الذاكرة الوطنية بعد 60 عاما من النكبة

صدقي موسى

2008 / 5 / 24

ليس غريبا أن يفقد لاجئ فلسطيني الذاكرة، فهو كباقي البشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، لكن خطورة الأمر أن يفقد "ذاكرته الوطنية" التي تمثل وثيقة عودته، وفيها يحفظ بقايا صور لوطن مسلوب يورثها للأحفاد، كما يورث المفتاح و"القوشان"، وهي تعني الوطن والحاضر والمستقبل.
وما يميز ذاكرة اللاجئ قوة يقظتها، وحرصه أن تبقى مستيقظة رغم ما تحمله من ذكريات الأحزان والنكبات، فالمسالة مسألة وجود، وقضية ارض رسمها الأجداد بذاكرتهم قبل أن يطردوا منها، لينقلوها لأحفاد لم يروها، لكنهم يؤمنون أن أرضهم هناك صوّرتها لهم ذكريات أجدادهم.
ولعل قصة الحاج "أبو ناهض" دليل حي على وطن يعيش في الذاكرة لا تدفنه السنون، أو يمحيه النسيان؛ فهذا اللاجئ الثمانيني الذي اسكنه اللجوء في مخيم خارج حدود وطنه، يصاب بفقدان مؤقت للذاكرة بين ساعة وأخرى، ينسى خلالها اقرب المقربين إليه، إلا انه يتذكر شيئا واحدا فقط، انه الوطن وقرية "عراق المنشية" - 32 كم شمال شرقي غزة -، فهي ما تبقى في ذاكرته في تلك الساعات!!!
فيصف لمن حوله أراضي قريته وبيوتها وثمارها، وحجم المحاصيل بشكل دقيق ومفصل، وأعداد الأغنام والمواشي. وفي نظراته المحدقة نحو الوطن يرسم خارطة قريته وكأنها أمامه، خرج منها للحظة وليس قبل ستين عاما.
وخلال فترة شروده الذهني لفلسطين، يتذكر إخوانه وما كانوا يقومون به من فلاحة للأرض وبيع لخيراتها، وبئر الماء الذي كان يسقي منه المزروعات، واللافت للنظر أن "أبو ناهض" الذي يعتمر كوفيته لا ينسى أول مستوطنة يهودية سمحت بريطانيا بإنشائها على أراضي عراق المنشية وقرية الفلوجة، ويقول لجلسائه أنها أتت بالمصائب على قريته ووطنه.
اللاجئ "أبو ناهض" لا يتذكر أبناءه وأحفاده عندما يفقد ذاكرته لكنه يسارع بالهتاف "روحوني على دارنا" ويهم بالخروج من البيت، فيقوم احد أولاده بأخذه جولة في المخيم والأراضي المجاورة على أنها بلدته التي هجر منها، وعندما ترجع إليه الذاكرة يصدم بالواقع الذي يحيا، كأنه حكم عليه أن يبقى لاجئا يستنزفه جرح الحنين للوطن. ولعل هذه حالة بقية اللاجئين حينما يشدهم الشوق للدار والبيدر.
قصة "أبو ناهض" الذي لم تنهمر دموعه على فقدان ولده مثلما تنهمر شوقا لوطنه، وان غلب عليها الجانب الإنساني، إلا أنها تمثل رمزا حيا لتمسك اللاجئين بحقهم بالعودة، كما تمثله الخيمة والمفتاح والأنروا، ومصطلح "النكبة" مع أن ما حصل مع الشعب الفلسطيني أفظع من هذا المصطلح، فالاحتلال يدرك أن بقاء مثل هذه الرموز خطر عليه وتهديد لوجوده، لما تحمله من رسائل تنبيه تذكر بجريمته، وتهدد بقاء "دولته"، لذلك سعى لدى الأمم المتحدة لإزالة مصطلح "النكبة"، كما سعى من قبل لإنهاء عمل "الأنروا"، والسعي الدؤوب لتوطين اللاجئين؛ ويأتي ذلك استكمالا لتغيير معالم الجغرافيا، وأسماء القرى والمدن وحتى الزي والكوفية الفلسطينية.
فالمحتلون عبر تاريخهم سعوا إلى تدمير ثقافات الشعوب التي كانوا يحتلونها، ومحو رموزها لان في ذلك تحطيم لروحها المعنوية، وتفكيك لأواصر ارتباطها بالأرض، وذوبانها في ثقافة المستعمر، وسعى لإفقادها ذاكرتها الوطنية والتي تشكل المخزون المعرفي لأي توجه يؤدي للعودة للوطن والمطالبة بالحقوق السليبة؛ وغير غائب عن أذهاننا ما أقدم عليه الاحتلال الأمريكي في العراق من تسبب بإحراق للمكتبات ونهب للمتاحف وتدمير للآثار، فمكتبة المتحف العراقي في مدينة الناصرية مثال صارخ حيث كانت تضم في رفوفها "3900" كتاب قيم، منها كتب مصنفة ككتب أثرية تهم الإرث البشري.
وتبقى شواهد التاريخ دالة أن الشعوب المتمسكة بذاكرتها يكون عندها الدافعية للانجاز والتحرر، فالشعب الجزائري العريق ليس عنا ببعيد، الذي سعت فرنسا بكل قوتها الثقافية المعززة بجبروتها العسكري أن تمسخ العقل العربي الجزائري، الذي حافظ على ذاكرته الوطنية واستعاد حريته؛ وفي جانب آخر، رغم عدم صحة ادعاء الصهيونية السياسية حول وجود ما يسمى بالشعب اليهودي والقومية اليهودية، إلا أنهم استطاعوا بفعل الإرادة والمثابرة كمشروع استيطاني من تجميع شتات اليهود وغيرهم في فلسطين، معتمدين على ذاكرة جماعية رغم أنها مليئة بالأساطير والأكاذيب وتستند على فكرة "تلمودية" طالما رددوها بأنهم شعب الله المختار وبقية البشر دواب وعبيد لهم، وغير ذلك، بل إنهم ما فتئوا يُسمعون العالم ما يسمونه بالمحرقة حتى باتت أشهر من نار على علم في ذاكرة العالم.
إن الذاكرة الوطنية تعتبر من أهم عناصر الإدراك والوعي، وهي التي ترسم صورة الصراع والعودة، فالمحتل الصهيوني يسعى لكسب معركته مع الذاكرة الفلسطينية لكي يصنع مستقبله الخاص ويسيطر على مستقبل الفلسطينيين بتشويه الذاكرة وقلب الكذبة حقيقة والعكس، وذلك يستوجب حماية الذاكرة الفلسطينية وترسيخها في عقول الأحفاد، وحملها للشعوب والأمم الأخرى، ومع ما تحمله قصة "أبو ناهض" من بصيص أمل، إلا إن الخوف يبقى مطلا علينا من أن تضعف ذاكرة الأجيال القادمة فالتحديات التي تواجهها ليست بالبسيطة ولعل اقلها التناقضات بين الانتماء للوطن وواقع اللجوء في بلد آخر، وهموم الحياة اليومية، والسعي لجلب لقمة العيش.
وان كان الواقع يقول عكس هذا من تمسك بحق العودة، لا يمنع ذلك الأخذ بمزيد من الأسباب؛ فالاحتلال يسعى بكل ما أتي من جهد لطمس أي شئ يّذكر اللاجئ بأرضه، ويقلقه أي حدث أو ظاهرة تشير لهذا، ومثال ذلك "انتفاضة الأقصى" التي شحنت الذاكرة وأيقظتها، وكانت عامل نهضة وتثقيف وطني وخاصة للفئة الفتية الشابة من أبناء الشعب الفلسطيني التي كانت وقود هذه الانتفاضة، ومثّل أبناء المخيم الصف الأول في المقاومة ليثبتوا أن الانتماء للأرض والذاكرة الوطنية تتوارثها الأجيال، بل تولد مع اللاجئ الذي يسعى ليكتشف أصله ومنبته، فإذا كانت الطيور تربط صغارها بأوطانها الأصلية وتهاجر إليها منفردة، فما بالنا ببشر مميزين بالعقل والإدراك.
بقي القول أن قرية عراق "المنشية" التي سطر فيها الجيش المصري والسوداني أروع صور البطولة، وبمساندة الأهالي الذين طحنوا القمح لهم بطواحينهم الحجرية، غرست مكانها غابة الكينا وثمة إشارتان بالعبرية والإنكليزية تعرف هذه الغابة بأنها "غابة مرعولين للسلام!!!" بينما يحتفظ "أبو ناهض" بالطاحونة الحجرية في مخيمه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن