من وثائق منظمة 23 مارس : ”رسالة الى قيادة منظمة الى الامام”


يوغرتن الباعمراني
2007 / 2 / 1 - 11:57     

”رسالة إلى قيادة منظمة إلى الأمام“
23 مارس

لم يخطر ببالنا، ولم يكن ليخطر أن لا نكاتب بعضنا طوال هذا الزمن الذي ليس باليسير، فالصراعات والتمزقات التي عاشها اليسار طوال هذه المرحلة، حجبت عنا جميعا ضرورة وايجابية الحوار فيما بيننا، لقد تقوقع كل منا على نفسه، ومضى في طريقه الخاص، يحاور ذاته عن تجربته وخططه وتكتيكاته ومسؤولياته، وحتى الصراع الخارجي العنيف الذي دار بين فرق اليسار، لم يكن ليساعد في هذا التواصل فيما بيننا، بل على العكس، كان يضاعف من جو القطيعة والخصومة، إن صح التعبير !

وبعد، فقد هدأت الأوضاع نسبيا، واستقر كل منا في ”اتجاه“، وأصبح بإمكانه أن يميز بوضوح كبير بين ما يربطه وبين ما يخالفه عن الآخر. فماذا جرى في كل هذا الزمن، ما هي آفاق الحركة، وكيف الخروج من وضع التشتت والتخلف الحاليين ؟

هذه هي الأسئلة التي كان من المنطقي جدا، أن تكون موضوع رسالتنا، وبداية لمراسلتنا، ما دمنا نجدد بكم الاتصال للمرة الأولى.

لكن للأسف مرة ثانية ! فالزمن الذي مضى، كان كثيف التطورات والتناقضات لدرجة لم يعد من السهل تلخيصها وتقييمها في رسالة واحدة. ومع ذلك، سنحاول أن نعطي ولو فكرة أولية عن أنفسنا على سبيل التمهيد لنقاشنا هذا، والذي نتمنى أن يطول ويتوصل للهدف السامي الذي نريده منه.

ليس جديدا، القول بأن الحركة الماركسية تجتاز أزمة من أعوص الأزمات التي عاشتها. الأزمة في هذه المرة متصلة بوجودها وقدراتها على الاستمرار كجسم سياسي ثوري. لقد كنا نتحدث دائما عن الأزمة لسنوات مضت حتى قبل أن تصير بهذا الشكل وبهذا الحجم، إلا أن ما نؤكد عليه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو أن جذر هذه الأزمة، يكمن في خطنا السياسي والفكري الذي نهجناه طوال هذه المرحلة. ”العزلة عن الجماهير“ و”فشلنا في الالتحام بها“ ليس إلا مظهرا - حتى ولو كان رئيسيا - من مظاهر أزمة الخط. أكثر من هذا، إننا، حتى ولو امتلكنا خطا صحيحا، فإن عزلتنا قد تطول نسبيا، بمعنى أننا قد نتقدم في فك العزلة تقدما بطيئا لأسباب أخرى خارجة عن إرادتنا كثوريين، لأنها مرتبطة - أي الأسباب - بالتطور الموضوعي للصراع الطبقي في بلدنا، وبالتالي بالتطور المستقل لحركة الجماهير ولنمو وعيها الجماعي. فلا يكفي في نظرنا أن يكون الثوريون على صواب، بل لا بد أيضا أن تكتمل كل الشروط الموضوعية الأخرى لتشكل الحزب الثوري، ومنها بعد صحة الخط، أن تميل الجماهير لتقبّله بأن تنمو فعاليتها وكفاحيتها الثوريتان (إذا كان هذا يجري في الواقع الموضوعي في تفاعل وتراكب مع الأداة، مع دور الطليعة، فإنه لا ينفي التمايز والاستقلال النسبي لكل منهما).

أزمة الخط جعلت من عزلتنا عن الجماهير عزلة مرضية، ليس فيها لا تقدم سريع ولا تقدم بطيء، بل دوران ومراوحة في المكان، ثم تقهقر سريع عبر كل أشكال التفكك والانحطاط في الوعي والممارسة، إلى هذا الحد، قد نتفق فيما بيننا، بل لا نرى مبررا معقولا لمن يريد أن يخالفنا الحكم، ويعاند الواقع المر الذي أمامنا. لكننا نضيف على هذا الحد من الاتفاق، أن أزمة الخط في نظرنا، ليست بسبب هذا التكتيك أو ذاك، ولا هي في أسلوب العمل والتنظيم، ولا حتى هي أزمة استراتيجية. إنها بالأحرى في هذا كله، وفي المنهج الماركسي-اللينيني الذي زعمنا أننا نحمله عن جدارة واستحقاق...

قد يعتقد البعض أن استراتيجيتنا سليمة، وأن فكرنا الماركسي-اللينيني أسلم، وأن سبب هذه الأزمة هو فقط في بعض أساليب العمل (كالمنظمات الجماهيرية) أو في بعض التكتيكات (كالعلاقة مع القوى الديمقراطية، أو كالتأكيد على قضية الصحراء بدل الاهتمام بأشياء أخرى (أهم !)... نحن نقول : أبدا. لو كان الأمر بهذا الحجم، وبهذا الشكل، لما عانينا من مظاهر الانحطاط ولا استطعنا أن نتدارك هذه الأخطاء بخسارة قليلة وبسرعة كبيرة دون هذه الهزات العنيفة، وهذه العزلة البشعة... ولكان اتجاه تطورنا هو الوحدة لا التشتت والتبعتر، نحن الذين نؤمن بأن لا استراتيجية سليمة بدون نظرية سليمة ولا تكتيك سليم بدون استراتيجية سليمة... نقول بأن عطبنا كان بحكم هذا التراكب الجدلي بين هذه المستويات الثلاثة في كل هذه البنية الواحدة، وأن أساسها أو قعرها، هو فهم مثالي ذاتي لا جدلي ولا تاريخي لما كنا نزعم أنه الماركسية-اللينينية بعينها. النظرية الثورية أولا، والاستراتيجية ثانيا، ثم التكتيك الثوري ثالثا... هكذا يجري التفاعل في منحاه الرئيسي، حتى لو ظهر في العمل المباشر على غير هذا الشكل. الذين يزعمون أن الإشكال هو في هذه القضية أو تلك، في هذا الجانب دون غيره، يطمسون حقيقة الأزمة، يلطفونها، يمنعون من حلها حلا جذريا حقيقيا، يعيدون انتاجها ويديمونها. فهل معنى هذا أننا وضعنا وجود الحركة التاريخي موضوع شك وتساؤل ؟ بأحد المعاني، نعم !

إننا حقا رفعنا شعار ”يجب تطبيق الماركسية على الماركسيين أنفسهم“، يجب ”نقد السلاح“ بعد ما كانت الحركة هي ”سلاح النقد“. ومضينا في هذا السبيل، وسنمضي إلى النهاية بدون مداراة للنفس، وبلا خداع للجماهير، وبلا ذلتية، وبلا عقدة أمام أي كان... واسترجعنا للنقد الذاتي كل مكانته لا من وجهة أخلاقية فحسب، بل كحلقة مركزية في جدل المعرفة والثورة. وإذا كان حكمنا قاسيا على تجربتنا الماضية، فذلك لا يعني - كما يحلو لضيقي الأفق - البرهان بالطريقة العكسية على أن الأحزاب الأخرى كانت على صواب أو في الاتجاه التاريخي الصحيح. هذا المنطق صوري ومزيف ولا يليق إلا بميتدئ لم يختبر بعد تجربة كل هذه السنوات بما يكفي من الفطنة والتمعن، إننا نقول : لقد أخطأنا الجواب، أخطأنا الانطلاق، لم نمتلك الجواب التاريخي على إشكاليات بناء الحزب الثوري الجماهيري، (وبالتالي لم نبن تاريخيتنا بعد) وما دامت الحاجة الموضوعية لهذا الحزب موجودة ومستمرة، بل تتضاعف مع التطور والصراع، فان هذه الشروط نفسها تستدعي وجودنا كتنظيم ثوري يطمح إلى التجاوب مع هذه الأوضاع، وإلى تلبية حاجاتها، شريطة أن لا يفهم ”وجودنا“ فهما ميتافيزيقيا، بل فهما جدليا يقيم في وحدة ”الهوية“ التناقض (إذ لا هوية بدون تناقض)، التناقض الذي يؤدي إلى الانسجام مع التاريخ لا مع عكسه.

لعل بعض الرفاق سيطالبوننا بالحجج حتى يتسنى لهم أن يستنتجوا مثلنا هذا التقييم، سيطالبوننا بإثبات حكمنا بأن جوهر الأزمة في بنية الخط السياسي والفكري بكامله، واختزالا لهذا النقاش، الذي نريده أن يكون تفصيليا فيما بعد، نطرح الإشارات الدالة التالية :

- ألم تعتمد بنية تحاليلنا السياسية، وميكانيكيا، على ثلاثة مظاهر أو عوامل سطحية : أزمة الحكم، مفهومة اقتصاديا، وأزمة الإصلاح، مفهومة طبقيا، نمو الحركة الجماهيرية، مفهومة رومانسيا ؟

- أليست على أساس هذه المعادلة البسيطة والسطحية كنا نحدد سلوكنا السياسي، هذا في الوقت الذي كان فيه الطابع الشعبي للصراع الطبقي يتراجع إلى الوراء عما كان عليه في السنوات الفارطة إلى حدود انتفاضة مارس 65 ؟...

- هل يمكن أن القول أن ”خطأ“ العلاقة مع القوى الديمقراطية ليس إلا مجرد خطإ في أسلوب العمل معها أو حتى خطأ في التكتيك، وليس مرد ذلك إلى خطإ في التشخيص الاستراتيجي لقوى الثورة الوطنية الديمقراطية، بل وإلى مفهوم الصراع الطبقي، للاختصار، نقول عنه أنه طبقوي ولا تاريخي ؟

- هل يمكن القول أن قسما كبيرا من اليسار (على الأقل) كان فعلا متخلصا ومتجاوزا لمفهوم إيديولوجي تبسيطي يختزل الاستراتيجية أو معضلة الصراع الطبقي في صراع ثنائي حاسم بين الإصلاح (البرلمان) والعنف (الكفاح المسلح)، وهل كان فعلا هذا المشكل هو التناقض للصراع الطبقي في هذه المرحلة، أم أنه كان ”محورا“ لذهنية برجوازية صغيرة عديمة الأفق ؟. ثم ألم يكن هذا الاختزال الاستراتيجي لمعضلة الثورة هو خلفية كل سلوكنا السياسي ؟

- هل هذا التحليل الذي جاء به بيان هيئة التوحيد، على إثر انشقاق إ.و.ق.ش، والذي كان يدفع في اتجاه محاربة جناح ”الرباط“، بناء على بعض الأخبار الخاصة لدى الهيئة، وبعض الاستنتاجات الوهمية ؟... هل هذا البيان كان مجرد ”خطأ“ أو ”هفوة“، أم أنه نتيجة لتركيبة إيديولوجية غير محقونة حتى ضد أمراض التفسير البوليسي للتاريخ ؟

- بعد 3 مارس 73، بدأ اليسار يتحدث عن ضرورة برنامج نضالي أدنى، فماذا كان يعني غياب هذا البرنامج النضالي طوال هذه المرحلة ؟ ولماذا أثيرت هذه المسألة بعد هذا التاريخ بالذات ؟ وماذا كان يعني غياب المسألة الديمقراطية في ممارسة اليسار الفكرية والعملية ؟ ألم تكن ممارستنا، بالتالي، وطوال هذه المرحلة عبارة عن مجموعة من ”التكتيكات“ لردود فعل على ممارسة الأحزاب، خاصة وأنها كانت تفتقد إلى قاعدة راهنية للتكتيك بسبب غياب البرنامج وغياب المعضلة الديمقراطية في الفكر والعمل ؟

- وباعتبار أن الممارسة الطلابية شكلت %80 أو %90 من عملنا الجماهيري، فهل تصرفنا في إ.و.ط.م، ونتيجة المؤتمر 15، كان مجرد خطإ في فهمنا للمنظمة الجماهيرية، التي ليست هي الحزب (يا للاكتشاف الرائع!!)، أم أن بنية تحليلاتنا السياسية للأوضاع ومنهجية تشخيصنا للصراع الطبقي هي التي فرضت علينا هذه الممارسة وأدت بنا إلى تلك النتائج، دون أن يشكل ذلك أي تناقض مع مفهومنا وتعريفنا للمنظمة الجماهيرية ؟ أين الحصان وأين العربة في هذه الإشكالية ؟

- وأخيرا، أي مدلول فكري وسياسي لموقف تقرير المصير لـ ”الشعب الصحراوي“ .. ؟ وما علاقة هذا المفهوم بكل الملاحظات النقدية السابقة ؟

هذه هي بعض المؤشرات الناطقة بدلالتها. نتأسف أننا لا نستطيع حتى شرحها بالقدر اللازم، لكننا نعتقد أن التمعن فيها، مع استذكار الأحداث وسياقاتها، ومع تركيبها جميعا في البنية الفكرية والسياسية التي حكمتها وحكمت الممارسة، بمجملها، وحتى بتناقضاتها الداخلية وتخبطاتها أحيانا، سيعطينا في نهاية التحليل هذا ”الجمع الكلي“ لخط اليسار الذي نقول عنه أنه كان يسراوية في الميدان السياسي، وذاتوية طبقوية في المنهج الفكري. نحن نلح على هذه الخلاصة ونؤكد عليها، لأن وعينا بها يسوق ممارستنا في اتجاه آخر، ويعطي لنقدنا عمقه وشموليته المتناسبة مع حجم الأزمة وحقيقتها الواقعية فإلى أي حد تقدمنا في هذا المجال ؟

إضافة للفعالية السياسية، والتجاوب والاندماج مع الصراع الطبقي الذي تخوضه جماهيرنا في المرحلة الراهنة، إضافة لذلك، كان لموقفنا من المسألة الوطنية بعد منهجي فكري أهم من ذلك بكثير. بل لعله أثمن ما حققنا في هذه المرحلة. إن منظورا ماركسيا غنيا، جدليا وتاريخيا يتكون في خضم هذه المعركة السياسية، اختصارا لبعض مؤشراته، رغم ما قد يكون للاختصار من إفقار للمضمون، نقول علمتنا هذه المعركة ما يلي : إن الصراع الطبقي لا يجري معلقا في فراغ، إنه يجري ضمن أوطان وقوميات، فضمن هذه الوحدة التركيبية الجدلية، يجب البحث في القضية الطبقية والقومية معا. بل إن التاريخ الواقعي، لم يشهد قط صراعا طبقيا صرفا تتضح فيه القضية الوطنية أو القومية بهذا الشكل أو ذاك. هذه هي مقولتنا الأولى : إن الأوطان والقوميات ليست إطارا شكليا سلبيا بلا مضمون، بلا فاعلية أو إيجابية، إنها تشكل تاريخي اقتصادي سياسي ثقافي بشري، يشكل في النهاية، ما يسمى بالمصلحة القومية في وضع تاريخي محدد، وهذا يعني من جهة أخرى، الحقيقة البديهية الملموسة التالية : إن العالم المعاصر، ليس توقيعا أو امتدادا لمجتمع طبقي مجرد لا تقطعه مصالح قومية متناقضة أو متفاوتة أو مختلفة، بل هو وحدة عالمية لمجتمعات عينية خصوصية، على قاعدة الاقتصاد الإمبريالي الذي يتضمن في نفس الوقت التناقضات القومية، هذه مقولتنا الثانية : إن الاستغلال الإمبريالي، ليس استغلالا طبقيا صرفا، بل هو أيضا استغلال قومي، بمعنى أن الإمبريالية قسمت، وجزأت وأخرت، ومنعت الاندماج القومي لعدة شعوب مضطهدة فعلت ذلك عن تخطيط ووعي أولا، وكجزء موضوعي من ميكانيزم الاقتصاد الإمبريالي العالمي ثانيا. ولذلك كانت القوميات والشعوب المضطهدة قوميات ناقصة الاندماج، مفككة بالمعنى السياسي، لتقسيم كياناتها في دويلات وحدود سياسية مصطنعة، وبالمعنى الاقتصادي الاجتماعي، نظرا لاستمرار وتكليس كل العوامل ما قبل القومية المعيقة للاندماج القومي...

الثورة الوطنية الديمقراطية تناضل ضد ”الواقع الموضوعي“، تتجاوزه على صعيد الوعي الكلي تتجاوزه بالكامل على صعيد الواقع -الوحدة القومية أو ”الوطنية“ إذن، جزء لا يتجزأ من الثورة الوطنية الديمقراطية، بل جزءها الأساسي، باعتبارها قاعدة كل تطور مستقل ومنسجم. هذه هي مقولتنا الثالثة. وينتج عن ذلك أمران : أولا، يجب عدم التعامل مع القضية القومية أو الوطنية من منظور تاكتيكي راهن مؤقت، بل من منظور تاريخي (في الواقع لا تناقض بين الاثنين في نظرة جدلية تدافع في آن واحد عن المصلحة القومية والطبقية. تمييزنا هنا، هو فقط ضد طريقة طبقوية في التعاطي مع القضية القومية أو الوطنية). وثانيا، لأن الاندماج القومي أو الوطني غير كامل وتعيقه عدة بنيات ما قبل قومية (كالطائفية أو القبلية)، فإن الصراع من أجل الوحدة القومية، أو الوحدة ”الوطنية“، لن يكون هو الآخر تقسيما طبقيا بسيطا واضحا، بل لا بد وأن يتقاطع ويتداخل الاصطفاف الطبقي بالبنيات ما قبل القومية في توزيع للقوى معين (حالة الحرب الأهلية في لبنان... وبنسبة أقل الصحراء) هذه هي مقولتنا الرابعة.

هذه المقولات الأربع الأولية كمنطلقات ليست بدعا خاصة بنا، إنها بالأحرى تاريخ الفكر الشيوعي والحركات الثورية منذ زمن لينين، زمن الإمبريالية والحركات القومية، إنها خلاصة محدودة بالطبع لتاريخ اندماج النضال الطبقي في النضال القومي أو العكس. إنها في الأخير، مجرد عودة المأثرة التاريخية اللينينية الأصيلة...

وبلا شك، أنكم سيلاحظون هنا أن منهجية بهذا الشكل، لا بد وأن تربط بين مستويين في التحليل إن صح التعبير، بين التحديد الطبقي المؤسس على نمط الإنتاج القائم، وعلى تناقضه الأساسي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وبين التحديد المجتمعي الذي يذهب بالتحليل إلى اكتشاف الخصوصية التاريخية لمجتمع معين، لشعب أو قومية من خلال الصيرورة التاريخية لتشكله وتكونه، ولكيفية تعامله مع الطبيعة ومع المجتمعات الأخرى. المستوى الأول، يبني الهيكل العظمي الذي بدونه يبقى الثاني مجرد كومة من اللحم لا مفاصل ولا تقاسم لها، وبالتالي، يكسو هذا الهيكل باللحم والدم الذي يجعل منه كائنا عضويا متميزا. ووفق هذه الطريقة، لابد وأن تستعيد الماركسية منهجيتها التاريخية (أو التاريخانية) وروحها الجدلية بالضرورة. ولعل هذه النقطة هي جوهر الانقلاب الذي يحدث في تفكيرنا وتطورنا الماركسيين، وهي التي سنتلمسها من جديد في كل النقط الباقية...

لقد جعلنا من النضال الديمقراطي، بما فيه البرلماني، الحلقة المركزية في نشاطنا السياسي المرحلي، فهل هذا مجرد موقف تكتيكي وحسب أم له امتدادات أخرى أهم ؟ هنا أيضا، فإن أبعاد هذا الموقف تتجاوز بكير الفائدة السياسية المرحلية أو الظرفية. وهنا أيضا يتعلق الأمر بتطور منهجي في الفكر الماركسي الذي نحمله ونبلوره.

لقد أثار موقفنا جملة نقاشات يمكن وضعها في مستويين مترابطين : الأول، تقييم هذا التكتيك من وجهة اتجاهه الاستراتيجي أي تحديد علاقته بالاستراتيجية الثورية التي نحملها. والثاني المنهجية الفكرية التي اعتمدها في التحليل والاستقراء والتجديد. سنترك تلاوين النقاش العيني الذي جرى في هذا الموضوع، إذ كل منا يمكنه أن يعود بسهولة إلى هذه الخلاصات الماركسية المعروفة :

1 - الماركسيون-اللينينيون لا يقفون موقفا سلبيا من الديمقراطية البرلمانية البورجوازية، إنهم يثمنونها كتقدم إنساني هائل على الصعيد التاريخي، ويناضلون ثانيا من أجل تحقيقها وتجاوزها ايجابيا، أي عبر خلق شروط التجاوز في الكفاح الشعبي.

2 - الماركسيون-اللينينيون، على الصعيد التكتيكي، يشاركون من هذه الوجهة في البرلمان، حتى أشدها رجعية، عندما يكون الفعل السياسي للجماهير ضعيفا، مبعثرا، أو سلبيا ودفاعيا، ويقاطعونها عندما تطرح الجماهير السلطة في الشارع، أي عندما تتحقق الإمكانية الفعلية لتجاوز الديمقراطية البورجوازية..

قلنا سنترك جانبا هذا النقاش الذي يمكن أن نحصل على خلاصاته تلك من كتب لينين... مثلا ”مرض الطفولة اليساري“ أو ”ضد المقاطعة“، أو في مقررات الأممية الثالثة، أو بالقراءة الواعية والعينية للتجربة الروسية ولغيرها من التجارب الأخرى. ولنقف قليلا عند خلاصات أهم وأكثر فائدة في المستقبل :

* لقد أشرنا في الملاحظات السابقة لتجربة اليسار، وقلنا بأنه كان عدمي التكتيك لافتقاره لأرضية راهنة، وأساسا لافتقاده لتوجه نضالي ديمقراطي. هذا الفراغ التكتيكي، كان مربوطا لدى البعض بتصور آني هو الدخول فورا في العمل المسلح الذي هو أعلى أشكال الكفاح والذي يتجاوز منطقيا وعمليا الأشكال الأخرى الدنيا من الكفاح، وبالأخص منها ”لبرلمان“ (أو حق الشعب في مؤسسات تمثيلية ديمقراطية كصورة مطلبية لهذا الكفاح)، وكان مربوطا لدى البعض الآخر نفس التصور، ولو كان بشكل مغاير نسبيا، وهو العمل على تشجيع وتعميم مبادرات الجماهير التي بدأت - في نظره - في الانتقال إلى المستوى العالي من الكفاح. وقد تضمن هذا التفكير لدى الطرفين بالضرورة تحقيرا ورفضا إراديا للديمقراطية البورجوازية على الصعيد النظري، وترك ممارسة اليسار بالنتيجة بدون حلقة وسط، أي بدون تكتيك، وهو تصور لا يرى بالضبط مستوى الصراع الطبقي على حقيقته، ولا يرى الجماهير واستعداداتها، كما هي في الواقع. إن هذا لا ينفي أن اليسار قد طرح بعض المطالب الدنيا الاقتصادية والسياسية التي اعتبرها ”تكتيكا منه“، ولا ينفي أنه في مرحلة من تطوره، أكد مرارا وتكرارا على الطابع الدفاعي للحركة الجماهيرية، ولكن لا هذا ولا ذاك، كان يشكل بالفعل أساسا لتكتيك واع لنفسه، أي يدرك بوضوح المسافة التي تفصل بين الثورة وبين موقف مبدئي منها إلى تكتيك، والفرق بينهما أن الأول عام، صالح لعدة ظروف أو مراحل مختلفة، بينما الثاني خصوصي مرتبط فقط بالظرف المعين الذي طرح فيه. أما أن اليسار قد أكد مرارا (وفي مرحلة معينة من تطوره !) على دفاعية الحركة الجماهيرية، فإن ذلك، لم يخرجه على الإطلاق، وعيا أو ممارسة، من رومانسيته ويسراويته، والدليل على أن هذا التأكيد ظل لفظيا، أن اليسار كان يؤكد في نفس الوقت إما على مباشرة ”العنف المسلح“ من قبل التنظيم، وإما على أن الجماهير قد باشرت بنفسها الانتقال إلى مرحلة أعلى في كفاحها، مرحلة تتسم بالعنف الجماعي، حيث بات من واجب التنظيم أن يعمم ويشجع ويسهل هذا التطور في الكفاح الجماهيري الذي لاحت تباشيره الأولى، والذي لا تنقصه إلا دفعة واحدة من قبل التنظيمات الثورية. هذا الازدواج، أو هذا الخلط بأدق تعبير، في وعي اليسار لمستوى الصراع الطبقي، كان هو الأساس أو القاعدة التي يبني عليها اليسار تكتيكه وممارسته السياسية. ومن الواضح أن هذا التشوش الرومانسي كان لابد وأن يعطي ممارسة يسراوية في الحقل العملي، ممارسة ستقتصر بالضرورة عن المهمات التكتيكية الحقيقية والتي يشترطها الواقع الحقيقي للحركة الجماهيرية وللصراع الطبقي.

انتقالنا إلى الوعي بأهمية التكتيك (بالمعنى الكامل للكلمة)، واستيعابنا لجدليته مع الاستراتيجية هو في حد ذاته، وبلا مبالغة، ثورة على فكرنا القديم، وعلى نوعية ممارستنا السابقة، لذلك، قلنا إن ملء الحلقة الفارغة في ممارستنا النضالية كان أكثر من الموقف السياسي المحدد الذي اتخذناه من البرلمان الحالي، كان ملأ الفراغ منهجي على الصعيد الفكري، فراغ، سببه ضعف جدليتنا، وضعف استيعابنا للأوضاع الملموسة التي هي أساس كل تحليل ماركسي يستحق هذا الاسم.

* ولقد أشرنا أيضا في ملاحظاتنا النقدية لتجربة اليسار، إلى أنه كان قد نهج خطا يسراويا في مرحلة تراجع فيها الطابع الشعبي الجماهيري للصراع الطبقي. نعم ! لو أننا تأملنا في طبيعة الحركة الجماهيرية وكثافتها وضخامتها ودرجة تسييسها بعد الاستقلال مرورا بانشقاق إ.و.ق.ش. إلى حدود 1963 أو إلى حدود انتفاضة 1965... وقارنا هذه الكثافة الجماهيرية الشعبية العريضة ذات الطابع السياسي الملموس مع حجم الحركة وقوتها وفعاليتها وطبيعتها في السنوات التي تلت، لاتضحت لنا هذه الحقيقة الثمينة بكل وزنها ودلالتها، يكفي أن نذكر بالمظاهرات السياسية الضخمة التي عرفتها تلك المرحلة تضامنا مع الثورة الجزائرية ومع الثورة الكوبية (!) وضد اغتيال لومومبا (!) حتى يظهر لنا الفرق شاسعا بينها وبين المرحلة التالية التي أعطت في أحسن الأحوال بعض الاضرابات الاقتصادية الفئوية المجزأة. أما كون هذه الحركة لم تكن مقودة بحزب ثوري، أما كونها بقيت في إطار الاحتجاج الديمقراطي (الإصلاحي !) بدل أن تتحول إلى قوة ديمقراطية ثورية منظمة وذات أفق برنامجي... أما كونها كانت، وكانت... فإن ذلك لا يغير من حقيقة أن الصراع الطبقي كان ذا نفس شعبي كثيف مبلور في حركة نضالية جماهيرية ضخمة ومملموسة التجليات، الشيء الذي ضمر إلى حد بعيد في المراحل الموالية، كما أن كون السخط (نقول السخط وليس النضال) قد ازداد، والاستغلال الطبقي قد تفاحش، وأن النظام قد عرف محاولتين انقلابيتين، بل وأن ميولا راديكالية قد نمت وتشكلت كتيارات سياسية (23 مارس، ح.م.ل.م) لا يعني، ولم يكن في الواقع يعني أن الصراع الطبقي قد تعمق طابعه الشعبي الجماهيري... بل على العكس من ذلك، كانت هذه المرحلة بالذات تحتوي على أزمتين في آن معا : أزمة النظام، وأزمة الثورة التي فقدت في الزمن المنظور مخرجها الشعبي الجماهيري الثوري.

إعادة الطابع الشعبي للصراع الطبقي الذي ضمر وشحب لونه، يتطلب ويشترط نضالا ديمقراطيا صبورا على جميع المستويات، ومنها أساسا تنمية وعي الجماهير بأهمية السلطة أو بأهمية الدولة في إنجاز تحررها الشامل. وهنا، يقع على الثوريين أن يستوعبوا في برنامجهم كل ما يسمى بالحريات الديمقراطية البرجوازية (ومن ضمنها البرلمان أو المؤسسات التمثيلية)، ويناضلوا بفعالية من أجلها لكي يتمكنوا من تجاوزها. الهدف الوحيد الذي يضعه هذا النضال الديمقراطي أمامه، هو إخراج الكتلة الجماهيرية الواسعة أو السواد الأعظم من الشعب من سباته السياسي بوجه خاص... بسبب القهر الذي يعيشه يوميا، وبسبب التأخر المجتمعي العام الذي دام عدة قرون ودفع بهذا السواد الأعظم إلى الانزواء، وبالتالي إلى ضمور الوعي الجماعي للشعب، الغاية إذن هي إنشاء العامل الذاتي أو التاريخي لاستقرار الديمقراطية كعلاقات سياسية وكعلاقات مجتمعية وكأساس لأي إنجاز اقتصادي وطني أو اشتراكي. من هذا المنظور يستمد النضال الديمقراطي كل أهميته وأبعاده الثورية إلا أنه ليس سهل التحقيق والإنجاز كما قد يتصور البعض لدرجة أن هذه السهولة المزعومة جعلتهم يحتقرون هذا النضال نفسه ويضعونه في المرتبة السفلى والأسفل من التفكير والعمل. ليس سهلا. لا لأن النظام لا يقبل به بحكم طبيعته المعروفة، بل وأيضا لأن الوعي المهيمن على الحركة الجماهيرية، وحتى حركاتها السياسية، هو وعي متأخر يرفض هذا الشكل أو ذاك من النضال السياسي الديمقراطي، ويفتقد إلى وعيه، بل يخيل إلينا أن الصراع التاريخي الذي سيحدد مصير وطبيعة ثورتنا الجارية (أو القادمة) يجري بالضبط على هذه الواجهة بين وعيين وخطين : فإما سينتصر الوعي المتأخر كخط سياسي وإيديولوجي، وهو يملك حظوظا كبيرة بحكم التأخر المجتمعي نفسه، وهذا يعني إجهاضا للثورة في انفجارات عفوية جماهيرية لا أمل لها في السيادة، أو أنها ستأتي في أحسن الأحوال، ببديل ممسوخ سيكرر التجارب الوطنية التي هزمت الوطن العربي وفي غيره من البلدان، والتي كان فيها من ايجابي، على قلته، على حساب استقلال الإرادة التاريخية للجماهير، وعلى حساب، التحرر الكامل... وإما سينتصر هذا الوعي الديمقراطي على كل المشاق وعلى عوائقه التاريخية وما أعمقها ! وبالتالي سنكون مؤهلين ليس فقط لإنجاز التحرر الاقتصادي والسياسي من الإمبريالية، بل ولاجتياز التأخر المجتمعي الذي بدونه لا يبقى للأول من قيمة تاريخية حقيقية. ولذا يخيل إلينا أن هذا الصراع يملك فيه الوعي المتأخر حظوظا كبيرة. ولكننا بكامل وعينا سنناضل في الاتجاه الثاني مهما كان شاقا وطويل الأمد، ومهما كان الأول مغريا بطابعه الثوري السهل، لأن ذلك في رأينا هو الاختيار التاريخي الصحيح، الراديكالي حقا والاشتراكي حقا.

هذه هي الأبعاد التي نعطيها خطنا الديمقراطي، وهي كما ترون أكثر من موقف تكتيكي بسيط، إنها بالأحرى اختيار إيديولوجي وسياسي لطبيعة الثورة نفسها.

* وجعلنا من تنمية العمل الجبهوي مع كافة القوى الديمقراطية وكل الوطنيين خطا موجها لنا. فما هي مدلولات هذا المنهج ؟ هل المعضلة التي أمامنا من حجم تكتيكي أم استراتيجي ؟ هل هي معضلة إيديولوجية أيضا ؟ نعم، إنها هذا كله : فبمقدار ما يتعلق الأمر بالتعامل التكتيكي مع القوى الديمقراطية في وضع معين لتلبية أهداف محددة (وهذا يتوقف على صحة تحليلنا وعلى صواب الأهداف) بمقدار ما يتعلق أيضا بقضية استراتيجية لأنها تمس وترتبط بكيفية التعامل الاستراتيجي مع قوى ديمقراطية معتبرة، ويجب أن تعتبر كقوى لأساسية لها مصلحة في إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية إلى هذا الحد أو ذاك من الشمولية والعمق، وبمقدار، أيضا، ما يرتبط هذا الموضوع كله بالمنظور الإيديولوجي أي بأدواتنا التحليلية، بمقولاتنا ومفاهيمنا، بمنهجية تفكيرنا، بعمق جدليته وصلابة ماديته التاريخية، سنترك جانبا كشف هذا الترابط، سلبيا، من داخل مفاهيم اليسار وتجربته السابقة، ولنؤكد ايجابيا إحدى خلاصاتنا الرئيسية، التي توضح لكم دلالات نهجنا الجبهوي : نحن نعتبر أن توجهنا الجبهوي هو نسبيا أكثر من عملية إنماء لتحالف جبهوي سياسي أو طبقي، لأنه يهدف إلى تمتين مزدوج : تمتين الجبهة الشعبية العريضة من جهة، والتقدم في بناء وتشكيل الحزب الثوري الطليعي الجماهيري من جهة ثانية. قد نعبر عن هذا الوضع (الذي هو في رأينا وضع تاريخي عيني موضوعي) بأطروحة اليسار الصائبة في مرحلة من تطوره ”بناء الجبهة وبناء الحزب الثوري عملية جدلية واحدة“ مع الاحتفاظ بنقدنا لمضمونها وقتذاك، لأن مفهوم الجبهة في هذه الأطروحة كان مفهوما طبقويا مجردا، ولأنها كانت في منطوق هذه الأطروحة وفي مضمونها، ستتم وتنشأ خارج الأحزاب السياسية، وعلى نقيضها، نؤكد على دور الأحزاب في الجبهة لأنها لازالت تعبيرا موضوعيا عن تطور الصراع الطبقي في بلادنا، ونشدد على دورها خاصة في هذه المراحل من ضعف وهزالة الطابع الشعبي الجماهيري للصراع الطبقي. في طرحنا، يبقى المجال مفتوحا لما قد تأتي به الأيام من دور خاص، وتقدم فريد لدور الجماهير وللطبقات الاجتماعية كقوى شعبية مستقلة (السوفيتات العمالية والفلاحية في روسيا مثلا كانت شكلا أساسيا لتحالف جبهوي جماهيري له نوع من الخصوصية والاستقلالية)، بمعنى آخر، إذا كان تحالف الأحزاب هو الشكل الرئيسي للجبهة في مرحلتنا الراهنة، فان ذلك لا يلغي ولا ينفي الأشكال الأخرى (مثلا ومن الآن النقابات والمنظمات الجماهيرية)، بل يظل مفهوم التحالف لدينا مفتوحا على جميع الطاقات الشعبية ولكل ما سيفرزه الصراع الطبقي من أدوات نضالية جماهيرية.

نعود لنقول بأن توجهنا الجبهوي هو نسبيا أكثر من عملية إنماء لتحالف طبقي سياسي، وذلك بالضبط، لأننا ننطلق من أن الفرز الطبقي لم يستكمل بعد كل مداه، لم يتبلور بعد إلى الحد الكافي، ولم ترسم فيه بعد كل الخطوط الفاصلة بين الطبقات الشعبية، ولا أدل على ذلك من غياب التعبير المستقل للطبقة العاملة (حزب تبلورت موضوعيا تاريخيته على هذه الهوية الطبقية، حزب ثوري جماهيري) لهذا النقص في الفرز الطبقي أسباب موضوعية ولا شك مرتبطة بالتأخر العام للبنى (لم يمنع قيام ثورة ولا وجود حزب ثوري في روسيا والصين أو الفيتنام... كما أن تقدم البيئة الاقتصادية الاجتماعية في البلدان العربية لم يعط ثورة، ولم ينتج في عدة حالات حزبا ثوريا جماهيريا. فمقولة البنية الاقتصادية الاجتماعية غير كافية ولا تفسر كل شيء، وهي تأخر وعي القوى السياسية التي ترشح نفسها لهذا الدور الطليعي، وتخلف الوعي الشعبي (نؤكد دائما على الدور الخاص للجماهير، ونرفض أن نذوبه تماما في دور مسؤولية الطليعة، لأن الصراع الواقعي يجري هكذا في اعتقادنا : ليس البلاشفة هم الذين خلقوا وصنعوا 1903-1905 بإضراباته الاقتصادية والسياسية، بثورته وبمجالسه، ولاهم الذين خلقوا واصطنعوا الوضع الجماهيري الثوري بما لا يقاس عن سابقه في 1917... إنهم ساهموا فيه، تمكنوا من قيادته وتوجيهه الوجهة التاريخية الأصوب... لا مشكلة أننا لم نستطع أن نلعب هذا الدور في الحركة الجماهيرية التي نحن فيها لأننا لم نشكل بعد الإيديولوجيا والخط الصائبين).

على أساس هذه الفرضية - تأخر الفرز الطبقي - نعتبر أن للقوى الديمقراطية دورا، من جهة لأنها هي نفسها ستتعرض لفرز داخلي يساهم في إحدى حلقات التطور في بناء وبلورة الحزب ومن جهة ثانية لأنها تساهم بطريقة غير مباشرة، بمساهمتها في خلق نهوض جماهيري شعبي هو الأساس والتربة والمناخ لتشكل ونمو وتجذر الحزب الثوري الجماهيري. هذه العملية لن تتم على أحسن وجه، ولن تثمر كل أكلها إلا في صيرورة جبهوية، لا ضدها. وحينما نقول صيرورة جبهوية، لا نتصور بالطبع وئاما واتفاقا دائمين، ليس فيها خلافات ولا تقطعها صراعات، لكن حتى في هذه الحالات، فان الصراع والخلاف يجريان من منظور جبهوي وحدوي مادام لهذه القوى شيء تعطيه للثورة والتقدم والصراع الطبقي.

هذا هو الوجه الأول من المسألة. أما الوجه الثاني، وهو الوجه الجبهوي المحض، فانه ينمو ويتكون ويتبلور ويتضح كأي شيء في الحياة. إن إنشاء جبهة ثورية يتم خلال صيرورة وليس دفعة واحدة. قد تبدأ باتفاقات مؤقتة مرحلية قطاعية أو طبقية لكنها ستتطور مع الصراع الطبقي إلى ما هو أرقى وأعظم شأنا، إلى أن تصير أداة الجبهة القوة الضاربة للثورة ومصب السلطة الشعبية المقبلة (التجربة الجبهوية اللبنانية مثلا عربيا نمودجيا) لذلك، فهذا المفهوم الديناميكي للجبهة ضروري بالضبط ضد النزعة الميكانيكية التي حكمت تجربة اليسار في الماضي، والتي كانت تؤجل العمل الجبهوي إلى يوم ما، ستظهر فيه الجبهة الثورية النظيفة دفعة واحدة، بل والتي كانت تشترط في العمل الجبهوي التطابق المثالي الايديوليوجي والسياسي بدل خط الحد الأدنى والتقارب في الممارسة النضالية، وكأنه لا وجود لطبقات ستختلف بالضرورة اختلافات تتسع أو تضيق حسب الشروط الملموسة للنضال وحسب نضج التبلور الطبقي. هذا المفهوم الديناميكي ضروري أيضا ضد مفهوم ذاتي لقيادة الطبقة العاملة للتحالف المفترض، مفهوم ذاتي يؤجل العمل الجبهوي أيضا برغبة ذاتية إلى أن يكتمل الحزب الثوري، أي أنه في الحقيقة يفضل المصلحة الذاتية الحزبية (وهي هنا مفهومة وهميا على أنها مصلحة للطبقة العاملة) على مصلحة النضال المشترك في أوسع جبهة وأكبر قوة من أجل تحقيق مصالح الجماهير التي هي مصالح موضوعية خارجة عن إرادة هذا أو ذاك (النضال من أجل الإصلاح الزراعي... لا يستدعيه ولا يقرر وجوده كأهداف لدى الجماهير اكتمال قوانا الذاتية أو عدم اكتمالها، بل العكس هو الصحيح، النضال من أجل إنجازه لأنه يخدم مصلحة الجماهير وجمع كل ما يمكن من القوى في سبيله هو الطريق لنمو وتجذر الحزب الثوري وهو الطريق الذي يبلور فيه طليعية الحزب) طبعا إننا لا ندعي أن هذا التوجه الجبهوي سيعطي مائة بالمائة الجبهة الثورية المنشودة، فالتاريخ يعلمنا التطور في الاتجاهين، بمعنى أن قوى بورجوازية صغيرة قد تنتقل لخدمة أهداف طبقية معادية للثورة (مثلا المناشفة والاشتراكيون الثوريون في التجربة الروسية في 1917، والاشتراكية الديمقراطية في أوروبا بصفة عامة) كما قد تتجذر، بل تتعدى أحيانا خطها أي طبيعتها الطبقية (الكاستروية مثلا) لكننا نقول، هذا هو التوجه العام الذي يفرضه علينا واقع الصراع الطبقي في بلادنا... هذا الوجه الذي يفرضه كاتجاه أساسي تركيبة النظام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... وبالطبع، إذا أتى التطور بشيء جديد لم يكن في الحسبان... إذا تكونت لنا شروط مغربية تجعل هذه القوى الديمقراطية أو تلك أو هي جميعا تنتقل إلى صف الثورة المضادة، فإننا بالتأكيد سنغير الاتجاه حسب تغير اتجاه التاريخ نفسه، لأننا لم نستبدل دوغمائية أخرى معاكسة.

تلك كانت ملامح تفكيرنا ونهجنا، كما ترون، لم نقدم لكم تحليلا سياسي مرحليا، ولا برنامجا متكاملا للثورة الوطنية الديمقراطية، بل انصبت ملاحظاتنا على عرض بعض الأسس العامة والمنهجية في تفكيرنا والتي في طلاق كامل مع منهجية فكرية سابقة شكلت أساسا لممارستنا ولأخطائنا ولأزمتنا، ولقد عرضنا هذه الأسس قدر الإمكان من خلال أهم القضايا السياسية التي نواجهها اليوم : المسألة الوطنية، المسألة الديمقراطية، التحالفات.

إننا لا نزعم في التقييم الأخير أننا أجبنا على كل الإشكاليات، فنحن أبعد من هذا الادعاء المغرور. إننا فقط نعتبر أنفسنا قد خطونا الخطوة الأولى في الطريق الصائب، ولازالت أمامنا خطوات وخطوات، ولربما كل الطريق، من أجل امتلاك وعي مطابق لعصرنا ولواقعنا المغربي والعربي. إلا أننا بهذه الخطوة، وهذا هو زعمنا. نعتقد أننا قد أرسينا المقدمات الضرورية لتطور تراكمي ايجابي، على عكس ما كان عليه خطنا السابق، الذي لم يكن يسمح إلا ”بنمو“ أو تراكم سلبي، إن صح هذا التعبير ونحن الآن نتجه على خط هذا التراكم نحو استكمال برنامج الحركة، يتوج هذا التطور ويضبط خطانا السياسية في كل الميادين... أي نتجه نحو امتلاك دليل الرشد السياسي كما وصف لينين ذلك بمناسبة وضع البرنامج الأول للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، فكيف نرى بعد كل هذا التطور الحاصل في وعينا ومسيرتنا واقع الحركة الماركسية-اللينينية وآفاقها ؟

لا حاجة بنا إلى التأكيد على واقعنا اليوم، واقع التمزق والتبعثر السياسي والتنظيمي والإيديولوجي، فهذه حقيقة يعيشها مباشرة ويعاني منها كل واحد منا. المهم أن هذا الواقع يحبل باتجاهين لا أكثر :

أولهما : الاستمرار في تكرار ممارسة الماضي البطولي للحركة، هذا الاستمرار، وحتى مع بعض التغيير، لا يساعد إطلاقا الحركة على تجاوز أزمتها، ولن يخرجها من عزلتها عن الطبقات الشعبية، لن يشكل بناء تاريخيتها كتعبير طبقي طليعي وجماهيري. إنه في أحسن التصورات، إذا استطاع أن يضمن استمرارية في الوجود السياسي-التنظيمي، سيكون تعبيرا هامشيا بورجوازيا صغيرا، ثوريا، صراخيا، يشحن الغضب الجماهيري. لكنه لا يمدها بوعي راديكالي ثوري.

ثانيهما : أن تنطلق الحركة انطلاقة جديدة مبنية على نقد شامل التجربة الطفولة، نقد لا يكتفي بالقشور، بل يمضي إلى القعر الفكري والسياسي للممارسة السابقة، باحثا عن الأسس الحقيقية للأزمة لا عن مظاهرها السطحية، هذا النقد إذا استطاع أن يمسك بالحلقات الرئيسية في التجربة الماضية، سنعطي في نظرنا وبالضرورة المقدمات التي نحن في حاجة إليها لتجاوز الأزمة، وسيضعنا في طريق بناء تجربة تاريخية للحركة طبقية وجماهيرية جذرية، وسيعطينا ويعطي للجماهير الوعي الراديكالي الذي يؤدي إلى التحرر من التبعية والتأخر، وسيهيئنا مستقبلا لتبوء مكان الطليعة الذي نسعى إليه...

لا نخفي عليكم، أنه بالرغم من كل ما هو موجود في واقع الحركة من سلبيات، وبالرغم من أن الملامح الأساسية لنقد جذري وحقيقي لم تسد بعد فيها ولو بعد هذا الزمن الطويل، لازلنا نراهن على الاحتمال الثاني أو الاختيار الثاني، ولهذا نؤكد على الحوار ونحلم بنتائجه الايجابية، ونعتقد أن من واجبنا أن نراهن من أجله وأن لا نفقد الأمل فيه لمجرد أن هناك بطأ ملحوظا في التطور الجماعي للحركة في هذا الاتجاه الايجابي. من الواجب علينا أن نراهن، ونحلم، لأننا لا نريد أن يضيع من نضال العشر سنوات القسم الأكبر... نريد أن نربح الوقت والجهد، ومن واجبنا ومن حقنا ذلك...

وللتاريخ الجواب.

أيها الرفاق

مهما كان الخلاف بيننا، ومهما تفارقت وتناقضت اختياراتنا النضالية فإن التقدير والاحترام ومشاعر الأخوة والرفاقية التي نكنها لكم تبقى فوق كل اعتبار، فتحية منا لصمودكم، وتحية منا لاستماتتكم من أجل مبادئكم، وتحياتنا الصادقة لكم هي خير ما نختم به هذه الرسالة، وأملنا في ردكم وملاحظاتكم وانتقاداتكم وحواركم معنا.


منظمة ”23 مارس“