الطبقة العاملة الثورية وحقوق الإنسان


حزب العمال التونسي
2007 / 1 / 27 - 12:02     

مثلت منظومة حقوق الإنسان التي أقرتها الثورات البرجوازية المنتصرة في أوروبا وأمريكا الشمالية في أواخر القرن 18 والقرن 19 نقلة جبارة ومكسبا حقيقيا للبشرية التي كانت ترزح إلى حدود ذلك الحين تحت اضطهاد مضاعف: اقتصادي، اجتماعي من جهة وسياسي مدني من جهة أخرى. لذلك شكّل مبدأ إقرار حقوق للفرد الإنساني/الاجتماعي كسبا مضاعفا: فهو من جهة، مثل عصارة ما أنتجه مفكرو وفلاسفة البرجوازية التقدمية الثورية آنذاك، ومن جهة أخرى، أرسى أرضية ضرورية توفر إلى جانب حماية الذات البشرية من أنواع من القمع والاضطهاد كانت إلى ذلك الحين رائجة و"عادية" في المجتمع الإقطاعي، آليات لحماية الفكر والبرامج السياسية التحررية من كل المخاطر التي كانت عرضة لها (سياسيا، قضائيا، دينيا...) ولدعمها وتسليحها بأدوات تغيير الواقع السياسي والفكري وكذلك الاقتصادي.

وفي حين مثلت منظومة حماية الحقوق المدنية والسياسية للفرد الاجتماعي خطوة لا يستهان بها –خاصة مقارنة بالعسف السائد إلى ذلك الحين- فإنها بقيت مرتبطة بمصالح الطبقة السائدة التي حملت مشعلها البرجوازية، فعكست مصالحها السياسية المرتبطة بنظامها الاقتصادي الرأسمالي الصاعد، وعكست تصوراتها للمنظومة الاجتماعية الأكثر ملاءمة لتلك المصالح: منظومة يكون فيها الفرد المحرر كقوة عمل محور المجتمع وهدفه.

إلا أن تلك البرجوازية سرعان ما تحولت، بعد تمكنها من الهيمنة السياسية والاقتصادية، إلى طبقة محافظة هدفها لا قيادة المجتمع نحو التحرر من نير الإقطاع بل المحافظة على موقعها الجديد كطبقة مستغلة اقتصاديا ومهيمنة سياسيا وتجديد شروط تلك الهيمنة. وتحول بالتالي فكرها الاقتصادي وفكرها السياسي من سلاح لتقدم المجتمع إلى سلاح ضد تقدمه. وفقد بالتالي الفرد المحرر كقوة عمل إمكانية التحرر كإنسان في المجتمع البرجوازي.

إن تقدم المجتمع البشري، بما هو نقلة مـــن تشكيلة اقتصادية واجتماعية إلى أخرى أرقى، يرتبط دوما بمصالح القوة الاجتماعية الصاعدة كطبقة ثورية لها مصالحها المتناقضة مع النظام السائد ولها فكرها المعبر عن تلك المصالح، ولها برامجها العملية للتغيير الاجتماعي. وإذ تمثل الطبقة العاملة في عصرنا تلك القوة الاجتماعية والتي –لطبيعة مصالحها- لا يتمثل مشروعها في إعادة إنتاج استغلال الإنسان للإنسان في شكل جديد بل في القضاء على ذلك الاستغلال وبالتالي في إعادة تشكيل الانقسام الطبقي للمجتمع بل في القضاء على ذلك الانقسام، فهي بالتالي الطبقة المؤهلة موضوعيا لقيادة الطبقات والفئات المستغلة والمضطهدة نحو الانعتاق والتي يوفر النمط الاجتماعي الخاص بها (الطبقة العاملة) أي المجتمع الاشتراكي فالشيوعي الإطار الذي يمكن للإنسان –فردا و جماعة- أن ينعتق فيه من نير الاستغلال الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية المكرسة له ويتمكن بالتالي من القاعدة المادية الضرورية لتحرره وتقدمه سياسيا وثقافيا وحضاريا... أن يتحرر الإنسان كإنسان.

ولأن لكل طبقة ثورية منظومتها الفكرية الثورية، إيديولوجيتها الثورية التي تعكس رؤيتها وتصورها لكل المسائل (اقتصادية، سياسية، فلسفية، ثقافية..) والتي تختزن كل المكاسب التي حققتها الإنسانية عبر مراحل تطورها وتعيد إنتاجها بالتقدمي والمستحدث من الأفكار والبرامج عبر النقد الدقيق والمراجعة والإضافة والتجديد، فإن منظومة حقوق الإنسان ومبدأ حمايتها لا يمكن أن تبقى في إيديولوجية الطبقة العاملة الثورية هي نفسها تلك التي ابتكرتها البرجوازية التقدمية الثورية وضيقت عليها وحاصرتها وانتهكتها البرجوازية عندما تحولت إلى طبقة رجعية. فمن جهة لم يكن للبرجوازية الرائدة في أواخر القرن 18 والقرن 19 أن تبتكر من الأمور إلا تلك التي كانت مراكمة للمعارف الإنسانية إلى ذلك الحين تسمح به وبالقدر الذي يتلاءم مع مصالحها (البرجوازية) في تحرير الإنسان/الفرد (أي كما أسلفنا تحريره كقوة عمل لا كإنسان). ومن جهة أخرى، وبإرساء المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بالبرجوازية (الرأسمالية). برزت النقائص الفادحة والثغرات العميقة في منظومة حقوق الإنسان كما نظرت لها وكرستها –إلى حد- البرجوازية والمتعلقة أساسا بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان وبحقوق الشعوب (وكذلك حقوق الأقليات القومية، الدينية، الطائفية، الثقافية... داخل الشعوب نفسها) وبالحقوق الخصوصية لبعض الفئات الاجتماعية المستضعفة أو الهشة (حقوق الشباب، حقوق المرأة، حقوق الطفل، حقوق العاطلين...). ومن جهة ثالثة، وبتحول البرجوازية من طبقة تقدمية إلى طبقة رجعية، لم تعد مخولة موضوعيا ولا ذاتيا لا لحماية حقوق الإنسان في شكلها القديم (والتي استنبطته هي نفسها) ولا لتكريس منظومة جديدة لحقوق الإنسان، منظومة شاملة تأخذ بعين الاعتبار العناصر التي أسلفنا ذكرها والتي لا يمكن أن توجد وتكرس نهائيا وتحمي بحق في إطار نسق ثوري متكامل تقوده طبقة ثورية حتى النهاية.

لقد أصبحت البرجوازية (ونمطها الرأسمالي) معادية لحقوق الإنسان! لقد أصبحت الطبقة العاملة الثورية (ونمطها الاشتراكي فالشيوعي) حاملة الأنوار!