إنتاج المسْتَبَدْ به للاستبداد

عبد الحميد الصائح

2003 / 10 / 19


  على وفق ثوابت عِلْمَي النفس و الاجتماع  فان كل ظاهرة سلوكية  مهما تعددت تأويلاتها لايمكن فصلها عن الدوافع والأنشطة الإنسانية والحاجات الأساسية المحيطة بها  والمنجز الذهني والروحي الذي ينتج عنها . ورغم كثرة النظريات التي أشارت إلى ظاهرة الاستبداد البشري في التاريخ والاستبداد في عالمنا العربي  أُهملت فكرة غاية في الاهمية هي (انتاج المسْتَبَد به للاستبداد) فالعقل التجريبي الاول الذي نظّر ببدائية مدهشة للكون وظواهره وانتج الأسطورة والخرافة لاحتواء ثقل أسئلته بازائها وانتج الطواطم التي عبدها واستجاب لأوهامها وطورها إلى آلهة اكثر شموليه وغموضا و خضع لصلاحياتها المفترضة ومطاليبها من تقديم القرابين وإنشاء منظومة من المحاذير لتجنب غضبها واستدراج رضاها,كان في ذات الفعل يؤسس للاستبداد دون أن يعي ذلك,فإنتاج هذه المنظومة من الولاءات والطاعة الصارمة والاستجابة إلى الوهم هي في حقيقتها إنتاج بوادر أولى للاستبداد ,المستبِد(مُنْتَج)( مُتَوَهَّم) -بفتح التاء والهاء في الكلمتين- والمستبَد به هو الإنسان الذي قادته فطرته و طفولته الأولى إلى حتفه بنفسه, على الرغم من ان سعيه هذا اكسب ما بعده من السلالات اجوبة ومنجزات شتى.ولعل المثير في الأمر ان هذا الإنتاج اختلف تمظهره فيما بعد من حضارة لأخرى، ففي الوقت الذي تمظهر لدى الاغريق الذين  يمثلون مرجعية الحضارة الأوربية الحالية عبر  أنظمة الإدارة والعلوم الطبيعية والأخرى رغم ما عاناه الفلاسفة اليونانيون منذ (سقراط) الفاصل الفخم بين نمطين من التفكير الفلسفي نمط التجريبيين الذين سبقوه والمثاليين الذين جاؤا بعده حتى آخر صروح المنجز الحداثي المعاصر, تمظهر لدى سكان وادي الرافدين عبر نمط الحكم وتحديدا ( الحاكم) ،انشغل الرافدينيون بالحاكم وصفاته وتركيبته وافترضوا أصولا غيبية له وحاروا بخلوده واعانوه على فنائه ورافقوه الى قبره واخترعوا قصصا وحكايات واساطير عن حياته في العالم الآخر-   بمعنى اخر ان فكرة المستبِد الذي هو (الاله) في الميثيولوجيا والصلاحيات الاولى التي منحت له والطاعة التي اوليت لاوامره  تمظهرت فيما بعد في الحاكم  , فالحاكم الذي كان لديهم الهاً ثم ابن اله ثم نصفه بشر ونصفه اله ثم انتهى به المطاف  بشرا اعتياديا تقوده ظروف ما الى السلطة، مايزال يتمتع بصلاحيات الإله ذاتها   و يرث ذات الاستبداد وراثة, وما زال الناس يعيشون عمليا استبدادا شرسا كانوا قد أنتجوه في السحيق من الزمان,ولذلك فان الحاكم الشمولي المستبد هو مُنْتَج اثري يحكم بأمر الإله وبصلاحيات الرحمة المطلقة والعقاب الكاسح, وهو ذاته الذي ينشئ الناس منظومة من المحاذير لتجنب غضبه ومنظومة من الطاعة والولاء لاستدراج رضاه.
واعتقد أن بحثا مختصا في هذا الاتجاه يمكنه حسم الكثير بشان ظاهرة الحكم المتخلف الشمولي في بلداننا ،ويدعم السعي الشعبي الى العمل على  ( إنتـاج الحكم) لا( إنتاج الحاكم) لان الأول يوجِد تلقائيا حاكما بشرا معتدلا  منسجما مع طبيعة الحكم الذي تواطأ واجمع الناس على ملائمته لتنظيم شؤونهم, فيما يتجه البحث عن (حاكم) إلى ذات الخديعة الأولى في منح صلاحيات مطلقة في الحياة والدولة وشؤون العباد لرمز مسخ لايد فوق يده ولاحرية للحوار معه والتصدي لتجاوزاته.
 



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن