إنها صحوة موت ولكن, ....!

كاظم حبيب
khabib@t-online.de

2003 / 9 / 29

إن العمليات التخريبية والتفجيرات التي تستهدف المواطنات والمواطنين الأبرياء والاغتيالات السياسية وأعمال القرصنة والتجاوز الإجرامي المتواصل على المنظمات الدولية, التي تطلق بعض وسائل الإعلام العربية على تلك العمليات عبارة "المقاومة" لقوات الاحتلال, ليست سوى التعبير الصارخ عن الإحباط الذي تعيش فيه تلك الجماعات المنظمة لهذه العمليات من جهة, كما أنها التعبير الواقعي عن الطبيعة الإجرامية لهذه الجماعات, سواء تلك التي فقدت الحكم في العراق أم تلك التي عبرت الحدود لتنشر الفوضى في ربوع العراق أم القوى الإسلامية المتطرفة من مشردي القاعدة وطالبان في أفغانستان ومن يطلق عليهم بأنصار الإسلام في العراق من جهة أخرى, إضافة إلى إنها تشير إلى المستوى الذي بلغته بعض وسائل الإعلام والقوى القومية العربية اليمينية المتطرفة التي لم تجد مشكلة في التعامل مع مجرمي المقابر الجماعية, ولكنها تجد حرجاً في التعاون ومساندة القوى العراقية التي ناضلت ضد الطاغية صدام حسين من جهة ثالثة .
من الممكن لهذه العمليات الإجرامية أن تعرقل عملية إعادة الإعمار وتنشر القلق في نفوس الناس البسطاء, أو أن تعيق الانتهاء السريع والمطلوب من إنجاز مهمات فترة الانتقال وإنهاء الاحتلال واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية التي فقدها قبل وقوع الاحتلال الفعلي بسنوات كثيرة. ولكن هذه العمليات الجبانة لن توقف مسيرة التطور التي ينشدها العراق في ظل الأمن والاستقرار والسلام, مسيرة التقدم الاقتصادي وتصفية الإرث الاستبدادي لحكم الطاغية على مختلف المستويات وفي جميع المجالات, وهي عملية كبيرة جداً وتستغرق وقتاً غير قصير وتحتاج إلى تعبئة كل الجهود العراقية والعربية والإقليمية والدولية.
إن ما يقتل اليوم على أيدي هذه العصابات الإجرامية كبير جداً, إذ أن موت إنسان واحد هو بحد ذاته مسألة كبيرة. كما أن موت آخرين على أيدي قوات الاحتلال كرد فعل لتلك العمليات هو الآخر كبير جداً. وعلى عاتقنا جميعاً تقع مسؤولية إيقاف نزيف الدم المستمر في العراق. ومع ذلك لا بد لنا من الإشارة الواضحة إلى أن النظام العراقي كان في بعض الأحيان يقتل في يوم واحد ما يقتل اليوم في العراق في شهر أو شهرين. فما تزال طرية في الأذهان حملات الأنفال الدموية في كردستان العراق أو حملات القتل الجماعية في أعقاب انتفاضة عام 1991 أو حملات تطهير السجون العراقية التي تجاوز القتل فيها عدة ألاف في فترة قصيرة جداً من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين, دع عنك العذابات الأخرى التي كان يتعرض لها الإنسان العراقي من جراء وجود النظام الدموي في السلطة. وهذا التوضيح لا يعني أن نسكت عما يجري اليوم في العراق, بل يستوجب منا شد الهمم والعمل المتواصل لمواجهة التدهور الملموس في الوضع الأمني في العراق وإيقاف الموت.
إن ظاهر المشكلة يبدو وكأن النشاط التخريبي هو الذي يعيق عملنا, في حين أن المشكلة الفعلية تكمن في طريقة وأسلوب عمل سلطة الاحتلال وقواتها العسكرية وفي طبيعة علاقتها بمجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة وبالمجتمع العراقي بشكل عام. هنا تكمن المشكلة فعلاً وعلينا معالجتها لكي لا تستفحل الظواهر السلبية التي تنجم عنها أو تلك التي تستثمر ذلك لتصعيد العمليات التخريبية. علمتنا الحياة بأن بروز ظواهر سلبية واستفحالها في سلوك الفرد أو الجماعة أو الدولة يفترض أن يبدأ التفتيش عن الأخطاء التي سببت تلك الظواهر في الذات, سواء أكان شخصاً أم جماعة أم دولة أولاً وقبل كل شيء. وهذا بدوره لا يعني أننا نريد أن نعفي العصابات المخربة من أعمالها الإجرامية, بل ندينها ونسعى إلى إيقافها. ولكي نوقفها يفترض أن ننظر إلى سلوكنا ونصحح مساراتنا.
عندما نتابع الوضع في العراق عن قرب شديد وبعين فاحصة مدققة ومسؤولة سنجد أن سلطة الاحتلال, بالرغم مما تقوم به وما أنجزته حتى الآن, فإنها وكأنها لا تريد أن تكف عن ارتكاب الأخطاء اليومية بغض النظر عن الأسباب, وأنها أصبحت مشدودة إلى تلك الأخطاء وغير قادرة على الفكاك منها. وهي غير مرتبطة بطبيعة الحال بسلطة الاحتلال والقوات العسكرية التابعة لها, بقدر ما ترتبط بالإدارة الأمريكية التي توجه نشاط سلطة الاحتلال. وهذا لا يخفف من أخطاء الممارسة الفعلية لتلك التوجيهات. لا أريد العودة إلى الأخطاء التي ارتكبت خلال الأشهر الستة المنصرمة على انتهاء الحرب, بل على التعامل الجاري حالياً. إن إثارة هذه الأمور لا تهدف إلى إثارة التناقض المفتعل بين سلطة الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي, أو إثارة النزاع بينهما, بل يفترض من مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة والطرف العراقي عموماً السعي الديمقراطي والسلمي لتوضيح الموقف والإشارة الواضحة والصريحة إلى موطن الخطأ لتجاوزه, إذ أن عواقب تلك الأخطاء ترجع على الشعب العراقي على المدى القريب والبعيد أولاً, ولكنها ترجع على قوات التحالف المحتلة ثانياً, وعلى عوائل القوات العسكرية أيضاً. 
تعتمد سلطة الاحتلال على مجموعة من الأشخاص الذين كسبتهم قبل بدء الحرب, سواء ممن كان يعمل في أجهزة المخابرات العراقية أم الأمن القومي والداخلي في القوات المسلحة وشبه المسلحة الأخرى, في التفتيش عن الذين يقومون بأعمال التخريب الراهنة. هذا الأمر مفيد جداً في متابعة مجموعات من فلول صدام حسين. ولكن هذا جانب واحد ومحدود من القوى التي تقوم بعمليات التخريب في العراق حالياً. إذ أن صدام حسين كانت له جماعات سرية لم يطلع عليها إلا البعض القليل من الأفراد القريبين منه جداً والتي تعمل الآن بحيوية لإقلاق راحة قوات الاحتلال وإثارة عوائلهم في الولايات المتحدة. كما أن هناك تلك القوى التي تصل إلى العراق يومياً من خلال الحدود الواسعة بين العراق والدول المجاورة, وكذلك الجماعات العراقية الأخرى التي تريد إثارة الصراعات السياسية والطائفية والإقليمية والقومية في العراق.
صرح السيد باول بريمر يوم أمس (26/9/2003) إلى أن الجماعات الإرهابية العاملة في العراق تتوزع على مجموعتين, وهما مجموعة أنصار الإسلام ومجموعة أخرى تصل إلى العراق عبر الحدود ولها صلات بالقاعدة وبتنظيمات إرهابية إسلامية أخرى. وأشار إلى أن نصف هؤلاء يأتون عبر الحدود السورية والبقية عبر المناطق الأخرى وبينهم من قدم من إيران واليمن وأن نصفهم تقريباً من السوريين. ومع صواب تحديد هاتين الجماعتين, فأنه يشكل نصف الحقيقة, إذ أن الحقيقة هي وجود قوى صدام حسين التي تمارس الإرهاب والتخريب في العراق, إضافة إلى بعض الجماعات التي لا ترتبط بأحد ولكنها تقوم بذلك بسبب موقفها من الاحتلال أو ربما لها علاقات بالقوى القومية اليمينية الشوفينية المعروفة لنا جميعاً والمتحالفة بصيغ مختلفة مع قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية.
وإغفال ذلك يعطي الانطباع وكأن قوى صدام حسين لم تعد تعمل في الساحة السياسية العراقية, وأنها ارتضت بمصيرها الراهن, وهو أمر غير صحيح.
وعلى أي حال فأن نشاط هذه القوى مجتمعة لا يعبر عن قوة فيها بل يعبر عن كونها في الرمق الأخير من عملها في العراق, وهي أشبه ما تكون بصحوة موت لا غير. ولكي تصبح كذلك يتطلب منا العمل الدؤوب لتحويل هذه الرغبة في كونها صحوة موت إلى حقيقة واقعة, إنه الجهد المشترك المنشود لكل القوى التي يهمها موضوع الحرية والديمقراطية والأمن والسلام في العراق, والتي ترفض الاحتلال وتسعى إلى رحيل القوات الأجنبية بأسرع وقت ممكن, بعد أن يتمكن الشعب العراقي وقواه السياسية من الإمساك بزمام الأمور ومنع تحويل العراق إلى ساحة للصراع الدموي بين القوى السياسية الإرهابية المتطرفة من جهة والقوى الديمقراطية وبقية العاملين في مجلس الحكم الانتقالي من جهة أخرى.
إن أساليب عمل سلطة الاحتلال لا ترضي الشعب العراقي ولا توفر الحماية له ولا تعجل بإنجاز مهمات مرحلة الانتقال. فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدر السيد باول بريمر قرار الاستثمار الأجنبي في العراق, كما توجه صوب خصخصة المشاريع العراقية التابعة للدولة العراقية, أو منح عقود لشركات أمريكية دون التشاور مع مجلس الحكم الانتقالي. وهذه القرارات فردية ولم تخضع لموافقة مجلس الحكم الانتقالي, إذ أن السيد بريمر يعتبر هذه القضايا من صلاحياته وليست من صلاحيات مجلس الحكم. وهو خطأ فادح يرتكبه بريمر إن واصل ذلك ويقود إلى تشديد الفجوة بين الشعب وسلطة الاحتلال. والقوى المعادية للوضع الراهن ومجلس الحكم تستفيد من هذه الأخطاء كثيراً وتحاول نشرها وتعبئة الناس ضد سلطة الاحتلال ومجلس الحكم في آن واحد.
إن تغيير سياسة سلطة الاحتلال في العراق باتجاه القبول بوجود قوات من الأمم المتحدة في العراق وتقليص عدد القوات الأمريكية وتسليم المزيد من المهمات لمجلس الحكم الانتقالي, بما في ذلك المالية, وزيادة الاعتماد على الشعب العراقي في مواجهة المشكلات القائمة سيساهم في إضعاف القوى المناهضة وسيسقط في أيديها ويعزلها عن حتى أتباعها الحاليين, وهو الذي سيجعل قوى فلول صدام حسين وبقية عصابات الغدر والتخريب والموت في مواقع ضعيفة ومعزولة وبالتالي, ستسهل عملية الخلاص من هذه الجماعات سياسياً وأمنياً. ولا يمكن دفع هذه القوى إلى مواقع الإفلاس السياسي والكف عن أعمال التخريب إلا بإجراءات سياسية عقلانية وطرح البديل الديمقراطي العراقي المناسب.
 
            



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن