آينشتاين والاشتراكية


عدنان عاكف
2007 / 1 / 15 - 11:37     

"برأيي ان فوضى الاقتصاد في المجتمع الرأسمالي، كما تتجلى اليوم، هي المصدر الحقيقي للشر... أنا على يقين ان للحدً من هذا الشر المتأصل هناك طريقة واحدة فقط هي بناء الاقتصاد الاشتراكي". لم يرد هذا الهجوم على النظام الرأسمالي، وتلك الثقة بالاشتراكية في "البيان الشيوعي" الذي نشره ماركس وانجلس قبل اكثر من 150 عاماً، بل ورد في مقالة لرجل ظل على مدى نصف قرن شاغل الدنيا والناس، واستطاع بفضل نظرياته ان يعيد تشكيل افكارنا عن الكون والقوانين التي تتحكم به. انه عالم الرياضيات الكبير وأحد اكبر علماء الفيزياء، البرت آينشتاين، الذي منحته مجلة تايم الامريكية في 3-1-2003 لقب شخصية القرن.
لقد وردت الجملة التي بدأنا بها في مقالته "لماذا الاشتراكية؟" التي نشرتها المجلة الامريكية مونثلي رفيو "Monthly Review" في عددها الاول الصادر في ايار 1949. وقد اصبح من تقاليدها الثابتة اعادة نشر المقالة في عدد ايار كل عشر سنين.
الصورة الراسخة في اذهان الناس عن آينشتاين أنه عالم منعزل، شارد الذهن، غارق في اعماق الكون، بعيداً عن هموم الحياة اليومية ومشاكل السياسة، الا ان الذين تابعوه عن قرب، يعرفون انه كان منذ الحرب العالمية الاولى نصير سلم عنيد. وكان مناضلاً معروفاً ضد الفاشية والعنصرية، وداعية للدمقراطية والعدالة الاجتماعية. فسببت له هذه المواقف كثيرا من المشاكل في المانيا، وكثيرا من القلق والمغص للذين يحرسون بوابة التاريخ، فآينشتاين بعد كل هذا "اشتراكي مكشوف" على حد تعبير الكاتب باول ستريت.
وبوابة التاريخ آنذاك كانت بحراسة رجل صارم لاتغمض له عين هو السيناتور مكارثي، والذي باسمه عرفت تلك المرحلة من تاريخ امريكا "المكارثية". ويساعده السيد ادغار هوفر الذي تربع على عرش مكتب التحقيقات الفدرالية FBI منذ تأسيسه في مطلع العشرينات حتى وفاته في 1972. كان لابد لمثل تلك المقالة، وفي تلك الظروف الاستثنائية التي كانت تمر بها امريكا، ان تدق ناقوس الخطر لاسيما في اقبية FBI، هكذا حولوا آينشتاين الى قائد في اكثر من حزب شيوعي، وعضو في منظمات هدامة، وجاسوس سوفييتي وراحت اضبارة آينشتاين العجوز تنتفخ خلال بضع سنوات حتى صارت اضخم اضبارة امنية شخصية في التاريخ إذ تجاوزت 1800 صفحة.
لقد كتب عن آينشتاين بمختلف لغات العالم آلاف الكتب والمقالات التي تناولت مختلف جوانب سيرة حياته، نظرياته العلمية، تأثيره على الفكر العلمي والفلسفي في القرن العشرين، ذكرياته، افكاره في العلم والفلسفة والدين والسياسة، علاقاته العلمية والاجتماعية والعائلية، عشيقاته وعلاقاته الجنسية... الخ، وحسب احدى مؤسسات النشر وبيع الكتب عبر الانترنت، يوجد حاليا تحت الطبع في امريكا لوحدها اكثر من 150 كتاباً عن آينشتاين. وبالرغم من ان الحديث عنه لم ينقطع قط، الا ان الاضواء قد عادت لتتركز عليه خلال السنوات الخمس الاخيرة من جديد، ويعود سبب هذا الاهتمام الى عدد من المستجدات، منها:
1- صدور كتاب الكاتب والصحفي الامريكي فريد جيروم عام 2002 بعنوان "ملف آينشتاين: الحرب السرية لادغار هوفر ضد اشهر عالم"، والكتاب مبني على المعلومات الواردة في ملف FBI عن آينشتاين، بعد ان اصبح في متناول الجمهور. وكشف هذا الكتاب عن الوجه الثاني لآينشتاين، وهو الوجه الذي ما زال الإعلام السائد يسعى الى اخفائه عن الناس حتى اليوم.
2- اختياره من قبل مجلة التايم "شخصية القرن" سلط عليه الانظار من جديد.
3- اعتبارسنة 2005 من قبل اليونسكو ومنظمات علمية عالمية وإقليمية كسنة عالمية للفيزياء، وكذلك السنة العالمية لآينشتاين.

*لماذا الاشتراكية؟*نشرت مقالة "لماذا الاشتراكية؟" عام 1949. قبل ذلك كان آينشتاين قد تناول بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية في مقالة مطولة نشرت عام 1932، تحت عنوان "آراء في الأزمة الاقتصادية العالمية" القائمة آنذاك من حيث اسبابها وكيفية معالجتها، وإسلوب تفاديها. وجاء فيها:
"ان التقدم التكنولوجي، الذي يفترض ان يساعد الناس على تسهيل شؤون حياتهم وتحسين راحتهم ورفاهيتهم، من خلال انتاج الجزء الاكبر من ضروريات الحياة، هو نفسه السبب في المشاكل التي يعاني منها هؤلاء. ولهذا السبب نجد البعض يطالب بوقف التطور التكنولوجي المتواصل، وهذا بالتأكيد هراء واضح". ثم يقول:
"الطريقة الاسهل، والاضمن لبلوغ الهدف هو الاقتصاد الخاضع للتخطيط. وهذا ما بوشر بمحاولة تطبيقه في روسيا اليوم، الكثير سوف يعتمد على ما سينتج عن هذه التجربة. ويغدو التنبؤ هنا ضربا ً من المجازفة". وطرح تساؤلات عن المحاولات الروسية لو درست جيداً لساعدت ربما على تفادي الفشل الذي أودى بها بعد سبعة عقود. فقد تساءل:
"هل يمكن انتاج البضائع اقتصاديا في ظل هذا النظام كما تنتج في الانظمة الاخرى التي تتيح حركية اوسع للمشاريع الخاصة؟ هل يمكن لهذا النظام حماية نفسه بشكل تام، دون الحاجة للجوء الى العنف الذي رافقه على نطاق واسع؟ الا يمكن لمثل هذا النظام المركزي المتشدد أن يكون عالقا امام الابتكار والمبادرات التقدمية؟ علينا توخي الحذر فلا ندع مجالا لمثل هذه الشكوك لتقودنا الى موقف مجحف وتمنعنا من التوصل الى تقييمات موضوعية".
بعد مرور سبعة عشر عاما عاد آينشتاين الى الموضوع الاقتصادي، في مقالة "لماذا الاشتراكية؟" فتناول أزمة النظام الرأسمالي العالمي باكمله.

*جوهر الازمة*بعد مقدمة عامة تناول فيها نشوء الطبقات الاساسية في المجتمع من الناحية التاريخية والطبيعية القسرية للتمايز الطبقي، انتقل للحديث عن الازمة التي يعاني منها المجتمع، والتي تتجلى في عزلة الفرد عن مجتمعه، ويرى ان "الظروف دفعت بالانسان للوصول الى حالة من اليأس، مع انه يسعى ويجاهد من اجل الوصول الى حالة من التوازن مع نفسه ومع المجتمع، الا انه وكما تبين، كان يسعى في فراغ. لذلك فقد الامل في تحقيق أي نجاح مهما كان ضئيلا. انه التعبير عن الغربة المحزنة والعزلة التي يعاني منها الكثيرون في هذه الايام. الانسان كائن مزدوج: فهو من ناحية كائن فرد له طموحاته وآماله، تحركه حوافز معينة وله مصالح شخصية يدافع عنها ويسعى من اجل اغنائها، ومن ناحية اخرى انه كائن اجتماعي له علاقاته المتشابكة، يؤثر ويتأثر بمن حوله. لهذا تنشأ لديه قيم واهداف ورغبات متغيرة ومتعارضة. وفي ظل وجود مثل هذه القيم المتغيرة والمتعارضة على الدوام، والمناقضة احياناً لطبيعة الانسان الخاصة، وعبر تركيباتها النوعية يتحدد المدى الذي يمكن ان يصله الفرد في سعيه من اجل بلوغ حالة التوازن وقدرته على فعل ما هو خير لصالح المجتمع. ولكن هناك الجانب المهم الاخر: يكتسب الانسان منذ ولادته مكونات وراثية بيولوجية، يفترض ان تكون ثابتة غير متغيرة مع الزمن وتغير الظروف. ومن بين هذه المكونات الحوافز، التي تعتبر السمة المميزة للجنس البشري. أضف الى ذلك انه يكتسب خلال حياته مكونات حضارية يحصل عليها من المجتمع وعبر الكثير من المؤثرات الاخرى. بمعنى آخر ان آينشتاين يؤكد على دور كل من العاملين الاجتماعي والبيولوجي في تكوين الشخصية". مع ذلك فان "شخصية الفرد، في نهاية الامر، تبرز وتتشكل غالبا من خلال البيئة التي يجد المرء نفسه فيها خلال عملية تطوره وذلك من خلال بنية المجتمع الذي ينمو فيه.." أي انه يعطي العامل الاجتماعي الدور الاهم.
ثمة نقطة اخرى يثيرها آينشتاين خلال تحليله للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وهي ان الانسان ليس كائناً سلبياً بل هو قادر على ان يؤثر كثيراً على موقعه ودوره ومستقبله. ومن خلال الاستعانة بعلم الانتروبولوجيا والدراسات المقارنة المتعلقة بالحضارات البدائية، التي بينت ان السلوك الاجتماعي للافراد يختلف من مجتمع الى آخر. ومن عصر الى آخر، فيستنتج قائلا: "يستطيع اولئك الذين يناضلون من اجل تحسين مصير الانسان ان يبنوا آمالهم على الفكرة التالية: ليس محكوماً على البشر، بفعل طبيعتهم البيولوجية، أن يبيد أحدهم الآخر، أوأن يخضعوا لحكم قدر متوحش متأصل في النفس البشرية ذاتها". وبهذا الاستنتاج يكون آينشتاين قد أغلق الطريق منذ أواسط القرن الماضي امام الاصوات التي ترتفع اليوم لتعلن ان رفض فكرة الاشتراكية أمر محتوم تفرضه عوامل بيولوجية كامنة في الطبيعة الانسانية الانانية وان البشرية قد وصلت الى اخر مراحل تطورها، كما قال فوكوياما واتباعه.
من المعروف ان ماركس قد اعار العلاقات الاجتماعية اهمية اساسية في "التطور المتسق والشامل لشخصية الانسان". تناول المفكر الامريكي الماركسي باول لي بلانك في مقالة "الطبيعة الانسانية وكيف تتغير" موضوع الاشتراكية وعلاقتها بالطبيعة الانسانية، وما يطرأ على هذه العلاقة تحت تأثير التغيرات التي يمكن ان تطرأ على المجتمع والانسان. وقد اشار الى ان "بعض الاشتراكيين ينفون أي دور للعامل البيولوجي، ويعتقد ان الانسان هو انعكاس للظروف الاجتماعية، وهم يعتقدون انهم بهذا الطرح يساعدون على جعل قضية الاشتراكية امراً مقبولا". غير ان هذا الطرح غير مقبول، لاننا في واقع الحال لسنا مجرد انعكاس لبيئتنا بل هناك شيء اخر، يجب أخذه بالحسبان، هو الموروثات البيولوجية. في حين ان اعداء الاشتراكية يرون ان الانانية والنزعة الشريرة من السمات الجوهرية للطبيعة الانسانية، الى درجة يصعب معها خلق مجتمع افضل، مثل المجتمع الاشتراكي، الذي يعيش فيه الناس في انسجام مع بعضهم... والمؤلف يستند الى المفكر الماركسي البريطاني نورمان جيراس، الذي قدم دراسة قيمة عن ماركس في كتابه "ماركس والطبيعة الانسانية" ويستشهد بقوله بان "ماركس كان يؤمن بان مجموع العلاقات الاجتماعية هي الحاسمة في تشكيل الانسانية، الا ان اهمية الطبيعة الداخلية للانسان لا تقل عن ذلك، وكما صاغها ماركس قائلا إن رغبات الانسان تكمن تحت جميع العلاقات الاجتماعية". وهذا بالذات ما اكد عليه آينشتاين، حين اعطى الدور الحاسم للعامل الاجتماعي، دون أن ينفي الدور المهم الذي يلعبه العامل البيولوجي ايضاً. يواصل آينشتاين حديثه عن الازمة في علاقة الفرد مع المجتمع. فإذ اصبح الانسان يدرك، اكثر من أي وقت مضى، مدى ارتباطه بالمجتمع، لكنه "لم يحصل ان يعيش هذا الترابط بشكل ملموس، كشيء ثمين له قيمته الايجابية، كصلة عضوية، كقوة واقية، لا بل والاسوأ من كل هذا انه يعيش تحت احساس متواصل بان كيانه الاقتصادي وحقوقه الطبيعية مهددة باستمرار". في المقابل، وكرد فعل على مخاوفه من الآتي تتعزز لدى الانسان النزعات الفردية والتوجهات الانانية، وهذا في النهاية سوف يعزز الشعور "ولو بدون وعي بعدم الامان والاستقرار، والعزلة، وبكونه محروما من أبسط متع الحياة الأولية".
حسناً، لكن كيف وصلت الامور الى هذه الحالة من النفور وعدم الاستقرار؟ ما هي الاسباب الجوهرية التي قادت الى هذا الخلل الخطير في العلاقة بين الفرد والمجتمع؟ الجواب كان واضحا لا لبس فيه:
"برأيي ان الفوضى الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، كما تتجلى اليوم، هي المصدر الحقيقي للشر، ها نحن نرى امام أعيننا هذا المجتمع الضخم من المنتجين يسعى اعضاؤه باستمرار الى تجريد بعضهم البعض من ثمار عملهم الاجتماعي، ليس عن طريق القوة، بل عموما بالاذعان المسالم لشرعية القوانين السائدة".
بهذا لأول مرة اتهم آينشتاين الرأسمالية إتهاما مباشرا بصفتها نظاما اقتصاديا اجتماعيا، وليس مجرد أزمة عابرة يعاني منها النظام. هل يستطيع المجتمع ان يتغلب على الفوضى الاقتصادية كما تتجلى اليوم دون الحاجة للجوء الى تغيير النظم التي أنتجها؟ هذا ما سوف نحاول متابعته لاحقاً. ولكن من الضروري أن نتوقف عند نقطة مهمة، تمت الاشارة اليها، وهي سمة النظام الرأسمالي الجوهرية: نقصد بذلك استحواذ الافراد على حقوق الاخرين، ليس عن طرق القوة والاكراه، بل حسب قوانين وانظمة سارية المفعول في المجتمع. وكما هو واضح من النص فان السلب لا يقع على طبقات الشغيلة، بل يشمل افرادا من الطبقة المهيمنة، وذلك من خلال تنافس الحيتان الكبيرة مع الحيتان الاصغر.
في المدخل التاريخي لمقالته حول نشوء الطبقات في المجتمع بيّن آينشتاين سيادة قيم الطبقات المهيمنة، وكيف تسعى تلك الطبقات الى ترسيخ وتعميق التمايز الطبقي في المجتمع وتحويله الى حالة طبيعية ومؤسسة دائمة، وخلق منظومة من القيم تهيمن تدريجيا، فيؤمن بها الناس ويسترشدون بها في سلوكهم الاجتماعي، على الاكثر بصورة لا واعية.
جدير بالذكر ان غرامشي توقف بشيء من التفصيل عند هيمنة الطبقات الحاكمة وسيطرتها على الوعي والسلوك الاجتماعي فتحدث عن "قدرة الطبقات الحاكمة على غرس قيمها في الطبقات المحكومة وتحويل هذه القيم الى بديهيات تميز العصر".

*السمات الاساسية للنظام الرأسمالي*1- وسائل الانتاج ملكية خاصة يستخدمها الراسماليون بالشكل "الذي يرونه مناسباً". والشكل الانسب لاصحاب رؤوس الاموال هو الذي يدر اكبر قدر ممكن من الربح، بغض النظر ان كان ذلك في صالح المجتمع ام لا. لذلك فان "الانتاج يستهدف الربح وليس لغرض الاستعمال".
2- الانتاج في النظام الرأسمالي قائم على اساس العمل المأجور. وهذه احدى السمات الرئيسية في النظام الرأسمالي. و بين آينشتاين للقارئ بصورة مبسطة ان رب العمل يستولي على فائض القيمة فيقول: "ان ما يحصل عليه العامل لايتحدد بالقيمة الفعلية للسلع التي ينتجها، بل بالحد الادنى من حاجياته الضرورية. وهذا حسب حاجة الرأسمالي الى قوة العمل، وذلك تبعا لعدد العمال المتنافسين للحصول على العمل".
3- يرى ان "دوافع الربح، مع المنافسة القائمة بين الرأسماليين مسؤولة عن عدم إستقرار تراكم رأس المال، والاستفادة منه، وهذا يؤدي الى حالات خطيرة ومتزايدة من الركود الاقتصادي". من الناحية الاخرى نجد ان المنافسة بين اصحاب رؤوس الاموال والنزعة الانانية لجني اكبر قدر ممكن من الربح تولدان سمة جوهرية اخرى تميز رأس المال الخاص، هي سعيه الدائم الى الاحتكار. وهذا قد يؤدي الى نتائج اقتصادية واجتماعية وخيمة قد تترك آثاراً كبرى على العلاقات داخل المجتمع. ويقودنا آينشتاين الى سمة مهمة اخرى هي حالة التناقض بين من يعمل بأجر ومن يملك وسائل الانتاج. والأهم ان حالة التناقض هذه متأصلة في طبيعة النظام، ولا يمكن تجاوزها بأية تحسينات تجميلية. ولطالما حاول الرأسماليون طمس هذه السمة تارة تحت شعار "السلم الاجتماعي" وتارة باسم "التوافق والتعايش بين الطبقات" وتارة باسم "الرأسمالية الانسانية" وغير ذلك.

*الاقتصاد والدمقراطية والايديولوجيا*لا يقتصر التمايز الطبقي واللامساواة في المجتمع الرأسمالي على الأمور الاقتصادية، بل يشمل جوانب حياة المجتمع: الفكر والتعليم. فما دام المال في حوزة قلة من الرأسماليين فان ذلك سيقود الى هيمنة سياسية ونشوء حكم الاقلية: "نشوء اوليغاركية رأس المال الخاص، القوة الجبارة التي لايمكن ان تخضع للمراقبة الفعالة حتى من قبل المجتمع السياسي المنظم دمقراطياً". يجب الا يغيب عن بالنا ان هذه الكلمات قد كتبت من قبل شخص لم ينكر وجود الدمقراطية الامريكية. بالعكس، فقد سبق له الاشادة بالحرية التي يتمتع بها الشعب الامريكي. انه يشخص حقيقة موضوعية تتعلق بطبيعة هذه الدمقراطية، وحدود تعاملها مع القوى السياسية المعارضة للنظام الرأسمالي. وهي حقيقة كثيرا ما غابت عن انظار الذين تبهرهم "حرية الرأي والاعلام في النظام الرأسمالي". أما آينشتاين فقال: "ما دام اعضاء الهيئات التشريعية يتم اختيارهم من قبل الاحزاب السياسية، وفي الغالب يمولون من قبل الرأسماليين الخواص او على الاقل يكونون تحت تأثيرهم، فإن هذا يؤدي في النتيجة الى عزل جمهور الناخبين عن الهيئة التشريعية.. ولذلك نجد ان ممثلي الشعب في حقيقة الامر لا يدافعون كما ينبغي عن مصالح الفئات الفقيرة من السكان".
لأتوقف عند قول رالف ميليباند حول نفس الموضوع بعد ذلك بنصف قرن:
"إن الكونغرس الامريكي مؤسسة تشريعية هي أكثر استقلالية عن السلطة التنفيذية من أية هيئة تشريعية اخرى، ولكن ان نكتفي بهذه الملاحظة ونتخذها مقياسا وحيدا للعلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، كما هو سائد في كتب العلوم السياسية، يعني تجاهل حقيقة اساسية، اعني تحديدا كم سيناتوراً ونائباً، بما هم عليه من استقلال عن السلطة التنفيذية، وتحرر من ضوابط حزبية، يعتمدون، لاعتبارات انتخابية، على دعم الشركات وجماعات الضغط المرتبطة بها. ان الاستقلالية المؤسساتية قناع يخفي واقع إذعان المشرعين وارتباطهم بالمصالح الخاصة، التي تمثلها الشركات.ان سلطة الشركات ليست المؤثر الوحيد، لكنه الاعظم بالمقارنة مع المصارح الهامشية للطبقة العاملة".
ولا تتوقف هيمنة رأس المال عند هذا الحد، بل تشمل جانباً مهماً آخر من جوانب الحياة يتمثل في وسائل الاعلام، ولذلك فهو يتحكم بالرأي العام ايضاً اضافة الى كل هذا، وفي ظل الظروف القائمة، وتحكم الرأسماليين المحتوم- المباشر وغير المباشر- في أهم وسائل المعلومات (الصحافة والتعليم)، يجعل من الصعب جداً (وفي واقع الامر يكون من المستحيل) على المواطن الفرد ان يتوصل الى استنتاجات موضوعية، وان يتوصل الى الاستخدام العقلاني لحرياته السياسية. لسنا بحاجة الى ان نذهب بعيداًحول خطورة السلاح الاعلامي في النظام الرأسمالي. تكفينا تجربة آينشتاين بالذات مع الاعلام خلال حياته وبعد وفاته. لنأخذ على سبيل المثال موقفه من الصهيونية وانشاء الدولة اليهودية. إن قلة نادرة من الباحثين تشير الى ان آينشتاين لم يكن صهيونياً، ولم يؤيد اقامة دولة اسرائيل، بل كان يؤيد فكرة الدولة الواحدة التي يعيش فيها اليهود والعرب الفلسطينيون على اساس المساواة التامة والامن المشترك. لكن الغالبية العظمى من الكتابات تزعم ان آينشتاين كان صهيونياً متحمساً (او على الاقل من المؤيدين للصهيونية) ومن الذين دعموا إقامة الدولة اليهودية، وساند اسرائيل حتى مماته! واذا كان من الممكن ان نجد عدداً من الكتاب والباحثين الموضوعيين اليهود لا يزعمون ذلك، فاني لم أصادف بين الكتاب العرب من تجرأ على القول إن آينشتاين لم يكن صهيونيا.
لم يكن "آينشتاين الصهيوني، الذي ناضل من أجل اقامة دولة اسرائيل"، الا أسطورة روج لها الاعلام الصهيوني والاسرائيلي على مدى اكثر من نصف قرن من الزمن، حتى جعلها "حقيقة" رددها أغلب الكتاب والقراء. المجال هنا لا يسمح بالتوسع، ولكن قول آينشتاين إن "حرية الاعلام" في العالم الرأسمالي هي، قبل كل شيء، حرية اصحاب المال والنفوذ، هو دليل على "سذاجة" آينشتاين، حتى عند عدد غير قليل من الكتاب والعلماء، الذين يتمتعون بقدر كبير من المصداقية العلمية. ومن المثير انك قد تجد صفة "السذاجة" مع صفة "العبقرية" في صفحة واحدة، ولكن العبقرية لوصف آينشتاين العالم، والسذاجة لوصف آراء آينشتاين السياسية والاجتماعية، التي لا تتفق مع وجهة نظر الكاتب. وتهمة "السذاجة" ليست بالجديدة، بل بدأت في مطلع العشرينيات من القرن الماضي. وكان اول من استخدمها القائد الصهيوني الالماني المعروف بلومنفيلد الذي كان على علاقة متينة مع آينشتاين، فقد قال في رسالة الى وايزمن: "كما تعرف ان آينشتاين ليس صهيونياً.. علمت بانك تنتظر منه بعض التصريحات.. ارجوك ان تكون في غاية الحذر من ذلك. فآينشتاين غالبا ما يصرح باشياء ساذجة غير مقبولة من جانبنا". وبعد ثلاثة عقود لم يعد آينشتاين مجرد ساذج، بل إعتبروه "ساذجاً مغفلاً"، ففي الخامس من نيسان عام 1949، نشرت مجلة "الحياة" الامريكية صوراً لخمسين شخصية امريكية بارزة، وصفتهم بـ"المغفلين السذج" واتهمتهم بانتمائهم الى معسكر الشيوعية، وكان بينهم آينشتاين وشخصيات علمية وثقافية كبيرة (علماء، شعراء، كتاب، موسيقيون، فنانون، وعضوان في الكونغرس، وقادة نقابيون).... وعادت التايم الى الموضوع بعد نصف قرن لتنهي الملف الذي خصصته لـ"شخصية القرن" بقولها "ان تصريحات البروفيسور آينشتاين، المحاط بهالة من العظمة، أبان الحرب الباردة كانت حصيلة حسن النية والسذاجة.. لكنها عقبت على هذا الكلام بقول عالم الفيزياء ومؤرخ العلم الشهير جيرالد هولتن: "اذا كانت آراء آينشتاين ساذجة حقاً، فان العالم الى حد ما قد شكل خطأ".

*الاشتراكية هي البديل*يقول اينشتاين: "العمل المأجور القائم على استغلال عمل الغير، الاحتكار، المنافسة الشديدة وغير المحدودة بين الرأسماليين، السعي نحو أعلى قدر ممكن من الارباح، التحكم بالمؤسسة التشريعية، الهيمنة على وسائل الاتصالات، كل هذا من السمات الجوهرية للنظام الرأسمالي". وهذا كله "يقود في نهاية المطاف الى إهدار كبير في العمل وشلل في الوعي الاجتماعي لدى الافراد، وهو الشلل الذي سبق ان أشرت اليه... وشلل الافراد هذا أعتبره أسوأ شرور الرأسمالية. ان منظومتنا التعليمية بأسرها تعاني من هذا الشر، انهم يغرسون في التلاميذ نزعة مفرطة في السلوك التنافسي، ويجري التركيز على توجههم كلياً نحو هدف واحد، وهو تحقيق النجاح الشخصي".
لا اظن ان استخدام كلمة "شر" من قبل آينشتاين لوصف سلبيات النظام الرأسمالي كان عفوياً. لقد أراد ان يؤكد بان هذا الشر ليس من النواقص، أو العيوب، أو السلبيات، او العلل التي يمكن معالجتها باجراءات تقود الى الحد منها وتحسين ظروف حياة الطبقة العاملة، كما يجري التركيز عليه حاليا، حتى من قبل بعض من كان الى الامس القريب يناضل من اجل الاشتراكية.
لا اعني بذلك ان آينشتاين كان يرفض النضال من اجل مكاسب للطبقة العاملة ، بل أنه كان ينظر الى مثل هذا النضال على انه مرحلي، وجزء من النضال العام الطويل والشاق، الذي سيقود في يوم ما الى التغيير الجذري للنظام، فهو يؤكد قائلا: "انا على يقين بان ثمة طريقة واحدة فقط للحد من هذه الشرور المتجذرة، الا وهي بناء اقتصاد اشتراكي، ترافقه منظومة تربوية موجهة نحو تحقيق اهداف اجتماعية".
ان آينشتاين قد اعتبر المنظومة التربوية والتعليمية من ابرز ضحايا الشر الذي يعاني منه النظام، ولا تكتمل أهمية ملاحظاته هذه إلا اذا عدنا الى ما قاله عن العوامل الاجتماعية والبيولوجية في تطور شخصية الفرد، وكيف ان الدوافع الانانية والسعي نحو المصالح الذاتية، وروح العزلة والتفرد تتوطد في الفرد المعاصر بدلا من روحية التعاون والمشاركة والسعي لما هو في صالح الجميع. لقد أكد آينشتاين هذه الاهمية للعلاقة بين الفرد والمجتمع، ليستنتج ان الانانية ليست صفة راسخة في الطبيعة البشرية بفضل عوامل بيولوجية، بل هي خاضعة لطبيعة النظام الاجتماعي ايضا.
لم يبين آينشتاين في مقالته نوعية الاقتصاد الاشتراكي الذي يريده، لكن من الواضح انه يتحدث عن الاشتراكية الماركسية، وليس عن الاشتراكية التي قامت في عصر ستالين. فقد سبق له عام 1932 ان أشار الى أن تجربة الاقتصاد المخطط في روسيا ما زالت في مهدها ويصعب التنبؤ بمستقبلها. وتساءل عما اذا كان مثل هذا النظام قادرا على حماية نفسه دون اللجوء الى العنف الذي يرافقه. ويبدو ان التجربة الروسية قد خيبت أمله بعد أن خنقتها البيروقراطية واسلوب القسر الذي صحبها. ولكن ذلك لم يفقده الامل بامكانية بناء النظام الاشتراكي. وذهب أبعد من ذلك حين عبر بصراحة عن تعاطفه مع فكرة الشيوعية، إذ قال: "ان الفلسفة التي تقف خلف الشيوعية تمتلك العديد من المزايا، لكونها تتعلق بانهاء الاستغلال الذي يتعرض له بسطاء الناس وتوزيع العمل والخيرات حسب الحاجيات والقدرات". وقال في موضوع آخر: "ان الشيوعية كنظرية سياسية تعتبر تجربة هائلة ولكنها في روسيا تجربة تجري في مختبر فقير في تجهيزاته".وما يدل بشكل غير مباشر على انه لم يكن مع التجربة السوفييتية هو تركيزه على البيروقراطية ومخاطرها على النظام الاشتراكي بقوله: "علينا أن نتذكر بان الاقتصاد المخطط هو الاشتراكية. ان اقتصادا موجها كهذا قد يرافقه استعباد تام للفرد. إن انجاز الاشتراكية يتطلب حل بعض المعضلات الاجتماعية السياسية، والتي هي في غاية التعقيد".
هذه المعضلات لخصها بالتساؤلات التالية:
"هل يمكن من حيث المبدأ وفي ظل المركزية المتشددة للقدرات السياسية والاقتصادية تفادي تحول البيروقراطية الى قوة ساندة ومهيمنة؟ كيف يمكن صيانة حقوق الفرد؟ وبعد كل ذلك كيف يمكن لنا أن نكون واثقين من توفر ضمانة أكيدة على قدرة قوى الدمقراطية على مجابهة البيروقراطية؟
لم يتوسع آينشتاين في حديثه عن النظام الاشتراكي البديل كما فعل عند حديثه عن النظام الرأسمالي. من الواضح انه كان يعتبر مثل هذه التفاصيل من الامور التي ما زالت تتطلب البحث والدراسة. لذا فقد أنهى مقالته كما يلي: "إن بلوغ الوضوح حول اهداف الاشتراكية ومشاكلها له اهمية كبرى لعصرنا، عصر التحولات، لذا فقد حان الوقت في الظروف الحالية للبدء بحوار مفتوح غير مقيد حول جميع القضايا".
لقد استشهدت بكتاب رالف ميليباند "الاشتراكية في عصر شكاك" اكثر من مرة. فقد تملكني إحساس وأنا اقرأ مقالة "لماذا الاشتراكية؟" ان آينشتاين كان في مقالته يلخص لنا الكتاب الذي سوف يؤلفه ميليباند بعد اكثر من اربعة عقود، وبالطبع مع فارق يتعلق بالمستجدات التي طرأت على العالم بشكل عام والفكر الاشتراكي على الخصوص.. ويبدو لي ان الاشتراكية التي كان يحلم بها آينشتاين هي ذاتها الاشتراكية التي رسم لنا ميليباند معالمها الاساسية في كتابه الرائع.
ما من شك ان جميع النقاط التي طرحها آينشتاين ما تزال تنتظر "الحوار المفتوح وغير المقيد". يضاف اليها الكثير من التساؤلات المستجدة، وخاصة تلك التي طرحتها النهاية المأساوية للتجربة الاشتراكية الاولى، التي أثارت مخاوف آينشتاين منذ عهد مبكر.. وما من شك ان الكثير من المعضلات والمشاكل الجديدة سوف تنبع في المستقبل ما دام الانسان يواصل معركته من اجل مثل "العدل والحق والجمال". والنضال من اجل الاشتراكية لايمكن أن يتوقف، لأن الاشتراكية ذاتها ليست حالة محددة المعالم، يمكن الإعلان عن بلوغها بقرار صادر عن مؤتمر حزبي، بل هي حالة ما ان تدنو منها حتى تبتعد عنك، وفي غضون تلك السيرورة تتحقق الكثير من الانجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تقربنا من الصورة الحقيقية للاشتراكية. لقد ظل آينشتاين حتى اخر أيامه مفعماً بالأمل والتفاؤل بالمستقبل، وكتب قبيل وفاته في 1955:
"إن جزءا كبيرا من التاريخ مفعم بالكفاح من اجل حقوق الانسان، وهو كفاح أزلي، ولن يتكلل بالنصر النهائي ابداً. ولكن أن تتعب وتكل من هذا الكفاح وتكل عنه، فهذا يعني دمار المجتمع".

*عن الثقافة الجديدة