قراءة في قصيدة عاشقة الليل

جميل الشبيبي
jamilalshibibi@yahoo.com

2007 / 7 / 11

يمكن اعتبار قصيدة ( عاشقة الليل) للشاعرة نازك الملائكة من القصائد المبكرة التي اعتنت بتأثيث عالم الشاعرة الأثيري –عالم الشباب - وفضاءاته الخاصة التي لازمتها فترة طويلة نسبيا .ولهذا تصدرت ديوانها الاول الذي صدر عام 1947 .ويلاحظ في بنية هذه القصيدة ميلها للتجسد في مشاهد تميل الى التواشج والتلاحم مع الطبيعة باجوائها المنفتحة الفسيحة بعيدا عن عالم الواقع المعيش الذي يتصف نهاره في القصيدة بالبرد الذي يعني الموت. .ويتضح التجديد في الفضاء الشكلي لهذه القصيدة في ميل الشاعرة الى كتابتها على وفق فضاء خاص يحافظ على التدوير في البيت الواحد وفي اتصال الابيات مع بعضها في دفق رقيق ومستمر يكشف ميلها المبكر بالمخالفة في تشطير قصيدتها على وفق القصيدة العربية الكلاسيكية كما أن اختيارها لعالم الليل في هدوئه وانبساطه وزوال الحدود بين مكوناته يمثل تجديدا في الموضوع الذي أصبح في هذه القصيدة فضاء دلاليا باتجاه تجسيد إيماءات روحية تتصاعد من داخل الذات باتجاه العالم اللامتناهي في رحلة تعمد الى كسر صلابة الجسد ومحدوديته باتجاه التماهي مع عالم الأثير الواسع فيصبح الجسد الصلب ( شبح بادي الشحوب ) بتبادل طريف بين (شبح وشحب ) بما يسمى بالجناس الناقص وكلاهما يميل الى اللاتجسد في الشكل .
ومن أجل إيضاح بنية هذه القصيدة بالعلاقة مع العالم الذي تبنيه وتنمو في اطاره سنعمد الى قراءتها بالعلاقة مع زمن الكتابة والنشر .
نشرت قصيدة ( عاشقة الليل ) في 4/4/ 1945 وهي تتكون من ثمانية مقاطع كل مقطع بخمسة ابيات بما يساوي اربعين بيتا على وزن مجزوء الرمل وكل مقطع بقافية مختلفة .
ويلاحظ في القافية ميلها الى المد باستخدام الحركات التي تعوض عن حركات المد الأصلية في نهاياتها وكأنها تود إنشاء صورة صوتية ممتدة ومتداخلة بالكسر والضم باتجاه الالتحام مع الطبيعة في الليل الصامت الحزين .
اما المد بحرف الإلف فيأتي كاملا وكأنه إطلاق آهة كبيرة في عالم الواقع الضيق الرتيب باتجاه فضاء الليل الفسيح .
ان استخدام المد القصير بالحركات ( الكسرة والضمة ) تلاحظ في كل ابيات القصيدة بما يعني ضرورة إيقاعية وبنائية وكان بامكان الشاعرة استخدام علامة الوقف ( السكون ) من دون ان يؤثر ذلك في الوزن ولكنها فضلت استخدام الحركة في نهاية كل بيت للايحاء بذلك الامتداد الصوتي الذي اشرنا اليه .
كما نلاحظ ان الشاعرة تجنبت تشطير قصيدتها بما هو مألوف في القصيدة العربية من اجل اضفاء فضاء خاص لقصيدتها يكسر المألوف ويشير إلى تمردها القادم الذي أنجزته في ديوانها الثاني ( شظايا ورماد )
في المقطعين الأول والثاني توصيف لمشاهد متجاورة أساسها النداء الذي يعتني باقتراب المنادى وحميميته والنداء موجه مرة الى ظلام الليل وأخرى الى الليل ( يا ظلام الليل ....ياليل) بإسقاط كلمة الظلام ليصبح النداء موجها لليل كذات فاعلة في النفس ويتأكد ذلك بالأوصاف الحميمة ( يا طاوي أحزان القلوب ) في المقطع الأول و( اه يا ليل ويا ليتك تدري ما مناها ) وهو اقتراب كثير من هذه الذات الغامضة .
في المقطع الثالث يجري توكيد اندماج بين الذات الموصوفة ( فتاة شهد الوادي سراها ) وبين الليل في لقاء محبب ( فاغرتها الدياجي والسكون ، وتصباها جمال الصمت ...)وينتقل النداء إلى الذات الشاعرة في المقاطع الباقية من القصيدة باعتبارها (عاشقة الليل )التي تتماهى مع سكون الليل وصمت الكائنات بنداءات حزينة تكرس هذا الجو الكئيب ويتضح ذلك بنداءات دالة ( وما انت سوى آهة حزن ) أو ( شاعرة الحيرة ...شاعرة الصمت وقيثار المساء )
ان انتقال الخطاب الشعري من ( ظلام الليل ) إلى الليل ابتداء من المقطع الثاني اشارة الى تجريد ه من الظلمة وإسباغ صفات جديدة عليه تضفي عليه الإلفة والحنو على الذات في تأملاتها وتجليات أعماقها باتجاه مجهول محبب :
جنها الليل فاغرتها الدياجي والسكون
وتصبّاها جمال الصمت ، والصمت فنون
وبهذا المعنى تصبح (الدياجي والصمت ) قرينين أليفين للذات وهي تحتفل بهذا الحزن الشفيف ملتحمة بالكون الحزين بل ان هذا الظلام الحالك يتحول الى محرض محبب للاندماج في عالم الطبيعة المترامي الذي يمحو الظلام إبعاده فيتسع الأفق وتتداخل السماء بالأرض وتسري الأشكال والكائنات والرؤى في مسرى من الحزن الشفيف.
ايه يا عاشقة الليل وواديه الأغن
هو ذا الليل صدى وحي ورؤيا متمني
تضحك الدنيا وما أنت سوى آهة حزن
ان احتماء ذات الشاعرة بالليل بعيدا عن (برد نهار لف مسراه الحنين ) يعني الانزواء عن عالم الحركة والضجيج عالم الواقع المعيش والانطلاق في اجواء الوحده الرحيبة باتجاه المجهول وهذا ما يتضح من الأسئلة الوجودية العميقة التي تطلقها الذات في هذا الفضاء الرحب . أسئلة تحمل إجاباتها المبطنة بالاختيار الحر الذي تتحكم به (ام ) المعادلة :
أهي أحلام الصبايا أم خيال الشعراء؟
أم هو الأغراء بالمجهول أم ليل الشقاء ؟
ام ترى الآفاق تستهويك أم سحر الضياء ؟
وتبدو الإجابات في فضاء هذه الأسئلة هي الأسئلة نفسها أما استخدام الاستفهام في تشكيل الجمل الشعرية في هذا المقطع فهو نوع من التنوع الكتابي بديلا عن الجمل الخبرية التي استخدمتها الشاعرة في المقاطع الأخرى من القصيدة ويتضح خرق استخدام الجملة الاستفهامية باتجاه الجملة الخبرية في المقطع السابع من القصيدة حين تتحول الأسئلة إلى إجابات مبطنة :
عجبا شاعرة الحيرة ، ما سر الذهول ؟
ما الذي ساقك طيفا حالما تحت النخيل ؟
ففي هذه الجمل الاستفهامية يجري إنشاء مشاهد وصفية تؤثث للعلاقة بين الذات والعالم المحيط ولذا فهي تدخل ضمن عالم الخبر ويأتي الاستفهام هنا صيغة للتعجب من هذا النزوع الذي يكتنف الذات ويشدها إلى هذا العالم الغيبي المترامي .ويتأكد ذلك من التحذيرات والمخاوف التي يشيعها المقطع الأخير من القصيدة كدالة على نكوص وضعف وتردد عندما تتسيد أفعال الأمر على بدايات الاشطر : ( أنصتي ، ارجعي ، ارحمي إضافة إلى كلمات نفي تشير إلى لا جدوى هذا التماهي مع عالم الليل:( لن تنطق هذي الظلمات ).
ان انتقال الجمل الشعرية من كثافة التجسيد الوصفي لمشهد الليل وأجوائه الفسيحة وكذلك تجسيد ( عاشقة الليل ) في تهويماتها الى هذه النهاية المأساوية ( لن تنطق هذي الظلمات ) إشارة واضحة للحيرة والشك والتردد والخوف من النهايات المحتومة وميل واضح الى الآفاق المفتوحة الغامضة التي تحن اليها عاشقة الليل في مسراها باتجاه هذا الأفق الغامض الحزين .




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن