خرافة السوق ذاتي التنظيم


أشرف حسن منصور
2007 / 5 / 5 - 11:32     


قراءة في تقرير البنك الدولي "بناء المؤسسات من أجل الأسواق"

مقدمة:
يحمل تقرير البنك الدولي لعام 2002 عنوانا دالا وهو "بناء المؤسسات من أجل الأسواق". ولا يقصد التقرير المؤسسات الاقتصادية، لأن مثل هذا النوع من المؤسسات موجود بالفعل، بل يقصد نوعا آخر وهو المؤسسات السياسية ومؤسسات الدولة التي تناسب اقتصاد السوق الحر. ويقصد التقرير بذلك التوصية بضرورة إعادة بناء الدولة كي تناسب مرحلة العولمة وكي تستطيع التكيف مع متطلبات السوق العالمي والمؤسسات المالية العالمية. فبعد سنوات طويلة من الاعتقاد في أن السوق ذاتي التنظيم وذاتي التسيير يعترف البنك الدولي أخيرا بأن الفاعل الحقيقي هو المؤسسات لا السوق، وأن هذه المؤسسات هي التي تضمن بالفعل عمل السوق.
يقول جيمس وولفنسون مدير البنك الدولي في تقديمه للتقرير: "المؤسسات الفعالة هي التي تصنع الفرق في نجاح إصلاحات السوق". فبعد عقود من الاعتقاد في أن نجاح السوق الحر ونجاح عمليات التحول إلى اقتصاد السوق يعتمد على إخراج الدولة من كل المجال الاقتصادي وتركه حرا من سيطرتها، يعود البنك الدولي إلى رشده فجأة ويهتدي إلى الحقيقة ويقول: "في غياب مؤسسات تمنح سندات ملكية الأراضي ضمانا لحقوق الملكية لا يستطيع الفقراء استخدام أصول قيمة من أجل الاستثمار والنمو"، لاحظ أن الفقراء سيقومون بالاستثمار لا بالعمل مستخدمين سندات ملكية الأراضي وكأنهم مضاربين في سوق العقارات؛ كثيرا ما نجد في تقارير البنك الدولي تعبيرات بلهاء مثل هذه. يستمر البنك الدولي ويقول: "وفي غياب مؤسسات قضائية قوية تنفذ العقود يجد منظمو المشروعات أن كثيرا من أنشطة الأعمال محفوفة بمخاطر مفرطة. وفي غياب مؤسسات فعالة لتنظيم الإدارة تكبح جماح المديرين، قد تبدد الشركات موارد المساهمين"( ). هذه المؤسسات هي مؤسسات الدولة، والبنك بذلك يركز على ضرورة ضمان الدولة للسوق الحر، ويطلب منها تشريعات وقرارات وإدارة تسهل آليات هذا السوق الحر؛ والملاحظ أن السوق الحر لن يعد بذلك حرا بل سوف يكون مفروضا من الدولة مثله مثل الأنظمة الشمولية تماما. إن التقرير يطالب ببساطة بإعادة بناء الدولة لتناسب السوق الحر وتضمن عمله. فبعد أن تم عزل الدولة عن المجال الاقتصادي من جراء العمليات المسماة بالتحرير الاقتصادي – تحرير الاقتصاد م الدولة – والقضاء على القطاع العام بالخصخصة، يتم الآن إعادة إدخال الدولة مرة أخرى باعتبارها هيكلا تشريعيا وإداريا المطلوب منه تسهيل عمل السوق الحر وضمان سيره. أتت هذه العملية بعد أن أدخلت الرأسمالية العالمية سياسات التكيف الهيكلي على الاقتصاد نفسه في الثمانينات، الهادفة تكيفه مع السوق العالمي والاقتصاد المسمى حرا، والآن يأتي الدور على الدولة نفسها كي تتكيف مع السوق وتسهل عمله. لكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن الدولة التي تطلبها الرأسمالية العالمية هي دولة الحد الأدنى Minimal State المعروفة في الأدبيات الليبرالية.
نادي القمار الدولي يعيد بناء الدولة:
يريد البنك الدولي من الدولة أن تقوم بوظائف الدولة الليبرالية في القرن التاسع عشر، وعلى الأخص النموذج الانجليزي للدولة الليبرالية. والملاحظ أن مثل هذا النموذج تعرض للنقد من قبل معظم المفكرين اليساريين وأولهم كارل ماركس نفسه، ومن بينهم المفكر الانجليزي الشهير هارولد لاسكي، بالإضافة إلى كارل بولاني، وآخر نقاد هذا النموذج الليبرالي في الدولة هو جون جراي والذي تبنى كثيرا من آراء بولاني. وسوف نحاول في هذه الدراسة توجيه نقد لما سنسميه خرافة السوق ذاتي التنظيم.
الحقيقة أن الرأسمالية العالمية تقدم نفسها الآن في صورة مؤسسات مالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وإن دل هذا على شئ فإنما يدل على أن تغيرا جذريا قد حدث للرأسمالية. فبعد أن كانت الدول الاستعمارية هي التي تباشر عملية التوسع الرأسمالي العالمي منذ القرن السابع عشر وذلك عن طريق التدخل المباشر بالجيوش، استغنت الرأسمالية الآن عن الاستعمار كأسلوب في الانتشار وظهرت بدلا منه المؤسسات المالية العالمية. والمهمة الأساسية لهذه المؤسسات نقل رأس المال من مراكز النظام الرأسمالي إلى أطرافه إما في شكل قروض أو استثمار مباشر وجعل هذه الأطراف مجالا خصبا لتحقيق الأرباح التي تصب كلها في المركز. وهذا ما جعل عدد من الاقتصاديين مثل سمير أمين وإرنست ماندل وديفيد هارفي يصفون الأرباح الطائلة للاستثمار المباشر ولخدمة الدين بأنها شكل جديد من أشكال الخراج Tribute تدفعها الأطراف التابعة للمراكز المسيطرة.
لقد أصبح تعامل المؤسسات المالية للرأسمالية العالمية مع الأطراف التابعة مباشرا دون وسيط من أي دولة رأسمالية معينة، وهي بذلك ممثلة لرأس المال المالي العالمي Global Financial Capital، وأصبحت هي التي تباشر عملية الربط بين المراكز الرأسمالية الغنية والأطراف الفقيرة. وأدواتها الأساسية في التحكم هي السياسة النقدية التي تفرضها على الدول المدينة. وقد شاع في الآونة الأخيرة استخدام كلمة "الكازينو" أي نادي القمار، أو "رأسمالية الكازينو" لوصف أنشطة رأس المال المالي من المضاربات الشبيهة بلعبة القمار. ولأن المؤسسات المالية للرأسمالية العالمية تنسق فيما بينها وترتبط مع بعضها البعض بسياسات خاصة فهي في الحقيقة تشكل ساحة عالمية للمضاربات، إنها ليست سوى ناديا للقمار الدولي. نادي القمار الدولي هذا يحاول إعادة بناء الدولة كي تضمن عمل اقتصاد السوق.
خرافة السوق ذاتي التسيير:
نكتشف من تقرير البنك الدولي لعام 2002 خطأ معظم التقارير السابقة وكذلك كثير من تقارير صندوق النقد الدولي التي كانت تركز على فكرة السوق الحر ذاتي التسيير. فمع إصرار تقارير السنوات الأخيرة وخاصة ابتداء من 1997، على أهمية الدولة في نظام السوق الحر، تشكك المؤسسات المالية للرأسمالية العالمية الآن في قدرة السوق على التسيير والتنظيم الذاتي وتقطع بحاجته للدولة.
وقد سبق لعدد من المفكرين السياسيين نقد فكرة السوق الذاتي التسيير ومن أهمهم جون جراي. يذهب جراي إلى أن إنشاء السوق الحر في إنجلترا في القرن التاسع عشر تطلب استخراج عدد من القوانين أهمها قانون الفقراء سنة 1834، "إذ حدد مستوى المعاش التقاعدي بأقل من أدنى أجر يحدده السوق"، وأضعف من مؤسسة الأسرة وأقر نظام "دعه يعمل"( ) الذي كان الأفراد فيه يتحملون وحدهم المسئولية عن أمانهم المعيشي. وترجع أهمية نقد جراي لعملية تكوين السوق الحر في إنجلترا إلى أن هذا السوق كان النموذج لجميع السياسات الليبرالية الجديدة التي ظهرت ابتداء م سبعينات القرن العشرين. والملاحظ أن ماركس هو الآخر قد نقد عملية تكوين السوق الحر هذه، إذ كان معاصرا لها ومتابعا لوقائعها يوميا، وبالإضافة إلى مؤلفاته، تنتشر تعليقاته على القوانين والتشريعات الموضوعة لخدمة السوق الحر عبر الصحف التي كان يكتب فيها.
وينقد جراي فكرة السوق الحر ذاتي التنظيم بقوله إن السبب في كون نظام السوق الحر التي أنشأتها إنجلترا في القرن التاسع عشر كان حالة استثنائية لا يمكن تكرارها أن ما أدى إلى تأسيسه هو مجموعة من الشروط والظروف غير المتوافرة الآن، كما أن عملية إنشائه صاحبتها تكاليف اجتماعية لا يقدر على تحملها العالم المعاصر، وبالأحرى مجتمعات العالم الثالث الفقيرة.
ويذهب جراي إلى أن الدولة في إنجلترا كانت هي القائم بعملية تكوين السوق الحر وبتطبيق مبدأ "دعه يعمل"، كما أنها ساعدت على ظهور الطبقة البورجوازية وتحويل أعداد كبيرة من الفلاحين إلى بروليتاريا( ). وفي هذا السياق يتناول جراي ظاهرة تسييج الأراضي في إنجلترا في بداية العصر الحديث، أي تسييج الأراضي العامة والتصرف فيها عن طريق تحويلها إلى مراعي أغنام والتخلص من القرويين الحائزين عليها. وبولاني يتناول هنا نفس الظاهرة التي أسماها ماركس "نزع ملكية أراضي المشاع" ، أو عملية البلترة Proletarianization. ويضرب جراي مثلا بهذه الظاهرة دليلا على أن عمليات التحرير الاقتصادي ومبدأ دعه يعمل وباقي السياسات الليبرالية كانت دائما ما تقوم بها الدولة. فالحكومات الإنجليزية المتعاقبة على مدى قرن ممتد من أواخر الخامس عشر إلى أواخر السادس عشر كانت هي التي تشرف على عملية التسييج هذه وعلى نقل ملكية أراضي المشاع إلى الملاك الكبار. لقد كانت عملية خصخصة مبكرة تقوم بها الدولة ذاتها.
أما بولاني فيحاول الكشف عن السياق السياسي والتاريخي الذي ظهر فيه نظام السوق الحر في أوروبا القرن التاسع عشر، ويذهب إلى أن النظام العالمي آنذاك كان يعتمد على أربع مؤسسات: الدولة القومية الليبرالية، ونظام التوازن الدولي بين القوى الأوروبية، وقاعدة الذهب، ونظام السوق ذاتي التنظيم. ويذهب بولاني إلى أن كل هذه المؤسسات قد انهارت الواحدة تلو الأخرى مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وآخرها كان نظام السوق الحر لأن النظم الثلاثة الأخرى قامت في الأصل لتدعيمه وتثبيته، وقد انهارت جميعها في محاولات مستميتة للحفاظ عليه( )، لكن باءت مساعيها بالفشل. فالسوق الحرة الذاتية التسيير لم تكن لتقوم لولا توافر شرط دولي يتمثل في توازن للقوى ضمن لأوروبا سلاما امتد لقرن كامل من نهاية حروب نابليون سنة 1814 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، بالإضافة إلى دولة ليبرالية تعمل على حماية هذا السوق بالتشريعات والقوانين، وأساس واحد للتبادل الدولي يكون مقياسا عاما لكل السلع فوق العملات القومية وهو قاعدة الذهب.
بولاني إذن يضع أطروحة جديدة وهي أن الدولة الليبرالية والتوازن الدولي الأوروبي وقاعدة الذهب كانت كلها تنظيمات هدفت الحفاظ على نظام السوق الحر الذاتي التنظيم. والملاحظ أن هذا السوق لن يعد بعد هذا التحليل ذاتي التنظيم كما كان يعتقد، بل كان موجودا ومؤديا لوظائفه بفضل المؤسسات الثلاثة الأخرى التي أُنشأت أصلا كي تضمن عمله، والدليل على ذلك أن مثل هذا السوق لم يعد موجودا عندما انهارت المؤسسات الثلاثة بعد الحرب العالمية الأولى( ). كما تترتب على هذا التحليل نتيجة أخرى هامة وهي أن ما أدى إلى انهيار نظام الرأسمالية الليبرالية بعد الحرب العالمية الأولى آليات فاعلة من داخل هذا النظام نفسه، فقد تفكك التوازن الدولي للقوى بنشوب الحرب، وانهارت قاعدة الذهب بعد أن صعدت أهمية الدولار وحل محلها بالتدريج مع صعود أمريكا إلى مصاف الدول العظمى، وانهارت الدولة الليبرالية بفضل الحركات الديمقراطية والاشتراكية في الدول الغربية. وهذا ما يؤكد تنبؤ ماركس القائل أن النظام الرأسمالي – وقد كان يتكلم عن رأسمالية القرن التاسع عشر مةضع تحليل بولاني أيضا – سوف يتفكك من داخله بفعل تناقضاته، وهو ما حدث بالفعل كما تدلنا تحليلات بولاني. لكن هذا التفكك أسفر عنه نظام رأسمالي من نوع جديد لا نظام اشتراكي كما توقع ماركس، وهو نظام رأسمالية الدولة.
إذا عدنا إلى تقرير البنك الدولي لعام 2002 نراه يدعو إلى بناء المؤسسات من أجل الأسواق الحرة العالمية، أي يدعو إلى أن يكون نمو السوق العالمي في ظل مؤسسات شبيهة بالمؤسسات الثلاثة التي تحدث عنها بولاني، تضمن عمله وأداءه الجيد لوظائفه، وفوق ذلك تضمن كونه ذاتي التسيير. إن البنك الدولي ومعه باقي المؤسسات المالية للرأسمالية العالمية بعد أن أدرك خطأ مهاجمة الدولة وتقليص أدوراها وإخراجها من المجال الاقتصادي يحاول بمهارة وحذق جعلها ضامنة للسوق العالمي ومساعدة على إدخال أسواقها المحلية في إطاره، تماما مثلما كانت الدولة الليبرالية في القرن التاسع عشر. وهنا يحق وصف ماركس للدولة على الدولة التي تريدها المؤسسات المالية للرأسمالية، إذ تصبح جهاز إدارة الشؤون العامة للبورجوازية.
السوق باعتباره بديلا عن التنمية:
يذكر التقرير أن "الدخل الناشئ عن المشاركة في السوق هو المفتاح لتعزيز النمو الاقتصادي بالنسبة للأمم وتخفيض أعداد الفقراء بالنسبة للأفراد"( ). ومعنى ذلك أن الربح هو الذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي وبالتالي الإقلال من أعداد الفقراء. والواضح أن المنطق الذي يستخدمه التقرير يقول إنه كي يتم التخلص من الفقر يجب أن يزداد الأغنياء غنى، فالبنك يصر دائما على رفع مستوى الدخل القومي على مستوى الدولة ككل، لا معالجة مشكلة الفقر على أنها مشكلة قائمة بذاتها وتحتاج لحلول خاصة. كما أن هناك مغالطة واضحة في العبارة السابقة، ذلك لأنها تربط بين شيئين متناقضين: الربح (السوق في لغة البنك الدولي) وتخفيض أعداد الفقراء، وتعتقد أن تخفيض أعدادهم يأتي عن طريق زيادة الربح المتحقق في السوق. عندما تتحدث عن علاج لمشكلة الفقر فلا يجب أن تدخل في حديثك أشياء مثل الربح، لأن الربح متغير ويعتمد على منافسة دولية وعلى تقلب أسعار العملات والبورصات، وهي أشياء يفهم فيها البنك الدولي جيدا لكنها ليس لها علاقة بعلاج مشكلة الفقر. الفقراء في حاجة إلى أمن غذائي أولا لا إلى الربح الذي نعرف جميعا إلى أين يذهب. لكن من الطبيعي والمنطقي أن يتحدث البنك الدولي عن الربح، أليس بنكا في النهاية؟
التقرير إذن يضع إمكانيات النمو الاقتصادي وتخفيض أعداد الفقراء في مجال التبادل السلعي، أي السوق، لا في مجال الإنتاج. من المنطقي أن يعتمد النمو الاقتصادي على التوسع في التصنيع وتوفير بنية أساسية قوية وعلى خلق فرص عمل جديدة، لكن يلحق البنك هذا النمو بالربح المحقق في السوق. فبعد أن كانت نظريات التنمية تضع علاج مشكلة الفقر في تصنيع المجتمع وتحديثه، يقول البنك الدولي الآن أن مشكلة الفقر تحل بأن يدخل الفقراء السوق العالمي، والسوق العالمي بالذات لأن الأسواق المحلية لن تكون قادرة على علاج المشكلة.
فالتقرير ينظر نظرة سلبية إلى الأسواق الصغيرة والمحلية، ولا يؤيد إلا السوق العالمي الكبير، ويذهب إلى أن "الأنظمة السوقية الشاملة والمتكاملة تسمح بأن تتدفق المنافع إلى الفقراء كما تتدفق إلى الأغنياء، وإلى أبناء الريف كما إلى أبناء الحضر"( )، في حين أن "الأسواق المتمركزة في محليات والمقسمة إلى أجزاء" لا تتيح ذلك. أي أن البنك الدولي يقول إن الأسواق الوطنية والمحلية الناتجة عن عمليات الخصخصة لم تكف ولم تحقق أهداف الرأسمالية العالمية، والحل في مزيد من الأسواق، الحل في سوق أكبر، السوق العالمي، ذلك لأن الأسواق المحلية سوف تظل مقيدة بالإطار المحلي الذي نشأت فيه خادمة مجتمعها المحلي وملبية احتياجاته فقط، لكن المؤسسات المالية للرأسمالية العالمية تريد ارتباطا مباشرا مع السوق العالمي تلبية لاحتياجاته هو.
إن محاولات النظام الرأسمالي كسر قيود الأسواق المحلية والانتقال بها إلى سوق عالمي واحد محاولات معروفة ومنتشرة عبر تاريخ الرأسمالية. وقد ركز بولاني على هذه المحاولات متتبعا آثارها الاجتماعية. يذهب بولاني إلى أن الفرق بين النشاط الاقتصادي في المجتمعات السابقة على الرأسمالية والمجتمعات الرأسمالية أنه في النوع الأول من المجتمعات كان متجذرا في العلاقات الاجتماعية وتابعا لها؛ فالعلاقات الاجتماعية هي الأساس والنشاط الاقتصادي ملحق بها، وذلك مثل النظام القبلي أو النظم الاقتصادية الخراجية للإمبراطوريات القديمة التي تعمل على تجميع الفائض وإعادة توزيعه، أو النظام العشائري في جزر الميلانيز في المحيط الهادي والذي يعتمد على نمط من الشيوعية البدائية وعلى نظام تبادل الهدايا الذي يمثل سياسة في إعادة التوزيع حسب التراتب العشائري. أما المجتمعات الرأسمالية فتتصف بكون العلاقات الاجتماعية فيها هي المتجذرة في العلاقات الاقتصادية أو ملحقة بالاقتصاد؛ "فبمجرد ما أن يتم تنظيم النسق الاقتصادي في مؤسسات منفصلة (عن باقي المجتمع) مقامة على دوافع خاصة (المصلحة الشخصية والربح المادي)، فإن المجتمع يجب أن يتشكل بطريقة تتيح لهذا النسق أن يعمل وفقا لقوانينه الخاصة. وهذا هو معنى التأكيد المألوف القائل إن اقتصاد السوق لا يعمل إلا في مجتمع سوق"( ). يشير بولاني هنا إلى أن اقتصاد السوق لا يكون ذاتي التسيير وفقا لقوانين خاصة به إلا بفضل تشكل المجتمع كله على أساس أنه مجتمع سوق. لكن ماذا يحدث عندما يتحول السوق إلى سوق عالمي؟ سوف تظهر ضرورة أن تنظم جميع المجتمعات في العالم نفسها وفق هذا السوق العالمي، وهذا ما يريده البنك الدولي في تقريره.
يعتمد التقرير على مسلمتين أساسيتين ومترابطتين: الأولى هي أن حرية التجارة مع السوق العالمي وفتح جميع الأبواب أمام هذا السوق هو الطريق الوحيد إلى التنمية. والمسلمة الثانية تقول إن القضاء على الفقر يتمثل في الإنتاج للسوق العالمي. أي أننا ننظر فيما يحتاجه السوق العالمي وننتجه وبذلك نحقق التنمية ونقضي على الفقر. والحقيقة أن ما يحتاجه السوق العالمي هو سلع ذات طابع تكنولوجي ورفاهي عالي، وهي مواصفات ليست موجودة في منتجات الدول الفقيرة، نظرا لاحتكار التكنولوجيا والأسرار الصناعية من قبل الدول الكبرى تحت ادعاء قوانين الملكية الفكرية. إذا لم يتمكن الفقراء من إنتاج سلع عالية التكنولوجيا والجودة لن يتمكنوا من دخول السوق العالمي. التقرير إذن يعصف بالنظريات الأخرى القائلة إن الطريق نحو التنمية يتمثل في الوصول إلى استقلال عن السوق العالمي وتحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية بمصادر وإمكانيات محلية، أي التنمية المستقلة.
الحقيقة أن التركيز على أهمية السوق في مجالات عديدة مثل التنمية والتصنيع ورفع الإنتاجية هو تركيز على الوسيط وترك الجانب الأهم وهو البنية التحتية والعنصر البشري. وهذا التركيز على السوق يجعل منه صنماً Fetish، وهذه هي العادة التفكير الرأسمالي دائما، إذ سبق له أن ركز على النقود وأهمل العنصر البشري المتمثل في العمل، أي ركز على وسيط للتبادل وهو النقود وأهمل القائمين بهذا التبادل وتغافل عن حقيقة أن السلع الخاضعة للتبادل تحوز على قيمتها من العمل المبذول فيها. ويكرر الفكر الاقتصادي السائد نفس الأخطاء التي ظهرت في تاريخ الاقتصاد السياسي الرأسمالي بتركيزه على السوق الذي ليس إلا وسيطا للتبادل وإهمال القائمين بهذا التبادل، وهم في عالم الاقتصاد المعولم أمم وشعوب بأكملها.
يتعامل الفكر الاقتصادي السائد مع المقولات الاقتصادية كما لو كانت مقولات طبيعية لا فرق بينها وبين قوانين الفيزياء والكيمياء مهملا أسسها الاجتماعية، ويعتقد أن السوق يمكنه أن يكون تنظيما محدثا للتماسك السياسي والاجتماعي ومحققا العدالة والرفاهية والمساواة. إنه يقول ببساطة إنه إذا ما نظم المجتمع نفسه ورتب أوضاعه على نموذج السوق الحر عالج مشكلة الفقر وحل كل مشاكله السياسية، ولفُتِّحَت أمامه أبواب الجنة وغُلِّقَت أبواب النار وسُلسِلَت الشياطين.
البنك الدولي المحب للفقراء:
يقول التقرير ببساطة أن الحل الوحيد لمشكلة الفقر هو أن يندرج الفقراء في نظام السوق، وذلك بالطبع بأن يصبحوا منتجين لهذا السوق وفق معاييره. ولا يصبح المرء منتجا بالمعنى الرأسمالي السائد إلا إذا حقق هامشا من الربح أو قيمة زائدة. ويصبح الفقير منتجا في السوق إذا حقق قيمة زائدة، أي إذا كان يصلح لأن يُنتزع منه فائضا من القيمة في السوق الذي يتحول فيه إلى عامل أجير. والحل الوحيد لمشكلة الفقر هو دخول الفقراء السوق العالمي، لا باعتبارهم منتجين بل باعتبارهم عمالا. ولا يفكر البنك الدولي في أي حل قومي لفقر كل دولة على حدة، لأن ذلك يؤدي إلى تقوية الدولة القومية ومؤسساتها ويزيد من استقلالها في مواجهة العولمة وهذا بالطبع ما لا يريده البنك.
يعلم البنك الدولي أن الفقراء هم نتاج النظام الاقتصادي مثلهم مثل الأغنياء تماما،ويعلم أن التوسع العالمي للرأسمالية مصحوب بإفقار متزايد لفئات عريضة من السكان حول العالم؛ لكنه يبرر كل ذلك بالقول بأن التحول نحو اقتصاد السوق يتبعه تضحيات اجتماعية يجب القيام بها، وبعدها سوف تتحسن الأحوال تلقائيا. عندما يقول التقرير أن حل مشكلة الفقر هو حل عالمي فإنه بذلك يعترف ضمنا بأن سبب الفقر هو أيضا سبب عالمي، أو معولم. ألا يعلم أن دخول الفقراء السوق العالمي يمكن أن يترتب عليه تحولهم إلى بروليتاريا عالمية؟ ألا يخشى أن يستجيبوا حينئذ لنداء "يا عمال العالم اتحدوا"؟. الحقيقة أن هذا النداء عندما ظهر كان يفترض أن الفقر قد تعولم بالفعل وأن العمل المأجور أصبح عالميا بحيث أن حل مشكلة الفقر لا يمكن إلا أن يكون حلا عالميا وهو الاشتراكية التي نظر إليها منظروها على أنها نظام اقتصادي عالمي. الحقيقة أن تقرير البنك الدولي قريب للغاية من الاشتراكية الدولية وهو لا يدري؛ فالاشتراكية الدولية استندت على أن الفقر أصبح عالميا ويرجع إلى التوسع العالمي للرأسمالية. وعالمية المشكلة وعالمية أسبابها يفرضان عالمية الحل. ويستند البنك الدولي على حجة مشابهة، لكن الحل الذي يقدمه ليس الاشتراكية الدولية بالطبع بل السوق العالمي. لكن هناك تشابها بين الحلين، وهو أن كليهما يستبعد الدولة القومية ويستند على تحالفات طبقية عابرة ومتجاوزة للقوميات؛ الفرق أن الاشتراكية الدولية تقيم تحالفات بين الطبقات العاملة على مستوى العالم، في حين أن الشركات متعددة الجنسية الآن هي التي تقيم التحالفات العابرة للقوميات بين أصحاب رؤوس الأموال، وتخلق بذلك طبقة رأسمالية عالمية.
ويعتم التقرير على المشكلة الأساسية وهي مشكلة الفقر ذات الجانب الاقتصادي بأن يقول إن هناك نوعا آخر من الفقر وهو الفقر السياسي. والتقرير بذلك يوحي ضمنا بأن غياب الديمقراطية في الأنظمة الشمولية وفي كثير من دول العالم الثالث هو الذي يؤدي إلى الفقر الاقتصادي، وبالتالي يكون حل مشكلة الفقر الاقتصادي الإصلاح السياسي. صحيح أن هذا التشخيص يحمل الكثير من الوجاهة والصدق، إلا أن الإصلاح السياسي الذي يقصده البنك الدولي هو الذي يكيف الدولة ومؤسساتها حسب قواعد السوق العالمي لا حسب أهداف التنمية المحلية. البنك الدولي إذن يتملص من المسؤولية ويتبرأ منها عندما يلقي تبعة الفقر الاقتصادي على الأنظمة السياسية السائدة في العالم الثالث. والغريب أن الحل السياسي للمشاكل الاقتصادية كان هو عقيدة نفس هذه الأنظمة الشمولية التي يهاجمها البنك الدولي ويلقي عليها تبعة الفقر. هل يُنتظر من الفقير أن يسعى للحصول على حقوق وحريات سياسية قبل الخبز؟ إنه بالأحرى يسعى للحصول على عمل وسكن وغذاء، أما الحقوق السياسية فهي آخر ما يفكر فيه.
كما يستند التقرير في هذه النقطة على عقيدة أيديولوجية ليبرالية قديمة، إذ كأنه يقول: "أنتم فقراء لأنكم متخلفون سياسيا، فتخلفكم السياسي يؤدي إلى تخلفكم الاقتصادي". وهذه مغالطة كبيرة، لأن التخلف الاقتصادي هو أساس كل الشرور السياسية. يعتقد البنك الدولي إذن أن تغيير البناء الفوقي وهو النظام السياسي والقانوني للدلوة يؤدي تلقائيا إلى علاج مشكلة التخلف الاقتصادي التي تنتمي إلى البنية التحتية، في حين أن التغيير في البنية التحتية، أي تصنيع المجتمع وتحديثه وإدخال التكنولوجيا، هو الأساس في أي تغيير سياسي.
تؤدي عقيدة البنك الدولي هذه إلى نتيجة إشكالية وهي أن البلد المتقدم سياسيا متقدم اقتصاديا في نفس الوقت وبنفس الدرجة، والعكس أيضا. لكن واقع الحال ليس كذلك. دول الخليج مثلا تشهد مستويات عالية من المعيشة والرفاهية ودخل الفرد فيها من أعلى الدخول في العالم – ودخل الفرد هو من ضمن مقاييس البنك الدولي للتقدم والتخلف والنجاح الاقتصادي- إلا أنها لا تعرف حياة سياسية على الإطلاق وتشهد تخلفا سياسيا وغيابا تاما للديمقراطية. أما بلاد أمريكا الجنوبية فهي تعرف درجة عالية من الديمقراطية والحياة السياسية الحقيقية التي تشهد مشاركة جماهيرية واسعة مع تخلف اقتصادي وديون هي الأعلى في العالم.
يقول البنك الدولي شيئين متناقضين تماما، فهو يذهب إلى أن الفقر ليس فقرا اقتصاديا وحسب بل فقر سياسي أيضا، ويقول في نفس الوقت إن حل مشكلة الفقر تتمثل في دخول الفقراء السوق العالمي، وبهذا الدخول سوف يتم تجاوز إطار الدولة القومية وإضعاف العنصر السياسي واستبعاد الدولة باعتبارها مجالا للحل السياسي لمشكلة الفقر أو أداة تنفيذ لخطط اقتصادية لمعالجة الفقر. إن دخول الفقراء السوق العالمي يؤدي ولا شك إلى الفقر السياسي لأنه يتضمن تجاوز الدولة، إذ يصبح الانتماء للشركات متعددة الجنسات لا للدولة.
ما علاقة البنك الدولي بمشكلة الفقر أصلا؟ إنه بنك لأغنياء العالم بصفة أساسية، ويعد أحد أدوات رأس المال المالي العالمي. لا يذكر البنك الدولي الفقر إلا ذرا للرماد في العيون. البنك الدولي مثله مثل أي بنك آخر هدفه الربح. لكن ما علاقة الربح بالفقراء؟ علاقته وثيقة، فالربح يتحقق عن طريق هؤلاء الفقراء. هل يقبل البنك الدولي الذي يعد ناديا للرأسمالية العالمية الفقراء أن يكونوا أعضاء فيه؟ لا بالطبع. إنه لا يقبلهم إلا باعتبارهم أيدٍ عاملة رخيصة أو مستقبلين لقروض. يريد البنك الدولي أن يكون للرأسمالية العالمية مدخل مباشر لفقراء العالم باعتبارهم عمالة دولية متجاوزا الدول التي يعيشون فيها. إذا كانت هذه هي نيته فهو لا يفهم طبيعة الفقر الحالي الذي لا يمكن أن يتم التعامل معه بتجاوز الدولة القومية. لقد اكتشفت المؤسسات الرأسمالية أن الحراك العالمي لرأس المال يتطلب بالمثل حراكا عالميا للعمالة كي يستطيع توظيفها أينما ذهب؛ يتحدث البنك الدولي عن الفقراء ويقول أن حل مشاكلهم هو الدخول في السوق العالمي في حين أنه يهدف في الحقيقة مساعدة الحراك العالمي لرأس المال بخلق حراك عالمي مثيل في صورة عمالة دولية رخيصة سهلة التحرك من مكان لآخر يستطيع رأس المال جلبها معه أينما ذهب. إذا حدث ما يأمل فيه البنك الدولي من أن يكون فقراء العالم متاحين أمام رأس المال الدولي باعتبارهم عمالة دولية رخيصة، فإنه يكون بذلك قد ساعد على تكوين بروليتاريا عالمية.