ندوة الدولة من منظور علماني ومعوقات قيام الدولة العلمانية

موريس نهرا
bureau@lcparty.org

2008 / 12 / 23

الدولة هي اداة تنظيم المجتمع وحياته، تنبثق منه وتقوم بإدارة شؤونه، وهي بذلك ليست سلطة إلهيّة.

إن تناوُلنا لموضوع الدولة من منظور علماني لا ينطلق من بحث أكاديمي مجرّد لنشأة الدولة وتاريخيتها، بل من التجربة المعيوشة للدولة الطائفية القائمة في بلدنا. فهذه التجربة تكشف أن نظام المحاصصة الطائفية الذي بدأ "مؤقتاً" عام 1943 وتحول الى دائم، جعل الدولة مساحة لتحاصص الطوائف المختزلة بزعمائها، وشكل مصدراً لتناقضات وصراعات بينهم يطغى فيها الطابع الطائفي، فتعيق عمل السلطة، وتعرقل بناء دولة القانون والمؤسسات وتبقى وحدتها هشّة،وتفتح المجال لتغطية الولاءات والمراهنات الخارجية ولحماية وتفشي الفساد والفاسدين ونمط الزبائنية.... وبالإضافة الى ذلك تظهر التجربة ان استخدام الطائفية والمذهبية التي تتغذى من النظام الطائفي، يباعد بين اللبنانيين وينتج فتناً وحروباً اهلية متكررة، ويجعل لبنان ساحة مفتوحة لصراع تتداخل فيه العوامل الخارجية مع الداخلية، فتضعف سيادة الدولة الداخلية المنقوصة اساساً، وسيادتها الفعلية تجاه الخارج..

إن إقامة كيان الوطن على اساس انه مجموع كيانات طوائفه وليس مواطنيه، يبقيه معرضاً للإهتزاز والتفكك كلما إحتدم أو تفجّر الصراع متخذاً شكلاً طائفياً ومذهبياً . وليس البقاء في دوامة التسويات تحت السقف الطائفي نفسه، إلا مجرد تنفيس مؤقت لأجواء محتدمة، ولا يتجاوز تعديلات طفيفة ومؤقتة لا تدوم، في توازنات وحصص الطوائف والمذاهب... كما أن تقسيم لبنان ـ الذي هو اصغر من ان يقسّم، الى كانتونات طائفية ذات استقلال ذاتي تحت عنوان الفيدرالية، هو عودة الى الوراء ويحمل معه تهديداً لوجود لبنان كياناً ودولة وهو لا يشكل حلاً لمسألة التنوع اللبناني المتداخل... فحماية التنوع الديني والطائفي في لبنان لا تتوفر عن طريق سيطرة طائفة أو دين معين، بل من خلال اقامة دولة ديموقراطية علمانية، أي خارج المرتكزات الطائفية، تقوم على اساس المواطنية فتساوي بين كل ابناء الوطن وتلغي التمايز والتفريق بينهم على أساس طائفي. فالدولة العلمانية التي تتلاءم مع واقعنا اللبناني هي الدولة المحايدة حيال الدين، ولا تدعو الى الالحاد ومناهضة الأديان.

إن بناء الدولة على اسس مدنية علمانية يُشكل اطاراً أساسياً جامعاً وموحّدا للبنانيين، يزيل الحواجر والوسائط في انتماء المواطن الى الوطن. والدولة العلمانية هي الحل الضروري الانقاذي لإخراج لبنان من الأزمة البنيوية للنظام السياسي، وللفصل بين الصراع على السلطة، وحول النظام القابل للتعديل والتغيير من جهة، وبين الكيان الوطني الثابت من جهة أخرى. وهذه الدولة أي العلمانية هي السبيل لجعل التنوع في لبنان غنىً ومثالاً حياً مشرقاً. ويسقط معها "مبرر" "الديمقراطية التوافقية" المناقضة لجوهر الديمقراطية، وللآليات الطبيعية والسليمة للسلطة. فالديمقراطية التوافقية التي تحمل شكلاً براقاً، تمثل جمعاً للقوى المعارضة والموالية في حكومة واحدة، مما يلغي مفاعيل الديمقراطية ووظيفة الانتخابات ودور الشعب، ويضيّع المسؤولية عن سياسات الحكومة وأخطائها وتقصيراتها ويمنع المحاسبة والمساءلة. فالجميع في الحكومة والكل مسؤول عن قراراتها.



المعوقات الأساسية:

1. تمسّك الأطراف السلطوية بوجه عام (مع إستثناءات قليلة) بالإبقاء على الدولة الطائفية وسلطتها التي تجسّد في مجمل سياساتها وممارساتها، التداخل بين الطائفي والطبقي – الاجتماعي... وبين الطائفي والوطني، فتستخدم الطائفية للتأثير على الوعي الشعبي وتقسيم صفوف الطبقات الشعبية التي تستدعي مصالحها الاجتماعية والمعيشية المشتركة أن تكون موحدة، دفاعاً عن حقوقها ومطالبها، كما تستخدمها الزعامات الطائفية، في جانب آخر، لحماية مواقعها وحصصها بإسم طوائفها ولتعزيز نفوذها في السلطة وفي جمهور طوائفها.. وتختلط الأمور في وعي ونظرة أوساط واسعة في قواعد الطوائف والمذاهب، حيال القضايا الوطنية، فتصبح الطائفة وزعيمها ومصالحها أولاً، وقبل الوطن، ويصبح مفهوم الوطن الذي ينبغي أن يكون موحّداً، متعدداً بل ومتناقضاً، ارتباطاً بتعدد مصالح الطوائف وزعاماتها..

2. إعتماد قوانين إنتخابية على قاعدة النظام الأكثري والطائفي والدوائر الصغيرة، أو الضيقة.. منها مثلاً قانون 1960، الذي يعزز التنافس والمزايدات الخطابية ذات الطابع الطائفي في معظم الدوائر التي تتشكل الأكثرية في كل منها، من طائفة أو مذهب معين.. مما يغذي الشعور الطائفي، ويحوّل لبنان الى مجموعة جزر تطغى فيها الطائفية.. فيما يؤدي نظام إنتخابي على قاعدة النسبية، وخارج القيد الطائفي، وعلى أساس الدائرة الوطنية، الي تنامي الشعور والوعي الوطني المشترك، بالإضافة الى التمثيل الصحيح، والى عقلنة واعتدال الخطاب السياسي...

3. إعتماد الطابع الطائفي في مجالين أساسيين في تشكل الوعي والتأثير على الرأي العام، هما قطاع الاعلام وبخاصة المرئي، والقطاع التربوي، حيث لكل من الطوائف الأساسية قناتها التلفزيونية وجامعتها، فضلاً عن مراحل الحضانة، والابتدائي، والتكميلي، التي يطغى في الكثير منها الطابع الطائفي والمذهبي، عدا التجاري.. وما دام الضخ الطائفي والمذهبي مغطى في النصوص فإنه يواصل شحن النفوس..

- عدم وجود سياسة تربوية تهدف الى تكوين وعي وطني مجتمعي يوحد اللبنانيين في وطنية جامعة تكون فيها الأديان مادة ثقافية تبرز تاريخها وقيمها المشتركة..

4. بقاء مساحة واسعة تتعلق بالزواج، والارث، والتبني.. الخ.. بدون قانون أحوال شخصية ناظم لشؤونها من جانب الدولة، مما أبقاها خاضعة لقوانين الطوائف والمذاهب التي تتباين فيما بينها، وتشكل الى حد كبير حواجز في طريق الاندماج في المجتمع الواحد.. بينما يؤدي إعتماد قانون مدني إختياري موحد للأحوال الشخصية الى إلغاء هذه الحواجز والتباينات..

5. إضعاف دور الدولة في صالح تقوية زعماء الطوائف، في طوائفهم وفي محاصصات ومواقع السلطة، وخصوصاً ضعف دورها في مجالات الصحة والتطبيب والتعليم، والعناية بالمعوزين والمعوّقين، وذوي الحاجات، أي بالإجمال في ضمان المواطن وحماية الوطن. وهذا يتيح لزعامات ومرجعيات الطوائف أن تستغل ذلك للقيام بقسم من هذا الدور في صفوف طوائفها، على قاعدة تقديم حسنة وصدقة، (غالباً ما تكون مهينة للمواطن)، لجعله مرتبطاً بهذه الزعامة وبالولاء لها واستمرارها، بالإضافة لدورها كممر إجباري لأي وظيفة أو خدمة..

6. يلعب المال السياسي والانتخابي الذي يتدفق من دول بترولية لهذه الزعامة المذهبية والطائفية أو تلك، دوراً سلبياً كبيراً، لا يقتصر على وجهة التصويت ونتائج الانتخابات، بل وفي تعزيز التكتلات المذهبية والطائفية المعيقة لإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.

7. يمكن الاشارة أيضاً، الى أن الأنظمة العربية التي تخشى قيام دولة ديمقراطية علمانية عربية في لبنان كمثال جاذب عربياً، تشكل عاملاً داعماً لبقاء الدولة الطائفية وللقوى السياسية المتمسكة بها.. وحتى الدول الاوروبية والغربية فإنها رغم علمانيتها تفضل وتعمل لبقاء النظام الطائفي الذي يتيح لها إستخدام تناقضاته مدخلاً لاستخداماتها...

- ومن معوقات إقامة الدولة العلمانية، تلك المواقف والحملات المفتعلة التي تشنها القوى والمرجعيات الطائفية والرامية الى تشويه مفهوم الدولة العلمانية، بتصويرها ضد الدين ودعوة للإلحاد، ارتباطاً ببعض ما رافق مفهوم الدولة العلمانية في ظروف معينة في اوروبا، في حين أن الدولة العلمانية في واقعنا، وفي الخصوصية اللبنانية، هي دولة محايدة بين الأديان، والهدف الأساسي منها حماية التنوع في بلدنا دون ألمساس بحقوق وحرية المعتقد الديني والفكري وممارسة الشعائر الدينية. وهي لإيجاد المناخ الأكثر ملاءمة لحوار وتفاعل وعيش مشترك وواحد بين المواطنين، على إختلاف إنتماءاتهم الطائفية والمذهبية والمناطقية، حيث بذلك يصبح لبنان فعلياً وطناً ورسالة...

وإن تنامي السلفية والتطرف، مفاهيم وممارسة، سواء في لبنان أم في محيطه، يستدعي أكثر من أي وقت مضى إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية التي تحفظ التنوع وتجنب لبنان أخطار الانقسامات وتهديد وحدته شعباً وكياناً وطنياً.

إن المعوقات المذكورة في طريق بناء الدولة العلمانية، تجعل من العمل لإقامتها مهمة وهدفاً نضالياً وطنياً وانقاذياً. وتستدعي من جميع الحريصين على وحدة لبنان وسلمه الأهلي، وتطوره الديمقراطي، السعي بل الإنخراط في كل ما يُسهم بتحقيق هذا الهدف الوطني السامي، من نشر وتعميم الوعي ومفهوم الوطن والمواطنة الى الخطوات الآيلة الى التغيير الديمقراطي، التي حمل إتفاق الطائف والنص الدستوري مدخلاً لها، بإيجاد قانون إنتخاب ديمقراطي عصري وبرلمان خارج القيد الطائفي وتشكيل هيئة وطنية لبحث إلغاء الطائفية وتحديد مرحليتها ، وتطبيق اللامركزية الادارية الواسعة..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن