الأمَّولة الرأسمالية


ثامر الصفار
2007 / 5 / 24 - 13:15     

جون بيلامي فوستر
ترجمة: ثامر الصفّار

يمكن ان تكون لسوق النقود ايضا ازماتها الخاصة التي لا تلعب فيها المخالفات المباشرة للانتاج الصناعي الا دوراً ثانوياُ تابعاً او حتى لا تضطلع فيها باي دور. هنا لا بد ايضا من توضيح ودراسة شيء ما.... فما ان تنفصل تجارة النقود عن تجارة البضائع حتى تكتسب – في ظروف معينة يحددها الانتاج وتجارة البضائع، وضمن هذه الحدود – تطوراً خاصاً بها، وحتى تغدو لها قوانين خاصة وأطوار خاصة تحددها طبيعتها الخاصة. وعندما تتسع تجارة النقود، فضلا عن ذلك، خلال تطورها، حتى تشمل تجارة الاوراق المالية – مع العلم ان هذه الاوراق المالية لا تتألف من سندات الدولة فقط، بل تتألف ايضا من أسهم مؤسسات الصناعة والنقليات، وتظفر تجارة النقود، بالتالي، بالسيادة المباشرة على قسم من الانتاج الذي يسود عموماً واجمالا عليها، - عند ذاك يصبح التأثير المقابل لتجارة النقود على الانتاج اقوى وأعقد. ان تجار النقود هم مالكو السكك الحديدية والمناجم ومصانع التعدين، والخ.. وتكتسب وسائل الانتاج هذه طابعاً مزدوجاً: فان عملها يجب ان يتكيف تارة لمصالح الانتاج المباشر، وطوراً لمطالب المساهمين لانهم اصحاب مصارف. وأسطع مثال على هذا، السكك الحديدية في امريكا الشمالية. فان كل عملها رهن في الوقت الحاضر بعمليات البورصة التي يقوم بها جاي غولد أو فندربيلت أو أي آخر، وهي عمليات غريبة تماماً عن نشاط سكة بعينها وعن مصالحها بوصفها وسيلة للمواصلات.
رسالة من فردريك أنجلز الى كونراد شميدت
27 تشرين الاول 1890
في ماركس أنجلس، مختارات في اربعة اجزاء
الجزء الرابع، ص160-161
إمتازت التغيرات التي طرأت على الرأسمالية خلال العقود الثلاثة الماضية بإستخدام ثلاثة مصطلحات: الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)، العولمة، والامولة (Financialization). وقد حظي المصطلحان الاوليان بالكثير من الاهتمام في حين بقّي الثالث اقل حظا في لفت الانظار.1وبرغم ذلك فرضت الامولة نفسها لتصبح القوة المهيمنة في هذا الثالوث. ولهذا فإن الامولة الرأسمالية – تحول زخم النشاط الاقتصادي من القطاع الانتاجي (بل وحتى من قطاع الخدمات الاوسع حجما) الى قطاع التمويل – تمثل اليوم واحدة من اهم القضايا التي يتوجب معاينتها عن كثب. اذ انها تطرح امامنا سؤالا: هل دخلت الرأسمالية مرحلة جديدة؟
انني أرى انه برغم تغير النظام الرأسمالي بفعل ظاهرة الامولة فان الحديث نافل عن مرحلة جديدة للرأسمالية، اذ لا تزال مسألة تراكم الانتاج شاخصة امام اعيننا دونما تغير. ولكن يمكن القول بان الامولة ولّدت طورا هجينا ضمن مرحلة الرأسمالية الاحتكارية يمكن التعبير عنه بمصطلح " رأسمال مالي - احتكاري"2 . لقد حُشر الرأسمال في دورة يبدو الا نهاية لها من الركود والانفجار المالي بدلا من التقدم في طريقه الاصولي المألوف. وتحتل هذه العلاقات الاقتصادية الجديدة ، رأسمال مالي- احتكاري، موقع المركز في الولايات المتحدة الامريكية حيث تهيمن على الاقتصاد الرأسمالي فيها، وقد بدأت بالنفوذ اكثر فأكثر داخل النظام العالمي.
ان أصول مصطلح الامولة غامضة، مبهمة، برغم ظهورها بذبذبات عالية في اوائل التسعينات.3 لكن القضية الاساسية لتحول الرأسمالية الى التمويل كانت موجودة بين ظهرانينا منذ اواخر الستينات. وكان اول من انتبه لها من المفكرين اليساريين ( وربما من جميع المفكرين) وتفحصها باسلوب نظامي هما هاري مجدوف و بول سويزي.4
اشار روبرت بولين – من افضل محللي الامولة واستاذ الاقتصاد في جامعة ماسيستشوتس – الى انها " بدأت في اواخر الستينات وتواصلت خلال السبعينات والثمانينات" وان مجدوف وسويزي وثقا " نشوء شكل للرأسمالية اخذ يتصاعد باضطراد – زيادة دور التمويل في العمليات الرأسمالية. وقد اصطلح عليه، الامولة، واعتقد ان من العدل القول بان بول وهاري هما اول اليساريين الذين لاحظوا ذلك ودعوا الى الاهتمام به. وقد تمكنا من ذلك بفعل امتلاكهما القدرة على رؤية التطبيقات الواسعة للفهم الماركسي للواقع". وفي مناسبة ثانية قال بولين " لقد كان مجدوف وسويزي رائدين حقيقين في ادراك واستيعاب هذه النزعة.... وقد تتبع الجزء الاكبر من دراساتهما (المنشورة في مجلة المانثلي ريفيو على امتداد ثلاثين عاما) بشكل مبسط وبتفصيل كامل نشوء الامولة كظاهرة... وليس من المعروف كم كان سيتغرقنا الوقت لننتبه الى هذه الظاهرة لولا العمل البديع الذي قام به هاري وبول"5 .
من الركود الى الامولة
لم يكن مجدوف و سويزي مجرد مقرران لارقام واحصائيات هذا التوجه، بل نظرا اليه بعيون التحليل التاريخي للتطور الرأسمالي. ولعل ابرع تعبير عن ذلك هو ما قدمه سويزي عام 1997 في مقالته الموسومة" اكثر (او اقل) عن العولمة". حيث اشار فيها الى ما سماه : الاتجاهات الضمنية الثلاث الاكثر اهمية في التاريخ الحالي للرأسمالية، الفترة التي ابتدأت مع ركود عام 1974-1975: (1) تباطئ نسبة النمو العام، (2) التكاثر الواسع النطاق للشركات المتعددة الجنسية الاحتكارية (احتكار القلة)، و (3) ما يمكن ان يسمى امولة عملية التراكم الرأسمالي".
لقد كانت هذه الاتجاهات الثلاثة بالنسبة لسويزي " مترابطة بشكل فعّال" فالاحتكارية تنزع الى تضخيم الارباح للشركات الكبرى والى تقليل " الحاجة الى المزيد من الاستثمارات في الاسواق المسيطر عليها تماما". والمنطق في هذا هو ان " المزيد المزيد من الارباح، والقليل القليل من فرص الاستثمار المربحة، هو الوصفة اللازمة لتخفيض سرعة تراكم رأس المال وبالتالي النمو الاقتصادي المُدار بقوة التراكم الرأسمالي".
ومع استمرار رأس المال في سعيه لايجاد افضل السبل لاستخدام فائضه من القيمة الاقتصادية، بدأت النتيجة " عملية مضاعفة من تداعي الاستثمار الحقيقي يقابلها عملية مضاعفة من تبرعم الامولة" بالظهور لاول مرة عبر إفول " العصر الذهبي" لعقود ما بعد الحرب العالمية الثانية و"واصلت وجودها بشدة اكبر الى يومنا الحاضر"6 حسب ملاحظة سويزي.
وقام كل من بول باران وبول سويزي بتجذير هذه الحجة في اطار نظري ضمن كتابهما الموسوم " الرأسمال الاحتكاري" عام 1966، الذي كان متأثرا بعمل الاقتصاديين مايكل كاليسكي وجوزيف ستيندل – واذا ما اردنا العودة الى الوراء قليلا فانه كان متأثرا بكتابات ماركس وروزا لوكسمبرغ7 . فالاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري ، حسب باران وسويزي هو نظام انتاجي ضخم جدا يولد فائض قيمة هائل لعدد قليل من الاحتكاريين- احتكار القلة- من المالكين والمستفيدين الاساسيين من النظام. فباعتبارهم رأسماليين نجدهم يبحثون عن امكانية استثمار فائض القيمة هذا لخلق تراكم اكبر. لكن نفس الظروف التي تُنشط فائض القيمة هذا تضع ايضا عوائق تحدد استثمارهم المربح. فالشركات الكبرى تتمكن اليوم، بالكاد، من بيع كل البضائع المتوفرة الى المستهلكين باسعار صُممت للحفاظ على المستوى الحالي من الربح الاحتكاري. وينتج عن حالة الضعف التي يعاني منها نمو الاستهلاك الى تخفيض الطاقة الانتاجية ضمن مسعى الشركات الى تجنب فيض الانتاج وانخفاض الاسعار التي تهدد بالتالي حصتهم من الارباح. وانخفاض الطاقة الانتاجية هو بمثابة ناقوس الخطر بالنسبة للمستثمرين اذ انها تعني انخفاض ممائل في فرص الاستثمار ضمن الطاقة الانتاجية الجديدة.
معضلة اصحاب الاموال
ان المعضلة لاصحاب الاموال تكمن في ماذا يفعلون بفائض القيمة الهائل المتوفر لديهم امام ندرة فرص الاستثمار. وكان الحل منذ السبعينات يتمثل في توسيع طلبهم لمنتوجات مالية كوسيلة لصيانة وتوسيع رأسمالهم المالي. ومن جانب العرض، ضمن عملية العرض والطلب، تقدمت المؤسسات المالية بمجموعة ضخمة من الادوات المالية. وكانت النتيجة صعودا صاروخيا للمضاربة المالية التي تواصل وجودها منذ عقود بعناد جلي.
لقد كان هناك بضعة من الاقتصاديين التقليدين ممن اقلقهم هذا النمو المالي غير المتسق. ففي عام 1984 تحدث جيمس توبين ، العضو السابق في المجلس الاستشاري الاقتصادي للرئيس كيندي، والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1981، " حول كفاءة النظام المالي" وذهب الى الاشارة الى الجانب المقامر(اسلوب الكازينوهات) لاسواقنا المالية". وواصل حديثه ليقول:
اعترف ... باننا نرمي بالكثير الكثير من مواردنا.. الى نشاطات مالية بعيدة عن انتاج السلع والخدمات، الى نشاطات تولد منافع خاصة لا تتناسب مع انتاجيتها الاجتماعية. واشك ان القوة الهائلة للكومبيوتر قد سُخرّت لهذا " الاقتصاد الورقي"، لا بهدف القيام بنفس العمليات التجارية بصورة اكثر اقتصادية، بل لنفخ كمية وتنوعات المبادلات المالية. وربما لهذا السبب فقد انتجت التكنولوجيا المتطورة نتائج مخيبة للامال في الانتاجية الاقتصادية. واخاف، مثلما رأى كينيس في زمانه، ان فوائد السيولة والتفاوضية للادوات المالية تأتي على حساب تسهيل او توفير درجة معينة من المضاربة قصيرة النظر وغير كفؤة... اشك بان كينيس كان على حق عندما اقترح ان علينا توفير موانع اكبر للاسهم العابرة، قصيرة الامد، ومنافع اكبر للمستثمرين طويلي الامد8 .
رأسمالية قاصرة
كان ما قصده توبين هو ان الرأسمالية بدأت تصير غير كفؤة من خلال تكريس رأسمالها الفائض الى المضاربات، والمقامرة بدلا من استثمار طويل الامد في اقتصاد حقيقي9 . وكان قد اقترح خلال السبعينات ما عُرف فيما بعد " بضريبة توبين" على المعاملات التجارية الدولية. وكان الهدف منها تقوية الاستثمار عبر تحويل ثقل الاقتصاد العالمي من المضاربات المالية الى الانتاج.
وبخلاف حاد مع امثال توبين الذي اقترح ان النمو المتسارع لقطاع التمويل لابد ان يكون له تأثيراته الحتمية على الاقتصاد الحقيقي، فان مجدوف وسويزي، في مقالة لهما عام 1985 تحت عنوان " الانفجارالمالي" ادعيا بان الامولة كانت مسألة عملية بالنسبة للراسمالية في سياق الميل الى الركود:
هل يوجه مجتمع الكازينو (المقامرة) الكثير من المواهب والطاقات لالعاب مالية سطحية. نعم بالطبع. اذ ليس هناك انسان عاقل يمكنه نكران ذلك. وهل يفعل ذلك على حساب انتاج سلع وخدمات حقيقية؟ كلا على الاطلاق. فليس ثمة سبب لافتراض اننا اذا ما افرغنا الهيكل المالي، فان المواهب والطاقات الموظفة الان ستنتقل الى العملية الانتاجية. اذ سيتحول هؤلاء الى عاطلين عن العمل مضيفين اعباء كبيرة على الدولة التي تعاني من الاحتياطي الضخم من الموارد البشرية والمادية. هل يقود مجتمع الكازينو الى زيادة ملحوظة في النمو الاقتصادي؟ مرة اخرى، كلا على الاطلاق. فاين هو النمو الاقتصادي في ايامنا هذه الذي يعزى بشكل كامل الى الانفجار المالي10 .
بهذه النظرة فان الراسمالية كانت تمر بعملية تحول، جسدتها علاقة نامية، معقدة، نشأت بين الركود والامولة. وبعد عقد من السنين تقريبا اعلن سويزي في " نفير الرأسمال المالي":
لقد قلت ان هذه البنية الفوقية المالية كانت وليدة العقدين الاخيرين. وهذا يعني ان نشوءها كان متزامنا مع عودة الركود في السبعينات. ولكن الا يتعارض ذلك مع كامل التجربة السابقة؟ فقد سار التوسع المالي تقليديا يد بيد مع ازدهار الاقتصاد الحقيقي. هل ثمة امكانية حقيقية لبطلان ذلك من الان فصاعدا، وان العكس هو الاقرب الى الحقيقة ونحن في اواخر القرن العشرين: بكلمة اخرى، ان التوسع المالي، الان، لا يتغذى على اقتصاد حقيقي وصحي، بل على اقتصاد راكد؟
اعتقد ان الاجابة على هذا السؤال هي نعم يمكن ذلك، وهذا ما يحدث بالفعل. واضيف بانني على ثقة تامة بان هذه العلاقة المقلوبة بين المالي والحقيقي هي المفتاح الاساسي لفهم التوجهات الجديدة في الاقتصاد العالمي.
بالتأمل فيما سبق ذكره، فانه من الواضح ان هذه " العلاقة المقلوبة" كانت امكانية ذاتية، كامنة، للرأسمالية منذ البداية، اي موجودة في رحم الرأسمالية. لكنها واحدة من العلاقات التي لا يمكنها ان تتجسد الا في مرحلة محددة من تطور النظام. الامكانية المجردة تكمن في حقيقة، شدد عليها ماركس وكينيس، تقول بان عملية التراكم الرأسمالي ذات وجهين: الاول ملكية الموجودات الحقيقية، والثاني امتلاك الوثائق التي تثبت هذه الملكية. وفي ظل هذه الظروف فان امكانية التناقض بين التراكم الحقيقي والمضاربة المالية كانت في رحم النظام منذ البداية.
وبرغم ان الاقتصاديين التقليديين افترضوا دائما ان الاستثمار الانتاجي والاستثمار المالي مرتبطان ببعضهما، فان الواقع اثبت بطلان تلك الفرضية. اذ ليس هناك بالضرورة علاقة مباشرة بين الاستثمار الانتاجي وتكديس الموجودات المالية. ولهذا فثمة امكانية "لافتراقهما" الى درجة معينة11 . بيد ان هذا التناقض، بدون وجود نظام مالي ناضج، لا يمضي ابعد من ان يكون فقاعات مضاربية تضع بعض النقاط السوداء في تاريخ الرأسمالية، وتحديدا تضع نقاط النهاية لكل مرحلة ازدهار. فالبرغم من تقديمها ارباكات جدية، فان هذه الاحداث لا تؤثر الا قليلا، وربما لا تؤثر على الاطلاق، على هيكل ووظيفة النظام ككل.
وقبل ان ينضج التناقض بين الانتاج والتمويل، وقبل ان يحتل التمويل وسط المسرح، كان لابد من ظهور الرأسمالية الاحتكارية في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، وتطور سوق للامن الصناعي. ففي مستهل العقود التي شهدت نشوء الرأسمالية الاحتكارية، ظهر الاستثمار البنكي، الذي ارتبط بمد سكك الحديد، كمركز قوة مالية، سهلت عملية اندماج الشركات الكبرى، وبدء اقتصاد تهيمن عليه حفنة من الشركات الاحتكارية العملاقة. وقد طور كل من الامريكي ثورستين فيبلن والاسترالي رودلف هيلفيردنغ، على حدة، نظريات الرأسمال الاحتكاري في تلك الفترة، مشددين بصورة خاصة على دور الرأسمال المالي.
على اية حال، عندما ضرب عقد الركود العظيم ضربته، انهارت البنية الفوقية المالية للاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري، إثر انهيار سوق البورصة عام 1929. وخلال عقد الركود تناقص حجم الرأسمال المالي ولم يتمكن من لعب اي دور جوهري لعلاج الاقتصاد الحقيقي. وكان ما اخرج الاقتصاد الامريكي من حالة الركود هو توسع الدولة في الميزانية العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية12 .
وعندما كتب بول باران و بول سويزي كتابهما الرأسمال الاحتكاري في اوائل الستينات فقد شددا على الاسلوب الذي تمكنت فيه صرفيات الدولة في الجانبين العسكري والمدني، والسعي الى زيادة المبيعات، وانتاج موجة جديدة من السيارات، وغيرها من العوامل، التي لعبت جميعها دور الرافعة للاقتصاد الرأسمالي خلال الستينات، وامتصت فائض القيمة واخرجت النظام من حالة الركود. كما اشارا ايضا الى المقدار الضخم من فائض القيمة الذي ذهب الى قطاعات التمويل، الاستثمار، والعقارات، لكنهما لم يبحثا هذا الامر بعمق أنذاك.
ولكن مع عودة الركود الاقتصادي خلال السبعينات بدء باران وسويزي يصبان تركيزهما على نمو التمويل. حيث قالا في عام 1975 في عملهما المشترك الموسوم " البنوك: التزلج على جليد رقيق"، " ان الافراط في توسيع القروض والتوسع الهائل في عدد البنوك هو بالضبك ما كان مطلوبا لحماية النظام الرأسمالي وارباحه، للتغلب، وقتيا على الاقل، على تناقضاته، ولدعم التوسع الامبريالي وحروب الولايات المتحدة الامريكية"13 .

الرأسمال المالي الاحتكاري
لاحظ سويزي عام 1995 لو بقيّ " الهيكل الاقتصادي القديم ، الذي يتألف من نظام انتاجي مدعوم بنظام مالي متواضع" قائما على حاله خلال السبعينات، كان لا بد له في الثمانينات ان " يخلي الطريق لهيكل جديد يتمكن فيه القطاع المالي الممتد بشكل هائل من الحصول على درجة عالية من الاستقلالية تمكنه من التربع فوق النظام الانتاجي المقوض"14 . لقد ظهر الركود والمضاربة المالية كجانبين متكافلين للمأزق الاقتصادي الراسخ القدمين.
ولهذا التكافل ثلاثة جوانب حاسمة: (1) ركود الاقتصاد الاساسي ادى الى زيادة اعتماد الرأسماليين على نمو التمويل للحفا وتضخيم رأسمالهم النقدي. (2) لم يكن بامكان البنية الفوقية المالية للاقتصاد الرأسمالي من ان تتوسع بصورة مستقلة تماما عن قاعدتها الاقتصاد الانتاجي الاساسي – وبالتالي فان انتشار مامل المضاربية كان مسألة متواترة ومتنامية15 . (3) ان الامولة، بغض النظر عن مدى امكانيتها بالتوسع، لا يمكنها ان تتغلب على الركود في الانتاج.
ولقد تحول دور الدولة الرأسمالية لينسجم مع المطاليب الجديدة للامولة. حيث اصبحت الدولة تلعب دور الملجأ الاخير لطلب القروض وعليها توفير السيولة خلال فترة قصيرة. وفي اعقاب انهيار سوق البورصة عام 1987 تبني الاحتياطي الفيدرالي، علنا، سياسة " اكبر من ان يسقط" اتجاه كامل سوق الاسهم، ومع ذلك لم تتمكن هذه السياسة من تفادي الانحدار السريع لسوق البورصة عام 2000 16 .
هذه الظروف وثقت ظهور ما ادعوه "رأسمال مالي احتكاري" غدت فيه الامولة ضرورة بنيوية دائمية للاقتصاد المعرض للركود.
الآثار الطبقية
اذا ما اتضحت جذور الامولة مما سبق ذكره، فان من الضروري الان معاينة الآثار الطبقية الملموسة. ولضيق المساحة الممنوحة لي سأقتصر على ايراد ثماني ملاحظات:
(1) يمكن اعتبار الامولة عملية مستمرة تتجاوز الدمامل المالية. فإذا ما نظرنا الانحلال المالي الذي بدء مع انهيار سوق البورصة عام 1987، فمن الملاحظ ان تأثيره كان قليلا لجهة ابطاء نزعة الامولة. اذ جرى استرجاع نصف خسائر سوق البورصة التي حصلت بين آذار 2000 وتشرين الاول 2002 بعد سنتين فقط. وبينما كانت الديون الامريكية تبلغ ضعف اجمالي الناتج القومي عام 1985 تصاعدت لتبلغ ثلاثة اضعاف ونصف حيث وصل حجم الديون الى 44 ترليون دولار وهو ما يعادل اجمالي الناتج القومي لكل العالم. وارتفع حجم معدل التبادل التجاري الدولي اليومي من 570 مليار دولار عام 1989 الى 2.7 ترليون دولار عام 2006 17 .
(2) ان الرأسمال المالي الاحتكاري هو ظاهرة تختلف نوعيا عما وصفه هيلفيردنغ وآخرون في اوائل القرن العشرين "بالرأسمال المالي"، فهو متجذر تماما في الاستثمارالبنكوي. وبرغم ان ان العديد من الدراسات قد بينت نموا نسبيا لارباح الشركات المالية بالقياس الى الشركات غير المالية في الولايات المتحدة الامريكية خلال العقود الحالية، فانه ليس من السهل الفصل بينهما طالما ان الشركات غير المالية تتعامل هي الاخرى بسوق المال والنقد18 .ويبدو ان التراكم الاكبر للثروة مرتبط بالقطاع المالي اكثر من ارتباطه بالانتاج، ويوما بعد يوم تغدو الشركات المالية اكثر تحكما بادارة السيولة المالية للشركات غير المالية. ومع ذلك فان التحام الشركات المالية وغير المالية يجعل من الصعب رؤية ذلك على انه يشكل انقساما في داخل رأس المال نفسه.
(3) من الواضح ان ملكية الموجودات المالية الاساسية تحدد العضوية في الطبقة الرأسمالية. وقد اتسعت الفجوة بين قمة المجتمع وقاعه على اساس الثروة والدخل الى درجة خيالية. ففي عام 2001 فان نسبة 1% من اصحاب الثروة يملكون اربعة اضعاف ما يملكه 80% من سكان الولايات المتحدة الامريكية. فاغنى 1% من السكان يمتلك 1.9 ترليون دولار من الاسهم وهويساوي تقريبا ما يملكه الـ 99% الاخرين19 .
(4) ان مجدوف وسويزي هما" اول من ادرك زيادة الاتكال على القروض بالنسبة لاصحاب البيوت في امريكا للمحافظة على مستوى معيشتهم بعد ان تجمدت رواتبهم او انخفضت"20 .
(5) ثمة اطروحة تجد صداها في اوساط اليسار اليوم تقول بان العولمة المالية قد حولت الاقتصاد العالمي بحيث اصبحت الدولة غير مهمة. وكما اشار اجناسيو رامونيه في مقاله " نزع سلاح السوق" المنشور في ليموند ديبلوماتيك 1997:
ان العولمة المالية هي قانون بحد ذاتها وقد اسست لها دولة فوق –قومية منفصلة تمتلك جهازها الاداري الخاص بها، وادواتها التي تعمل من خلالها مثل صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، منمة التجارة العالمية... ان هذه الدولة العالمية الوهمية، هي قوة لا تملك قاعدة لها في المجتمع. في حين اصبحت الدول الحقيقية الموجودة في العالم الحقيقي مجتمعات لا قوة لها. والحالة تسوء يوما بعد يوم.
بيد ان هذه الاراء ليست دقيقة باعتقادي. ففي حين لا يمكن نكران امولة الاقتصاد العالمي، فان رؤية ذلك على انه وليد رأسمال عالمي لهوتجاوز على المنطق. اذ لا تزال المنظمات المذكورة اعلاه التي نشأت بفعل رغبة الولايات المتحدة الامريكية في ادارة النظام العالمي لصالح الرأسمال الدولي في اعقاب الحرب العالمية الثانية، اقول لا تزال هذه المنظمات تحت سيطرة الدول الامبريالية ومصالحها الاقتصادية. ودور هذه المنظمات وقوانينها صممت لاملاق شعوب العالم.
(6) يمكن رؤية ما نسميها النيوليبرالية على انها المرادف الايديولوجي للرأسمال المالي الاحتكاري، مثلما كانت الكينزية (نسبة الى كينز مينسكي) في المراحل الاولى من الرأسمال الاحتكاري الكلاسيكي. فقد وضعت اسواق المال الدولية حدودا جدية لصلاحيات الدولة لتنظيم اقتصادياتها خصوصا في المجالات المتعلقة بمستويات نسب الفائدة وتدفق الاموال. وبالتالي فان نمو النيولبرالية، كأيديولوجية اقتصادية مهيمنة، بدأت في عهد ثاتشر وريغان، قد عكس، الى درجة معينة، للاوامر الجديدة لرأسمال الذي ولدته العولمة المالية.
(7) ان الامولة المتعاظمة للاقتصاد العالمي قد نتج عنها تغلغل امبريالي اكبر في اقتصاديات الدول المتخلفة بحيث غدت هذه الاقتصاديات اكثر اعتمادا على الاموال الخارجية المشروطة بسياسات العولمة النيوليبرالية. وافضل مثال على ذلك هو اقتصاد البرازيل الذي كانت اولوياته على مدى العقود الاخيرة ، في ظل هيمنة الرأسمال المالي الاحتكاري، جلب الاستثمار الاجنبي الى البلاد وتسديد الديون الخارجية للرأسمال المالي بما في ذلك ديون صندوق النقد الدولي. وكانت النتيجة " اسس اقتصادية" افضل بالمعايير المالية لكنها ترافقت بنسب فوائد عالية وارتفاع مستوى تأثر الاقتصاد بالحركة السريعة للرأسمال العالمي21 .
(8) نتج عن الامولة الرأسمالية نظاما صعب المراس، ويمكن للمتابع ان يلحظ ذلك عبر قراءة دورية لتقرير الاستقرار المالي العالمي الذي يصدر دوريا عن صندوق النقد الدولي. وفي تقرير ايلول 2006 جرى التعبير عن المخاوف من ان النمو السريع لحجم القروض والديون يمكن ان يكون له تأثيرا بالغا على حالة استقرار الوضع المالي العالمي، ومن ان تباطئ الاقتصاد الامريكي والخفوت في حرارة سوق العقارات يمكن ان يؤديان الى "اضطرابات مالية" حادة يمكن ان تولد " صدمات بالغة التأثير"22 . وقد كتب المؤرخ جبرائيل كولكو بأن " العارفين ببواطن الامور للنظام المالي العالمي قلقون بجدية. فالامور تخرج عن سيطرتهم. وشياطين الطمع تحوم حولنا"23 .

هوامش:
1. Gerald A. Epstein, "Introduction," in Epstein, ed., Financialization and the World Economy (Northampton, MA: Edward Elgar, 2005), 1.
2. John Bellamy Foster, "Monopoly-Finance Capital," Monthly Review 58, no. 7 (December 2007), 1-14.
3. يعود الفضل في استخدام مصطلح " الامولة" الى اعمال كيفين فيليبس، الذي استخدمه لاول مرة في كتابه الموسوم نقطة الغليان (نيويورك: راندوم هاوس،1993) وكرس، بعد سنة تقريبا، فصلا من كتابه الموسوم الرأسمال المتغطرس للحديث عن " امولة امريكا" معرفا الامولة بانها " توسيعا للشق الفاصل بين الاقتصادين الحقيقي والمالي" ( نيويورك: لتل، براون، وآخرون، 1994)، 82.
4. اثار هاري مجدوف قضية تعاظم الاتكال على القروض في اقتصاد الولايات المتحدة الامريكية في مقالة نشرت اولا في سوشيلست ريجستر عام 1965. انظر هاري مجدوف و بول سويزي، حيوية الرأسمالية الامريكية (نيويورك: دار نشر المونثلي ريفيو 1972)، 13-16.
5. Robert Pollin, "Remembering Paul Sweezy" Counterpunch, March 6-7 2004.
6. Paul Sweezy, " More (or Less) on Globalization," Monthly Review 49, no.4 (September 1997), 3-4.
7. Paul Baran and Paul Sweezy, Monopoly Capital (New York: Monthly Review Press, 1966).
8. James Tobin, "On the Efficiency of the Financial System," Lloyd s Bank Review, no.153 (1984), 14-15.
9. في التحليل التالي اتبعت تقليديا اقتصاديا قديما في استخدام مصطلح " الاقتصاد الحقيقي" للاشارة الى عالم الانتاج (بمعنى، منتوجا اقتصاديا حسب مقاييس اجمالي الناتج القومي)، مقابل الاقتصاد المالي. بيد ان كلا المصطلحين هما في الواقع حقيقيان.
10. هاري مجدوف و بول سويزي ، الركود والانفجار المالي ( نيويورك: دار نشر مونثلي ريفيو، 1987)و149. وكان جلاهما يردان على المقالة الافتتاحية لمجلة بزنبز ويك في عددها الصادر في 16 ايلول 1985 وكان العدد مخصصا " لمجتمع الكازينو".
11. Paul Sweezy, "Economics Reminiscences," Monthly Review 47, no.1(May 1995), 8; Lukas Menkhoff and Norbert Tolksdrof, Financial Market Drift (New York: Springer Verla,2001).
12. يمكن ان يعزى فشل الاستثمار البنكي، في استعادة موقعه في قمة هرم النظام الاقتصادي، مثلما كان الحال عليه في فترة الرأسمالية الاحتكارية، الى الظروف التي كان يستند عليها آنذاك كانت ظروفا عابرة. انظر بول سويزي " اعادة النظر في الاستثمار البنكي" مونثلي ريفيو 33، العدد 10 (آذار 1982).
13. Harry Magdoff and Paul Sweezy, The End of Prosperity (New York: Monthly Review Press, 1977), 35.
14. Sweezy, "Economics Reminiscences," 8-9.
15. إنسجاما مع فرضية الاضطراب المالي لكينس و هيمان مينسكي. أنظر مينسكي هل يمكن ان يحدث مرة أخرى؟ (أرمونك، نيويورك: ِشارب 1982).
16. Robert W. Parenteau, "The Late 1990 s US Bubble," in Epstein, ed., Financialization and the World Economy, 136-38.
17. Doug Henwood, After the New Economy (New York: The New Press, 2005), 231; Fred Magdoff, "Explosion of Debt and Speculation," Monthly Review 58, no.6 (November 2006), 7, 19; Epstein, "Introduction," 4; Garry J. Schinasi, Safeguarding Financial Stability (Washington, D.C.: IMF, 2006), 228-32.
18. Greta R. Krippner, "The Financialization of the American Economy," Socio-economic Review 3,no. 2 (2005), 173-208; James Grotty, "The Neoliberal Paradox," in Epstein, ed., Financialization and the World Economy, 77-110.
19. Edward N. Wolff, " Changes in Household wealth in the 1980s and 1990s in the U.S." The Levy Economics Institute of Brad College, Working Paper No. 407 (May 2004), table 2.
20. بولين، مصدر سابق.
21. See Daniela Magalhaes Pates and Leda Maria Paulani, "The Financial Globalization of Brazil Under Lula" and Fabrico Augusto de Loiveira and Paulo Nakatini, "The Brazilian Economy Under Lula," in Monthly Review 58, no.9 (February 2007), 32-49.
22. IMF, The Global Financial Stability Report (March 2003), 1-3 and (September 2006), 74-75.
23. Gabriel Kolko, "Why a Global Economic Deluge Looms," Counterpunch, June 15, 2006.