوع هو أول ما يولد على الأرض وأخر ما يموت.
قالت العصا للحكيم أنها تتخيل أن القدر كرجل بارع واقف في ميدان عام يحرك في الهواء كفة لاعباً كما يفعل الحواة بثلاث كرات هما المال والصحة وراحة البال والبشر من حوله واقفين يشاهدون ما يفعل دون أن يكون واحداً منهم قادراً على اللعب بالثلاث كرات مثله، فالإنسان يمكن أن يلعب بكرتين فقط كالمال والصحة ليفقد راحة البال، أو ليلعب براحة البال والصحة ليفقد معهما المال، وتلك القدرات للعب بالنسبة للبشر تؤكد أن يد الإنسان لا يمكنها اللعب بأكثر من كرتين.
لماذا ينتج الفنان؟ سؤال تمنت العصا أن توجه لكل فنان، وإن كانت تعتقد أن هذا السؤال تتغير إجابته لدى الفنان الواحد مع مراحل عمره المختلفة، ففي الشباب ينتج الفنان من أجل المجد لأنه لا يعرف من الحياة وقتها إلا الجانب البراق، ولا يؤمن من حقائق الحياة إلا ما يعبر عنه بالكلمات الكبيرة في الكهولة عندما تتبدد الأحلام وتذهب الأوهام ويظهر الوجه الحقيقي للحياة بفتوره وسخريته تنقلب الدنيا وينتج الفنان من أجل المال ثم بعد أن يجد ذاته في قصور عامرة بكل الطيبات فإنه يستمر ينتج رغم ما حققه، وعندما تسأله لماذا تنتج؟ يقول لك لابد من أن أخلق ولا تسألني لماذا ولا لمن؟ إذاً لا توجد إلا حقيقة واحدة في كل هذا، ألا وهي أن الفنان قد خُلِق ليخلق، ومهما أوضح من أسباب لخلقه هذا إلا أن السبب الأكبر هو أن قبساً من صفات الخالق العظيم قد حل فيه.
الساسة والعلماء والقضاة والأدباء والفنانون والمفكرون لم يستطع كثيرين منهم التفكير بعقولهم إلا في النادر وذلك ما هو برأي الحكيم إلا خطر كبير على أمة لم تحقق بعد النضج والرقي لأن انقراض الطائفة الخاصة التي تفكر بعقلها لنهضة الشعب إنما معناه زوال الرأس من جسم الأمة ولا يمكن للجسم أن يسير بلا رأس، وذلك لا يخلق علماء ومفكرين يعيشون حياتهم من أجل مبدأ أو فكرة حيث يفكرون دائماً في إرضاء رجل الشارع ورجل الشارع في الأمم الراقية أرتفع لقادته لكن القادة في بلاد الشرق انخفضوا للشارع.
قالت العصا للحكيم أن الجهل والفقر والمرض هم الثلاثية الذين يشكلون العدو لمصر، لكن الحكيم يرى عكس ذلك ويعتبر الدجل والتهريج والنفاق هي الأسباب التي تدفع بمصر لهذا المستوى الحضاري المنخفض، فالإمبراطوريات يمكن أن تنشأ رغم المعاناة من المرض والفقر والجهل لكنها لا يمكن أن تنشأ في وجود الدجل والنفاق والتهريج، هنا قالت العصا أنها عندما تتأمل الأهرام وما قام الفراعنة من تشييده تتعجب لزماننا الذي لا يبني فيه المصريون شيئاً للبقاء، أجاب الحكيم على تساؤلها مؤكداً أن ذلك راجع لأن فكرة البقاء لم تعتد تحتل مكان في رءوسنا لأننا نعيش لليوم وللساعة عيش الكاسلين والخاملين المتواكلين العابثين وفكرة البقاء عندما ترسخ في وجدان وضمير شعب فإن العين تلمح روعة الفن وإذا وضع برنامج سعى الجميع لتحقيقه وتنفيذه، فلا تهدم حكومة ما أقامته أخرى ولا يحطم أي فرد ما صنعه الآخرون، فالشعوب كالأشخاص في طور الطفولة يميلون للتحطيم وفي طور الرجولة ينصرفوا للإنشاء.
ما الذي ترجوه من الصديق؟ سؤال وجهته العصا للحكيم مُخيّرة إياه بين نمطين للأصدقاء الأول الذي يوصف بالوفاء في كل الأوقات، والثاني الذي يُقبل عليك وقت الفرج ويختفي وقت الشدة، قال الحكيم لها أن هناك فرق بين ما نتعلمه في الكتب وما تعلمه لنا الحياة، ففي الكتب نفهم أن الصديق الحق هو الذي يلازمنا وقت الشدائد فقط لكن الحياة تقول لنا العكس حيث أن الصديق المرموق بها هو الذي يختفي وقت الشدة، والعجيب أن الغالبية من الناس تغلب الصداقة لمن يلازمها وقت الرخاء وليس وقت الشدة، وهذا يوضح أن الإنسان يحب الصداقة التي تسره أكثر من تلك التي يحترمها.
هل الشر يولد في الإنسان أم أن طبيعة الإنسان مفطورة على الخير والمجتمع هو الذي يغيرها ويوجهها؟ سؤال فلسفي وجهته العصا للحكيم الذي أكد أنه يعتقد أن الإنسان فُطِرَ على الخير، لكن المجتمع له تأثير قوي في تحويل تلك الفطرة، وهناك الكثير من الأمثلة التي توضح ذلك منها مارواه للحكيم طفل صغير كان يلعب على شاطئ البحر وعثر على منديل به بعض القروش الصغيرة، فطرته السليمة أوحت له بأن يسلم ذلك المنديل لرجل الشرطة، وبالفعل قام بما أملته عليه الفطرة فما كان من رجل البوليس إلا أن قام بالصراخ في وجه متسائلاً عمّا إذا كان أخفى بعض النقود عن الشرطة، هذا الطفل في طريقه عثر على الطفل الذي ضاع منه المنديل المحمل بالمال وتوجه معه للشرطي للحصول على منديله، فأستقبله الشرطي قائلاً: سرعان ما أخبرته أيها الكلب....
مثل تلك القصة ترسم لنا الطريق الذي قد يتجه له هذا الطفل الأمين، حيث سيتأكد من أن الأمانة خرافة، وأن الحكومة خصم وليس معين، وذلك هو المجتمع الذي يصنع بيده العجينة الأولى للصوص والخونة والمجرمين.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن