عن مآل الاشتراكية


حميد باجو
2007 / 3 / 19 - 11:24     

نشر الاستاذ الحبيب الطالب في شهر يونيو الماضي، مقالا في جريدة "الاتحاد الاشتراكي" حول مآل الاشتراكية في عصرنا، وإمكانية إعادة تأويلها على أسس جديدة. ولأن ذلك جاء ليلبي رغبة قوية عند الكثيرين، لفتح نقاش فكري عميق بيننا، وإعادة الاعتبار لتقاليد اليسار في هذا المضمار، قصد استيعاب التحولات والظواهر الجديدة في مجتمعنا وعلى العالم، واستشعار العلامات الدالة على احتمالات التطور في المستقبل، فقد حفزنا ذلك من جهتنا، على الخوض في مناقشة بعض ما ورد في المقال من أفكار، وطرح تصورات هي بالنسبة إلينا لا زالت لحد الآن في مرحلة التجريب، تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.
وقد أصاب المقال على العموم، في نقد المظاهر والتصورات الدوغمائية التي صاحبت تطور هذه الأخيرة، وكشف عن ضيق بعض التأويلات التي حوصرت داخلها الماركسية، حتى أنها صارت رديفة في ذهن الكثيرين للنزعة الاقتصادوية والأداتية، وأداة للتسلط في يد الستالينيين ومن يماثلهم.
ولكن وأنا أقرأ المقال، أثارت انتباهي فكرتان واردتان فيه، حاول الكاتب من خلالهما أن يدمج قضيتين من القضايا الخاصة بمجتمعاتنا، في إطار تصوره العام للاشتراكية، وهما القضيتان الدينية والقومية. وقد شعرت من جهتي وكأن هناك نوع من التعسف في إقحامهما بدون مبرر مقنع، في إطار النظرية العامة التي يحاول الكاتب معالجتها. لهذا ارتأيت، أنه قبل التطرق إلى صميم الموضوع الذي تناولته المقالة، لابد من إثارة بعض الملاحظات حول هاتين القضيتين.
1
على مستوى القضية الأولى، يميل الكاتب إلى اعتبار أن الرسالة التي تحملها الديانة، وتلك التي تبشر بها الاشتراكية، لا تتناقضان في العمق. وأن كلتيهما، تهدفان إلى خلاص الانسان وتحقيق انسانيته، وبالتالي فهناك إمكانية لأن يلتقي المتدينون مع الاشتراكيين حول نفس الأهداف وأن يقتسموا نفس الطريق. فالنزعة الانسانية هي قاسمهم المشترك، وإن كان كل طرف يعمل من أجلها بطرقه ومن منطلقاته الخاصة.
كان هذا الاستنتاج ممكنا أن يقنعنا لو أننا حددنا منذ البداية، عن أي متدينين نتكلم وعن أية ديانة؟ فهل الديانة هي ديانة واحدة أم متعددة، وهل هناك فعل إسلام واحد، أم إسلامات متعددة في مجتمعاتنا؟ وأليس من داخل الاسلام نفسه، يجد أي واحد منا ما يبرر به أفعاله، وذلك من أغرقها في التزمت والتطرف، إلى أكثرها انفتاحا وليبرالية؟ أليس الاستمرار في الكلام بهذه الطريقة التعميمية عن الاسلام وكأنه وحدة قائمة بذاتها ومتميزة عن سواها، نوع من التعتيم على تعقد الواقع وكثرة تشعباته؟
فإذا كانت الرسالات السماوية ومنها الاسلام، قد قامت في بدايتها على أساس نزعة إنسانية واضحة تهدف إلى خدمة الانسان أولا، فهل يمكن أن نعتبر أن كل الذين ورثوا فيما بعد شرعية الكلام باسم هذه الرسالات، قد حافظوا على تلك النزعة الانسانية الأصيلة؟ ألم تنزلق كثير من التيارات الدينية ومن مختلف الديانات، إلى أبشع مظاهر التنكيل والإساءة إلى الإنسان؟ وهل للكنيسة الكاثوليكية مثلا في عهد محاكم التفتيش أي علاقة بالنزعة الانسانية، كما هل لدعاة التطرف والكراهية من الأصوليين عندنا، أية علاقة لهم بها هم أيضا؟
فالنزعة الانسانية لا تتطابق بالضرورة مع التدين. فقد يكون المتدينون انسانيين وقد لا يكونون، كما أن غير المتدينين قد يكونوا هم أيضا انسانيين وقد لا يكونون. فهذه النزعة هي أعمق من ذلك، وهي كنهر عظيم تحتي، يجري ويغذي البشرية بين الفينة والأخرى في شكل ديانة أو فكرة أو فلسفة أو حركة اجتماعية... ، وذلك حتى من قبل أن تظهر الديانات المعروفة.
ما يجب أن نميزه داخل أية ديانة، ونكشف عن ما فيه من مفارقات، هو ذلك التباين الحاصل غالبا بين القيم الانسانية النبيلة المفترض أن أية ديانة تتضمنها وتقترحها على أتباعها، وبين التأويلات الدوغمائية أو التقنينات الاجرائية التي تسجن فيها تلك القيم حتى تفرغها من مضمونها الانساني. فما معنى أن يتكلم أحدهم عن الرحمة أو عن تكريم بني الانسان وهو يفتي بالقتل وبالكراهية في حق هذا الانسان؟
إن ضيق التأويلات الدينية المقدمة وسد باب الاجتهاد، هو ما جعل بعض التيارات أو الجماعات الدينية كما هو حال الأصوليين، تبتعد وتفتقد حرارة تلك النزعة الانسانية الأصيلة التي نادت بها الرسالة المحمدية في البداية. فما يحول بين هذه الجماعات والتصالح مع النزعة الانسانية، هو تغليبهم للشكليات والتفسيرات النصية على حساب مضمون الرسالة. وهذه طبيعة كل البنية الفكرية أو نمط التفكير السلفي الذي يقيمون عليه تصوراتهم، وهم بهذا المنظور لا يمكن أبدا أن يتصالحوا مع النزعة الانسانية. فليس انسانيا من لا يزال يقيم التمايز بين البشر على أساس العرق أو الدين أو الطبقة أو النوع. وبطبيعة الحال، هذا لا يعني أن كل التيارات الاسلامية الأخرى لا يمكن لها أن تتمثل البعد الانساني. فالتيار الصوفي مثلا في بعض تجلياته، كان يمكن أن يمثل أروع النماذج على قدرة الاسلام على التماهي واستيعاب كل القيم الانسانية.
ولكني لا أعتقد أن الكاتب، وهو يبحث عن إمكانية لتلاقي المتدينين والاشتراكيين على نفس الخط ونفس الأهداف ذات المضمون الانساني، كان يفكر في مثل هؤلاء المتدينين الصوفيين كنموذج، وهم الذين أوخد عليهم دائما ميلهم نحو السلبية والتواكل. فلربما كان المفترض أن يكون هناك نوع من المتدينين الفاعلين والنشيطين اجتماعيا، ولكن من منطلق أكثرا تنويريا وانفتاحا. هذا النموذج الذي الذي لم يوجد بعد في مجتمعنا، ما دام أن كل النشطاء الاسلاميين تقريبا الموجودين حاليا هم من الذين يسجنون أنفسهم في نمط التفكير السلفي المتعارض مع النزعة الانسانية. وربما أن التفكير سيذهب بنا بداهة في هذه النقطة، إلى النموذج الذي توفرت فيه أكثر الفرص لتصالح المتدينين مع الاشتراكيين، وهو نموذج لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. هذا الأخير الذي سمح للماركسي العلماني والراهب الكاثوليكي أن يقتسما نفس الخندق في مواجهة أعداء الانسانية.
فهل يتكرر مثل ذلك النموذج عندنا، وهل يتطور نوع من التدين ومن التفكير الاسلامي يتغذى في نفس الوقت من القيم الانسانية الأصيلة لرسالة الاسلام، ومن القيم الانسانية الكونية المتعارف عليها؟ ذلك ما نتمناه أن يحصل، ولكن في انتظار ذلك، أن ما يلاحظ حاليا هو أن الاجتهادات في هذا الاتجاه لا زالت لحد الآن، غائبة أو محتشمة لدى اسلاميي المغرب ، أو حتى مهمشة ومحاربة من طرف المتزمتين ، كما هو حال بعض أنصار ما يعرف بالتيار القرأني مثلا. وحتى حركة البديل الحضاري التي تعتبر أقرب الفصائل الاسلامية إلى اليسار، قد وقفت في منتصف الطريق، ولم تستطع أن تنزاح على مستوى أفق تفكيرها، عن الإطار الحصري للأمة أو الجماعة الاسلامية.
للمقارنة مرة أخرى، أن أمريكا اللاتينية، ومعها بلدان أخرى مسيحية في افريقيا وجنوب آسيا، قد شهدت تطور تيارات دينية جديدة، قد ننعتها تجاوزا بالمسيحية الليبرالية، في منافسة أو بالموازاة مع تيار لاهوت التحرير. وهي التيارات التي تعتمد على طقوس الموسيقى والرقص واختلاط الجنسين من الشباب، كوسيلة لإعادة استقطاب المؤمنين إلى حظيرة الكنيسة. هذا النموذج أيضا، هو مما لا يستطيع الاسلام السلفي تمثله، وهو الذي يستميت في تحريم كل ما له علاقة بالجسد، ومن ذلك هذا الرقص والغناء والاختلاط الجنسي. لكن نجد مرة أخرى أن التيار الصوفي، وبالخصوص بعض الاتجاهات الطرقية التي تفرعت عنه، هي ما تسمح أكثر من غيرها بهامش من الحريات للجسد، وتوفر شروط تحقيق الاشباع الروحي كما الاشباع الجسدي. وما طقوس الرقص والحضرة والغناء، وحتى بعض التجاوزات المعتبرة لاأخلاقية التي تصاحب المواسم الدينية أو تقع في الأضرحة، إلا نوع من الاعتراف للجسد ببعض من حرياته. فالاتجاه الصوفي على العموم، سيكون هو الأقرب إلى ذلك النموذج المسيحي الليبرالي المذكور أعلاه. وقد تنبثق من داخله ربما، تقاليد جديدة في التدين وفي ممارسة الحياة بشكل عام، بما سيساعد المتدين على التخلص من ذلك السؤال الوجودي الذي بقي يقلقه دائما، وهو كيف يوفق بين ما يحمله من رؤية عن العالم وعن الله والأخرة، والتي هي رؤية مستمدة على العموم من التصور السلفي السلبي للعالم، وبين ما يعيشه كواقع حقيقي، بمزاياه وإكراهاته، وبإيجابياته وسلبياته.
2
القضية الثانية التي أقحمها الحبيب الطالب في مقالته هي ما يتعلق بمسألة القومية. فهو في إشارة خاطفة إلى الموضوع، أكد بطريقة لا تخلو من اليقينية أن القومية العربية هي المشروع المستقبلي بالنسبة للشعوب العربية، وهي ليست متجاوزة كما يحلو أن يردد ذلك من ينعتهم بالمتشككين. لكن ما لم يوضحه الكاتب هنا، هو كيف توصل إلى تلك القناعة الراسخة عنده بضرورة تحقق المشروع القومي العربي؟ لماذا لا يكون المشروع الذي سيتحقق مثلا هو المشروع القومي للأمازيغ أو ما يسمونه بوحدة تامزغا، أو يكون هو المشروع غرب إفريقي من بلاد السودان القديمة إلى البوغاز كما كان في عهد الدولة السعدية، أو المشروع المتوسطي الذي يوحد بين الضفتين كما كان الأمر عليه لعدة قرون في عهد الرومان أو البيزنطينيين؟ فمن الناحية التاريخية على الأقل، لم يسبق للمغرب أن توحد مع المشرق العربي إلا في مدة لم تتجاوز القرنين، أي من الفتح الاسلامي إلى تأسيس دولة الأدارسة. فكيف نقول بحتمية المشروع القومي العربي، ونحن نعرف أن من أعمق الانتقادات الموجهة للماركسية التي يحاول الكاتب في مقاله هذا نفض الغبار عليها، هي ما يتعلق بالضبط بهذه الحتمية وبإعطاء التاريخ غاية محددة من قبل؟ من يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل؟
لا نعتقد أن أحدا ممن يلتزم بحد أدنى من الموضوعية بقي يدعي القدرة على ذلك. وكثير ممن كانوا منجرين وراء وهم غائية التاريخ وحتمية تحقق المجتمع الاشتراكي، اضطروا أن يتراجعوا عن ذلك، بعدما اكتشفوا كم هو الواقع معقد، وكيف أن نمط التفكير الماركسي التقليدي أصبح متجاوزا وعاجزا أن يتمثل هذا التعقيد.
ولأني سبق وأن كتبت في هذا الموضوع، فسأكتفي هنا فقط بالتذكير ببعض الملاحظات. وأول ذلك أن أية فكرة أو مشروع لا يمكن له أن يدعي بحتمية تحققه. فالمستقبل هو غير قابل أصلا للتنبأ، وأكثر ما يمكن فعله على هذا المستوى، هو وضع سيناريوهات واحتمالات ممكن لها أن تتحقق إذا ما توفرت لها شروط مناسبة. أي أنه لكي يتوفق مشروع مجتمعي ما، لابد له أن يكون أولا من ضمن ما هو ممكن تاريخيا في ظل الشروط العالمية السائدة الآن، أو أنه يسير حسب نفس الأفق الذي يسير عليه النظام العالمي. ولنا أن نتساءل بعد ذلك، هل مشروع القومية العربية، تتوفر فيه هذه الشروط؟ وهل هو مما هو ممكن تاريخيا في المرحلة الراهنة وهل يسمح النظام العالمي القائم حاليا بتحققه؟
لا يهم أن تكون هنا الإرادة قوية أو ضعيفة، بالنسبة إلينا مواطني الدول المعنية. فالشروط الموضوعية إذا كانت معاكسة لنا، لن نملك إزاءها أي وزن أو قدرة على التأثير فيها. ولهذا فنحن نعتقد بأن مشروع الوحدة العربية لن يكون سوى وهم أو حلم بعيد المنال، لا حظ له في التحقق في ظل توجهات النظام العالمي الحالي، أو أن حظوظه هي جد ضعيفة. فالتكتلات التي تتم حاليا في العالم، لا تقوم على القوميات كما كان الشأن في القرون الأولى لتطور الرأسمالية، ولكن هي تأخذ شكل تجمعات جهوية كبرى تدور في فلك وتحت قيادة القوى الاقتصادية العظمى. ومشروع القومية العربية لا يسير وفق هذا المنطق الحالي للنظام العالمي، ما دام أن أصحابه يحلمون بإقامة تكتل جهوي خاص بالمنطقة ومستقل عن التكتلات الجهوية الكبرى. ولذلك فمن المستبعد جدا أن يسمح بتوحد الدول العربية، على الأقل في المدى المنظور من تطور موازين القوى الحالية في العالم.
لقد كان ممكنا ربما، لهذا المشروع أن يتحقق في فترة سابقة، لو أنه توافق مع مرحلة تاريخية من تطور النظام العالمي تكون مناسبة. ولكن يبدو أن هذه الفكرة، ومنذ أن برزت عقب الحرب العالمية الأولى، وهي تصطدم بالإكراهات التي تضعها القوى العظمى في طريقها. فمن تصفية التركة العثمانية في المنطقة بين فرنسا وبريطانيا فيما يعرف باتفاقية سايكس بيكو على الشعوب العربية، إلى زرع الجسم الاسرائيلي بين ظهراني هذه الشعوب، إلى اقتسام النفوذ على دول المنطقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة، إلى احتكار الولايات المتحدة أخيرا لكل السيادة وتفردها بالمنطقة. ثم لا ندري حاليا إلى ماذا سيؤول إليه التصاعد المستمر لنفوذ إيران الفارسية والشيعية على دول الجوار. فما هو أكيد أنه لا يبدو في الأفق ما يبشر بزوال مثل هذه الاكراهات، أو أن تغض القوى العظمى المتحكمة في النظام العالمي الطرف عن سعي العرب لتوحيد أنفسهم. فهل نبقى إذن نجري وراء سراب، نحن نعرف مسبقا استحالة تحققه في ظل الشروط الراهنة، وأن لا يكون لنا من حجج عقلانية وبراهين مقنعة للدفاع عنه سوى ما نحكيه عن مشاعر عاطفية مفترضة، أو ما يسمى بالوجدان القومي الذي يفترض أن مواطني الدول العربية يتقاسمونه؟
لقد كان أيضا ممكنا، أن يتوفر لهذه الفكرة حظوظ أحسن، لو أن مصر باعتبارها قلب المنطقة العربية، عادت لتبوء موقعها في قيادة هذا المشروع. ولكن ذلك يفترض أن تكون لمصر قوة اقتصادية حقيقية تستطيع بفضلها، أن تخلق حولها سوقا عربية تستقطب إليها باقي الدول. ولكن أين نحن من ذلك ومصر الآن هي من أكثر الدول تخلفا وعلى كل المستويات؟
وحتى إذا ما افترضنا أن تكتلا اقتصاديا محليا قد ينشأ بالمنطقة، فأكيد أنه لن يكون إلا تحت زعامة اسرائيل وبقيادتها، وهذا ما يناقض بالضبط حلم القوميين العرب.
نعم جميل أن يكون لنا حلم أو طوبى نتشبث بها، بل وأن ذلك ضروري لعملية التنشأة الاجتماعية للشباب المغربي. ولكن على أن يكون ذلك الحلم أقرب ما يمكن إلى الواقعية، وليس مجرد وهم يضللنا عن الطريق، ولا يسفر إلا عن خيبات أمل تضاف إلى الخيبات السابقة. فماذا سيكون موقف المواطنين في هذه الحالة حين سيستفيقون ويكتشفوا أنهم كانوا ضحية مرة أخرى لخدعة أوقعهم فيه هؤلاء المثقفون، الذين لم يعودوا يثقون فيهم أصلا منذ مدة؟ إن حلم القومية العربية هو من الرهانات التي لا يجب على المغاربة المراهنة عليها كثيرا، لأنها بكل بساطة من الرهانات الخاسرة مستقبلا، على الأقل في المدى الزمني المنظور.
3
ما تناولناه لحد الآن لا يتعلق إلا بما جاء بشكل عارض في مقال الاستاذ الحبيب الطالب. أما الموضوع المركزي الوارد في المقال هو ما يتعلق بمآل الاشتراكية ومستقبل النظرية الماركسية في ظل التحولات العالمية الجديدة. فالسؤال المركزي الذي طرح هو حول راهنية هذه الأخيرة وإذا كان هناك من إمكانية لإعادة بناءها وتطويرها بما يتلاءم والوضع الجديد للرأسمالية. هل الماركسية لا زالت صالحة لعصرنا، وهل تكمن أسباب فشل التجارب التي أقيمت باسمها في السابق، في صلب النظرية نفسها، أم هي ناتجة فقط عن التأويلات المشوهة والناقصة التي تعرضت لها الماركسية لاحقا؟ وبعبارة أخرى هل هو قصور في الماركسية نفسها أم هو قصور فقط في فهمنا لها؟
هذا يدفعنا إلى أن نطرح، وانطلاقا من المنهجية الماركسية نفسها، سؤالا عن تاريخية الماركسية. ألم تكن هي نفسها مجرد نتاج في آخر الأمر، لظروف تاريخية وثقافية خاصة، هي ظروف نشأة وصعود الرأسمالية الصناعية خلال القرنين السابقين؟ فأية نظرية لا يمكن لها بأية حال من الأحوال من وجهة النظر هاته، أن تتعالى أو تنفصل عن تاريخيتها الخاصة. والماركسية لم تكن هي أيضا حين ظهورها، بعيدة عن الرؤية العامة للعالم التي كانت سائدة أنذاك، ولا منفصلة على المستوى المعرفي، عن الباراديغم الذي كان يقف وراء تلك الرؤية. هذا الأخير الذي لم يكن غير الإطار المعرفي العام الذي بدأ بالتأسيس له كل من كوبرنيك وجاليلو، قبل أن يكتمل مع النظرية الجديدة في الفيزياء التي أرسى إسحق نيوتن قواعدها الرئيسية. فالأنموذج المعرفي الذي نشأت الماركسية في أحضانه، كان يقدم صورة عن العالم تستلهم بالخصوص الاكتشافات الجديدة لهذا الحقل العلمي الأخير. ومن ذلك تصور العالم وكأنه آلة ميكانيكية أو ساعة كبيرة، تعمل حسب برنامج مضبوط، يكفي أن نحصل على مفتاحه حتى نصير متحكمين فيه. هذا التصور السائد هو ما دفع بالعلوم الانسانية أنذاك للسقوط في النزعة الميكانيكية أو العلموية، أو ما سيعرف بشكل عام بالوضعانية. ولم تنج كثير من تيارات الماركسية من هذه النزعة. فهي قد تعاملت مع هذه الأخيرة وكأنها مجرد أداة وظيفية، الغرض منها تحقيق غاية التاريخ المبرمجة مسبقا، بعد أن أفرغتها من بعديها الفلسفي والنقدي الذين كانا ممكنا أن يجنباها من السقوط في الدغمائية.
ولكن العالم قد تغير كثيرا بعد القرن التاسع عشر، وتطورت الشروط التاريخية والمعرفية. وفي هذا الإطار جاء الاكتشاف الكبير لأينشتاين في نظريته حول النسبية، ثم بعده بقليل نظرية اللايقين لهينزبرج، وفيزياء الكوانتا، لتنهار كل المزاعم العلموية التي انجرت وراءها بعض من النظريات الاجتماعية. ومن داخل الماركسية، بدأ الكثيرون يشككون في صدقية بعض ما تدعيه من قوانين حتمية توجه التاريخ إلزاما نحو غايته المرسومة. ومنذ أن ابتعد برينشتاين ثم كاوتسكي عن هذه الأخيرة في بداية القرن العشرين، توالت المراجعات النقدية للقناعات الماركسية السابقة لدى عدد من المثقفين الكبار كسارتر أو غارودي أو فوكو أو ساخاروف .... وكذلك تم إخضاع مفاهيم أخرى لتأويلات جديدة في ابتعاد واضح عن المنطلقات الأولى للنظرية.
إن النظرية الماركسية نفسها كانت تتحدث عن الطفرة النوعية، التي لابد وأن يعرفها التاريخ بين الفينة والأخرى. وهي قد تنبأت أن تكون الطفرة المقبلة حين سينتقل المجتمع من المرحلة الراسمالية إلى المرحلة الاشتراكية. ويبدو أن نبوءة ماركس هذه قد تحققت لكن في شقها الأول فقط، أي في حدوث انتقال للبشرية من عهد إلى آخر. فكل المؤشرات تدل على أن العالم الآن، هو في لحظة تحول وانتقال إلى مرحلة جديدة. وهذا التحول قد شمل مما شمله المجال المعرفي والعلمي أيضا. فالعقود الأخيرة قد شهدت اكتشافات عظيمة في مختلف ميادين العلوم، إذ بعد نظرية داروين التطورية والنظريات السابقة في الفيزياء، جاء اكتشاف الحامض الريبي في البيولوجيا وفك الشفرة الوراثية، وبناء نظام السيبرنيتك في المعلوميات وكل ما يرتبط بالذكاء الإصطناعي والآلات ذات التحكم الذاتي، وبالخصوص ظهرت
نظريات الشواش والأنظمة المعقدة المتكيفة والظواهر المنبثقة، والنظرية البنائية والنظرية النشوئية التكوينية... ألخ. وهذا يعني أن الطفرة النوعية قد حصلت بالفعل على مستوى الباراديغم المعرفي الذي كان ينظم الرؤية للعالم في الفترة السابقة أو الباراديغم النيوتيني. ولأن الماركسية هي جزء من هذا الأخير فإنها تجد نفسها ككل وليس بعض تفرعاتها فقط، فاقدة لمرجعيتها العلمية. أفلا يعني بعد كل هذا أن النظرية قد أصبحت وبكل بساطة متجاوزة وغير ذات فاعلية في عصرنا الراهن؟
قد تكون هذه الحقيقة غير مستساغة بسهولة بالنسبة لمن لا يزال يؤمن بهذه النظرية، ولكن لابد أن نوضح هنا، أننا حين نقول بانتهاء صلاحية الماركسية، لا يعني ذلك أن نلقي بالرضيع مع ماء الغسيل. فالماركسية في الأخير ليست سوى بناء نظري أقيم من عدد من العناصر الفكرية ومن المقولات والمفاهيم، قام ماركس في وقته، بالتركيب فيما بينها وتنظيمها حسب منطق معين. وربما كان أهم ما أبدعه من خلال هذا البناء هو نظريته حول المادية التاريخية. هذه الأخيرة التي جاءت كخلاصة لكل ما سبق من اجتهادات في الموضوع، من مادية ديموقريط في عهد الإغريق وحتى مادية عصر الأنوار أو مادية فيورباخ. ولكن لأن التطور والتعقيد الذي طرأ على المجتمعات الحديثة كان بدرجة عميقة، أن فرض الانتقال إلى باراديغم جديد، صار من المفروض الآن إعادة بناء هذه المادية التاريخية بما يسمح لها بإدماج الاكتشافات العلمية الجديدة ويعيد لها القدرة على تمثل التعقيدات الطارئة.
4
في هذا الإطار جاءت محاولة هابرماس لإعادة بناء هذه النظرية على أسس مغايرة كما سنرى ذلك من خلال عرضنا هنا لبعض ما ورد في كتابه "ما بعد ماركس".
فقد سبق لهذا الأخير أن كشف عن حدود مفهوم العمل عند ماركس، وعن عدم قدرته على التعبير على كلية الفعل الاجتماعي. فمفهوم البراكسيس عند هابرماس هو أوسع من مفهوم العمل، ويشمل إلى جانب هذا الأخير البعد التواصلي أيضا. فالإنسان وهو يعمل لأجل تلبية حاجياته المادية يدخل في نفس الوقت في علاقات تفاعلية لغوية وثقافية واجتماعية مع الأفراد الآخرين. والعلاقات التي تقام بمناسبة الفعل المادي أو الفعل الانتاجي، هي هنا مجرد جزء أو نظام فرعي من النظام الأشمل للعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع. وهذا يسمح بالافتراض، أن لا تكون هذه العلاقات الأخيرة أو ما ينعت بعلاقات الانتاج ، هي المحددة بالضرورة للتاريخ في كل مراحل تطوره. فقد يمكن أن تكون علاقات من نوع آخر، سياسية أو تنظيمية أو ثقافية، هي التي لعبت هذا الدور في محطات تاريخية معينة. وهذا يبعدنا بطبيعة الحال عن الحتمية الاقتصادوية التي تقوم عليها الماركسية.
ولتوضيح أطروحته هذه، يعمد هابرماس إلى التوسيع من أفق المادية التاريخية ليربطها حتى بالأنتربولوجيا. أي أن المادية التاريخية قد لا تعني فقط المجتمعات الطبقية التي ظهرت مع بداية التاريخ، وهو ما لا يتجاوز على الأكثر اربعة آلاف سنة قبل الميلاد، ولكن يمكن مدها إلى كل المرحلة منذ ظهور الإنسان، أو على الأقل منذ أن بدأ يصنع الأدوات، أي مليونان سنة من قبل. ومن المعروف أن ماركس ونظرا لنقص المعلومات في عصره حول هذه المرحلة الأخيرة، قد تعامل معها كعلبة سوداء وأطلق عليها نعتا فضفاضا هو ما سماه بمرحلة المشاعة البدائية. وحتى في المراحل اللاحقة، أي من ظهور المجتمع الزراعي وإلى حدود بداية العهد الرأسمالي، لا يجد هابرماس ما يبرهن على أن البعد الاقتصادي، أو النشاط الاجتماعي المرتبط بالإنتاج المادي، هو ما يتحكم بالضرورة أو يمثل قاعدة التطور المجتمعي. ولهذا هو يتكلم كما سنرى لاحقا، عن ما يسميه بالمبدأ التنظيمي الجديد الذي يبرز ويتغير في كل مرحلة، ويقصد به ذلك النوع من النشاط الاجتماعي الجديد الذي قد يبرز في كل لحظة، ويكون حاملا لأجوبة مناسبة عن الاشكالات أو التعقيدات الجديدة التي قد تطرأ في المجتمع وتعرقل تطوره. قد يكون هذا النوع من النشاط سياسيا تنظيميا، كما حدث لحظة نشوء الدول الممركزة الأولى في حضارات النيل وبلاد الرافدين، أو يكون ثقافيا دينيا حين نشأة الإمبراطوريات الأولى التي قامت على أساس ديني، أو يكون اقتصاديا كما هو الشأن في المرحلة الرأسمالية الحديثة.
يستعين هابرماس أيضا في تصوره هذا، بنظرية جان بياجي في علم النفس الإدراكي، ويقتبس منه بالخصوص فكرته حول التطور النشوئي التكويني، أو كيف تتدرج مراحل الادراك عند الطفل منذ ولادته وإلى أن يصير بالغا. وبمقارنة ذلك مع كيفية تدرج مراحل التطور عبر التاريخ، يصل إلى استنتاج أن هناك تشابه أو تناظر بين النموذجين، ليس في مضمون ما يحصل داخل هذه المراحل التطورية لكلا موضوعي المقارنة، ولكن على مستوى المنطق أو البنى المنطقية التي تحكم هذه الانتقالات. وهكذا هو يضع مثلا في مقابل ما يسميه بياجي المرحلة ماقبل إجرائية عند الطفل، أي حين يكون هذا الأخير لا يزال لا يفصل بين ذاته والعالم الخارجي، مرحلة ما قبل التاريخ بالنسبة للجماعة البشرية، حين كانت هذه الأخيرة لا تضع حدا هي أيضا، بينها وبين الطبيعة أو المحيط الخارجي، أو لا تميز بين الطبيعي والثقافي في محيطها. وكما ينتقل الطفل على مستوى الإدراك، من مرحلة إلى أخرى عبر تحولات نوعية تحدث في ذهنه، كمرحلة الطفولة الأولى والطفولة الثانية، ثم المراهقة فالبلوغ...، تنتقل البشرية هي أيضا، من مرحلة تاريخية إلى أخرى.
ويقترح هابرماس هنا نموذجا للتحقيب التاريخي يختلف نسبيا عن النموذج الماركسي التقليدي المكون من خمسة أو ستة أنماط إنتاج. فهو يتصور أن المرحلة الأولى تمتد من ظهور الانسان قبل ملايين السنين وحتى نشأة المجتمعات الزراعية وظهور الدولة المنظمة (بكسر الظاء) في الألفية الثالثة قبل الميلاد. ثم تمتد المرحلة الثانية من هذا التاريخ وإلى حدود ظهور الحضارات الكبرى العابرة للقوميات أو الامبراطوريات مع بداية الألفية الأولى قبل الميلاد. والمرحلة الثالثة هي التي استمرت بعد ذلك إلى أن ظهر النمط الرأسمالي في العصر الحديث. أما المرحلة الرابعة فهي التي تطابق العهد الرأسمالي الحالي. والسؤال الذي يطرح الآن هو إن كنا حاليا ندخل في المرحلة الخامسة؟ هذا ما سنحاول من جانبنا تقديم بعض من عناصر الإجابة عنه في آخر هذه المقالة.
ما يتميز به هابرماس عن ماركس على هذا المستوى، هو في كيفية مقاربة موضوع التشكيلة الاجتماعية الراهنة. ففي حين يميل التقليد الماركسي إلى المعالجة التحليلية لهذه الأخيرة لتفكيكها وإبراز العنصر المحدد للتطور فيها أو العنصر المهيمن أو العنصر السائد، وهذا هو المنهج الذي طغى على جل الدراسات ذات المنحى الوضعاني، يفضل هابرماس مستفيدا على هذا المستوى، مما قدمته النظرية العامة للأنظمة في السنوات الأخيرة، أن يتعامل مع هذه التشكيلة كنظام كلي معقد، ويقاربها عبر منهج نشوئي تكويني، يبحث في المنطق العام الذي ينظم طفراتها وتحولاتها النوعية من مرحلة إلى أخرى.
5
وبهذه الطريقة في المقاربة، يصل هابرماس إلى استخلاص ما يسميه ببنى المعقولية أو البنى المنطقية العامة التي تقف وراء كل بناء اجتماعي وفي كل لحظة. فالجماعة البشرية حين تكونت في الأصل، هي قد تكونت في حضن ركام من التجارب والخبرات الثقافية والتنظيمية المشتركة التي راكمها أفراد الجماعة وتبادلوها فيما بينهم خلال حيواتهم اليومية. فالذي يلم أواصر الجماعة أصلا ويلحم أفرادها فيما بينهم، إنما هو ذلك المشترك من القواسم الثقافية التي أنتجوها جماعيا. ولكن لكي تكون لهذه الروابط الثقافية فعالية ما وقدرة على التجميع، لا بد أن تكون حاملة لمعنى مشترك يتفق عليه كل أفراد الجماعة. أي أن يعتبروها معقولة ولا تعاكس في نهاية الأمر خبراتهم الخاصة أو مصالحهم وتطلعاتهم. فبنى المعقولية هذه، أي كل ما يعتبره أفراد الجماعة معقولا ومنطقيا في حياتهم الجماعية، تكون هي الرحم الذي تتحرك داخله كل صيغ الفعل الاجتماعي التي يمارسها الفرد، من انتاج مادي وتنظيم اجتماعي وسياسي وتواصل لغوي وثقافي. فقبل إرادة الفرد وقبل ذاتيته الخاصة، هناك بنى موضوعية في المجتمع يخضع لها ويتحدد نشاطه بما يسمح له أفقها.أي أن هناك نظام اجتماعي منظم مسبقا وحسب منطق معين، يجد الفرد فيه نفسه غارقا منذ ولادته. فما يحمله الفرد إلى الدنيا عند ولادته، ليس ثقافة ولا معرفة مضمرة في جيناته، ولا أية معرفة غريزية أو فطرية، ولكن فقط مجموعة من الاستعدادات البيولوجية التي تؤهله إن توفرت الشروط المناسبة، لأن يتمثل ويستبطن المحيط الطبيعي والاجتماعي الذي أوجد فيه.
وللإشارة، فإن الأنتربولوجيين يعتقدون مثلا أن النوع البشري قد قام باستبطان بشكل بيولوجي، بعض الخبرات الأولية حول المحيط الطبيعي ومحيط الجماعة، التي سبق وأن تراكمت خلال كل المرحلة الحيوانية التي قطعها الكائن الحي قبل أن يرقى إلى مستوى الانسان، وقام بتوثيقها في جيناته وتحويلها إلى جزء من المعلومات الوراثية التي ينقلها إلى ذريته، ومن ذلك مثلا المعلومات المتعلقة بأبعاد الفضاء والمسافة والضوء والظلام والصالح للأكل والمضر...ألخ. وقد مثل هذا التوثيق البيولوجي للمعلومات طفرة نوعية في مسار تطور الكائن البشري نقلته من مرتبة الرئيسيات التي كان يشترك فيها مع فصيلة القردة، إلى المرتبة البشرية. وأصبح ما يميزه عن كل الكائنات الحية الأخرى استعداداته الغريزية " لتعقل " محيطه. فطفل البشر صار يولد وهو مؤهل منذ بطن أمه لآن يستوعب بعض مبادئ الحساب والهندسة واللغة والمنطق، عكس صغار القردة مثلا. لكن هذه الاستعدادات تبقى خاملة وغير ذات جدوى إن لم يتوفر لها المحيط الاجتماعي المناسب ولم يخضع الطفل إلى عملية التنشأة الاجتماعية. وبحسب هذا التصور تكون بعض القصص مثلا، عن أطفال الأدغال كقصة حي بن يقظان أو طرزان أو موغلي.. مجرد تخيلات يستحيل أن تتحقق في أرض الواقع.
ولكن بالرغم من أن التنشأة، تعني هنا وبكل بساطة إخضاع الطفل لبرمجة أو تكييف لذهنيته بحسب ما تفرضه الثقافة السائدة، فإن هذا الطفل حين يصير بالغا، لا يبقى سلبيا أمام ما يتلقاه ولا يأخذ ذلك كقدر بالنسبة إليه، بل هو يدخل في تفاعلات مع أفراد آخرين في المجتمع لتغيير أو ترسيخ الأنماط الذهنية السائدة، بحسب ما تقتضيه مصلحته أو قناعاته. ويكون لذلك تأثير بالضرورة على بنى المعقولية الخاصة بالمرحلة التاريخية التي يعيش فيها.
ويمكن أن نتصور هنا العلاقة بين الفعل الاجتماعي المضمر في ذاتية الإنسان، وبين البنى الذهنية والاجتماعية المفروضة موضوعيا كنتاج للتراكم التاريخي الخاص بالجماعة، مثل سهم منطلق إلى الأعلى، هو ما يعبر عن حركية الفعل الاجتماعي، يتقاطع أو يصطدم مع خط يمر أفقيا هو ما يعبر عن عنصر الاستقرار في البنى الاجتماعية. وبهذا الاصطدام يحدث تفاعل بحيث يتغير شكل الخط الأفقي أو يتزحزح إلى الأعلى، أي أن البنى تنتقل من حالة إلى أخرى، وحيث السهم الصاعد يغوص في هذه البنى أو يذوب فيها، قبل أن يعاود الانطلاق من جديد إلى الأعلى لكن في حلة مختلفة ومغايرة بالضرورة لما سبقها. أي أن تيار الفعل الاجتماعي الصاعد بقدر ما هو يغير ويؤثر في البنى السائدة، بقدر ما يتغير بها هو نفسه، ويعود للظهور في كل مرة بصيغ واشكال مختلفة. وعن التصادم الذي يحدث في لحظة ما بين تيار الفعل الاجتماعي الصاعد والبنى القائمة، تنبثق التشكيلة الاجتماعية أو النظام الاجتماعي الجديد ببنى جديدة ومعدلة. وتكون تلك اللحظة هي نقطة التأسيس لإطار المعقولية الجديد الذي ستدور كل الحياة الاجتماعية في كنفه، إلى أن يحدث تصادم آخر. فهذا الإطار العام أو النظام الأشمل لمختلف بنى المعقولية هو بمثابة الرحم الذي تسبح داخله كل أنواع الفعل الاجتماعي الممارس داخل المجتمع.
هذا النظام العام، تفرع في البداية إلى ثلاثة أقطاب فرعية، أو بنى للمعقولية خاصة بكل مجال للنشاط الاجتماعي. وهي بنية المعقولية الخاصة بالفعل الاجتماعي الموجه للتواصل، وخصوصا اللغة، وتتمثل في القواعد النحوية والصوتية. وبنية المعقولية الخاصة بالفعل الموجه نحو النشاط التنظيمي مجسدة في المؤسسات الاجتماعية أو السياسية، أو مختلف الآليات التي تنظم العلاقة بين الأفراد والجماعات. ثم بنية المعقولية الخاصة بالنشاط العقلي، وتظهر في شكل قواعد منطقية أو معايير أخلاقية وفسلفية أو معتقدات دينية أو قوانين علمية وخبرات تقنية. وقد تفرع لاحقا كل واحد من هذه الفروع نفسها إلى فروع أدنى متعددة. فالنشاط العقلي مثلا تفرع عنه العلم والتقنية والدين والفلسفة والأخلاق. والنشاط التنظيمي ظهر مثلا، في صيغة العائلة أو العشيرة أو القبيلة أو الرابطة المهنية أو النقابة أو الحزب، وبالخصوص في صيغة الدولة...
وإذا كانت هذه الأنظمة الفرعية المنظمة للنشاط الاجتماعي قد انطلقت في البداية، من نفس أسس المعقولية التي قام عليها البناء الاجتماعي ككل، فإن كل واحد منها يتجه فيما بعد إلى تطوير أنواع خاصة به من المعقولية. فمعقولية اللغة مثلا، هي في قدرتها على تحقيق التواصل، أي في احترامها لمجموعة من القواعد النحوية واللغوية. ومعقولية التنظيمات الاجتماعية هي في قدرتها على الالتزام ببعض التعاقدات المنظمة للعلاقات السياسية أو الاجتماعية. أما على مستوى النشاط العقلي، فإن المعقولية تتطور نحو التخصص حسب كل حقل ثقافي أو معرفي. فهي تبرز في شكل قواعد منطقية أو معيارية مثلا بالنسبة للتفكير الفلسفي أو الديني أو الأخلاقي، أو في شكل قوانين علمية وخبرات تقنية بالنسبة للنشاط الموجه نحو المحيط الطبيعي. وكلما زاد تعقد النظام الاجتماعي، كلما تقوى التوجه نحو التخصص في بناء المعقوليات بحسب تعدد الأنظمة الفرعية التي ينتجها هذا التعقد. فكلما تطور مجال جديد لنشاط اجتماعي معين، كلما انبثقت داخله ظواهر جديدة تقتضي أن تفهم وأن تعقلن، أي توضع لها بنى فرعية للمعقولية في شكل تفسيرات أو نظريات أو معايير أو مؤسسات. فالعقلنة هي ليست في الأخير سوى مسلسل متواصل من التضبيط : بناء مؤسسات، أو التقعيد : بناء قواعد منطقية للأنظمة الفرعية التي تولد حديثا، أو تلك التي تتعرض للتحوير والتطوير.
في مقابل هذه البنى الموضوعية الضامنة للاستقرار، يضع هابرماس قوى الفعل الاجتماعي كدافع ومحفز على التغيير والتطور. فالأفراد والجماعات، وهم يمارسون نشاطاتهم الاجتماعية، يسعون في كل لحظة إلى التأثير أو التغيير في بنى المعقولية القائمة. وقد تتعدد أشكال التجارب والخبرات التي يراكمها الأفراد، وتختلف سيرورات التعلم أو التنشأة الاجتماعية التي مروا منها، ومن تم تختلف أيضا الاستراتيجيات التي يرسمها كل واحد منهم لنفسه. وعلى العموم تتجمع هذه الاستراتيجيات الفردية أو تندفع في شكل تيارات للفعل متعددة ومتفاوتة بينها، بحسب اختلاف مجالات النشاط الاجتماعي من جهة، وتقارب أو تباعد الاستراتيجيات بين هذه المجموعة أو تلك من الأفراد من جهة ثانية. فمن داخل نفس العائلة مثلا، قد يختار أخوان مجالين مختلفتين للفعل، واحد يتجه نحو النشاط الاقتصادي للعمل أو الاستثمار، والآخر نحو النشاط الفني حيث تلتقي استراتيجيته مع استراتيجيات فنانين آخرين ليكونوا معا تيارا للفعل الاجتماعي هو ما يتمثل في الابداع الفني. لكن داخل هذا الحقل الأخير نفسه قد تختلف الاستراتيجيات، فيختار البعض مدرسة فنية معينة ويختار آخرون مدرسة مغايرة. بل أ ن نفس الفرد قد يشتغل من داخل أكثر من مجال للفعل الاجتماعي، وتكون له في كل مجال استراتيجية مختلفة. فهو قد يكون فاعلا اقتصاديا يشتغل في مؤسسة انتاجية، ولكن في نفس الوقت ينشط جمعويا أو رياضيا.
وفي كل حقل أو نظام فرعي من الأنشطة الاجتماعية يسعى الفاعلون فيه إلى معالجة المشاكل الجديدة التي قد تعترضهم واقتراح حلول بديلة. فالناشط السياسي مثلا قد يهدف إلى تغيير البنى السياسية القائمة، كما أن الفاعل في الميدان الانتاجي سيعمل على تطوير التقنيات أو وسائل الانتاج الموجودة...ألخ. وهكذا إذا عدنا إلى المثال أعلاه حول السهم الصاعد الذي يرمز إلى الفعل الاجتماعي، فإن السهم في الحقيقة هو سهام متعددة بحسب عدد حقول النشاط الاجتماعي، والخط الأفقي هو أيضا خطوط كثيرة بحسب أنواع بنى المعقولية الفرعية الموجودة في المجتمع.
ولكن هذه التيارات للفعل الاجتماعي، وإن كانت تشتغل أو تحل مشاكلها كل بمنطقها أو نمط معقوليتها الخاصة، فإن التأثيرات تبقى متبادلة فيما بينها. وكلما تحقق إبداع جديد في واحدة منها، إلا وانتقل تأثيرها بصيغة أو أخرى إلى التيارات الأخرى. فحين نجح كوبرنيك مثلا في إثبات مبدأ كروية الأرض، حالا بذلك المشكلة التي كانت تطرحها النظرية الكوسمولوجية القديمة لبطليموس، والتي كانت تقول بمركزية الأرض وثبوت الكون، سرعان ما انتقل تأثير هذا الاكتشاف إلى ميدان النشاط البحري ومن تم التجاري، حين سعى كريستوف كولومب إلى البحث عن طريق بحري جديد يدور حول الكرة الأرضية للوصول إلى الهند. وامتد أيضا إلى المجال الديني، حين شجع ذلك المصلحين الدينيين على التشكيك وانتقاد بعض ثوابت الكنيسة أنذاك، واقتراح تفسيرات جديدة للعالم بدلا عما هو متداول.
ولأن حركية تيارات الفعل الاجتماعي لا تتقدم بالضرورة بنفس الوتيرة، فقد يحدث أن يكون أحد التيارات سباقا إلى ابتداع حلول جديدة للمشاكل التي يواجهها النظام الاجتماعي، فيكون بذلك هو من يلعب الدور الطليعي في تطوير النظام أو تغيير بنى المعقولية السائدة، وقد يمد تأثيره إلى كل التيارات الأخرى ويطبعها بطابعه. وهذا ما حدث مثلا حين توفق النشاط الموجه للإنتاج في بداية المرحلة الرأسمالية، في حل إشكالية العلاقة بين المنتج الحقيقي المتمثل أنذاك في القن، والإقطاعي صاحب الأرض، وتعويضها بالعلاقة بين صاحب الرأسمال والعامل الحر في التصرف بقوة عمله. هذا الإبداع الجديد في الميدان الإنتاجي استطاع أن يكسر بنية المعقولية التي كانت سائدة لحد ذلك الوقت في هذا الميدان، لينتقل تأثيره بسرعة إلى كل الحقول الأخرى، فارضا عليها هي أيضا تغيير بنيات معقولياتها الخاصة. ومن تم يتحول النشاط الاقتصادي للعب الدور الطليعي في المجتمع ويجر وراءه كل أنواع الأنشطة الاجتماعية الأخرى. وهذا ما يسميه هابرماس بالمبدأ التنظيمي الجديد الذي قد يبرز في أية لحظة ويكون هو المسؤول على إحداث التحول داخل المجتمع. وهو قد يأخذ أي طابع ممكن، اقتصاديا كان أو سياسيا أو ثقافيا أو دينيا..
وبهاتين المقولتين الأساسيتين : بنى المعقولية الموضوعية من جهة والمبدأ التنظيمي الجديد من جهة ثانية ، يكون قد توضح التصور العام الذي هدف هابرماس إلى بلورته في سعيه إلى إعادة بناء المادية التاريخية. وهي ما قد ننعته من الآن فصاعدا بالمادية النشوئية التكوينية.
6
فماذا لو اعتمدنا الآن هذا التصور، في محاولتنا لمقاربة واقع وأفق التطور الذي يسير نحوه النظام العالمي الحالي؟ ألن يقتضي ذلك بالضرورة مراجعة عديد من المفاهيم الماركسية التي لا زالت متداولة لحد الآن، وبالخصوص إعادة النظر حتى في المبدأ المركزي الذي قامت عليه هذه الأخيرة، والذي يعتبر أن القاعدة الاقتصادية للمجتمع، وبتدقيق أكثر، العلاقات التي تقوم بمناسبة العملية الانتاجية، هي الفاعل المحدد في آخر المطاف لكل تشكيلة جتماعية ؟ ألا يمكن اعتبار صعود هذا الفاعل الأخير إلى ممارسة الدور الطليعي أو دور التحديد في البنية الاجتماعية، إلا استثناء لم يكتب له أن يتحقق إلا مع النهضة الأوروبية، وليس قاعدة عامة في تاريخ النظام الاجتماعي، فكان هو المبدأ التنظيمي الجديد الذي توفق أكثر من غيره، في تقديم الأجوبة الملائمة على التعقيدات التي وصلها النظام الاجتماعي في أوروبا في تلك المرحلة؟ وبالتالي ألا يعني هذا، أنه لفهم التحول العميق الذي يمر منه النظام العالمي حاليا، وجب البحث عن مبدأ تنظيمي جديد آخر هو المسؤول حاليا عن هذا التحول بدلا عن المبدأ الاقتصادي؟ وهل يكون هذا المبدأ الجديد مثلا هو الفعل التواصلي الذي يقترحه هابرماس، أو كل ما يتعلق بتداول المعلومات والمعارف وطرق انتاجها والتحكم فيها؟ ألم يعد الموضوع الرئيسي حاليا الذي يدور بشأنه الصراع بين الفرقاء الاجتماعيين هو حول من يمتلك المعرفة ومن يقدر على تسخيرها لصالحه؟
إن هذا التصور إذا ما عملنا به، سيقودنا ولا شك، إلى تعديل كل الرؤية التي تعودنا أن ننظر منها إلى العالم من داخل المرجعية الماركسية أو المرجعية الاشتراكية بشكل عام. فالصراع الاجتماعي لم يعد يدور حول الخيرات المادية أكثر ما يدور حول الخيرات المعرفية، ولم تبق الحاجة إلى تحقيق تراكم رأسمالي أكثر أولوية من مراكمة الرأسمال المعرفي. وبالتالي فإن مصطلحات عديدة ومفاهيم من هذا الحقل، سيتم التساؤل عن جدواها وعن مدى استمرارية صلاحياتها في عكس وتمثل الظواهر الاجتماعية الجديدة. ومن ذلك مثلا مفاهيم الطبقة والبروليتاريا والبورجوازية والأمبريالية والتبعية والاسغلال الطبقي ... ألخ.
وكنموذج عن ذلك نأخذ هنا، نظرية الامبريالية التي قامت على فكرة استغلال واغتناء الدول الرأسمالية المتقدمة على حساب الدول المتخلفة، والتي تفترض أن تبقى هذه الدول الأخيرة دائما في موقع التبعية وأن لا تتخطى أبدا عتبة التخلف، كما يذهب إلى ذلك أنصار مدرسة التبعية في أمريكا اللاتينية أو النظرية العالمثالثية لسمير أمين. فما يحدث الآن مثلا في دول جنوب شرق آسيا يثبت عكس هذا ويدحض هذه النظرية من أساسها. وحتى إذا كان البعض يعزو التطور الذي عرفته كوريا الجنوبية مثلا أو طايوان، إلى التواجد العسكري الكثيف لأمريكا بهما، والذي كان الهدف منه أنذاك مواجهة المد الشيوعي القادم من الاتحاد السوفياتي أو من الصين، فإن هذا التبرير لا يصمد كثيرا أمام الحالات الأخرى في المنطقة، كماليزيا أو سنغافورة أو أندونيسيا...
فبالنسبة إلينا، قد يكون السر في نجاح هذه الدول في الانتقال من مصاف الدول الفقيرة إلى مصاف الدول الغنية، يكمن في أن هذه الأخيرة قد اهتدت، وعلى عكس غيرها من الدول الفقيرة الأخرى، إلى المبدأ التنظيمي الجديد المتمثل في النشاط أو الفعل المعرفي. أيها أنها فطنت مبكرا، ربما منذ تجربة اليابان في هذا المضمار، إلى أن كلمة الحسم في النظام العالمي القادم، هو في تملك المعرفة والمعلومات العلمية والتقنية. وقد نضيف فرضية أخرى، أن هذا المبدأ التنظيمي الجديد ربما يكون قد وجد في الذهنية السائدة في تلك المنطقة والمتمثلة في الثقافة ذات المرجعية الكونفوشية، الأرضية المناسبة للإنتعاش والتطور، أي بنفس الشكل الذي سبق للمبدأ التنظيمي القديم أو المبدأ الاقتصادي الرأسمالي أن وجد في النظام الفيودالي السائد في أوروبا أنذاك الأرضية المناسبة له. فالمشهد يمكن أن نشبهه هنا بتيارات مائية متضاربة في مجرى نهر كبير، وأن هذه الدول هي ممن عرفت أن تميز وتركب التيار المناسب الذي سيدفعها إلى مقدمة المجرى إلى جانب الدول الصناعية القديمة.
إن كل المؤشرات لتدل على أن الرهان في المستقبل سيدور بالدرجة الأولى حول من يمتلك المعرفة ويتحكم فيها. والصراع سيكون صراعا معرفيا وعلميا، ومن سيتحقق له الفوز فيه، سيكون بالتأكيد هو من يملك أكثر الحظوظ للتأثير في مجريات النظام العالمي. وليس من الصدفة مثلا أن يتحول رجل مثل بيل غيتس في رمشة عين من مجرد مستخدم عادي في شركة عادية إلى أغنى رجل في العالم.
ولأن اللحظة الانتقالية التي يمر منها عادة كل نظام حين انتقاله من مرحلة إلى أخرى، تكون بالضرورة مطبوعة بحالة لاستقرار، وبعمليات تفكيك وإعادة بناء لمكونات النظام القديم، فإن عملية انتقال النظام العالمي الحالية إلى المرحلة الجديدة، تعرف هي أيضا نفس الظواهر، ومن ذلك اهتزاز بنيات الهيمنة القائمة حاليا وإعادة تشكلها حسب موازين قوى جديدة، بما يعني ذلك من خروج أو تراجع لاعبين قدامى، كما وقع للاتحاد السوفياتي، وتقدم لاعبين جدد إلى الواجهة ممن أهلتهم قدراتهم المكتسبة حديثا. فالدول المتقدمة الحالية حتى وإن بقيت إلى حين، متحكمة في جل مصادر وقنوات انتاج وتصريف المعرفة، إلا أن ذلك لا يمنع بعض الدول الصاعدة إن هي أحسنت الاستفادة من هذه اللحظة الانتقالية، لأن ترتقي إلى مراتب أعلى في سلم التطور والتقدم، عكس ما تدعيه نظرية الامبريالية المتفرعة عن الماركسية.
ولقد كشف المفكر الهندي أماريتا صن مؤخرا، في نظريته حول التنمية، أن هذه الأخيرة لا تقوم على محاربة الامبريالية أو معاداة الرأسمال الأجنبي أو تجريم المنافسة أو السوق الحرة، أو إقامة الحواجز الجمركية وغير الجمركية أمام المبادلات الخارجية ...، ولكن على تحرير قدرات الفرد الذهنية والابداعية، أو ما أصبح يعرف عموما بالتنمية البشرية، والتي هي ليست في الأخير سوى تحريره من براثن الجهل والأمية الأبجدية والثقافية، وتمكينه من وسائل التواصل مع العالم حتى يكتسب بنفسه المعارف والمعلومات الضرورية لتوظيفها لمصلحته. فالقضاء على الأمية في كل مستوياتها وتعميم المعلوميات والأنترنيت على كل المواطنين سيكون بدون شك هو المفتاح والجواب المناسب لمن أراد أن يجد له مكانا تحت شمس العهد الجديد.
7
ما أردنا أن نخلص إليه من هذا العرض، هو أنه قد حان الوقت، أو ربما أننا تأخرنا عن ذلك كثيرا، لأن نخرج من طمأنينتنا الفكرية التي أبقتنا قانعين بما نعتبره مرجعياتنا الفكرية الثابتة، وأن نغامر نحو المجهول لاستكشاف مجاهل في الفكر ربما لا نعرف عنها شيئا حاليا. فالباراديغم المعرفي القديم قد انتهى ومعه انتهت الماركسية وكل الفكر الاشتراكي القديم. ونحن الآن أمام باراديغم جديد لا زالت تفاصيله في أغلبها مجهولة بالنسبة إلينا. الباراديغم القديم كان قد بدأ يهتز منذ اكتشاف نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية اللايقين لهينزبرج في العقود الأولى من القرن العشرين. وطوال العقود اللاحقة، استمرت مطارق النقد والتشكيك في هدم ما تبقى من يقينيات في هذا الباراديغم أو في كل ما تفرع عنه من نظريات أو ما اعتبر أنذاك من بديهيات وحقائق، بلغ أوجه مع المدرسة التفكيكية. وربما نحن الآن قد دخلنا مرحلة جديدة من إعادة بناء لما تهدم، أي في مرحلة صياغة نظريات جديدة على أساس باراديغم جديد، قد يكون من تجلياته حاليا، نظرية المادية النشوئية التكوينية وكذلك النظرية البنائية ونظرية الأنظمة المعقدة المتكيفة ونظرية الظواهر المنبثقة.
ونحن هنا لا نتفق مثلا، مع من لا زال بتأثير من التفكيكيين، يعتبر أن زمن الأنساق أو النظريات النسقية الكبرى، قد انتهى إلى الأبد، ولم يبق سوى زمن الاختلاف والتنوع اللامحدود. بل نحن نعتقد أن الذي انتهى إنما هي الأنساق الكبرى القائمة على أساس الباراديغم القديم، وأن هناك الآن بداية لبلورة أنساق كبرى بديلة تأخذ بعين الاعتبار كل هذه الاكتشافات العلمية والنظرية الجديدة.