صفحات من نضال اليسار -5 في الذكرى الخمسين لإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية


ابراهيم حجازين
2007 / 3 / 13 - 13:10     

في كل الأحوال كانت الهوة تتسع بين الوزارة والحكم ويبدو أن الوزارة بدأت تفقد المبادرة إذ تشكلت حالة استقطاب حادة في المجتمع بدأت ملامحها حتى قبل إلغاء المعاهدة بين خصوم الحكومة وأنصارها بذريعة إيقاف النشط الشيوعي. في هذه المرحلة بالذات بدأت الحكومة تتجنب التنسيق مع الشيوعيين دلالة أن الضغوط على الحكومة بدأت تأتي ثمارها. وهذا يفسر برغبة الحكومة بالابتعاد عن أحد حلفائها والسير في سياستها مبتعدة عن حقل الألغام المزورع في طريقها .
في 13آذار 1957 أعلن عن إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية بعد محادثات بين الجانبين الحكوميين الأردني والبريطاني .وبهذه المناسبة أعدت الحكومة برنامجا للاحتفالات بهذا الحدث وقررت تعطيل الدوائر الرسمية ثلاثة أيام ،كما دعت إلى مسيرات جماهيرية بالتعاون مع الحزب الاشتراكي والبعث والقوميين ومما كان له دلالته أنها تجاهلت دعوة الحزب الشيوعي للمشاركة في هذه الفعاليات .أقدمت الحكومة كما يبدو على هذه الخطوة تجنبا لتعقيد الأمور أكثر مما هي وخوفا من إثارة القوى المعادية . إلا ان الشيوعيون قاموا بتنظيم مسيرة ضخمة وقيل في حينها أنها كانت تمثل ثلاثة أمثال مسيرة الحكومة . بهذه الطريقة استعرض الحزب قواه مما فاقم الضغوط على الوزارة لتصفية النشاط الشيوعي ، واشتد الخلاف حول هذه النقطة بين الحكم والحكومة ، حيث أعلن النابلسي بأنه لا يوجد أي خطر شيوعي في الأردن ، في حين أن الولايات المتحدة كانت تعلن عزمها على تقديم المساعدة إلى جميع دول الشرق الأوسط التي تواجه الخطر الشيوعي ، وذلك كان مدخلها لتطبيق مبداء أيزنهاور .
أعلنت الحكومة أنها ضد هذا المبداء وعبر عن ذلك صراحة رئيس الوزراء في لقاء له مع السفير الأمريكي ، بينما وعد هذا الأخير بتقديم 100 مليون دولار كمساعدة للأردن مقابل العمل ضمن المبداء إلا أن الرئيس رفض ذلك . في مثل هذه الأحوال تبداء الآليات المشبوهة عملها ، خاصة وأن الخبرة الأمريكية كانت كبيرة في هذا الشأن . مقابل ان تجربة العمل السياسي لدى القوى الوطنية لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية في ظل العمل الحثيث من مراكز محددة على التفرقة بين الأطراف الوطنية ، بالإضافة لعدم قدرة هذه الأطراف على تفهم الأساليب المبتكرة للاستعمار الجديد . إضافة إلى أن الحكومة لم تحسن مع باقي القوى الوطنية تقدير الموقف وقوة الخصم .
ترددت الحكومة في مقاومة الضغوط الأمريكية وتفاقمت الخلافات داخل مجلس الوزراء حول هذه المسألة مما شل قدرتهه على اتخاذ المواقف ، وبينما كان الحزب الشيوعي يدعو ضرورة مواجهة أمريكيا بشكل حازم كانت الحكومة لا تعتقد بإمكانية ذلك .وبذلك حسمت نتائج الصراع مبكرا إذ أن القوى الوطنية لم تكن متفقة بشأن التعامل مع المخططات الأمريكية .
قيم المناضل الشيوعي الدكتور يعقوب زيادين هذه الفترة "كانت عناصر الردة داخل البلاد قد أخذت تتجمع على أثر إنجازات الحكومة وبدأت السحب تتكاثف في سمائها وراحت المؤامرات تزداد في الداخل والخارج وأخذ التنافر بين القوى الوطنية يتزايد ، ويضيف أن فترة عام 1957 كانت عاصفة وتنذر بخطر جسيم يهدد المنطقة بأسرها لدرجة أن كل مواطن بدأ يتحسسه إلا أن القوى الوطنية لم تستجب لهذه المستجدات وبقيت متفرقة "
تطورت الأمور بسرعة وأعلن رسميا أن محاولة انقلابية تجري ضد الحكم وأشارت أصابع الاتهام إلى بعض الأطراف الحكومية والأحزاب الوطنية . كانت هذه هي الطريقة الأمريكية في العمل . بناء على هذه الأحداث تم إقالة الحكومة قي 10 نيسان . ورفض الحزب الشيوعي إقالة الحكومة وساهم الشيوعيون بنشاط في المؤتمر الذي عقد في نابلس لهذا الغرض ورفضوا دعم الحكومة الجديدة والتي سميت بحكومة الجسر التي ستعبر عليها حكومة أخرى لاتخاذ خطوات شديدة ضد الحركة الوطنية وبالفعل تشكلت حكومة جديدة أعلنت الأحكام العرفية . وكان ذلك نهاية وبداية مرحلة جديدة دخلتها البلاد.
حاول الشيوعيون أن يدفعوا الحكومة النابلسية للتصدي للمشروع الأمريكي بحزم وتشير الأحداث أنهم أصروا على موقفهم التصعيدي إلا أن الأمور لم تجري كما أملوا فتسارع الأحداث كان أقوى منهم . وجرت اعتقالات واسعة في صفوفهم ودخل السجون لفترات طويلة أعداد كثيرة من الشيوعيين وأصدقائهم ومن الأحزاب الأخرى أيضا لكن الثمن الأكبر دفعه أعضاء الحزب الشيوعي .
يطرح الاحتفال بهذه المناسبة ، مناسبة إلغاء المعاهدة ودور الحركة الوطنية وخاصة الشيوعيون في تحقيقها أسئلة حادة على المتتبع لهذه الأحداث خاصة وان الحركة الوطنية لم تكن مستعدة بما فيه الكفاية للتطورات الحاصلة حتى وصلت إلى الانقلاب على الحكومة الوطنية ، كما ان الأحزاب الوطنية لم تقيم حتى الآن موضوعيا أسباب الفرقة التي سادت صفوفها ولا تزال تتكرر حتى اليوم في العمل المشترك والانتخابات لا بل أن برامجها لا نزال دون مستوى التحديات القائمة .
نسوق هذه الملاحظات على عجالة لأن المرحلة التي يمر بها الأردن وباقي المنطقة العربية في ظل السياسات العدوانية للمحافظين الجدد الذين يسيطرون على القرار الأمريكي في المنطقة والعالم قد تقود إلى تدهور الأوضاع إلى درك أكثر خطورة ، ومن المقدر ان تتفاقم الأمور إذ يبدو أنه في ظل التغيرات الحاصلة في النظام الرأسمالي العالمي وازدياد نزعة اليمين المحافظ أن هذا الاتجاه آخذ بالهيمنة في معظم الدول الرأسمالية وبالتالي سيتعرض الوطن العربي والمنطقة عموما إلى أخطارا أكبر مما هي عليه الأمور حتى الآن ، وهذا يفرض على أجندة الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية مهام شبيهة بتلك التي كانت مطروحة في مرحلة التحرر الوطني لكن على نحو أشد تعقيدا منها . فما العمل على صعيد لمواجهة هذه الأوضاع ؟
إن فكرة إنشاء حركة سياسية عريضة تعبر عن مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية المتضررة من السياسات الاقتصادية السائدة، والمرتبطة بتطبيقات الليبرالية الجديدة سواء ما يتعلق منها بما يعرف بإعادة الهيكلة وسياسة الخصخصة، او تحرير التجارة والأسواق والأسعار والخدمات بشكل مطلق، دون أي اعتبار للنتائج الاجتماعية المترتبة على ذلك وما قد يحدث من هزات في المجتمع قد تؤثر على الاستقرار السياسي في البلاد ، يعمل من أجلها الكثيرون من الناشطين في صفوف القوى الديمقراطية والتقدمية .وهي تحتاج الى عمل متواصل لكي ترى النور، خاصة وأن المحاولات العديدة التي جرت قي هذا الاتجاه حتى الآن لم يكتب لها النجاح ،إن بناء حركة سياسية ديمقراطية تقدمية بأفق اجتماعي حركة (يسار اجتماعي) هي محط اهتمام واسع في المجتمع الأردني وتكسب المزيد من الأنصار في مختلف المدن والقرى والمخيمات في الأردن .
وفي الختام ، ونحن نحتفل بالذكرى الخمسين لإلغاء المعاهدة البريطانية ، نستذكر هذه المناسبة الوطنية ونحن بأمس الحاجة للاستفادة من هذه التجربة التاريخية التي خاضها شعبنا بقيادة الحركة الوطنية بكفاءة واقتدار . حيث استبدلت اليوم المعاهدات الاستعمارية القديمة بمعاهدات جديدة مع الإسرائيليين، واستبدل الاحتلال البريطاني – الفرنسي باحتلال إسرائيلي - أمريكي، والأخطر من كل ذلك الانقسام الطائفي والمذهبي والجهوي الذي تسعره القوى المعادية، ومحاولات حرف الصراع عن مساره الطبيعي في مواجهة الإمبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية إلى صراع مذهبي وإقليمي وطائفي وقبائلي ، بالإضافة إلى السياسات الداخلية الليبرالية الجديدة التي تنتهجها الحكومات القائمة والتي ستجعل بلداننا أكثر تبعية وارتباطا بالمراكز الإمبريالية .والدرس الذي نستفيد اليوم يفترض أن تتوحد كل القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية والديمقراطية والتقدمية والتنويرية لمجابهة مهام الوضع القائم لكن على أساس برنامج ديمقراطي يستجيب لمتطلبات وروح العصر ويفتح الأفاق لمقاربة حداثية وعصرية في مجتمعاتنا .