الصين الشعبية وديكتاتورية الطبقة الخاملة


مجدي الجزولي
2007 / 2 / 20 - 13:29     

وأنت تقرأ كلاسيكيات اليسار السياسي يهولك أحياناً شعور الثقة الذي خامر أذهان الثوريين وهم يصنعون تواريخهم، فقد ظن قبيل منهم حد الإيمان أن رحمة التاريخ لا بد حالة عليهم، وأن الانتقال إلى رحاب الاشتراكية النضرة بالضرورة قاب قوسين أوأدنى: إذا تحققت السلطة السياسية ونال "الحزب الطليعي" الصولجان. أما ما بعد هذه الخطوة القفزة فبضع قفزات شبيهة، أو حتى أقل مقداراً، ومن ثم يحمر الأفق بالوعد الاشتراكي، وفي تفاؤل أعظم الشيوعي. في الواقع تمنعت الاشتراكية على الممارسة لأنها ليست مجرد استيلاء على السلطة، لأنها ليست مجرد انتقال للملكية إلى الدولة، لأنها ليست حكم حزب واحد سيد!
بهذا المنظور، الذي لا يجيد سوى النفي وسيلة للتعريف، ننظر مرة أخرى في مسار الظعن الصيني من شعار الاشتراكية إلى تيه الرأسمالية الكاسرة؛ لعل في دروس الصين المعاشة ما يفيدنا ونحن نعتبر جملة في مآلات المشروع الاشتراكي على الطراز السوفييتي. ومن ذلك الدرس المهم والبديهي أن كل سلطة مطلقة مفسدة مطلقة ما دام مجال الصراع هو الاجتماع البشري. كذلك أن التاريخ لا يسير كما تأمل الرغبة، ولكن كما يملي الواقع، والذي يحوي الحزب الثوري، ولا يحتويه الحزب الثوري: بمعنى أن ليس للطليعة السياسية، مهما بلغ شأوها، من حصانة تحول بينها وبين "الانحطاط" كلاً أو جزءاً في حوض الرجعية. هذا بالانتباه إلى أن التقدم خلق مستمر وإبداع متصل في الخيال السياسي الاقتصادي والاجتماعي الثقافي، قبل أن يكون أرقام تصف في تقارير النمو. من ثم فإن إمكانية الضبط الديموقراطي سياسياً واجتماعياً، بمعنى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وإتخاذه، هي الحصن الحصين الذي يؤمل فيه أن يحول دون تضعضع المشاريع السياسية الجذرية إلى حكم قلة تظن في نفسها سمواً فوق التاريخ، وحكمة فوق المحكومين. وفقاً لهذا التصور لا تكون الاشتراكية ذات مضمون إلا إذا اتسع مشروعها لتسييس الجماهير المتصل، وانفتحت مؤسساتها لاستقبال الرأي العام المنظم والمستقل عن جهاز الدولة، وقبلت أجهزة السلطة فيها البقاء المنفصل والمستقل لتنظيمات الجماهير الديموقراطية من أحزاب ونقابات وإتحادات وغيرها، فهي من حيث التعبير المباشر عن مصالح أعضاءها تمثل "المجتمع المدني" حقاً، الذي يتوسط بين جهاز الدولة العلوي وبين الواقع الاجتماعي. كما أنها بقدرتها المستمرة على الخطاب السياسي إنما تمنح الجماهير الشعبية الصوت الذي تفقده بين اقتراع وآخر مدة سنين. عليه، فإن كل تغول للدولة "الاشتراكية" على المجتمع هو بالضرورة انتهاك للقاعدة الديموقراطية للاشتراكية، لا تبرره ضرورات تبيح محظورات.
والعين مسلطة على واقع "المنتجين" لنا، أيضاً بالاستفادة من دروس الصين، أن ننظر في حقيقة التقسيم الطبقي في ظل ملكية الدولة لأدوات الإنتاج: ذلك الركن الركين في أدب الانتقال إلى الاشتراكية، حيث كان الظن أن أيلولة الملكية للدولة، ما دامت الدولة ذات مشروع "اشتراكي"، تدفع قدماً وقفزاً إلى واقع اجتماعي تنعدم فيه التمايزات الطبقية، وبعض الظن إثم! إذ أنه بالتعارض مع هذا التفكير الرغبوي برزت في خبرة الاشتراكيات السوفييتية وما شابهها تمايزات طبقية لا سبيل إلي إنكارها سوى بالتغافل، أي التبرير أملاً في مستقبل يصنع نفسه. بذات القدر فإن في مراجعات كهذه تجديد لدماء النظرية الثورية، والتي هي بالفعل رمادية، لا تشرئب مخضرة سوى بالتحليل الملموس للواقع الملموس. في هذا الصدد تدهش المقارنة بين التعريف السكوني للطبقة الاجتماعية عند ستالين والذي يجعلها دالة مباشرة للملكية، وبين تعريف لينين الديناميكي الوظيفي والتاريخي الذي يموضع الطبقات الاجتماعية في سياق أكثر تعقيداً. عند لينين الطبقة الاجتماعية جماعة كبرى من الناس تتميز عن سواها بحسب الموقع الذي تشغله في نظام الإنتاج الاجتماعي، وذلك ضمن المحددات التاريخية المعينة؛ وكذلك بحسب العلاقة التي تربطها بوسائل الإنتاج (في بعض الحالات علاقة يصوغها ويكرسها القانون)؛ وبحسب الدور المناط بها في التنظيم الاجتماعي للعمل؛ وبالتالي بحسب أبعاد وأنماط اكتسابها لنصيب من الثروة الاجتماعية الواقعة تحت تصرفها. إن في قرائن "الدور المعين في التنظيم الاجتماعي للعمل" و"أبعاد وأنماط اكتساب نصيب من الثروة الاجتماعية" و"العلاقة بوسائل الإنتاج" أفق يتجاوز العلاقة التبسيطية التي تجعل من ولاية الدولة على وسائل الإنتاج باب فلاح مضمون في "بناء الاشتراكية". ديالكتيك الطبقات لا يسكن عن الفعل بمحض انتقال ملكية وسائل الإنتاج إلى الدولة، بل تنفتح سياقات جديدة لإعادة رسم الخريطة الطبقية للتشكيلة الاجتماعية المعينة، لا نجد لها تشريحاً في الكراسات.
في حالة الصين برزت إلى الوجود في ظل ملكية الدولة لوسائل الإنتاج قسمة عظمى بين طبقتين رئيستين: طبقة الكادر وطبقة العمال. تشكلت الأولى عبر أطوار من الصراع الداخلي بين فصائلها المتصارعة حتى أدركت قدراً من الاستقرار يعود في المقام الأول إلى استقرار دولة الحزب الشيوعي الصيني في الهيئة التي هي عليها الآن. فهي إذن طبقة اجتماعية تربت في كنف السلطة إذا جاز التعبير، ويعود أصلها الاجتماعي إلى تقسيم العمل بين البيروقراطية الحكومية والحزبية من جهة، أي الكادر المسؤول عن التخطيط والإدارة، والمتحكم في توجيه الموارد وتوزيع الفائض، وبين المنتجين فعلاً من العمال من جهة أخرى. هؤلاء لا حظوة لهم يعتد بها في (دولتهم) لمجرد أنهم عمال، وإنما تتحقق (ديكتاتوريتهم) المأمولة عبر تحكمهم (الافتراضي) في (ممثليهم) الذين يتولون واقعاً إدارة جهاز الدولة وآلة الاقتصاد. متى ما تراخى هذا التحكم تنفرط سلطة العمال، وتصبح الدولة رهناً في يد طبقة من الكادر. على هذا الأساس فإن من ضرورات المجتمع الاشتراكي أن يؤسس لنظام ديموقراطي يسمح بالتحكم في من يتحكمون بالموارد الاقتصادية والسلطة السياسية (وانغ، 1992م). بما أن لطبقة الكادر موقعاً في التشكيلة الاجتماعية يمكنها من السيطرة على الموارد العامة فإن ذلك يتيح لها فرصة للاستئثار بنصيب أعظم من الثروة الاجتماعية يتجاوز نصيبها المفترض، كما أنها وبحكم سيطرتها المباشرة على جهاز الحكم قادرة على إخضاع المنتجين بما يضمن مصالحها. فهي إذن تحقق محددات تعريف لينين من حيث الدور الذي تتولاه بحسب تقسيم العمل الاجتماعي، ومن حيث العلاقة مع وسائل الإنتاج، وميكانيزمات اكتساب قسط من الثروة الاجتماعية. بالتالي فهي من ناحية وظيفية تشكل طبقة متميزة رغم عدم تملكها لوسائل الإنتاج بصورة حرفية. من ناحية أخرى توازي طبقة الكادر البرجوازية الرأسمالية بتقنينها تقاليد لانتقال النفوذ من الآباء إلى الأبناء يماثل انتقال الملكية الخاصة من جيل إلى جيل. مثلاً أصبح دينغ زيفانغ، الإبن الأصغر للرئيس الأسبق دينغ شاوبنغ، خلال التسعينات رجلاً ثرياً جداً عن طريق تجارة الأثاث والعقارات والمضاربات المالية، كما اشتهر جيانغ ميانهنغ صاحب الثروة الهائلة، الإبن الأكبر للرئيس السابق جيانغ زيمين، بلقب "ملك تكنولوجيا المعلومات" في شانغهاي (مجلة 1917، العدد 26، 2004م).
في حاضر الدولة الصينية لا أثر معتبر للتقسيم السابق داخل طبقة الكادر بين الكادر السياسي والكادر المهني، والذي انزاح تدريجياً منذ بداية "الإصلاحات" الاقتصادية والسياسية في 1978م، حتى توطدت وحدة هذه الطبقة واكتسبت تماسكاً داخلياً جعلها في تناقض مباشر مع الطبقة العمالية، ما لبث أن أشاح بوجهه جلياً بقرار الحزب الشيوعي الصيني أواخر التسعينات قبول الرأسماليين الجدد علناً في صفوف الطبقة الحاكمة. يعود تاريخ هذا التناقض بين العمال الصينين والحزب الحاكم إلى المراحل الأولى لنشوء الدولة الصينية حيث اتضح الصراع باكراً داخل صفوف الاتحاد العمالي الذي أنشأه الحزب تحت إسم "إتحاد نقابات عموم الصين" بعيد الثورة (1949م) مباشرة. والداعي أن توقعات العمال من دولتهم كانت فوق طاقة الحزب على الوفاء، حيث تراجع الحزب في خطته الخمسية الأولى (1953 – 1957م) عن وعده إنفاذ قدر من الديموقراطية داخل المصانع وإشراك العمال في اتخاذ القرار مفضلاً الصرامة الإدارية عبر تحديد أهداف إنتاجية واجبة التحقيق. حتى ذلك التاريخ كان الاتحاد متمسكاً ما يزال بوسائله الاحتجاجية المجربة وعلى رأسها الإضراب، ووجد نفسه بالتالي في صراع ضد الحزب مرده إلى تبني الاتحاد لمطالب قاعدته العمالية بخصوص تحسين الأجور وتقليص ساعات العمل وديموقراطية الإدارة وما إلى ذلك. رداً على هذا التمرد نظم الحزب حملة للسيطرة على الاتحاد، أولها كان دعاية مكثفة الرسالة الأساس فيها أن على العمال الابتعاد عن الشأن السياسي والانكباب على زيادة الإنتاج ليس إلا، جاء تتويجها بعزل الحزب لرئيس الاتحاد الراديكالي لي ليسان في ديسمبر 1951م وتنصيب لاي رويو بديلاً له والذي كان رأيه أن على النقابات الانصياع لإرادة الحزب على كل المستويات، وأن مصالح العمال لا يجوز أن تنحرف عن مصالح الدولة. جاءت خاتمة هذه الحملة في النقد الذي كاله الاتحاد للنقابات متهماً إياها بالاهتمام الزائد بمطالب العمال المبالغ فيها، وذلك في مقررات مؤتمره السابع في مايو 1953م. في ذات المؤتمر أقر الاتحاد بسلطة الحزب المطلقة عليه، حتى أن الصحيفة الناطقة باسم الاتحاد، "يومية العمال"، كتبت تقريراً تشير فيه إلى إحباط قطاع من العمال مما أسموه فقدان الاتحاد لأنيابه بعد المؤتمر السابع (جاينا ليبر بولتن، 2000م).
دون سرد تاريخي نقفز مباشرة إلى محطة ركيزة في حاضر المعارضة العمالية للنظام الحاكم في الصين. في العام 1989م خرجت الحركة العمالية الصينية تساند الانتفاضة الطلابية لكن تحت رايات مختلفة. بينما كان طلاب الجامعات يطالبون بالانفتاح السياسي صب العمال جام غضبهم على "الإصلاحات" الاقتصادية التي تنخر في ما اكتسبوه من حقوق خلال تاريخ ممتد من الصراع. في أبريل 1989م انضمت لجان عمالية من مصانع بكين إلى المتظاهرين في ميدان تيانامين. شرعت هذه اللجان في تنظيم "اتحاد عمال بكين المستقل"، ما أكسب الاحتجاجات الطلابية خطورة مضاعفة دعت الدولة آخر الأمر إلى الضرب بيد من حديد. محاور عمل الاتحاد الوليد كانت زيادة الأجور، تحسين مستوى المعيشة، تقليص الفروقات في الدخل بين الكادر الإداري والعمال، والديموقراطية في مواقع العمل. في 18 مايو 1989م تظاهر ما يزيد على المليون من العمال في ميدان تيانامين، بهذا أصبح التهديد مباشراً لا ريب فيه، خاصة وقد كون العمال لجنة تحضيرية لتأسيس اتحاد عمالي قومي بديل للاتحاد الحكومي بإسم "اتحاد لجان العمال". بعد أيام من هذا التاريخ تدخلت وحدات الجيش لقمع المتظاهرين مخلفة مئات من القتلى. كذلك قذف النظام بالآلاف من العمال في غياهب السجون، أو دفع بهم إلى منصات الإعدام بتهمة الاشتراك في تنظيم اللجان المستقلة. بذات الاسلوب واجه النظام ثلاث محاولات أخرى لتكوين نقابات عمالية مستقلة، وذلك بين العامين 1990م و1994م (مجلة 1917، مصدر سابق). لم ينقطع كفاح العمال ضد السلطة في الصين بعد الضربة التى تلقتها حركتهم في 1989م، وإنما اتصل ولكن بأشكال أكثر لا مركزية. سجلت السلطات الصينية في العام 2003م ما يزيد على 30 ألف واقعة احتجاج عمالي ضمت أكثر من ثلاثة ملايين، أكثرها لفتاً للنظر كانت مظاهرات عمال المؤسسات المملوكة للدولة اعتراضاً على مشاريع الخصخصة وتقليص العمالة. على سبيل المثال، خرج كافة عمال مصفاة داكينغ، عددهم 30 ألف، إلى الشارع متظاهرين في مارس 2002م احتجاجاً على قرار يقضي بتخفيض حجم العمالة في المصفاة، ومطالبين بالحق في تكوين نقابة مستقلة تمثل مصالحهم. في واقعة أخرى شبيهة تظاهر عمال مجمع لياويانغ للحديد والصلب بإزاء إفلاس المجمع نتيجة نهبه من قبل الإدارة والمسؤولين المحليين. السلطة من جانبها أصابها الفزع جراء محاولة العمال الاتصال برفاقهم في المصانع المجاورة لتنظيم عمل جماعي مضاد لمشاريع الخصخصة، عليه قامت باعتقال قادة التحرك وحكمت عليهم بالحبس لآماد تتراوح ما بين أربعة وسبعة أعوام. أصابت عدوى الاحتجاج كذلك العمال في (مناطق إنتاج الصادرات) جنوبي الصين، حيث شهد العام 2005م مظاهرات ضمت 300 ألف عامل وذلك في مدينة شينزن وحدها الواقعة بالقرب من هونغ كونغ. كذلك كان الحال في إقليم غوانغدونغ حيث سجلت السلطات أكثر من عشرة إضرابات في عام 2005 (وركرز سوليداريتي، 23/02/2006م).
بالمقارنة مع حجم القوة العاملة في الصين البالغ 200 مليون فرد تبدو هذه التحركات كشرر متفرق، لكنها شاهد على أن للحق دولة، وأن الانقلاب الرأسمالي، أو التجديف الاشتراكي، لا يلغي حيوية المطلب الماثل في عدالة توزيع الإنتاج الاجتماعي، ولا يهتك وحدة الطبقة العاملة تحت شروط الضرورة التاريخية. والدرس المقدم أن ما للدولة للدولة وما للمجتمع للمجتمع!
المصادر
(1) Shaoguang Wang: Deng Xiaoping s Reform and the Chinese Workers Participation in the Protest Movement of 1989; in Paul Zarembka (ed.): Research in Political Economy; Vol. 13 (1992), pp. 163 – 197.
(2) Capitalism in a Deformed Workers State; 1917, No 26, 2004.
(3) Worker Passivity in China: A Maoist Myth: China Labour Bulletin, 2000.
(4) Wong Kam Yan, Second Wave of China Labour Unrest, Workers Solidarity, 23/02/2006.