الامبريالية لا تزال اعلى مراحل الرأسمالية – الحلقة الأولى


ابراهيم حجازين
2007 / 3 / 20 - 12:26     

بقدرته التحليلية الكبيرة بين لينين لنا في عمله "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" السمات الرئيسة للرأسمالية في المرحلة الاحتكارية ولم يفته أن ينوه أن المنافسة لن تنتهي بل ستبقى قائمة اسفل وإلى جانب الاحتكار في نشاطه ، وهذا ما يفسر العديد من الظواهر التي تلازم الرأسمالية في لحظات تطورها الراهنة. إن المنافسة داخل الفرع الإنتاجي نفسه أو البينية أي بين الفروع الإنتاجية المختلفة والمنافسة بين الدولية او الصراع الدولي قد أمدت الرأسمالية أيضا إلى جانب سماتها الأخرى العديدة بخبرات وقدرات فائقة على التكيف والمناورة في صراعها من أجل البقاء والنمو وتحقيق المزيد من الأرباح .
ولعب دورا في زيادة القدرة على التكيف لدى الرأسمالية تعمق طابعها الطفيلي المضاربات وتصدير الرأسمال الذي قد أتاح الفرصة للرأسماليين على نقل أزماتهم إلى أمكنة أخرى من العالم وتحقيق المزيد من الربح ، كما حدث في نهاية التسعينيات في دول جنوب شرق أسيا نتيجة المضاربات التي وضعت تلك البلدان على شفير الهاوية ،وتزداد هذه السمة الطفيلية تعمقا مع تفاقم أزمة المديونية التي تعاني منها خاصة دول العالم الثالث .
وعزز من القدرة على التكيف لدى الرأسمالية أيضا التطور الهائل في قوى الإنتاج الحديثة وخاصة نتيجة الثورة التكنولوجية الثالثة التي أنتجت التقنيات المرنة ذات تكلفة الإنتاج المنخفضة، وبلوغها مستوى عال من التطور التكنولوجي ، وتحولها إلى الاعتماد على الفروع الخدمية التي تقوم على هذه التقنيات الحديثة . وتلعب نزعة التدويل المتعمقة للإنتاج والرأسمال كنتيجة لسمة التمركز والتركيز- وهو ما أشار له ماركس مبكرا في عمله "الرأسمال"- دورا كبيرا في هذا الوضع ، وهو الذي ساعدها على الخروج من حدودها القومية وطغيانها على المستوى العالمي بحيث أنه كادت أن تضم السوق العالمي وان تخضعه لقوانين الرأسمالية ، وهذا بالذات كان فاتحة الطريق نحو ما أطلق عليه العولمة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الأمر الذي فتح الطريق لاختراق رأسمالي في أسواق بقت مغلقة أمام التوسع الرأسمالي حتى ذلك الحين .
فالمحددات المشار إليها وخاصة التدويل الهائل لقوى الإنتاج والرأسمال قد وفر الظروف والعوامل لإيجاد الأساس الموضوعي لخلق آليات اقتصادية وسياسية وثقافية وإعلامية استفادت منها وطبقتها الرأسمالية الأمريكية وهي الأكثر نموا وتطورا وتجربة في العالم في إطلاق مسيرة العولمة التي تشكل إحدى آليات التكيف الرأسمالي ، بما بتناقض مع سمة التوحيد التي تلازم التطور الرأسمالي .
بهذا المعنى فإن العولمة في هذه المرحلة هي التعبير الذاتي عن السعي للهيمنة الأمريكية وطريقها لتوجيه التدويل الحاصل في سياق محدد يخدم التوجهات والسياسات الأمريكية للسيطرة وإدارة أزمات الرأسمالية في مصلحتها لأنها ترى نفسها ألفا وأوميغا الراسمالية، فالعولمة تعني الأمركة في هذه المرحلة الحالية .
لكن المفارقة التي تلفت الانتباه أن الولايات المتحدة ( أي سياسات العولمة )في محاولتها لفرض هيمنتها على العالم ، تسلك سلوكا متناقضا مع نزعة التدويل والتوحيد للأسواق العالمية ، التي تفترض مزيدا من التقارب وتشكيل التكتلات الاقتصادية الكبرى ، والارتقاء بمستوى النمو والتطور الاقتصادي في باقي البلدان النامية ، وذلك حتى تغدو هذه بدورها قادرة على استيعاب المنتجات العصرية من خلال بناء أسواق واسعة وموحدة ومتطورة وحديثة ، والارتقاء بالمجتمعات وإزالة العوائق أمام دورة رأس المال والإنتاج في الأسواق العالمية . لكننا نلاحظ أن هذه السياسات الإمبريالية تمعن بتمزيق الدول والتكتلات القومية أو التجمعات الإقليمية وتعمل على المحافظة على التخلف الذي يضرب أطنابه في البلدان النامية ، وهي تقوم كذلك بتدمير قدرات البلدان التي تتجاوز مراحل تخلفها وتدخل في مراحل التصنيع والتكنولوجيا الحديثة كما جرى في العراق عندما نفذت تهديد وزير خارجية الولايات المتحدة بيكر في بدايات التسعينيات بإعادة العراق إلى عصر ما قبل الصناعة وقد نجح ممثل الاحتكارات الأمريكية بذلك ، ولم يقفوا عند هذا الحد بل تابعوا سياستهم بعد احتلال العراق بقتل العلماء العراقيين الذين قد يقوموا في المستقبل بتنمية وتطوير بلدهم بأيدي شركات الأمن الخاصة وعملاء الموساد. وفي هذا السياق تنفذ سياساتها التدميرية في المنطقة العربية بطرحها مشروع الشرق الأوسط الهادف لتمزيق الوطن العربي بدلا من العمل على توحيده كما تتطلب نزعة التدويل ، فالمنطقة العربية بمجملها برسم التفتيت والتمزيق . وكما جرى في يوغسلافيا السابقة حيث نشط الأمريكان في ذلك الاتجاه أيضا فلم يكفوا عنها إلا وهي ممزقة إلى عدة دول والعملية لا تزال مفتوحة في كوسوفو . كذلك الأمر في أفريقيا وغيرها من المناطق خاصة في الدول التي كانت تدخل في نطاق الاتحاد السوفياتي السابق .كل هذا الدلائل تشير أن الرأسمالية في مرحلتها االاحتكارية لا تزال موضوعيا كما أشار لينين تحتوي على نزعتين متناقضتين التوحيد والتقارب من جهة والانفصال والتقسيم من جهة اخرى في ذات الوقت . و تكشف الأحداث الأخيرة عن تعمق الجانب الرجعي في سلوكها كمعرقل لتطور عوامل الإنتاج وفي الإدارة العقلانية لها .
إذن إلى جانب السمات التي أشار لها لينين ، ظهرت وبرزت سمات جديدة لا تقل خطورة وأهمية عن سماتها السابقة الآخذة بالتعمق .وهي بمجملها تبين اللحظات الراهنة من تطور الإمبريالية .حيث يتعمق الطابع الاحتكاري بظهور وتوطد الشركات متعددة الجنسية وبلوغها مستوى عال من التطور التكنولوجي وتركز الرأسمال لدرجة أن الطابع الطبقي للدولة الرأسمالية أصبح مكشوفا دون رتوش كخادمة لمصالح الاحتكار . وأصبح لهذه الاحتكارات هويتها وإدارتها الخاصة كشخصية مستقلة تتحكم بالقرارات السياسية على صعد مختلفة في لحظات محددة كالدور الذي تلعبه الاحتكارات النفطية وشركات التصنيع العسكري .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نفوذ هذه الشركات الاحتكارية على مستوى العالم يتزايد حتى في سياسات دول أخرى ، فهناك حوالي 200 شركة تتحكم بـ25% من التجارة في العالم وتتركز الثروات في أيدي مالكيها والتي تقدر حسب الإحصائيات بحوالي الترليون دولار ، لدرجة أن الدول أصبحت تتدخل وتعمل لصالح هذه الشركات ، لكن هذا لا يعني كما يحاول أن يوحي أنصار العولمة ان دور الدولة قد انتهى ، بل يعني أن طبيعة هذا الدور قد تغيرت، فلن تستغني الرأسمالية عن الدولة في هذه المرحلة نظرا لحاجتها للحماية في ظروف التنافس الحاد بين الاحتكارات المختلفة كل مرة لاقتسام الأسواق العالمية .